ألغاز تاريخية

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

بقلم : منال عبد الحميد

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !
هل يعقل ان اعظم ملكات انجلترا لم تكن سوى رجل متخفي في ثياب امرأة

(( جونلة .. جونلة ! جونلة وبلوزة أسرعي .. هذا أو الموت .. إن نيفيل هو أملنا .. نيفيل هو أملنا .. لم يعد نيفيل منذ الآن .. إنه الأميرة !   ))

المقطع السابق من مسرحية البديل التي كتبها " ج .ر . كليمنتس " ، والتي تتناول تلك الأسطورية القروسطية ( نسبة للقرون الوسطي ) الذائعة الصيت والبالغة الغرابة .. أسطورة صبي بيزلي !

الملك القاسي الذي ترك ابنته ، التي طير رأس أمها بتهمة زنا محارم ملفقة ، في رعاية الخدم في مدينة بعيدة ، ليتفرغ لنزواته ولاقتناء زوجة تليها زوجة ، من أجل أن تحقق له حلمه في إنجاب ولي للعهد .. ولكن الملك يصل فجأة باحثا عن ابنته فيقدمون إليه بنتا في ثياب ابنته الأميرة ، لكنها تبدو مختلفة قليلا ، وبها شيء غير قابل للتفسير .. لكن الملك لا يهتم ، ولعله لم يلاحظ اختلاف ابنته أصلا .. وتعود الفتاة مع أبيها الملك إلي العاصمة  .. وبعد سنوات وسلسلة من الترتيبات القدرية ومصادفات الحظ المدهشة تعتلي الفتاة عرش إنجلترا تحت اسم  إليزابيث الأولي .. رغم أنها ليست أنثي من الأساس  !

الملك هنري الثاني .. الرجل الذي قسم الكنيسة

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

هنري الثامن .. حكمه كان نقطة فارقة في تاريخ انجلترا

عٌرف عن الملك " هنري الثامن " الذي حكم إنجلترا وأيرلندا ، والمطالب بعرش فرنسا ، من عام 1509 وحتى وفاته سنة 1547 ، القسوة والبطش وحب سفك الدماء .. وقد كان أول ملك إنجليزي يٌخرج إنجلترا من تحت عباءة الكنيسة الكاثوليكية ، بداية إنشاء الكنيسة الإنجليكانية كانت في عهده ، وقسم الكنيسة وأنشأ مذهبا وكنيسة جديدة .. والسبب كان أن الملك المزواج لم يرضي عن سياسة البابا نحو الشئون الدنيوية وتدخله المستمر فيها .. فأعلن الملك أنه رأس كنيسة إنجلترا بمقتضي ( القانون السيادي ) الصادر في عام 1534 ، وزادت الأمور تعقيدا مع رغبته في تطليق زوجته الأولي " كاثرين أراجون " التي أنجبت له ولدا توفي في طفولته المبكرة ، وبنتا هي الأميرة " ماري " ، والزواج بأخرى تمنحه وليا للعهد ..

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

كاثرين أراجون ابنة " فرديناند " و" إيزابيلا " القشتالية .. الزوجة الأولي للملك " هنري الثامن "

وقد أثمرت جهود الملك ، بعد كفاح ومخاطر كبيرة ، عن تأسيس ما يسمي بـ ( الكنيسة الأنجليكانية ) ، ويعتبر ملك إنجلترا رئيسا أعلى لتلك الكنيسة حتى اليوم ، وتغيير الكثير من الطقوس والممارسات الدينية وبداية عهد التحول العظيم لإنجلترا من الكاثوليكية إلي البروتستانتية !

آن بولين تدخل قفص الأسد !

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

" آن بولين " التعيسة الحظ .. الزوجة الثانية " لهنري " ووالدة الملكة " إليزابيث الأولي " .. التي قطع زوجها رأسها !

وبعد ألاعيب ملكية مرهقة تم إبعاد الملكة " كاثرين " ، وإعلان فسخ زواجها من الملك " هنري الثامن " ، بل واعتبار ابنتها " ماري " ابنة غير شرعية  .. أما الملك فقد  تزوج لاحقا زواجا علنيا من " آن بولين " ، التي كانت أختها " ماري " عشيقة له فيما مضي ، في عام 1533 .. وفي يونيو من نفس العام وضعت الملكة الجديدة ثاني مولود يقدر له البقاء على قيد الحياة للملك ، وهي طفلة عُمدت باسم " إليزابيث " .. وهكذا خاب رجاء الملك في الحصول على وريث للعرش مرة أخري !

المدهش في الأمر أن هذا الملك لم يكن يتورع حتى عن إنكار نسب أبناءه من أجل رغباته في السلطة .. فقد تم اعتبار ابنته الكبرى " ماري " ، ابنة " كاثرين أراجون " ، ابنة غير شرعية ، وجٌردت من حقها في وراثة عرش أبيها !

وبعد بضع سنين تأكد " هنري " من عجز زوجته عن منحه الصبي الذي يريده ،  بعد أن أجهضت الملكة " آن بولين " عدة مرات .. فتخلص منها ببساطة عن طريق تلفيق تهمة ( زنا محارم وخيانة ) لها مع خمسة رجال من بينهم أخيها ، وأدانتهم المحكمة بأمر من الملك ، وتم إعدام الرجال الخمسة يوم 17 مايو 1536 .. أما الملكة فقد أعدمت بضربة سيف طيرت رأسها بعدها بيومان في جناح من أجنحة برج لندن ..

وهكذا تحرر الملك من زيجته الثانية،  ليتزوج " جين سيمور " التي حققت له حلمه أخيرا .. فوضعت له الأمير " إدوارد " في شهر أكتوبر من عام 1537م ، وماتت عقب عملية الولادة باثني عشر يوما .

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

جين سيمور " والدة الملك " إدوارد السادس " .. أخيها "توماس سيمور " أقترن اسمه باسم الأميرة " إليزابيث " في فضحية أخلاقية

.. وبعد عدة زيجات متعاقبة ، وإعدامات  لبعض زوجاته  ، توفي الملك " هنري الثامن " في عام 1547 في سن الخامسة والخمسين بقصر ( هوايت هول ) .. وكان ، قبل أن يموت ،  قد أعاد ابنتيه " ماري " و" إليزابيث " إلى قائمة خلفاء العرش بعد ابنه الوحيد " إدوارد " .. مع أن كلا الأميرتين كانت تعتبر ابنة غير شرعية للملك حتى الآن !

القدر يدفع " إليزابيث " إلى العرش !

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

إدوارد السادس ابن " جين سيمور "

كان ترتيب الأميرة " إليزابيث " هو الثالث في ولاية العرش بعد كل من أخيها " إدوارد السادس " وأختها " ماري الأولى " ، أكبر أبناء الملك الراحل .. تولى " إدوارد " العرش ، عقب وفاة أبيه ، وهو في سن التاسعة ، ولم يعمر طويلا .. فقد أصيب بمرض السل الذي قضي عليه في عام 1553م  وكان لا يزال في الخامسة عشرة من عمره !

وخلفه على العرش ، تبعا لوصيته وهو على فراش الموت ، الليدي " جين جراي " ، ملكة الأيام التسعة ، والتي كانت قريبة للملك الصبي من ناحية عمته " ماري تيودور " .. ولكن أخته الكبرى " ماري " تمكنت من القضاء عليها .. وتم اقتياد الفتاة ، التي لم تهنأ بالعرش طويلا ، لتلحق بزوجات الملك " هنري الثامن " تعيسات الحظ .. بينما نُصبت الملكة " ماري الأولي " على العرش !

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

ماري الأولي ابنة " كاثرين أوف أراجون "

تولت " ماري " الحكم ، وحكمت البلاد خمسة سنوات عجاف امتلأت بالصراعات الدينية والحرب من أجل إعادة إنجلترا إلى حظيرة المذهب الروماني ، والزواج بملك أصغر منها سنا ، وبمحاولة فاشلة للحصول على وريث للعرش .. وفي عام 1558 ماتت " ماري " غير مخلفة وليا للعهد من نسلها ، فآل الحكم في النهاية إلى الابنة الوحيدة المتبقية من نسل الملك " هنري الثامن " .. هذا إذا لم تكن قصة ( صبي بيزلي ) صحيحة من الناحية التاريخية !

هل يمكن أن يخطأ الملك في التعرف على ابنته؟!

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

صورة اليزابيث في طفولتها

السؤال الذي يٌطرح عادة في قصة كقصة ( صبي بيزلي ) يكون : هل من الممكن ألا يتعرف الملك على ابنته .. وألا يلاحظ الفرق بينها وبين الصبي الذي يرتدي ثيابها ؟!

الثابت من قصة حياة الملك " هنري الثامن " أنه كان رجلا جبارا متغطرسا سفاكا للدماء ، وكان يفتقد للتعاطف الإنساني العادي تجاه عائلته ، لم يتردد في فسخ زواجه من " كاثرين أراجون " وطردها ، هي ، وابنته منها " ماري " ، من القصر .. كما لم يجد غضاضة في تلفيق تهمة حقيرة كـ ( زنا المحارم ) لوالدة ابنته " إليزابيث " وإعدامها.. كما أن الأميرة الصغيرة كانت ملقاة مهملة في قصر مخصص للصيد والرحلات الخلوية في مدينة ( بيزلي ) التي تقع في غرب اسكتلندا ، والتي كانت لا تزال بلدة صغيرة خاملة في تلك السنوات من القرن السادس عشر .. بمعنى أن علاقة الأب بابنته الأميرة كانت سطحية للغاية ، ونستطيع أن نعتبر الملك " هنري الثامن " أسوأ أب يمكن لطفلة الحصول عليه .. دون أن نخالف ضميرنا أو نفتري على ذكرى المرحوم المزواج !

إذن فحدوث تغير كبير في شكل وحجم ابنته ، التي لم يكن يراها لشهور وربما لسنوات ، ليس من الصعب أبدا أن يمر عليه مرور الكرام .. " إليزابيث " تغيرت .. لكن ما الذي يعرفه الملك عن ابنته " إليزابيث " ليلاحظ هذا التغيير والتبدل ؟!

ما الذي حدث بالضبط ؟!

نأتي لنقطة جوهرية للغاية في قصتنا  : ماذا حدث بالضبط ؟!

ماذا وقع ليتم استبدال الأميرة ببديل لها صبي وليس حتى فتاة مماثلة لها في السن والمظهر العام ؟!

الرواية الأكثر شهرة ورواجا تحكي عن أميرة بائسة يتيمة الأم تقيم في قصر منعزل ، يبعد عن مقر  إقامة أبيها في لندن بمائة وسبعة وثلاثين كيلومترا ( المسافة بين لندن ومدينة بيزلي ) .. وهذه الأميرة تعيش في رعاية الخدم ويرافقها صبي قريب لها ، من الدماء الملكية  ، كما قيل ،  لم يشتهر اسمه ولم يحُفظ في التاريخ .. وبينما كانت الأميرة الطفلة تلعب مع رفيقها ذات يوم إذ بها تسقط ضحية المرض المفاجئ وتفارق الحياة !

لكن ما المشكلة في ذلك ؟!

المشكلة أن أبيها ملك سفاك للدماء لا يعرف الرحمة ، وقد يتهم الخدم بالإهمال في رعاية ابنته ، وليس من المستبعد أن يطير رؤوسهم .. رقيق القلب قطع رقاب اثنين من زوجاته على الأقل ، وعدد كبير من رجاله ومستشاريه ، فهل يتورع عن فعلها مع خدمه ؟!

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

هل تم تبديل الفتاة بصبي ..

إذن فهناك مشكلة ، والمشكلة لا تُحل بإبلاغ الملك بما جري لابنته ، فهذا يزيد الأمور سوء ، بل الحل الوحيد المتاح هو المخاطرة بكل شيء وإخفاء الأمر عن " هنري " تماما .. وعندما يأتي الملك طالبا رؤية ابنته سيتم تقديم بديل يرتدي ملابسها إليها .. وهذا البديل هو الصبي ذو الدماء الملكية الذي كان يرافقها ويلعب معها .. وهو الصبي الذي أشتهر في التاريخ بـ ( صبي بيزلي ) وقيل أنه تم اختياره لأنه يشبه الأميرة الميتة شبها كبيرا !

ولعل الخدم توقعوا زيارة خاطفة للملك إلى ( بيزلي ) يلقي فيها نظرة عابرة على ابنته " إليزابيث " ثم يعود إلى لندن ، ليمكنهم التصرف بعدها ، وربما تدبير إبلاغه بمرضها ثم بموتها بشكل تدريجي ، يتيح لهم النجاة من المسئولية وإنقاذ رؤوسهم من سيف جلاد الملك الخبير بقطع الرؤوس .. لكن الذي حدث هو ارتباك كامل ، فالملك جاء وذهب نعم ، لكنه أخذ ابنته معه .. الصبي البائس الذي حُكم عليه منذ الآن ألا يكشف عن حقيقته أبدا ، وإلا تعرض لخطر الموت ، وأُجبر على لعب دور الأميرة الميتة .. حتى دفعه القدر بتدابيره العجيبة ذات يوم لأن يعتلي عرش إنجلترا..  باسم الملكة " إليزابيث الأولي " !

ما دلائل هذه القصة العجيبة ؟!

إن سلمنا جدلا بصحة قصة ( صبي بيزلي ) يكون السؤال المهم : ما الدليل على حدوث تلك القصة البالغة الغرابة !

يسوق المؤمنين بقصة ( صبي بيزلي ) ، الذي كان يعيش باسم الملكة " إليزابيث الأولي " ، عدة مبررات وحجج لتأييد قصتهم .. سنسوقها واحدا واحدا هنا ونناقشها ونفندها تباعا !

1- عدم زواج الملكة إليزابيث :

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

الملكة اليزابيث ماتت عانسا

في مقدمة أسباب إيمان البعض بهذه القصة الغامضة هو امتناع الملكة " إليزابيث " حتى موتها عن الزواج ، وبالتالي تفويتها فرصة أن تنجب وريثا للعرش .. بل واضطرارها لأن تورث العرش لابن أكبر غريماتها " ماري ستيوارت " ملكة اسكتلندا !

فلماذا رفضت الملكة الزواج برغم أنه لم يكن لديها أخ أو ابن أخ أو أخت يرثون العرش من بعدها .. لم تكن تستند على وريث محتمل يعطيها وجوده القوة لرفض الزواج والإنجاب ، وبالتالي تكون حرة في رفض الزواج وغير مطالبة بأن تعطي للمملكة وريثا شرعيا من دمائها .. إذن فهناك سبب قوي لمثل ذلك التصرف ولكن ما هو ؟!

يسهل إطلاق التفسيرات شبه الخيالية لتبرير موقف الملكة من الزواج .. لكن بنظرة فاحصة على تاريخ الأميرة مع أبيها وأسرتها نتساءل : هل كان أب كـ " هنري  الثامن " صورة حسنة للزوج لتحاول ابنته من بعده الحصول على رجل مثله ليكون شريكا لحياتها ؟!

لا شك أن الملك " هنري " من أسوأ الآباء الذي يمكن أن يحلم بهم ابن أو ابنة .. فهل يمكن اعتبار عزوف " إليزابيث " عن الزواج ناجم عن خوفها من أن تقع بين يدي رجل كأبيها .. خاصة وقد كان لأختها " ماري " ، التي حكمت قبلها ، تجربة زواج سيئة للغاية أيضا ؟!

هل كانت الملكة المحبة للسلطة والنفوذ السياسي تخشي أساسا على عرشها من زوج يفرض سلطانه عليه وعليها ويرغمها على أن تلعب دورا ثانويا .. أو أن تتحول من صاحبة الصولجان إلي زوجة مسكينة مغلوبة على أمرها كأمها وبقية زوجات أبيها البائسات ؟!
مع ملاحظة أن تولي النساء للعرش وتصديهن للحكم لم يكن بعد قد ترسخ كأمر مقبول في وجدان الشعوب في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ التمدين والتحضر !

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

" توماس سيمور " فقد رأسه نتيجة علاقته بالأميرة " إليزابيث " وتخطيطه للزواج منها كما قيل .

هل كان هذا هو خوف " إليزابيث " الأكبر .. أن تفقد ، بزواجها ، سلطتها وعرشها ؟!

القول بأن الملكة كانت ترفض الزواج لكونها رجلا متخفيا يتجاهل حقيقة مثيرة للغاية ، ومضادة بشكل كامل .. وهي أن " إليزابيث " أقامت ، قبل توليها العرش ، وبعد تسلمها للسلطة علاقات عاطفية مع رجال اعتبرت بعضها فضائح مدوية .. ففي حياة أخيها " إدوارد السادس " أشيع أن الأميرة " إليزابيث " ، التي كانت في سن المراهقة ، على علاقة عاطفية بـ " توماس سيمور " ، شقيق زوجة أبيها " جين سيمور " وخال  أخيها " إدوارد " ، بل وقيل أن علاقتهما تعدت حدود اللياقة والتهذيب .. حد أن الملك الصغير لم يجد حلا لدرء هذه الفضيحة سوي تلفيق تهمة الخيانة لخاله وقطع رأسه .. الولد سر أبيه حقا !

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

" روبرت دادلي " مربي الخيول الملكية .. والرجل الثاني في حياة الملكة " إليزابيث الأولي " العاطفية كما أشيع عنهما .

هذه واحدة .. وعندما كانت " إليزابيث " على العرش أيضا وقعت قصة مشابهة بينها وبين مربي الخيول الملكي السير " روبرت دادلي " ، الذي أشيع أنه والملكة يعشقان بعضهما البعض .. لكن وجود زوجة الأخير كان عائقا أمام تتويج ذلك الحب بالزواج .. وحينما توفيت زوجة " دادلي " ، " إيميلي روبسارت " ، في حادث غامض ، قيل بأنها من تدبير زوجها وحبيبته الملكة ، صار إتمام الزواج مستحيلا .. لأن في هذا تأكيد للشائعات عن علاقة الملكة بوفاة زوجة حبيبها وتهديد كبير لصورة العرش في عيون الشعب !

فهل يمكن لرجل ، يختبئ تحت ثياب الملكة ، أن يقيم علاقات عاطفية ، بعضها وصل حد الفسق كما أشيع ، ويتورط في علاقة برجل آخر دون أن يكتشف أمره ؟!

هل الأمر بتلك السذاجة والسطحية !

إذن يظل السؤال لماذا لم تتزوج الملكة " إليزابيث " ؟!

من الواضح أن الملكة كانت مولعة بلقب ( الملكة ) العذراء الذي طلبت بأن ينقش على قبرها ، كما أن تجاربها السابقة في العشق ، وصورة أبيها المنفرة كزوج وأب ، كلها مبررات كافية جدا كي تبقي بدون زواج إلي الأبد !

2- ثياب الملكة المغلقة وتبرجها الزائد :

الحجة الثانية التي يقدمها مؤيدو قصة ( صبي بيزلي ) هو المظهر العام الذي كانت تحرص الملكة " إليزابيث " على الظهور فيه .. ثياب مقفلة تغطي منطقة الرقبة والصدر ، وكميات كبيرة من المساحيق تغطي وجهها !

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

كانت تكثر من وضع مساحيق التجميل

قيل أن الثياب ، ذات الصدر المقفل والريش الكثيف ، كانت تغطي تفاحة آدم التي توجد في رقبة الرجل المنتحل لشخصية الملكة .. أما مساحيق التجميل فقد كان الهدف منها تغطية شعر ذقنها .. أقصد ذقنه !

الحقيقة أن الكثير من الصور المرسومة للملكة تظهرها فعلا بثياب تغطي الصدر والرقبة لكن مروجو القصة يتجاهلون صورا كتلك

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

.. هنا رقبتها ظاهرة ولا توجد تفاحة آدم

فأين هي تفاحة آدم المختبئة في تلك الصور ؟!

لا وجود لها .. ولاحظ أن موقع قلب القلادة أدني من موقع ( تفاحة آدم ) التي تكون بأعلى الرقبة تحت الرأس مباشرة أو بمسافة قليلة لدي الرجال

إنه مثال صارخ على الانتقائية في الأدلة

أما عن طبقات المساحيق الكثيفة التي كانت تتبرج بها الملكة ، والتي قيل أنها وسيلة لإخفاء شعر الذقن لدي (رجل بيزلي ) ، فهناك مبرر أكثر معقولية ومنطقية وهو أن الملكة أصيبت في صغرها بمرض الجدري ، الذي ترك ندوبا وآثارا على بشرتها كانت تجتهد لإخفائها عبر استخدام تلك الطبقات من مساحيق التجميل .. أليس هذا يحدث حتى في يومنا هذا ؟!

3- الخط والأسنان وأسلوب الكتابة  والبشرة :

من أشهر من أدلوا بدلوهم في لغز ( الملكة العذراء ) كانت الكاتب الشهير " برام ستوكر " ، صاحب تحفة الرعب الخالدة " دراكولا " ، فقد وضع الرجل كتابا بعنوان ( دجالون مشهورون ) ، تم نشره في عام 1910م ، أوضح فيه القصة الشعبية ، مقدما عدة مبررات وأسانيد لتدعيم القصة من وجهة نظره الخاصة ، ولكن دون أن يبدي موافقته عليها ، بالعكس أظهر لا معقوليتها من وجهة نظره .. أما الأدلة الاعتيادية التي تساق كإثبات لقصة ( صبي بيزلي )  فهي :

(( التبدل الذي حدث للأميرة " إليزابيث " عند مقارنة ملامحها وأساليبها قبل ذهابها إلي ( بيزلي ) وبعد أن أعادها أبيها إلي لندن وهي تشمل ثلاثة تغييرات أساسية :

– التغير في أسنان الأميرة : التي ذهبت بأسنان مسوسة فاسدة وعادت بأسنان سليمة ولامعة

– التغير في بشرتها من بشرة غير صحية إلي بشرة وردية نضرة ، وجسدها الذي كان هزيلا ضعيفا لكنها رجعت من ( بيزلي ) بجسد ذو بنية قوية تبدو أشبه ببنية الذكور

– التغير الثالث ( الذي ذكره برام ستوكر ) تفصيليا فهو التغير في أسلوب النثر في كتابة الملكة ، التي تطور أسلوبها من أسلوب ركيك رخيص ، إلى أسلوب كتابة فخم مطعم بلغات قديمة وبنثر مكتوب جيدا وبلغة فخيمة !

هذه هي عينها المبررات التي يسوقها سكان ( بيزلي ) ، الذين يبدو أن فكرة أن طفلا من مدينتهم حل محل الأميرة " إليزابيث " ، وأرتقي عرش إنجلترا بدلا منها ، وتحت اسمها ، تروقهم للغاية لدرجة أنهم يقيمون مهرجانا شعبيا سنويا للاحتفال بتلك المناسبة .. يتم خلاله بيع دمي صغيرة ، كتذكار لتلك الحادثة التاريخية تحمل اسم ( صبي بيزلي ) ، بعض تلك الدمى تباع على الانترنت أيضا !

لكن لنناقش تلك الأدلة بطريقة أكثر عقلانية وتجرد :

فعن أسنان الملكة فمن المعروف أنها ذهبت إلي ( بيزلي ) وهي في سن الطفولة ، فيما قبل العاشرة من عمرها على أغلب الآراء ، وبقيت هناك مدة طويلة أفليس من الممكن ، في هذه الحالة ، أنها استبدلت أسنانها اللبنية وهي هناك ، وطرحت أسنانها الفاسدة بسبب كثرة أكل الحلوى ، لتحظي بأسنان جديدة دائمة أكثر قوة وجمالا .. علما بأن فترة تساقط الأسنان اللبنية ( أو ما يسمي بالتقشير ) وظهور الأسنان الدائمة مكانها تمتد من عمر السادسة حتى عمر الثانية عشرة تقريبا .

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

اليزابيث في مراحل مختلفة من حياتها

أما عن البشرة الصحية والبنية القوية ، فالمعروف أن لندن كانت تعج بالأوبئة والقذارة والأمراض في تلك السنوات العجاف من القرن السادس عشر ، بينما الريف معروف دائما بصفاء جوه ونقاء طبيعته ، فمن الجائز جدا أن أجواء الطبيعة الصافية والقوة البرية التي تمنحها حياة الريف للأطفال ، خصوصا بعد تحرر الطفلة من قيود والدها الملك المتحكم ، ساعدتها على الانطلاق واللعب والتمتع بالطبيعة ، مما أنعكس بالضرورة على صحتها وبشرتها وبنيتها .. ألسنا نجد أن الأطباء ، حتى يومنا هذا ، ينصحون المرضي بالاستشفاء في المناطق الريفية وذات الطبيعة النقية ؟!

أما عن أسلوب النثر والكتابة فهي حجة أراها بائسة وضعيفة .. فهل من العدالة مقارنة أسلوب طفلة لم تكد تبلغ العاشرة ، في الكتابة والنثر ، بأسلوب أميرة ناضجة ، أو ملكة تخطت الخامسة والعشرين ، بعد أن استكملت تعليمها في البلاط ، وأدخلها أبيها ثالثة في ولاية العهد .. وفوق كل ذلك فمن المعروف أن " إليزابيث " عاشت ، بعد وفاة أبيها ، برفقة أخيها " إدوارد " وأختها " ماري " ، التي كانت ابنة " كاثرين أراجون " ، أي أنها تنتمي لعائلة مالكة أسبانية عريقة ..  ولابد أن وجود أختها الصغرى معها كان له أثر بالغ في تعليمها وتحسين أساليبها وتطوير قدراتها الكتابية !

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

رسالة بخط يد الملكة اليزابيث الاولى

نأتي ، مرة أخري ،  إل الحجة الأكبر التي تقال لتأييد قصة ( صبي بيزلي ) الخرافية ، وهي عدم زواج الملكة " إليزابيث " ورفضها إنجاب وريث للعرش .. وأعتقد أن لظروف زواج ثم إعدام أمها على يد أبيها ، إضافة إلي خوفها على نفوذها وعرشها ، وتجربة أختها الكبرى السيئة في الزواج ، وعلاقاتها هي العاطفية المأساوية أو غير الموفقة ، دورا هائلا في اتخاذها لهذا الموقف المتعنت الرافض للزواج والإنجاب !

 أليس من الجائز أن " إليزابيث الأولى " كانت مجرد امرأة قوية مختلفة ، في عصر كانت فيه النساء لهن شكل ودور معين لا يفكرن في تخطيه .. أليس من الجائز أن خرافة ( صبي بيزلي ) هي محاولة بدائية لتفسير سر قوة امرأة صمدت في وجه عادات العصر وتقاليده .. وكانت سابقة لأوانها في إثبات أن المرأة بوسعها أن تتقدم الدول ، وتحكم ، وتمارس السلطة وتمسك بالزمام كالرجال تماما .. امرأة حققت الكثير لعرشها ومملكتها .. وجعلت عصرا كاملا يسمي باسمها ويحمل علامتها ويطلق عليه ( العصر الإليزابيثي ) فاتحة بذلك الطريق لظهور ملكات حاكمات قويات ؟!

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

كيت بلانشيت في دور الملكة اليزابيث .. وهذه اللقطة تعكس صورة واقعية للملكة اثناء قيادتها لجيشها خلال حملة الارمادا الاسبانية حيث خطبتها الشهيرة : "انا اعلم بأني املك جسد امرأة ضعيفة واهنة , لكني أملك قلب ومعدة ملك" .. قادت امتها وانتصرت على جيش اقوى بكثير .

فلما عجزت العقلية المهيمنة على تلك الأزمنة عن تفسير سر قوتها وهيمنتها وقوة شخصيتها ، لجأت إلي تلفيق حكاية مضحكة عن رجل يختفي تحت ثياب الملكة ؟!

هل كانت قصة ( صبي بيزلي ) عقوبة لا شعورية للملكة " إليزابيث " ، التي خيبت ظن معاصريها في أن تكون امرأة خانعة ذليلة .. مثلما عوقبت أختها " ماري " بإطلاق اسم ( ماري الدموية  ) عليها ، وهي كانت دموية ومتسلطة ومكروهة فعلا ، وهو ما لم يحدث مع أبيها " هنري الثامن " .. رغم أنها لم تقتل ولم تنكل بعشر من قتلهم هو ونكل بهم من عامة وساسة ورجال دين وحتى  أقرب الناس إليه ؟!

أما اللغز الأكبر فيظل هو رفض الملكة لتعطير وتحنيط جثتها بعد الموت ، فهل  يكون لاعتداد الملكة بنفسها ، وخوفها على مظهرها ومظهر جسدها ، أثر في رفضها أن يطلع أحد على جسمها بعد موتها .. أو تمتد إليه أيادي غريبة ؟!

أم أن يكون هناك سر حقيقي ، وليس مبتذلا كقصة الصبي الخرافية ، تخفيه الملكة فعلا ، وتحرص على إبقائه طي الكتمان حتى بعد موتها .. هل تكون الملكة ، كما أشارت بعض الدراسات الطبية التي أجريت على صورها وملامح وجهها ومظهر يديها ، تعاني من حالة طبية نادرة تجعلها وسطا بين الذكر والأنثى .. هل كانت الملكة في الحقيقية ( خنثي ) ؟!

إذا كان هذا حقيقي فهو مبرر كاف جدا لرفضها للزواج ، وقد تكون علاقاتها العاطفية المعلنة ليست إلا وسيلة ذكية لإخفاء تلك الحقيقة المروعة ، في زمن لا يتسامح مع المختلفين وذوي الإعاقات ومظاهر النقص الجسدي .. إن رفض الملكة " إليزابيث الأولي " لإطلاع أحد على جسدها بعد موتها بغية تجهيزها للدفن ، أعطي دفعة هائلة للقصص الخرافية المحيطة بها .. لكن أسطورة ( صبي بيزلي ) تبدو مستبعدة جدا وغير معقولة .. فجسد رجولي بأكمله لا يسهل إخفائه عن أعين الوصيفات ومن يقدمن الخدمة الخاصة للملكة من نساء البلاط .. لكن ازدواج الأعضاء الجنسية ، الخنوثة ، هي مسألة أسهل في الإخفاء والستر والتعتيم عليها .. هل يكون هذا هو سر الملكة الأكبر الذي حرصت على الاحتفاظ به لنفسها .. ولنفسها فقط ؟!

ولعل ذلك سر امتناعها عن الزواج من حبيبتها " روبرت دادلي " وليس مجرد الخوف على سمعة العرش من تهمة تدبير موت زوجته ، وكذلك رفضها لأيدي الخطاب الكثيرون الذين تقدموا لها ، وكان آخرهم " فرانسيس دوق أنجو "  ..  لكن قد يكون هذا غير صحيح بدوره !

وقد لا يكون وراء الملكة " إليزابيث الأولي " سر سوي كونها مختلفة .. مختلفة وحسب !

حكمت الملكة " إليزابيث الأولي " حوالي أربعة وأربعين عاما وتوفيت في عام 1603 وهي بعمر التاسعة والستين .. ودفنت في ( دير وستمنستر ) في مقبرة مشتركة مع أختها " ماري " مكتوب عليها :

(( الأقران في الملكوت والمقبرة .. ترقد هنا ، إليزابيث وماري ، الأختان .. على أمل البعث ))

صبي بيزلي : الولد الذي أصبح .. ملكة إنجلترا !

مقبرة الملكة " إليزابيث الأولي " في دير سانت بيتر في وستمنستر

 ونعود لنتساءل : هل قصة ( صبي بيزلي ) وأساطير الخنوثة ، والعجز عن الإنجاب وفقدان الأنوثة ، هي عقوبة لا شعورية من أهل القرن السادس عشر موجهة ضد امرأة خالفت كل التوقعات والنظريات السائدة .. امرأة أحدثت الكثير من الإصلاحات ، وكانت بطلة البروتستانت .. وتغلبت جيوشها وسفنها على أسطول الإمبراطورية الأسبانية المخيف المعروف بالأرمادا .. ووضعت يديها على الكرة الأرضية كرمز لهيمنتها البحرية والعالمية ؟!

وبعد لنتذكر جيدا كيف أن شاعرة قديمة بلغت مرحلة الإجادة في الشعر وعلت شهرتها ، وأنشأت مدرسة لتعليم وتثقيف البنات .. فكانت عقوبتها اللاشعورية هي رميها ، ورمي تلميذاتها معها ، بتهم الشذوذ والسحاق .. وهي " سافو " .. التي أشتق اسم مرض ( السحاق ) من اسم الجزيرة التي ولدت بها ( جزيرة لسبوس )  .. والتي أقامت مدرسة  لتعليم البنات ، اللائي كانت كثيرات منهم من الطبقات العليا  .. ولم يكن ذويهن ليسكتوا في حالة كون الشاعرة تفسدهن فعلا أو تقيم علاقات شاذة معهن !

وهي التهمة التي نفاها عنها " أوفيد " صراحة بقوله :

(( ماذا علمت سافو فتياتها، سوى أن يمزجن الحب بالنبيذ، ماذا علمت سافو، من ليسبوس، الفتيات سوى الحب ؟ ))

المصادر :

– موسوعة الويكيبديا ( مادة : هنري الثامن ، آن بولين ، إليزابيث الأولي )
– فيلم وثائقي بعنوان ( حل لغز الملكة العذراء ) من إنتاج قناة ناشيونال جيوغرافيك

تاريخ النشر 14 / 07 /2015

guest
71 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى