أدب الرعب والعام

صخب المدينة الهادئة – الجزء الأول

بقلم : اية – سوريا

دائماً ما يزعزع اللقاء الأول كثيراً من الأفكار بداخلنا خاصةً لو كان يحمل معه بعض الحقائق المطوية
دائماً ما يزعزع اللقاء الأول كثيراً من الأفكار بداخلنا خاصةً لو كان يحمل معه بعض الحقائق المطوية

امرأة صاخبة جداً تشعر بأن في داخلها صخب مدينة نيويورك كامل ، بل العالم بأكمله ! عقلها ، قلبها ، أفكارها ، حياتها صاخبة مجنونة لا قانون لها ولا نظام ، تعيش بارتجال فظيع  دون تخطيط أو تفكير ، لا تفكر بعواقب أفعالها أو مشاعر غيرها ، رغم ذلك تهتم لكل من حولها ، أنها قاسية كالصخر و رقيقة كالأزهار ، معتزلة عن الناس جميعاً لكنها دائماً ما تكون بقربهم ، تحب و تكره الجميع ، تحب الشر و تكرهه ، تكره الخير و تحبه ، متناقضة بطريقة جنونية ، و تحب تناقضها هذا ، مليئة بالعيوب التي ليس لها نهاية ، متسرعة وعصبية و فضولية و لا تعمل على تصحيح عيوبها هذه ،

عانت كثيراً في طفولتها ، خسرت أغلى ما تملك ، لكنها خبأت كل ذلك في ذاكرتها و تناست الألم لتتابع حياتها ، فرغم أن الحياة مهنة تافهة في نظرها ، لكن عليها خوضها ، فأحيانا تعتبرها أمراً مجبرة على القيام به ، و أحياناً أخرى تعتبرها فرصة لا تكرر و عليها استغلالها حتى النفس الأخير ، موقفها من الحياة حتى لم تستطع تحديده ، لم تستطع تحديد مشاعرها تجاه الأشخاص فدخلت بمتاهات من الصعب الخروج منها إلا بخسارة الكثير ، و قد خسرت الكثير فعلياً ،

بالمقابل منها يقف رجل متزن هادئ  يشبه بهدوئه جزيرة نائية في وسط البحر ، لا احد يستطيع الوصول إليه و معرفة أسرار متاهات عقله الغريب ، يحسب عواقب أفعاله قبل أن يخطو خطوة واحدة ، لا مشكلة لديه بأن يتخلى عمن يحب و يقتل الناس أجمع إن كان الأمر لمصلحته ، أناني بشكل مفرط لكنه طيب القلب رغم عدم إظهاره طيبة قلبه هذه لأي شخص في العالم ! لم يجد التعبير عن مشاعره للعالم الخارجي فكرهه الجميع لم يحاول إفهام العالم الخارجي بأنه طيب و ليس الفتى البارد الذي هو مجرد إطار لا أكثر لشخصيته الحقيقية ، لم يستطع تكوين صداقات في حياته ،

أفتقد الحنان في طفولته مما أثر عليه عند كبره جعل شخصيته غريبة لم يهزم مخاوفه ، و لم يستطع مواجهتها والوقوف أمامها و معاتبتها على الأقل كان قنوعاً بشكل مخيف ، شخصيتان متناقضتان أحدهما الجنوب والأخر الشمال ، احدهما يمثل الضجيج والأخر يمثل الهدوء ، أحدهما يمثل بياض الثلج ونقاءه وأخر يمثل البحر الهائج و أمواجه المتضاربة ، لكن ، عندما يجتمعان تحت سقفٍ واحد مجبرين على البقاء معاً ، كيف سيتعاشيان ؟ كيف سيتحملان بعضهما البعض ؟ هل سيتنازل أحدهما ؟ هل سيعالجان ندوب بعضهما البعض ؟ هل سيكونان يداً واحدة ؟ هل سيفترقان ؟ و إن افترقا هل سيعلقان بالذكريات ؟ هل سيكتشفان الحقيقة ؟ لا أحد يعرف المستقبل ، هو الوحيد الذي يملك هذه الإجابة.

 
الفصل الأول:
لقاء المتنافرين :
 
( دائماً ما يزعزع اللقاء الأول كثيراً من الأفكار بداخلنا خاصةً لو كان يحمل معه بعض الحقائق المطوية.

12/7/2012م

تسير بتعب في شوارع مدينة مون فيس و تشعر بألم حارق في معدتها و رأسها ، شارع يعج بالحركة و الضجيج والأرصفة المكسرة ، و المحلات التجارية تتوزع على كل جانب ، كل يمشي منشغل بهاتفه ، من ناحيتها هي تحمل حقيبتها القماشية على ظهرها و لا تملك سوى عدة قطع نقدية في جيبها ، تضع قبعتها على رأسها لتحميه من أشعة الشمس الحارقة ترتدي سترة جينز باهتة اللون ذات أكمام قصيرة مع بلوزة سوداء و بنطال باهت اللون أيضاً ، مع حذاء رياضي تآكل بفعل الزمن ، رافعة خصلات شعرها البنية المائلة للذهبية بطريقة عشوائية لتمحي بذلك كل ذرة أنوثة فيها تراقب كل شخص بعينيها الخضراوتين و تختلق قصصاً عنهم ، تبدو كمراهقة أكثر من شابة في العشرين بتفكيرها ولبسها ، بل مراهقون اليوم يبدون أكثر نضجاً منها ! تشعر بالإرهاق و التعب.

فهي تسير منذ ساعة تقريباً كانت تواسي نفسها بأنها ستصل بعد قليل لهدفها ، سوف تأخذ حماماً بارداً لترخي أعصابها ثم سترى ما الذي يوجد بالثلاجة و ستتناول الطعام ثم ستنام في السرير الوثير فاتحة النافذة لدخول هواء الليل البارد لمنزل جدتها إلى ظهر اليوم التالي ! مدت يدها إلى جيب بنطالها لتخرج هاتفها و تنظر إلى الساعة أنها الثانية عشر ظهراً تابعت سيرها في الشارع الصاخب بالأطفال والمراهقين والبالغين ، المدينة التي تمثلها ، لم تخلق هنا عشوائياً ، توقفت للحظة روفعت نظرها للأعلى ، أنها البوابة الخشبية الكبيرة التي تعرفها و تحفظ كل نقوشها عن ظهر قلب ، ضغطت عدة ضغطات على اللوحة الإلكترونية مدخلة الرمز الذي تضعه جدتها و تحفظه أكثر مما تحفظ رقم هاتفها ، فُتحت البوابة أمامها فبان لها أربعة منازل زاهية الألوان وأوراق دالية عنب تتدلى فوقها ، بساحة مبلطة بحجارة رمادية ، و رائحة الأزهار تعبق في كل مكان سعيدة بالوصول لمحطتها ،

دخلت وأغلقت البوابة خلفها سارت نحو المنزل المطلي باللون الأبيض و تتداخل إلى جدرانه نقوش باللون الأحمر الداكن والأشجار تحيط به من كل جانب ، زقزقة العصافير التي بنت أعشاشها هناك تضفي لمسة رائعة إلى المكان ، رغم أنها تكره الهدوء لكن عليها أخذ إجازة من صخبها لنصف ساعة على الأقل ، أخرجت مجموعة المفاتيح من حقيبتها و فتحت الباب بأحدها ، خطت خطوة واحدة داخل المنزل ، ارتسمت ابتسامة على وجهها تنم عن رضا ، ما زال المنزل كما تركته أخر مرة ، قبل عام تقريباً دخلت وأغلقت الباب خلفها ، بدأت تجول في الصالة الكبيرة الواسعة ذات الأرضية الخشبية و تترامى فوقها عدد من الأرائك المريحة باللون الأحمر الداكن ، مع وسائد وثيرة باللون الأبيض ، بالإضافة للوحات غريبة رسمتها جدتها بنفسها خلال فترة صباها ،

مع صور تزين الجدران في جميع الصور كانت جدتها موجودة و هناك عدة صور توجد بها هي و عدة صور أخرى يوجد بها فتى لا تعرفه ، و رغم سؤال جدتها عنه كثيراً في طفولتها فدائماً ما كانت تكون إجابتها بأن ابن صديقتها المتوفاة ، حتى شعرت بأنها مهما سألت لن تلقى الإجابة التي تشفي غليلها ، لذا توقفت و قررت بأنها ستكتشف يوماً ما لوحدها، دخلت إلى المطبخ و فتحت الثلاجة كانت ممتلئة كعادتها كأن روح جدتها ما زالت تسكن في البيت. صعدت الدرج المؤدي للطابق العلوي الذي يحتوي على غرفتي نوم وحمام وغرفة مقفلة لم يدخلها أحد من قبل ، سارت نحو الغرفة التي كانت تنام فيها في طفولتها عند زيارتها الدائمة لجدتها هرباً من منزلها ، أخرجت المفتاح و فتحت الباب المقفل و دخلت بانت لها الغرفة بستائرها الرمادية وجدرانها البيضاء  و سرير وثير و لوحات فنية تدهش الناطر لها من رسم جدتها طبعاً ، مع عدة رفوف مترامية على الجدران ، و نافذة تطل على الحديقة الخلفية للمنزل ، و خزانة رمادية وأريكة موضوعة بجانب السرير دائماً ما كانت تجلس جدتها هنا لتقرأ لها قصة ما قبل النوم أو لتسهر بجانبها عند أصابتها بالحمى ، أو لمشاهدة فيلم و قضاء الليل في الثرثرة حول المستقبل والماضي والمشاكل التي تقع بها دائماً و بأنه يجب عليها التركيز بدراستها أكثر و ألا تكون طائشة ،

لكن بعد دقائق من محادثتهم هذه تبدأ جدتها بالضحك للقصص التي تحكيها حفيدتها عن أخر أفعالها و يخططان لأفعال أكثر جنونية ، ضحكت لهذه الذكرى و رمت الحقيبة على السرير واتجهت نحو النافذة فتحتها و فتحت الستائر لتدخل أشعة الشمس للغرفة ، أخرجت رأسها من النافذة كان الهواء منعشاً حقاً ، ودالية العنب التي تمدد لتلتف على النافذة لتكوّن مظهراً لا مثيل له. ارتسمت ابتسامة على وجهها ، أدخلت رأسها وخرجت من الغرفة لتتجه نحو باب غرفة جدتها و تخرج مجموعة المفاتيح مرة أخرى وتفتح باب غرفة جدتها ، بسرير كبير مريح و مكتبة مليئة بالكتب و أشرطة الموسيقا ، وجدران خضراء اللون وستائر خضراء اللون أيضاً ، مع نباتات منتشرة في أنحاء الغرفة ، تشعر بأنك تحلق في الهواء الطلق ، لم يكن هناك ما تفعله في غرفة جدتها فخرجت منها بهدوء ، نظرت نحو باب الغرفة المغلقة المقابل لغرفة جدتها ، لقد تركت لها جدتها مفاتيح الغرف جميعها إلا هذه ، تاركة الفضول ينهش قلبها ، بالطبع ستفتحه يوماً ما لكن ليس الآن ، لأنها تريد أخذ حمامٍ بارد للتخلص من كل الغضب الذي اعتراها بسبب الزحمة المرورية الخانقة.

 
نزل ماثيو من الحافلة بعد أن شعر بالدوار بسبب كل ذاك الازدحام ، رأسه يؤلمه بشدة لكن عليه الحفاظ على هدوءه حتى يصل إلى المنزل ليستحم ثم يبدأ بإنجاز مسرحية هذا العام ، كان ينظر للناس في الشارع بكل برود لم يكن يهتم لأمر أحد كأن همه الوحيد الذي يشغل باله حالياً هو إنهاء النص المسرح المكلف به و عدم المرور بأي مشاكل مع الإدارة في عمله لكي يحصل على المبلغ الذي طلبه فأي خطأ صغير يضيع عليه حلمه ، يخاطب نفسه بأنه لن يعيد أخطاء المسرحيات السابقة فهذه فرصته الأخيرة ، كان يسير و يجر خلفه حقيبته المليئة الأمتعة و خيبة أمله ، شخص منظم و دقيق لا يريد علاقات مع البشر انطوائي و رسمي بشكل مبالغ و مصطنعٌ و لم يستطع أحد فهمه سوى جدته ، لم يكن لديه أصدقاء  وما زال لا يملك أصدقاء حقيقين ، توقف لوهلة ليتفحص الماكن الذي يقف به كأنه نسيَّ الطريق أين هو ! أنه في ورطة منذ سنين لم يتعمق في شوارع المدينة هنا ، دائماً ما يقرر ركوب سيارات الأجرة لتسهيل رحلاته ، ما الذي عليه فعله الآن ؟

سار نحو طرف الرصيف ليوقف سيارة أجرة فقد بدأ القلق يتسرب إليه ، لكنه حاول تهدئة نفسه بقوله بأنه سيصل بعد قليل إلى جنته تلك و سيأخذ حماماً دافئاً ليرخي أعصابه ، ثم سيتناول بعض الطعام الموجود في الثلاجة و يعد بعض القهوة التي يعشقها ليجلس و يبدأ بكتابة نص مسرحيته التي ستحقق نجاحاً و لن تكون فاشلة كأخواتها السابقات ، ستكون ولادة ناجحة و لن تُجهض أو تموت خلال ولادتها ، هدأ نفسه بهذه الكلمات حتى عاد إلى طبيعته و تبدد قلقه في الهواء ، أشار بيده إلى سيارة أجرة وافقت أن تتوقف له أخيراً ، ارتمى في المقعد الأمامي و قال للسائق:

– إلى الدائرة السادسة من فضلك ؟.
– بالطبع بُني.

ابتسم للعجوز الذي يبدو طيباً ، القى نظرة على السيارة كان الرجل قد ملأ السيارة بدمى الأطفال ، أرانب و دببة و قطط و كلاب و دودة تملأ السيارة ، وصورة للعجوز ذاته و معه طفل ، إنه بالطبع حفيده ، رفع نظره لأعلى الزجاج الأمامي ليرى بطاقة تعريف (براين دايسون) حول نظره إلى السائق وأمعن النظر في عينيه ، لمحة حزن لكنه لا يريد فتح حوار لأنه يعتبر كل غريب و عدو له ، بعد دقائق قال له العجوز بنبرة صوت فيها شيء من الريبة:

– لن يكون يومك عادياً بني ، ستكتشف ما حاول الجميع إخفائه عنك طوال سنين عمرك.
استغرب ماثيو من كلامه و نعته في سره بغريب الأطوار ، لم يناقشه و بقي صامتاً طوال ربع ساعة و لم يفاتحه السائق بأي موضوع آخر ، بقي الصمت مخيماً عليهما حتى وصلا ، شكره ماثيو بابتسامة مصطنعة وأعطاه أجرته التي لم يعد في جيبه أية ورقة نقدية ، بعدها أخذ نفساً عميقاً وهو يقف أمام البوابة الشاهقة ، أدخل الرمز السري الذي لا يعرفه أي أحد سواه هو وجدته ، أربعة بيوت كتل أسمنتية لا يشعر بأي مشاعر اتجاهها إلا بيت جدته هو الوحيد الذي يستولي على كل مشاعره اتجه نحوه و لم يعر أي منزل أخر أهمية ،

أخرج مجموعة مفاتيحه و فتح الباب الرئيسي و دخل ، أنها الجنة ، اتجه إلى الصالة وارتمى على الأريكة الوثيرة الحمراء ، صوره هو و جدته و الفتاة الغريبة التي لطالما تهربت جدته من إجابته عمن تكون ، يمعن النظر في السقف مهملاً جميع التفاصيل الأخرى ، أغمض عينيه لبضع دقائق لكن لا ، عليه النهوض والإسراع ، قبل ذلك أراد إلقاء نظرة على الشرفة أستكون مقر كتابته الجديد ؟ هو يفكر بذلك ، صعد على السلالم واستدار نحو باب الشرفة ليفتحه و يقف بهدوء يستنشق الهواء المعطر برائحة البحر البعيد  يتأمل العالم الخارجي ، كان هذا المنزل بقعة بعيدة جداً منفصلة عن عالم البشر المتوحش ، لكن لم تدم لحظة تأمله و تفكيره العميق كثيراً فقد سمع صوت صراخ أمرأة قطع لحظة تأمله فاستدار للخلف ، انصدم بامرأة تحمل سكيناً تتقدم نحوه وتصرخ به:

– إياه السارق ! أتحاول اقتحام منزل جدتي ؟.
قال وقد تراجع للخلف : أنت السارقة ! ما الذي تفعلينه هنا ؟.
– قالت و قد رفعت وتيرة صوتها أكثر و قد تقدمت نحوه بنية طعنه : لا تتظاهر بالغباء ! اعترف من أنت و من أرسلك ، هل تريد قتلي ؟.
– تريد إقناعي بهذه القصة الغبية ؟.

قالت ساخرة منه وهي ترمقه بنظراتها الحادة ، فأضاف ببروده محاولاً استفزازها :
– وهل تظنين بأن قصتك تُصدق ؟ أظنك أخذتيها من أحد الأفلام الهندية.
– قالت وهي تقف بغضب: لا أسمح لك ! أقسم بأنني سأضربك.
– أخبرتك بأنكِ خارجة من فلم هندي.
– قالت بانفعال : اصمت يا هذا ! من تظن نفسك لتهينني ؟.
– قال ببرود : انظري هذا منزل جدتي  و من حقي إمضاء عطلتي فيه.
– قالت بابتسامة نصر: أعطني دليلاً واحداً فقط ؟.
– قال و هو يشير إلى الصور المعلقة إلى الحائط: انظري ، هذا أنا ، لذا أتمنى منك الخروج.

– قالت بصدمة : أنت هذا الفتى؟.
– نعم.
– قالت متحدية: و أنا تلك الفتاة الموجودة بأغلب الصور! لا تستطيع طردي.
– قال محاولاً إخفاء صدمته: و لا تستطيعين أنتِ أيضاً طردي !.
رمقته بنظرة حادة و هي تشعر بالغضب الشديد و جلست صامتة ، نعم هو محق للأسف ، طالما (إيزابيلا) تكون جدته فهي لا تستطيع طرده ، ما الذي ستفعله الآن ؟ لقد ذهبت كل مخططاتها أدراج الريح ، نظرت له و قالت باستغراب:
– أنا لم أقتنع ، كيف يكون لأمي أخت ؟ لم تخبرني جدتي بذلك أبداً.
– قال بانفعال: و هل تريدين معرفة كل شيء ؟ لقد أخبرتك بأن إيزابيلا تكون أم والدتي وهي جدتي و يكفي هذا.
– قالت بغضب: و ما بك غضبت بهذا الشكل؟ أنا لم أقل شيئاً خاطئاً.
– قال وهو ينهض عن الأريكة : لا شأن لك لأن تسألي عن حقائقي.

صعد على السلالم تاركاً روكسانا بمفردها كانت تشعر بالغضب الشديد من بروده المستفز وانزعجت أيضاً بأنه يوجد من يشاركها بجدتها ، هذا أمر مزعج فقد اعتادت أن تكون الحفيدة الوحيدة لجدتها ، لكنها اكتشفت شريكاً لها ! أمر مزعج بحق ، نهضت و التقطت هاتفها عن الطاولة ، ألقت نظرة على الساعة أنها الثالثة عصراً ما الذي عليها فعله ؟ التجول في أرجاء المدينة أم تناول بعض الطعام ؟ لتخرج و تتجول قليلاً لان مشاركة منزل جدتها مع رجل غريب أمر يجعلها تفقد عقلها ، صعدت السلالم و دخلت غرفتها والتقطت حقيبتها من على السرير و نزلت السلالم بسرعة ، فتحت الباب الخارجي و صفقته بقوة واثقة بأنها لن تعود حتى غروب الشمس ، في تلك الأثناء هبط ماثيو السلالم بهدوء و قد تأكد من خلو الشقة من أي أحد ، كان يشعر بالانزعاج ، دخل إلى المطبخ و أخذ كوباً من الماء و صعد مرة أخرى إلى غرفة جدته ، ابتلع الكوب كله مرة واحدة و تمدد على السرير، فكر بعبارة العجوز تلك و يبدو بأنه سيكتشف أمراً جديداً ، أمر عقله بإبعاد أفكاره هذه متخذاً القرار بأنه سينام ولن يفسد عطلته بسبب تلك الدخيلة المجنونة.
 
تسير بدون وجهة في شوارع المدينة ، تبحث عن أي شيء لتفعله لكن لا يوجد ، نظرت إلى الساعة ما زالت الرابعة عصراً و ذلك (الدخيل) سيكون مستيقظاً ، لا يهم ، عادت عدة خطوات للوراء لتتوقف أمام إعلان لمحته على جدار أحد المحلات. بدأت بقراءته و ارتسمت ابتسامة على وجهها ، رائع! معرض للفن ، تستطيع الذهاب ، على كل حال إنه مجاني و هو قريب من موقعها الحالي ، بدأت بالسير في أتجاه المعرض وهي تفكر هل ستمضي حقاً عطلتها مع الرجل المجهول ؟ هل ستتقبل وجوده؟ هل سيتقبل وجودها ؟ منذ متى ولدى أمها أخت ؟ منذ متى وهي تملك خالةً وابن خالة ، كيف لم تخبرها جدتها بالأمر من قبل ؟ هل هو مدلل أم عاش ظروفاً مثل ظروفها ؟ مئات من الأسئلة تبحر في بحر عقلها ، لكنها لا تريد طرحها لأنها لن تتنازل له ! لكن من يدري سوى القدر؟ قد تنشأ بينهما صداقة أو أمر غيرها حتى.

– مرحباً ، هل هناك أحدٌ هنا ؟.

بقي الصمت مخيماً للحظات ، كانت تقف وسط غرفة رمادية فارغة من أي أثاث وعدة أبواب مترامية على جدرانها ، ارتمت فكرة بقاءها مع الدخيل مرة أخرى فشعرت بالذعر والضيق لكن سماع صوت فتح الباب المقابل لها جعلها تشعر بالانفراج ، بدا الرجل واضحاً أمامها ليس بالقصير وليس بالطويل ملامح اللطافة تبدو بقوة على وجهه، مع طيف حذر في عينيه الخضراوتين المناقض للطافته الشيب يغزو شعره الذي سقط الكثير منه بالإضافة إلى لحيته ، تقدم نحوها ليقول و قد رسم ابتسامة لطيفة على ثغره:

– أهلاً وسهلاً بك يا آنسة ، كيف استطيع مساعدتك؟.
– ابتسمت و قالت: صراحة أنا لا أبحث عن شيء محدد ، أردت إلقاء نظرة على اللوحات المعروضة في المعرض ، لكني لم أر شيئاً.
قال الرجل اللطيف ” الحذر ” كما أحبت أن تسميه في عقلها وهو يشير إلى أحد الأبواب مبتسماً : هذه صالة الاستقبال ، لذا لن تري بها شيئاً ، تستطيعين الدخول إلى ذاك الجناح  و من هناك يوجد العديد من الأجنحة التي تستطيعي رؤيتها ، سألحق بك بعد قليل لدي مكالمة علي إجراؤها.

شكرته بحركة من رأسها و سارت نحو الباب الذي أشار إليه ، دفعت الباب و بانت لها غرفة ذات جدران بيضاء مع العديد من اللوحات المعلقة يتجاوز عددهم العشرة ، حسناً ، بدأت تنظر للوحات صراحة ، لم يستهويها الفن و لن يستهويها ، نعم أحبت لوحات جدتها ، لكنها أحبتها لأن جدتها من قامت برسمها و ليس لأنها تحب الفن أو ما شابه ! هناك ما يستهويها أكثر ، ليس هناك ما يلفت الانتباه مجرد خربشات عشوائية بألوان فاقعةٍ من المفترض أن تكون معبرة ، شعرت بأن الفن تدنى مستواه في السنوات الأخيرة و أصبح مجرد سلعة.

من الصحيح بأنها لا تفقه شيئاً به لكن هذا يبدو ظاهراً بقوة ولا داعي لوجود خبير ليخبرك ، نقلت نظرها للجدار ، هناك بابان أخريان ، اختارت عشوائياً و فتحت الباب و دخلت ، منحوتات ! خمس منحوتات فقط ! كانت مجرد منحوتات صغيرة الحجم ، رأس مقطوع و أمرأة و رجل في أخرى ، و تجسيديات أخرى ، أيضاً لم تعرها اهتماماً ، بدأت تشعر بالندم لقدومها ، لكن عليها إضاعة الوقت قبل التقائها بالدخيل مرة أخرى ، دخلت إلى باب أخر والملل يعتريها ، لكنها سمعت صوتاً يمنعها من النظر إلى محتوى الغرفة بسبب التفاتها ، اتضح بأنه الرجل ذاته ، قال لها بابتسامة ماداً يده لمصافحتها :

– ريتشارد ، أكون مالك هذه المعرض.
– قالت وهي تصافحه: روكسانا ، سعيدة لمقابلتك سيد ريتشارد.
– من اللطيف رؤية بعض الشباب المهتمين بالفن.
قالت بصراحة تامة دون أي تفكير : دعني أكون صريحة ، لست مهتمة بالفن و قدمت لإمضاء بعض الوقت بعيد عن الدخيل الأحمق.
– ضحك ريتشارد لتعليقها وقال بعدم فهم : دخيل؟ حسناً  لم أفهم قصدك ، لكن قبل ذلك لأجذب انتباهك قليلاً للفن ، أنت لم تري أجمل لوحة في معرضنا.
– أجمل لوحة ؟.

– نعم أنها لامرأة مسنة توفت منذ سنة تقريباً ، كانت تعيش بالقرب من هنا ، كانت صديقتي المقربة ، أشك بأنك تعرفيها ، لم يكن لديها الكثير من الأقارب ، كان لديها ابنة واحدة أراها نادراً إضافة إلى ذلك لم تسعى لأن تصبح فنانة مشهورة. بماذا أتفوه! لا يصح بأن أخبرك عن حياتها الشخصية دعيني أريك لوحتها فقط.

دخلت روكسانا و ريتشارد إلى تلك الغرفة ، وقفت مصدومة فاتحة عينيها مندهشة ، أنها تعرف هذه اللوحة و تعرف هذه الألوان و تعرف طريقة من تلك ! بامرأة مسنة ممسكة بكتاب تجلس على أريكة حمراء و طفلان يجلسان على السجادة البيضاء عند قدميها أمام المدفئة تروي لهما قصة ، و شجرة عيد الميلاد تحتل ركناً كبيراً من اللوحة بأضوائها الملونة تلك ، و شبحٌ أسود يطل من النافذة يتربص بهم ، و سيف ذهبي مخبأ وراء الخزانة ، تفاصيل تعرفها روكسانا دون النظر إلى اللوحة، إنها لوحة لجدتها إيزابيلا رسمتها في شهر شباط ، كانت في ذاك اليوم معها ، احتاجت الكثير من الوقت لإنهائها أسمتها بلوحة شباط لأنها أضافت أخر لمساتها بذلك الشهر ، صرخت بريتشارد مصدومة :

– إن هذه اللوحة لجدتي ! لوحة شتاء شباط !.
– قال مصدوماً: ماذا؟.
– قالت و هي تقترب من اللوحة مندهشة بشدة: لم أكن أعرف بأنك أخذت اللوحة ! لم أكن أعرف بأن لجدتي صديق مقرب ، أخبرتني جدتي بأنها أحرقت اللوحة لعدم قناعتها بها ! قد حزنت عليها كثيراً.
– قال ريتشارد مندهشاً هو الآخر: لم أكن أعرف بأن لصديقتي حفيدة شابة.
– قالت بسخرية : و لتنصدم أكثر ، و حفيد أخر.

– قال رافعاً حاجبيه : لم تخبرني قط بهذا ، أهو أخيك ؟.
– قالت و هي تلتفت له محاولة إصلاح الموقف: ليس لدي الحق في التكلم عن حياته فأنا حتماً لا أعرف عنها الكثير ، أعتقد بأننا علينا التكلم بشأن جدتي.
– قال وهو يخرج مفاتيح المعرض و يقول: أدعوك لشرب فنجان قهوة و مناقشة بعض الشؤون –الأسرية – إذا تسمحين لي بتسميتها هكذا.
– وأنا أقبل دعوتك و تسميتك هذه.

خرجا من تلك الغرف جمعيها  و أقفل ريتشارد باب المعرض متجهين نحو المقهى المقابل للمعرض تماماً ، رجل ستيني وصبية عشرينية من يراهما يظنهما الجد وحفيدته ، لطالما افتقدت روكسانا للحنان الأب الذي لم تعايشه كثيراً ، جلسا على طاولة موضوعة على الرصيف ، بدأت روكسانا بالقول و هي تنظر إليه:

– حسناً سيد ريتشارد ، أعتقد بأنني توصلت بأنك صديق جدتي الحميم من الثانوية طبعاً ، كنتما مقربان جداً ثم تزوجت هي وتزوجت أنت ، و….
– قاطعها ريتشارد قائلاً : لم نكن كذلك روكسانا ، أعتذر لتصوراتك الخاطئة.
– قالت مرجعة رأسها للخلف : إذاً حدثني ؟ أصلاً أريد إضاعة بعضاً من وقتي.

– قال وهو يتذكر بعض الذكريات : حسناً ، منذ عشر سنوات تماماً انتقلت لأعيش في البيت المقابل لمنزل جدتك ، كانت تعيش هناك بمفردها ، و في مرة من المرات و أثناء تنظيفي للحديقة الأمامية سمعت صوت موسيقى ، كانت المقطوعة الخامسة لبيتهوفن ، فراودني الفضول لمعرفة من صاحب الذوق الرفيع الذي لم يمت بعد ؟ نهضت بدون تردد و تبعت مصدر الصوت و قادني إلى بابها ، طرقته فتوقفت الموسيقى و فتحت لي و استقبلتني بابتسامتها الساحرة و فستانها الأحمر المزين بنقشات الزهور البيضاء ، رغم أنها كانت في الخمسين آنذاك لكنها كانت جذابة حقاً ، كانت قد حافظت على شكلها و روحها أيضاً ، دعتني لشرب قهوة في منزلها و تحدثنا بأمور الحياة كافة و أصبحنا دائمي التردد على بعضنا البعض ،

لنقل بأننا اكتشفنا فيما بعد بأننا كنا زملاء في مرحلة من الثانوية أو بالأصح هي من تذكرتني فأنا ذاكرتي ضعيفة حقاً ، بشكل أدق مصاب بزهايمر ، كل ذكريات الماضي قد مُحيت لدي ، لذا لم أذكرها كثيراً ، أخبرتني بأننا كنا زملاء ، و بعد معرفتي هذه أصبحنا أصدقاء مقربين ، لأنني أعيش لوحدي بعد طلاقي من زوجتي بسبب نسياني المتكرر وهي تعيش لوحدها بعد وفاة زوجها و زواج ابنتها و سكنها بعيداً عنها ، التي تكون والدتك ، كانت جدتك تعشق الرسم و دائماً ما كانت لوحاتها تبهرني ، لكن في السنوات العشر التي كنا بها أصدقاء لم تخبرني قط بأنها تملك أحفاداً.

– نظرت إليه و قالت وهي تفكر بجدية : منذ عشر سنوات ؟ أي كان عمري عشر سنين ، كنت آنذاك أتردد على منزل جدتي كثيراً !.
– نظر اليها و قال : ما أسم قريبك الأخر؟.
– تقصد الدخيل ؟ ماثيو على ما أعتقد.
– قال مستغرباً : لما تسميه بالدخيل ؟ أليس قريباً لك ؟ أليس أخيك؟.
– قالت متعمدة إخفاء الحقيقة : اليوم حتى اكتشفت وجوده و لا أعرف ما صلته بي.
– قال ضاحكاً : يبدو بأنه يوم الاكتشافات.
– قال بلا مبالاة : أيامي كلها اكتشافات جديدة مخيفة ، لذا لا جديد بالنسبة لي.
– قال وهو ينظر لها: حياتك صعبة.

– قالت بنظرة حادة و قد ضيقت عينيها : كيف عرفت ؟.
– قال و هناك بريق لمع في عينيه : من كلامك  تكشفين كل أوراقك.
– قالت رافعة كتفيها بلا مبالاة راسمة ابتسامة على وجهها : اكشفها أمام من أثق بهم.
– رفع حاجبيه مستنكراً: لم تتعرفي علي سوى منذ ساعتين.
– قالت مبتسمة: لكني أثق بالناس من النظر إلى أعينهم.
– رافعاً حاجبيه باستغراب قال: حقاً ؟.
– نعم ، تعلمت ذلك من جدتي ، أخبرتني بأن العشرة ليس لها علاقة بالوفاء ، طباع الشخص تغلب العشرة.

– أخبرتني بذلك كثيراً لكني لم أقتنع.
– الحياة وجهات نظر ، أشكرك لوقتك ، لكني سأعود لأرى ما الذي علي فعله مع الدخيل.
– قال ناهضاً : سنلتقي فيما بعد ، فنحن جيران على أي حال ، وأتمنى الالتقاء بالدخيل خاصتكِ.

سارت لعدة امتار ثم التفتت لتلوح للرجل العجوز الذي بادلها التلويح تابعت سيرها لأنها قد بدأت تتضور جوعاً ، لقد اضطرت لتسير ساعة كاملة حتى وصلت إلى المنزل ، كانت الساعة قد أصبحت السادسة والنصف ، دخلت إلى المنزل لتشتم رائحة لذيذة ذكرتها برائحة شيء ما ، شيء مألوف ، دخلت إلى المطبخ و قالت ضاحكة:
– يبدو بأن ابن خالتي الجديد يجيد الطبخ.
– ابتسم مجاملة ليقول : حسناً ، نعم نوعاً ما ، هل تشاركيني الوجبة ؟.

فكرت للحظة بشجارهما قبل قليل ، إن قبلت ستكون قد قبلت بوجوده معها ، نظرت له و قالت:

– لا أريد ، شكراً.
– قال رافعاً كتفه منشغلاً بما يطبخه : كما تريدين.
فتحت الثلاجة ، هل هي مغفلة ؟ أنها لا تجيد سلق بيضة حتى ، نظرت له مرة أخرى بحيرة متناسية ما فكرت به منذ قليل :
– هل ما زالت الدعوة قائمة ؟.

– قال مبتسماً بالرغم عنه : طبعاً ، اجلسي ، دقائق و سيكون الطعام جاهزاً.
جلست على الكرسي منتظرة انتهاء ماثيو من طهو الطعام ، حسناً  لتتكلم معه قليلاً ، و ما المشكلة؟ هو طبعاً يعرف الكثير عن جدتها ، وضع طبقين من المعكرونة و جلس ، قال لها بتحفظ و شيء من التوتر:
– إذاً اسمك روكسانا ؟.
– حركت رأسها مؤكدة كلامه و قالت و قد كانت قد بدأت الأكل : نعم روكسانا ، أنت ماثيو صحيح؟.

– أخذ لقمة وقال : نعم ، اسمي ماثيو.
– قالت و قد توقفت عن الأكل : أنا لم أفهم ، كيف يكون لي خالة و أنا لا أعرف بوجودها؟.
– قال و هو ينظر لها بعدم فهم :  أنا مشتت مثلك أيضاً ، أن أملك ابنة خالة ولا أعرف بوجودها سوى بعد عشرين عاماً ! ذلك لأمر غريب.
عاد الاثنين لتناول طعامهم بصمت ، رفعت روكسانا نظرها إليه لتلمع فكرة برأس روكسانا و تقول بحماس و قد رمت شكوتها بالصحن :
– انتظر لحظة ، الغرفة المقفلة في الطابق الثاني.
– ما بها؟.
– هل أنت من كان ينام بها؟.

– لا ، لم أدخلها في حياتي ، كانت جدتي قد جعلت العلية غرفة نوم لي ، ظننتها لك.
– قالت بخيبة أمل: لا ، ليست لي ، الغرفة المقابلة لها هي ملكي ، لقد كانت تمنعني من الصعود إلى العلية دائماً ، ما الغاية في رأيك من منعنا من اللقاء ؟.
– قال بحيرة بادية على وجهه و هو يعبث بطعامه من خلال شوكته : لا أعرف.
– قالت محاولة تغير الموضوع : إذاً ما الذي تفعله في حياتك ؟.
– قال و هو يتجنب الحديث عن حياته معها : لا أحب الحديث إلى الغرباء كثيراً.
قالت بمكر مصطنع مرفقة كلامها بضحكة : يبدو بأنك شخص غامض ، أليس كذلك؟.
– نوعاً ما.

 قالت ساخرة : كيف يعاملك والديك ؟ هذا أمر صعب.
قال وهو ينظر إلى طبقه : متوفيان.
قالت وهي تنظر إليه بحرج : ماذا؟.
صمت الاثنين للحظة ، ليعاود ماثيو الكلام و هو لم يزحزح نظره عن طبقه:
– أنهما متوفيان منذ زمن.

شعرت روكسانا بأنها قد أمسكت من اليد التي تؤلمها ، تكره أن ترى أحداً قد توفى أحد والديه و أن تذكره بذلك ! قالت بارتباك محاولة إصلاح خطئها :
– أنا أعتذر ، لم أرد تذكيرك بالأمر ، قلت ذلك عن غير قصد ، أنا حقاً أعتذر.
حرك رأسه متفهماً و قال بلا مبالاة : لا مشكلة ، لم أكن أحبهما أصلاً.
انفعلت و قالت وقد رمت الشوكة بالصحن بقوة لتصدر صوت مستفزاً : توقف هنا ! كيف لا تحب والديك ؟ هل أنت أحمق ؟.

– أنتِ لم تمري بما مررت به ، فتاة مدللة.
قالت بانفعال أكبر و قد ضربت هذه المرة الطاولة بيدها : توقف مرة أخرى ! لست مدللة أو ما شابه ، أمي تخلت عني من أجل زواجها الثاني ، و أبي..
– ما به أبوك؟.

قالت و هي تتنهد و قد عادت لتجلس بطبيعية : أنه فقط توفى منذ زمن ، لذا لا تقل عني بأنني مدللة ، أمي تركتني أصارع قدري لوحدي منذ ثلاث سنوات ! هل تتخيل ؟ فتاة في السابعة عشر تعيش لوحدها في بيت مظلم ؟ ألن تصاب بالجنون لوحدها ؟.
صُدِمَ ماثيو حقاً ، هو لم يتوقع بأن الفتاة القابعة أمامه قد عانت ، تنهد ثم نظر إليها وقال بجدية:

– حسناً ، لا أنكر ، حالي كان أفضل بكثير من حالك ، على الأقل سكنت بوسط أسرة تحبني بعد وفاة والدي.
– ضيقت عينيها لتقول : تقصد بأن هناك من تبناك؟.
– تقريباً.
– نظرت له بفضول وقالت: ماذا تعني بتقريباً ؟.
– لا تحاولي ، لن أخبرك.
– عبست بطفولية لتقول : هيا لا تكن صعباً ! لتجعل هذا الاعتراف الطريق لصداقتنا.
– نظر لها بجدية وقال: لن نكون أصدقاء ، نحن مختلفان كثيراً.

تنهدت بغضب و عادت لتتناول طعامها ، بعد دقيقتين تقريباً سمعت صوته يقول:
– بعد وفاتهم أسرة صديق والدي كانت تتكفل برعايتي ، لم تستطيع جدتي الحصول على الحضانة ، لكني كنت أمضي غالبية وقتي هنا ، لكن بعد بلوغ الثامنة عشرة منذ خمسة أعوام استأجرت شقة بمفردي بعيداً عنهم ، لا أريد نظرات الشفقة.
 
– ابتسمت لكنها شعرت بشعوره بالحزن ، فقالت مزيحة تلك المواضيع الأسرية المؤلمة : حلمي أن أدخل تلك الغرفة المغلقة.
– قال و قد عاود تناول الطعام : حقاً؟.
– نعم ، لكن كيف ؟ أتعرف غداً سأكسر الباب و أدخل!.
– اهدئي ، لما هذه الوحشية ؟.
– قالت وهي تنظر له بملل و قد حشت فمها بلقمة كبيرة : هل هناك طريقة أخرى؟.
– لا أعتقد.
– إذاً انتهى الأمر!.

– كما تريدين ، لن أتدخل بجريمتك هذه.
– نظرت له و قالت وقد توقفت عن المضغ : صحيح لم تخبرني ، لما قدمت إلى هنا ؟ ما هي غايتك؟.
– قال ساخراً : ليس لقتلك طبعاً ، لأكتب مسرحيتي فقط.
– قالت بحماس: مسرحية ؟ أنتظر ، هل أنت كاتب ؟.
– كاتب فاشل.

قالت و قد رمت شوكتها بانفعال في صحنها للمرة الثالثة هذه الليلة : لما تحطيم الذات هذا ؟ كن واثقاً بنفسك ! بالطبع أنت كاتب ممتاز.

قال وهو ينظر إلى طبقه و يتنهد رامياً كل أوراقه: لا تقول لي هذا الكلام ، جميع مسرحياتي فاشلة ، أنا شخص فاشل جداً و لم يحبني والديَّ في حياتي ، كنت مصدر إزعاج و كان الجميع ينفر مني ، حتى حلمي ، حلمي البسيط أن أكون كاتباً مسرحياً مشهوراً ، أن يتوافد الناس إلى شراء تذاكر مسرحياتي ، جميع المسرحيات التي كتبتها انتهت بالموت ، لم ترَ نور الحياة قط ، هذه فرصتي الأخيرة ، إن لم أنجح هذا العام فأني سأترك ساحة الكتابة و انسحب بهدوء.

قالت وهي تتمعن تقاسيم وجهه : انظر ، لست مرشدة نفسية و لم اقترب من كتب علم النفس ، لكني أفهم مشاعرك هذه ، عندما يطاردك الفشل ويلاحقك ، كأنك الشخص الوحيد في العالم ! لكن هذا لا يعني بأنه عليك الاستسلام ! بل عليك الوقوف و مواجهة كل هذا الفشل بشجاعة ! لا تكن ضعيفاً يا رجل ، و حاول هذا العام ، وأنا واثقة بأنك ستنجح.

رفع نظره إليها فتلاقت نظراتهما ، شعر بأن في عينيها الشجاعة التي يفتقر إليها ، و شعرت بأن الرزانة المعدمة لديها تستطيع أخذها من عينيه الزرقاوتين ، قال لها و لم يحرك عينيه:
– لا أعتقد بأن الأمر بهذه السهولة.

– لم أخبرك بأنه سهل ، بل حاولت شرح معالم الطريق لك ، وعليك القيادة به ليس أكثر ، أعتقد بأنك مجرد جبان يحاول أن يحقق حلمه لكنه خائف ، لذا سيجلس كالفأر في جحره مستسلماً.

نهضت عن الطاولة و صعدت على السلالم و قالت:
– نسيت أن أشكرك على هذه الوجبة ، أنها لذيذة حقاً و تشبه وجبات جدتي.
– لا شكر على واجب ، على أي حال قد تعلمتها منها.
أكملت صعود درجاتها حتى وصلت إلى غرفتها و ارتمت على السرير دون أن تغير ملابسها ، كانت نعسة جداً و هناك نهار شاق ينتظرها غداً.

من ناحية ماثيو الحائر الضائع  خرج إلى الحديقة الخلفية للمنزل و أرتمى على الأرجوحة المثبتة بالشجرة الضخمة و بدأ يفكر كيف لروكسانا هذه أن تكون بهذه الجرأة ؟ لم يمضي على معرفتها بوجوده سوى ساعات معدودة ، كيف أخبرته بكل هذا ؟ بل كيف انصت لها ؟ لما سمعها باهتمام ولم يطلب منها السكوت؟ لما أرادت مساعدته ؟ هل أشفقت على حاله  أم أمرٌ آخر ؟ بل كيف قال لها كل ذلك الكلام ! هو محتار بشدة ، سيكتشف بالطبع كل شيء فالزمن كفيل بتوضيح كل شيء.
 
يُتبع ……..

تاريخ النشر : 2021-05-14

اية

سوريا
guest
19 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى