أدب الرعب والعام

صانع الأمنيات

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

لمحت شخص ملثم يقترب مني و بيديه شيء يلمع في الظلام

 

– كيف تنطقها ؟ .

– صانع الأمنيات.. صاد.. ألف.. نون……….

**

– اصنع لي أمنية.

– كيف تريدها ؟ .

– كبيرة ، بقدر حبي لها.

– أخشى أن هذا أكثر مما أستطيع صنعه.

– هممممم.

صمت الأخير وأخذ الأول يدندن بكلمات أغنية ما بصوته الخفيض:

– صانع الأماني.. أعطيني أمنيتك… يوم وفي الثاني.. تتحقق غايتك… أعط….

نظر له رفيقه بحزم فعزف عن الدندنة ، مرت ثواني ثقيلة قطعها المدندن بقوله :

– تريد الذهاب للقمر؟ .

ثواني أخری وأتت الإجابة:

– أريد الذهاب إلی مكان أبعد ، بعيداً ، بعيداً في الفضاء ، أريد أن أصل إلی حدود الكون ، أريد أن أصل إليها.

– صعبة…. إنها ميتة.

ثم صمت قليلاً قبل أن يردف:

– ماذا إن أخبرتك بسر الحياة؟ سترى الصورة الكبيرة.

– لست مهتماً ، أريدها.

– يا لك من عنيد !.

قالها وأخذ يهز قدميه المتدليتين بمرح وهو يدندن بنفس الأغنية.

***

– هل تود أن تخبرنا بما حدث ؟.

– أنتم تعرفون ما حدث ، وباء من نوعٍ ما.

– طوال عقدين من حياتي في هذه الوظيفة لم أسمع قط بحادثة مثل هذه.

– يسمونها العواقب ، الفعل ورد الفعل ، بعض قوانين الفيزياء هي في الواقع نصائح للحياة.

كانت الأصوات تصدر من غرفة تحقيق صغيرة وقف بها ثلاثة أشخاص وجلس بها شخص ، ثلاثة محققين ومتهم مكسور المعصم ، صرخ أحد الرجال الواقفون وهو يضرب بيده علی الطاولة :

– قرية صغيرة ، خمسة آلاف و مائتي و بضع نسمة ، نساء ، رجال ، رُضّع، أطفال ، شيوخ ، كانوا جميعاً بصحة جيدة ليلة أمس ، صباح اليوم ؟ لدينا خمسة آلاف ومائتي وبضع جثة ! و ناج واحد فقط علی قيد الحياة ، رجل يجلس أمامي ويتحدث عن الفيزياء والحياة.

– أنا من قتلهم.

نظر المحققون لبعضهم البعض لوهلة قبل أن يقول أحدهم:

– وكيف بالضبط فعلت هذا ؟.

– احذر مما تتمنی ، هل سبق وسمعتم هذا القول من قبل ؟.

صانع الأماني ، متى كانت أول مرة سمعت فيها بهذا الاسم ؟ علی الأغلب وأنا صغير ، كانت حكاية تحكيها لي أمي في صغري ، الرجل الذي يعيد الأمل للناس .

لا أذكر الأسطورة جيداً ولكن الشيء المهم هو أن صانع الأمنيات هذا كان طوق النجاة لأولئك الذين فقدوا الأمل في الحياة ، يُقال أنه يساعدهم علی إيجاد الطريق المناسب عبر صنع حلم أو أمنية لهم. حينما كنت اسأل أمي عن معنى صنع حلم لم تكن تعطيني جواباً مقنعاً ، ظللت دوماً أظن أن هناك لغز وراء الأمر.

لم نكن نعرف شكل صانع الأمنيات ولكن هناك من يقول أنه عجوز قصير الطول غريب الهيئة ، وهناك من يقول أنه شاب طويل اليدين ، تفاوتت الأقوال حول شكله كثيراً ، لا أحد يعرف شكله حقاً ، وإن كان الاتفاق علی أنه شخص طيب بكل حال ، لأنه مهما حدث فهو سيصنع لك أمنية لطالما طلبت منه ذلك.

وهذه هي قصته ، أما عن هي قصتي فهي مختلفة ، ترعرعت في القرية منذ ولادتي  و منذ صغري كان لدي هذا الطموح ، الفكرة أنني يجب أن أذهب إلى مكان أكبر من هذا ، وكانت هذه هي أول خاطرة قوية لي في حياتي ، حينما كبرت وكبرت معي طموحاتي وأحلامي غادرت القرية ، خطوت أول خطوة خارج قريتي و رأيت فرصتي في العمل كموظف في شركة كبيرة نوعاً ما ، لا توصيات ولا رشاوي ولا أي عامل خارجي ، إنه التوفيق أو "دعوة أمي" كما أحب أن أتخيل ، ثم بدأ الأمر بالحدوث ، علی مر عقد ونصف ترقيت في المراتب حتی وصلت لمكانة تعد من أكبر مكانات الشركة قوة وتأثيراً ، عرف أهل قريتي بالأمر وأصبحت بمكانة كبيرة بينهم. "إن -الباشمهندس- جابر ظهر علی التلفاز اليوم ، لقد ظهر في الصحيفة ! إنه يشرف قريتنا في الخارج وسط أولاد -الباشاوات- والأثرياء ، فليوفقه الله لقد تبرع بمبلغ هائل من أجل ترميم -الجامع- وترميم البيوت ، إنه رجل عظيم" ، هكذا كانت تُنقل لي الأحاديث ، كأنني كنت العمدة الثاني ، الفارق أنني لم أعش معهم ، في العادة كنت أراهم يبالغون ولكن لم أكن لأعترض بكل حال وكما الحال زياراتي لم تنقطع أبداً  -الباشمهندس-  فلان ذهب السيد فلان جاء ، لم يعجبني الأمر قط ولكنني كنت أقول علی الأقل حظيت بمكانة بينهم.

منذ فترة تلقيت رسالة من قريتي ، كان أخي يطلب مني الحضور لمعالجة مشكلة كبيرة بين أهالي القرية، كانت هذه النوعية من الأشياء حيث يطلبون من كبار القرية الاجتماع لحل مشكلة ، وبما أنني كان لي مكانة بينهم فقد كان ضرورياً أن أحضر. حينما سألت أخي عن المشكلة قال لي أنهم يريدون بناء ضريح لصانع الأمنيات ، للوهلة الأولى ظننته يمزح ، لكنه لم يكن.

القصة كانت عن رجل يُدعی عباس ، كلنا كنا نعرف من هو عباس ، هو رجل معدم وطيب يعرفه أهل القرية جميعاً ، عمله الفعلي كان أي عمل ، يمكن القول أنه كان رجل يعمل في أي شيء يتم استدعاؤه له ، أحدهم يحتاج لرجل ينظف الحظيرة ؟  أحضروا عباس ، أحدهم يحتاج لمساعدة في عملية طلاء منزله ؟ أحضروا عباس ، أحدهم يحتاج لمساعدة في أي شيء…. عباس.

العملية كانت بسيطة ، يعمل و حينما ينتهي اليوم يأخذ أجره ويقبّله ثم يضعه في جيبه ويرحل ، أنا شخصياً كانت لي عدة تعاملات معه سابقاً.

أمكننا جميعاً أن نعرف أن عباس يكاد يكون فقير ولا يوجد لديه أي مصدر دخل حقيقي ، كانت القصة كما نعرفها ، وفي يومٍ ما عرف أهل القرية أن عباس أُصيب بمرض جلدي خطير، ومن ثم بدأت الأقاويل ، عباس يمكنه أن ينقل لنا العدوى جميعاً ، كلمات النهاية بالنسبة له ، لم يعد يستأجره أحد ولم يعد يهتم أحد بطلب المساعدة منه ، آخر ما سمعوه هو أنه يعيش آخر أيامه في خندقه الضيق ، ثم فجأة وبدون أي إشارات أو علامات وجدوا عباس يمشي ثرياً وسطهم ، يبني بيتاً ويلبس أحسن الثياب ، هنا فزع الناس ، لا بد من أن مصيبة ما قد حدثت حتی يلبس عباس هذه الثياب.

سألوه ، كل من ملك الجرأة كي يسأله قد فعل. إجابته كانت أغرب شيء سمعوه آنذاك ، قال بكل بساطة وبابتسامة هادئة " لقد زارني صانع الأمنيات ، هو من جعلني ثرياً ".

بالطبع وقتها أنا لم أَلُم أهل القرية علی أقوالهم عن الرجل ، مجنون أو متخلف ، فليقولوا ما يرغبون بقوله ، عباس لم يترك لي أي فرصة للدفاع هنا.

كانت هذه هي البداية فقط لا غير ، بعدها أتی "متولي" الإسكافي، الرجل العجوز الذي لم يعد يقوی علی العمل صار فجأة أنشط من الشباب نفسهم ،  ماذا تأكل يا عم متولي ؟ لا آكل شيئاً ، فقط زارني صانع الأمنيات.

وبعدها أتی داوود و أتى طه و أتی و أتی ، توقف الرقم عند تسعة ، تسعة رجال فجأة حُلت كل مشاكلهم و حينما يُسألون يقولوا "زارنا صانع الأمنيات".

ومن ثم انتشرت الإشاعات، و ما بدء كأنه ضرباً من الجنون تحول إلى شيئاً من الواقع ، إنه حي ، إنه بيننا.

النتيجة النهائية ، جن جنون الجميع ويريدون بناء ضريح لسيدنا صانع الأمنيات ، العاقلون منهم وافقوا، الأغبياء لم يصدقوا الأمر وظنوا أنها خدعة كبيرة تم تدبيرها بعناية ، هكذا كانت تسير الأمور في قريتنا ، بالعكس.

عندما حادثني علاء ظننته يهول الموضوع ،  يعطي الأمر أكثر من حقه ، أعرف أخي جيداً ، كانت هذه هي عادته دوماً ، ومن ثم رأيت الأمر، حشد كبير من أهالي القرية يمشون ويتغنون بصاحبنا صانع الأمنيات !.

لا أدري لماذا انتصب شعر رأسي حينها ، لكن ذلك الشعور بأنهم منومين مغناطيسياً ، حركاتهم متوافقة بشكل مريب ، الهمهات تبدو وكأنها صوت وتم مضاعفته إلكترونياً ، كلمة الحق ، لم يبد لي أي من هذا طبيعي ، ثمة شيء ما ، علاء لم يبالغ قط.

أخذت الأمر بجدية ، كان هذا بادياً علی وجهي أثناء حضوري لتلك الجلسة ، أخذنا نراجع أسوأ السيناريوهات الممكن حدوثها ، كانت أشياء تافهة ، اتضح لي أن تفكيرهم محدود للغاية ، من سيهتم لو فقدوا السيطرة علی القرية ؟ من سيهتم لو انقسمت القرية إلي نصفين ؟ ثمة ما هو أخطر  إذا افترضنا أن أحدهم كان ذكياً بما فيه الكفاية ليعرف تأثير الرجل الخيالي عليهم ماذا سيحدث ؟ .

شيء بسيط ،  تنكر جيد مع بضعة كلمات مؤثرة ، ألاعيب سحرة وغيرها ثم ها نحن ذا ،  لدينا رجل وجيشه من الحمقی ، شيئاً فشيئاً سيصبو إلی مكانة أكبر و سيحتل مكانة الملك و ربما الإله في قلوبهم ، وبعدها يسهل تخيل ما سيحدث ، يمكنهم قتل رجل بذريعة أنه أهان الملك ، طبعاً كان هذا خيالي وما ذهب إليه ، كما قلت ، أسوأ سيناريو.

لم يحدث أي شيء من هذا بالطبع ، كنت جامح الخيال ، لكن حدث أن قابلت الأستاذ ناصف ، رجل أربعيني لا تبدو عليه علامات الذكاء أو الحكمة ، وجهه كان من النوع الطبيعي لذا لم تكن لتستنتج أي شيء بدون أن يتحدث ، ثم حينها تبدأ بملاحظة أن حديثه ليس طبيعياً وأن ما يقوله نوعاً ما يشعرك بأنه حكيم أو علی الأقل يعرف عما يتحدث عنه.

مثقفاً كان وإن كنت لأشك أن قراءته للكتب وسعيه للمعرفة هما ما جعلاه بهذا الذكاء ، لأن الرجل لا يتحدث كثيراً ولا يستعرض معلوماته إلا حينما يتطلب الأمر ، كذلك كان هو أول مَن بدأ بالبحث فعلاً عن ماهية رجل الأمنيات.

 

قال لي بينما نحن نمشي في سوق القرية:

– يُخيّل لي أحياناً أنهم منومون مغناطيسياَ.. أو.. عقولهم تم كبحها ، بُطاء الفهم والبديهة.

– جميعهم حمقی ، ما مدی ذكاء الذين يريدون صنع ضريح لشخص وهمي.

– لست أتحدث عن أهل القرية ، أتحدث عمن قابلوه.

همهمت وانا أهز رأسي بأن فهمت ، عاد ليكمل بعدها :

– وماذا عنه ؟ ألا يريد شيئاً مقابل خدماته ؟ .

رددت عليه ساخراً :

– أتقصد شيئاً مثل أن يبيعوا أرواحهم له ؟.

لم تتغير نبرته وأجاب بنفس الجدية :

– في نسخة جوته ،  أشهر عمل لتلك التميمة ، لم يأخذ الشيطان روح فاوست كما اتفقا ، أنقذته الملائكة في نهاية المطاف و دخل الجنة هو و جرتشن ، هذه مسرحية على كل حال و لن تحدث أبداً في الحقيقة ، لكن الفكرة نفسها أثارت الكثيرين و صارت بعد ذلك تهمة العباقرة الذين يصعب تفسير عبقريتهم ، من منطلق أن فاوست نفسه هو شخصية حقيقية مثل معظم أبطال الفلكلور الألماني.

– إذن عم متولي هو عبقري آخر وُلد في المكان الخطأ ، لا بد من أنه ظل يتبع حمية خاصة لعقود كي يحتفظ بطاقة الشب…

قاطعني قائلاً:

– كف عن مزاحك السخيف ، إن الأمر خطير.

– إن كان الأمر خطير فلماذا تحدثني عن ڤاوست وشيطانه ؟ .

– لأنني أعتقد أن الأمر له علاقة بالشياطين ! .

– اعتقدت أنك مثقف ولا تؤمن بهذه الأشياء.

– أيجب علی المرء أن يكون جاهلاً كي يؤمن بوجود الأشياء الخارقة للطبيعة ؟ .

حككت مؤخرة رأسي وانا أقول:

– إذا كنت تتقبل مبدأ الماورئيات في هذه القضية فيمكنك ببساطة أن تعتبرهم محقين ، صانع الأماني موجود وهو يحقق ،  أياً كان ما يصنعه من أمنيات.

– لا يمكن إنكار الحقا…..

لم يكمل الأستاذ ناصف جملته فنظرت له بطرف عيني لأجد ملامح وجهه وقد تجمدت ، عرفت حينها أن فكرة مهمة قد خطرت علی باله ، سألته ما به ؟ فوجدته يتمتم بصوت خفيض وكأنه يكلم نفسه:

– لا يمكن إنكار الحقائق !.

**

لم يكن هناك ما يمكن فعله ، كان الأمر معقد أكثر مما ينبغي ، الحل الوحيد الذي بقی كان حلاً رخيصاً ، حل لا يقدم عليه سوی الأوغاد ، لكن لم يكن أمامنا سواه بكل حال ، لقد عرضنا عباس للمسائلة القانونية ، عليه أن يفسر للجميع من أين أتي بأمواله ؟ إذا لم يفعل فإن الأموال التي معه ببساطة إما مسروقة أو مصدرها غير قانوني ، لربما كان الرجل يتاجر في الممنوعات ونحن الذي ظنناه ملاكاً ، بالطبع كان هذا كله محض هراء ، جميعنا نعرف أن عباس نظيف كالورقة البيضاء. ما لم نعرفه أن التحريات كشفت عن أشياء صادمة عن عباس و حياته.

إن عباس لديه خال وحيد يعيش في مدينة بعيدة ، شاءت الصدف أن يكون ذلك الخال هو بطريقةٍ ما أكبر تاجر أخشاب عرفته الدولة بأكملها ، من كان ليتوقع أن عباس هو أبن أخت علي الوهبي ، الوهبي الذي يمتلك ورش عملاقة في كل مكان في لتصنيع كل ماله علاقة بالخشب ، دعنا من الوهبي وما يملكه فلو تكلمنا عما يملكه لظللنا نتحدث لساعات ، أضف لهذا أننا نملك ما هو أهم لنتحدث عنه ، أشياء مثل موت الوهبي و مثل الميراث ، نال عباس نصيبه من التركة لكونه الفرع الوحيد المتبقي من أخوة الوهبي ، النصيب وإن كان ضئيلاً كنسبة في أملاك الوهبي إلا أنه كان مهولاً لرجل مثل عباس ، وأي شخص طبيعي بالعموم ، لن أبالغ إن قلت انه كان يمكن أن يشتري القرية كلها لو أراد ، والقرية لو سألتموني ليست صغيرة أبداً.

لم نسلم أبداً من نظرة عباس المحتقرة لنا ، لم يعد هناك مجال للشك ، إن عباس يكرهنا جميعاً ، نحن كبار القرية الذين عرضناه للمشاكل ، ألا يمكنه أن يحظى مثلنا ببعض النعيم قبل أن يموت ؟ علی ما يبدو نحن كرهنا له أن يصبح إنساناً ذا شأن ، كان هذا هو ظنه الشخصي ، والحقيقة كانت أننا أردنا معرفة الحقيقة ، هذا كل ما بالأمر.

بالطبع كل شيء كان ليسير علی ما يرام لو لم يكن الوهبي قد مات في ذات الليلة التي ادعى عباس أنه رأی فيها صانع الأمنيات ، أُصيب الرجل بنوبة قلبية في منتصف الليل ومات وعلامات الرعب مرتسمة علی وجهه ، شيء آخر مثير للذعر في قصته هو أن ابنه أقسم باغلظ الأيمان أنه سمع والده يتحدث مع أحدهم ليلتها ، ظنه يتحدث في الهاتف ولم يتعب نفسه بتفقد الأمر ، ربما لم يكن ليحدث كل هذا لو سأل الأحمق نفسه عن نوعية الأشخاص الذي يمكن أن يتصلوا بأبيه في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.

قال لي العمدة ونحن نحتسي الشاي معاً :

– بصراحة ، أنا رجل يحب جداً أن يطلق العنان لخياله ، لو افترضنا أن عباس محق ، وان هناك صانع أمنيات يصنع الأمنيات لتتحقق ، لن نستبعد بعدها أن الوهبي كان يتحدث مع صانع الأمنيات قبل موته ، وأنه ربما مات ذعراً بعد أن رأی أشياء مخيفة ، مخيفة لدرجة أنه قد مات.

ثم صمت لوهلة وهو يضيق عينيه بذكاء ، فقط ليقول بحكمة وهو يعبث بشاربه:

– ربما جعله يری مدی غباء أبنه فمات الرجل ملتاعاً علی ذريته.

كدت أن أضحك لكن زمجرة غضب من الأستاذ ناصف جعلتني أتراجع ، وأصغيت السمع له إذ قال:

– كلاكما لا يأخذ الأمر بجدية ! هل تدركان حجم ما يحدث الآن ؟  لو ثبت أن لصانع الأماني يد في قتل الوهبي إذن فنحن أمام قضية قتل ، ثمة قاتل بيننا.

كانت مرة من المرات القليلة التي يرتفع فيها صوت أستاذ ناصف ، و علی ما يبدو أنه قد شعر بنفسه أخيراً فقرر الجلوس قبل أن يفقد وقاره أكثر من هذا.

قال العمدة بجدية :

– أنا أتفق معك يا ناصف باشا ولكن أخبرني ما الذي يجب عمله ، أصلاً لماذا يجب علينا أن نهتم لأمر صانع الأمنيات هذا ؟ لا أعتقد أن الأمر يؤثر سلباً علينا.

– الأمر يؤثر علی القرية كلها ، وإن كنتَ كعمدة لا تريد أن تكشف الغموض الذي حدث في قريتك فسوف نفعلها نحن.

قالها الأستاذ ناصف ثم نظر لي منتظراً أن أؤيده ، ارتشفت آخر ما تبقی في كوب الشاي ثم وضعت الكوب وأنا أقول:

– في الواقع لا.

ثم أردفت وأنا أقف :

– ستفعلها وحدك ، سأغادر حيث أتيت ، لقد لبيت الدعوة كي أكون حاضراً في الاجتماع فقط لا لكي أدخل في متاهات عن احتمالية وجود جريمة ما ، أنا أعتذر.

عند هذه النقطة كنت قد قررت أنني أطلت المكوث في القرية وأنني قد فعلت ما بوسعي ولم يعد لي فائدة من تضييع وقتي معهم ، أردت فقط أن أرحل.

بعد أن قلت جملتي هذه وقفت استعداداً للرحيل وسط نظرات أستاذ ناصف المندهشة. لست أدري لماذا عجزت قدماي عن الحركة آنذاك ، ربما لأنني رأيت ذلك الخيط السائل الذي ينساب من عينا أستاذ ناصف ، وكذا من أنفه ومن فمه ، لم يكن هناك فائدة من التعجب أو التساؤل عن ما يحدث ، كان الرجل يزبد كالمصابين بمرض الصرع ، تحول وجهه لكتلة حمراء كبيرة ، بالطبع لا داعي لذكر محاولاتنا الفاشلة في إنقاذه أو حتی فهم ما حدث منه ، فجأة ظهر سبب جديد يمنعني من مغادرة القرية ، كان من السهل تخمين الأمر ، لقد تم تسميمه ، وإن كان من الصعب تخيل نوعية السم التي قد تفعل هذا النوع من الأشياء في جسد المتعاطي.

لم يكن هناك وقت للانسلال من وسط الدوامة التي حدثت ، لا من أهالي القرية ولا من الخفر ولا من عائلة أستاذ منصف ، كل شيء بدء معقداً ، فوضى عارمة ، أما الاستنتاج فكان تأكيداً ، ثمة قاتل بيننا ، شخص ربما يكون قد قتل الوهبي ، و بعده قتل أستاذ ناصف ، مع أن سبب موت الوهبي واضح إلا أن سبب موت أستاذ ناصف ظل شيئاً محيراً ، كان هذا بالطبع قبل أن نسمع عن الشخص الجديد الذي ظهر له صانع الأمنيات ، امرأة بسيطة تمنت أن تعيش في منزلها بدون أن تدفع إيجاراً ، بالطبع بعد بضعة تحريات اتضح أن الشخص الذي يؤجر لها المكان هو أستاذ ناصف نفسه ، من هنا اكتملت الصورة ، أتخيل وجه أستاذ ناصف رحمه الله وهو يقول مضيقاً عينيه " اااه.. تميمة الأمنية التي تحمل عواقب وخيمة ، إذا تمنيت مالاً ستجد أن المال الذي أُحضر إليك هو في الواقع مسروق من شخص كان علی وشك أن يجري عملية خطيرة بالمال".

بعدها ساء الوضع كثيراً في القرية ، لقد زاد عدد مناصري صانع الأمنيات ، لقد جُن الجميع ، ظهرت ديانة جديدة ، الجميع يذهب إلی التمثال ويركع تحته مترجياً أن يزوره صانع الأمنيات. كنت أناظرهم من بعيد بوجه مذهول وأنا أضرب كفاً بكف ، كيف وصل الوضع إلی ما هو عليه؟

كان الأمر أكبر من أن يتعامل معه الخفر ، اضطروا للاتصال بالشرطة طلباً للمساعدة ، ثمة جرائم قتل وأشياء غريبة تحدث في القرية ، سألني الضابط كث الشارب وهو يرتشف من كوب الشاي:

– لماذا عدت ؟

– إنه أخي ، حينما بدأت الأمور تأخذ منحنى سيء اتصل بي.

– يا له من وغد ! أتعلم ماذا فعل بك ؟ لقد جعلك مشتبهاً به في قضيتنا الجميلة هذه.

كانت الأمور كلها لا تنذر بخير، سواء لي أو للقرية بشكل عام ، الدوامة كانت تكبر شيئاً فشيئاً ، القطيع كان يزداد مع بداية كل يوم ، لن يطول الأمر حتی تصبح القرية بأكملها تحت سيطرة ذلك الغريب الذي لا نعرف إذا ما كان وهماً أم حقيقة ، شخصياً كنت أود الهروب والظفر بحريتي ، لا أحد يود أن يبقی في الجحيم ، ولكن نظراً لأن تحريات الشرطة البدائية تشتبه بي توجب علي البقاء قسراً.

وقتها بدأت حقاً أعمل علی حل القضية، إذ لا مخرج إلا بهذه الطريقة ، ثم لاحت لي فكرة مجنونة ، شيء سيحول المسار كلياً ، لعبة طريفة سألعبها مع صانع الأمنيات ، أولاً نحن نريد طاقم ممثلين ، لكن نظراً لقلة الإمكانيات سنكتفي بواحد وهو أنا ، ثانياً نحن نحتاج لنص سيناريو ، ولكن هذا سيأخذ وقتاً لذا سأكتفي بالجمل الارتجالية ، ثالثاً نحتاج ملابس غريبة ، رابعاً ؟ فلنصنع فيلماً !

الفكرة كانت بسيطة ، إذا كانوا يقدسون شيئاً ما لماذا لا أكون أنا هو هذا الشيء ؟ تنكر بسيط وصوت عميق ونصبح جاهزين ، الخطوة التالية هي زيارة بعض المنازل وتجربة إذا ما كان سينجح الأمر أم لا ، من كان يتوقع أن صانع الأمنيات سيطلب مالاً من الناس ليلاً ؟ من كان يظن أنهم سيوافقون وسيعطونه المال بكل سخاء ؟ من كان يتوقع أن لديهم كل هذا المال ؟.  

يسمعون طرقاً بالليل علی أبوابهم فيفتحون في لوعة لأنهم بانتظاره، سيتضرعون من أجل الخلاص ومن أجل الأمنيات

خدعة سخيفة لكن بعد يومين سيدركون أن صانع الأمنيات لص ومخادع وأخذ أموالهم ولم يحقق لهم أمنياتهم ، ثم بعد أن يدمروا ذلك الضريح الذي صنعوه له سيمكنني أن أعيد الأموال لأصحابها ، حينها ستنتهي الأمنيات وسيعم الهدوء قليلاً ، فقط بالشكل الذي يسمح لي بالهروب ، بعدها يمكن لصانع الهراء هذا أن يعود ويفعل ما يفعله معهم.

قد كانت هذه هي خطتي العبقرية وكانت هذه هي طموحاتي ، وما حدث هو أن الإقبال عليه زاد ، أهل القرية طيبون للغاية واعتقدوا أنهم لم يقدموا ما فيه الكفاية لصاحبنا ، لهذا تجسدت أمامي هيئتهم وهم يقفون أمام الضريح ويحملون أصنافاً من الأشياء التي يمكن أن تُصنف علی أنها قرابين. يمكن القول أن خطتي أثمرت بنتائج عكسية. وبالطبع في ذلك الوقت لم أكن أعرف أن صانع الأمنيات – الحقيقي – قد زار شخص مهم ، ولم أعرف بعدها سوی بيوم كامل ، إن صانع الأمنيات في الوقت الذي كنت أعبث فيه مع أهل القرية كان يزور الشخص الوحيد الذي لم أفكر في أن أزوره أبداً ! كان حينها يجلس مع أخي يتفقان حول الأمنية التالية.

متی أدركت الأمر؟ حينما لمحت شخص ملثم يقترب مني أثناء نومي ، وحينما ادركت أن بيديه شيء يلمع في الظلام ، إن أمنية أخي بالطبع كانت تتعلق إما بالمال أو بالسلطة ، والمال يجلب السلطة بكل حال ، إذن هو المال ، وأقرب وسيلة للمال هي أنا ، عليه أن يرثني كما فعل عباس تماماً ، للتوضيح كان هذا هو ما فكرت به وأنا أری ذلك الظل يقترب مني ، لم أجد القدرة علی التحرك وكنت تقريباً أرتعد من الخوف ، ثم كان أن اقترب مني حد الخطر ، ثواني قليلة وسينغرز ذلك الشيء الذي يحمله برقبتي ، لكن هذا لم يحدث بكل حال.

– لقد كنت أنتظرك.

أعتقد أن هذا كان هو آخر ما سمعه هذا الشخص قبل أن تُهشم رأسه بالعتلة الحديدية التي كنت أخبئها وأقبض عليها تحت وسادتي ، لا مجال للشك ، ذلك الشخص كان هنا ليقتلني ، لقد قضيت ليالي سابقة كثيرة بانتظار لحظة مثل هذه ، فرصة حتی استخدم هذه العتلة ، حتی أنني كنت قد فقدت الأمل ، لا أعتقد أنه كان يتوقع أن تصطاده ضحيته ، ليس بعتلة حديدية وليس بهذه الطريقة ، ولكن ما حدث قد حدث ، ربما أكون قد قتلت الرجل ولكنه كان هنا ليقتلني ، بعد أن خر جسده ساقطاً توجهت نحوه غير مكترث لإصابته ، كان كل همي أن أعرف من هو الشخص تحت اللثام ، من هو ؟ مددت يدي ، من هو ؟ أطبقت علی اللثام ، من هو؟ أزحت اللثام بحركة سريعة ، من هو؟

ما رأيته بعد أن أزحت اللثام سيظل عالقاً في عقلي حتی أموت ، سيزورني في أحلامي كل ليلة ، وكل ليلة سأخاف بنفس القدر الذي خفته في الليلة السابقة ، تحطمت في عقلي كل تلك الأفكار عن الضحية التي تحولت لجلاد وعن الفريسة التي اصطادت صائدها وعن شعوري بالذكاء ، كل هذه الأفكار تبخرت وحل مكانها فكرة واحدة فقط ، لكم أنا أحمق !  تحت الضوء الخافت الذي يصدر من الردهة رأيت شيئاً مرعباً ، رأيت وجهاً لا يحتوي علی أي شيء سوی فمين ، لا عيون لا أنف لا حواجب، فقط فمين كبيرين مغلقين. كانت هي اللحظة التي بدأت أفقد فيها إيماني ، إن صانع الأمنيات حقيقي ، وإن هيئته الحقيقية هي هيئة وحش ، كانت هذه هي البداية فقط ، لأني وإذ كنت مندهشاً لما أراه فقد باغتتني قبضة قوية أطبقت علی معصمي بقوة هائلة ، ومن ثم فتح كلا الفمين مطلقاً زفيراً قوياً خرج مع حشرجة مخيفة ، هنا أفقت لواقعي ، ثمة شيء مخيف يحطم معصمي ، لكن لحسن الحظ اليد الأخرى سليمة ، بل وتحمل العتلة الحديدية ، هل كنت أحتاج لمبررات ؟ لا كنت أحتاج فقط القوة والسرعة، بعدها يمكننا أن نسأل أسئلة مثل من أين جاء ؟ ولماذا هو ضعيف كالبشر؟ إلخ… أما الآن فهو وقت النجاة.

الضربة الأولی  أو الثانية عملياً  كانت رائعة ، لقد حطت فوق رأسه تماماً ، مكان حيوي لو كان تشريح جسده يشبه تشريح جسدنا ، لو كان حقيقياً ويتألم من الأساس ، كنت أظن أنه ضعيف مثل البشر ولكن في حقيقة الأمر لم أشعر أنه تأثر كثيراً ، بل ما شعرت به هو قوة قبضته علی معصمي قد ازدادت ، ازدادت بشكل رهيب ، ثمة حجر وزنه طن فوق معصمي ، قوة غير بشرية ، أعتقد أنني وقتها توقعت الأسوأ ، كنت مستعداً حينما سمت صوت التهشم المثير للقشعريرة ، شعرت به داخلياً وسمعته قوياً في أذني ، ولا شيء يصدر مني سوی الصراخ ، كان الوقت قد حان لضربة جديدة لعله يفلتني ، وبما تبقي من قوتي تركته يذوق آخر ما كنت أملكه ، العتلة كانت ثقيلة وشخص عادي سيكون في عالم آخر منذ الضربة الأولى ، لكن مع هذا الوحش ثلاث ضربات لم تؤثر ، ما تغير هو أنه أطبع علی عنقي بقوة ، علی ما يبدو فقد مل من مقاومتي وقرر أن يقتلني عن طريق كسر رقبتي ، تبقت لدي بعض القوة وحاولت لكن في النهاية انسلت العتلة من يدي و وجدت نفسي معلقاً في الهواء من رقبتي بقوة كبيرة تضغط عليها ، لا بد من أن عيناي كانتا جاحظتين وقتها، ولا بد من أن وجهي كان أكثر احمراراً من زهرة قرنفل في يوم مشمس ، أذكر أنني حاولت أن أسعل لكني لم أجد المساحة الكافية في حلقي لفعل ذلك ، ثم بعدها أعتقد أنني استسلمت ، إن يديه المخلبيتين أقوى وأشر فتكاً من يد أي بشري ، كان السواد قد بدأ يسيطر علی مجال رؤيتي ، كل شيء بدأ يصبح باهتاً، حتی أغلقت عيناي أخيراً. جاهدت كي أُخرج كلماتي الأخيرة، لكنه كان يشد قبضته كلما شعر أنني أريد الحديث، وأخيراً بدأت أسمع أصوات فرقعة تصدر من عنقي، فعلياً ظننت أنها النهاية ، لكنني غريزة البقاء بداخلي أعطتني شيئاً ، قرار بالمحاولة الأخيرة ، طعمي الأخير ، ورقتي الأخير.

لا أعرف من أين وجدت القوة ولكنني أطبقت كلتا يدي علی يده التي كانت تعتصر رقبتي ، جاهدت بكل قوتي كي أبعدها عن رقبتي.

– أ…. أمن.. أمني.

لم أتمكن من التعرف علی صوتي وقتها ولكنني كنت أجاهد كي أجعل الكلمات تخرج من حلقي.

– اص… اصنع.

تبقی القليل بعد .

– اصن.. اصنع… أ.. أمنية.

فجأة تراخت يده تماماً وتركني أسقط علی الأرض وأسعل بقوة لم أسعل بها من قبل ، أخذ مني الأمر ثواني قبل أن أستعيد السيطرة علی حنجرتي ثانية ، قلت بصوت مرتجف:

– اصنع لي أمنية.

وأخذت أرددها بهستيرية ، في حالات مثل هذه لا يفكر المرء في شيء سوی أنه قد نجا وأن عليه أن يحرص علی نجاته ، الفكرة كانت بسيطة ، صانع الأمنيات لا يرفض صناعة أمنية ، مهما كان الوضع ، هكذا تقول الأسطورة ، ومن ثم سمعت صوت ، صوت سحبني إلی عالم الواقع ، صوته.

– أعرف أمنيتك ، وسأصنعها لك.

كان هذا الصوت صادر من فم واحدة ، وقد كان صوت مخيف كما خمنت بالطبع ، غليظ وعميق. وبعدها تملكني الذعر حينما سمعت الفم الأخر يتحدث.

– لك سأصنعها ، أمنيتك أعرف.

كان صوت لصبي صغير، صوت يستحيل علی أي عقل أن يتخيل صدوره من كيان كهذا الذي أمامي. ولما كان الأمر مريباً للغاية فقد وجدت نفسي أقف تلقائياً وأتراجع عن الكائن المريب بخوف:

– تعلم ماهي أمنيتي ؟.

– "أتعلم أنت ؟" ، "وأنت؟ أتعلم؟"

مرة أخری فم يتحدث و يتبعها الأخر ، اقتربت منه لما اعتصرت بعض الشجاعة من داخلي:

– أنا أعلم.

– "وأنا كذلك" ، "كذلك أنا".

ثم بعد آخر جملتين قالهما تحرك نحو النافذة ليفتحها ، وقف ثوان هناك قبل أن يقفز منها.

في الصباح التالي بدأت أدرك هول المشكلة ، لقد اختفت الحياة في القرية ، حرفياً مات الجميع عداي أنا ، صاحب الأمنية الأخيرة ، قد كنت أفكر في أن يعم الهدوء القرية وأن تختفي المصائب حتی أغادر القرية بأسرع وقت ، لما طلبت الأمنية عرفت أنه سيقرأ أفكاري لكن بالطبع لم أكن أعلم أن طريقة جعل الأمور هادئة هي قتلهم أو نشر هذا الوباء بينهم ، أردت أن أختفي من القرية فجعل القرية تختفي من أجلي ، هذا هو قانون صانع الأمنيات ، كل أمنية تخلف وراءها مصيبة ، وهذه المرة كانت المصيبة أكبر من أن نستوعبها جميعاً ، التحقيقات الأولية تشير إلی أن هناك وباء ملعون قد انتشر بين الناس ، قد تسألون أي نوع من الأوبئة يقتل بهذه السرعة وهذه الفعالية ؟ لست أدري ، وعلى الأغلب لن يعرف أحد السبب ، سيبقى الأمر سراً من أسرار صانع الأمنيات ، المهم دائماً هو النتيجة.

ومهما فكرت في الأمر إلا أنني لا أستطيع أن أتغاضى عن خاطرة معينة ، دائماً أفكر بأن هناك مشكلة أخلاقية في الأمر، كما ترون فصانع الأمنيات لم يزر سوی أشخاص لا يعرفون ما يريدونه فعلياً ، أشخاص لا يملكون اللازم ليحلموا، ربما أشخاص فقدوا الأمل أو فقدوا القدرة علی التخيل ، لهذا يصنع هو بنفسه لهم الأمنية ثم يحققها ، ولكل شيء ثمن بكل حال ، لو كان غير هذا لأسموه محقق الأمنيات ، ومن هذا يمكن أن نفهم قيمة – صنع – أمنية ، كان الأمر غامضاً في البداية ولكن الآن يمكنني أن أفهم قليلاً ، إنه يزور اليائسون فقط ، قليلي التفكير ، ربما أكون مذنباً ، ولكن ذنبي هو الجهل ، كيف لي أن أعرف خطورة أفكاري؟ كيف لي أن أعرف أن غريزتي للبقاء قد أدت لقتل كل هذا العدد؟.

كان المحققين يجلسان هذه المرة بعد هذه الحكاية الطويلة ، أما ثالثهما فقد وقف في الركن المظلم من الغرفة كما كان يفعل منذ البداية ، قال أحدهما:

– هل تعتقد حقاً أننا سنصدق هذا الهراء؟ .

قالها ثم نظر ناحية الركن حيث وقف المحقق الوحيد:

– هل يقول الحقيقة ؟.

اعتدل المحقق في وقفته ثم قال بعد أن تنحنح :

– إنه يكذب.

رد المحقق وهو ينظر ناحية الرجل محل الاتهام :

– هل رأيت هذا ؟ يقول أنك تكذب ، إن قصتك كلها ملفقة.

قال المتهم بهدوء:

– وكيف له أنه يعرف.

– لأنه يعرف ، بكل بساطة يعرف ، لا يمكنك أن تكذب علی شخص مثل هذا…

قاطعه المحقق في الركن قائلاً:

– لم أقل أنه كذب بشأن حكايته كلها ، كان يقول الحقيقة ، فيما عدا الجزء الأخير.

هنا نظر له ثلاثتهم بحيرة ، أردف:

– لقد تمنيتَ شيء مجنون بالفعل ، شيء مجنون للغاية لدرجة أن العواقب كانت قتل القرية بأكملها. لا يمكنني التفكير في مدی جنون أمنيتك الأخيرة ، لكنك تعرفها بكل تأكيد.

قال الرجل ببرود:

– هل لديك إثبات؟

وضع المحقق في الركن قبعته السوداء علی رأسه وتوجه ناحية الباب وهو يقول:

– إنه مذنب.

قالها ثم غادر الغرفة بخطوات هادئة.

 

النهاية …….

 

تاريخ النشر : 2019-09-08

البراء

مصر - للتواصل: [email protected] \\ مدونة الكاتب https://baraashafee.blogspot.com/
guest
33 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى