أدب الرعب والعام

صخب المدينة الهادئة – الجزء الثاني

بقلم : اية – سوريا

نحن مجرد قطع يلاعبها القدر، نكتشف حقائقاً مزيفة لنكتشف فيما بعد حقائقاً مزيفة تزيف ما قبلها أيضاً
نحن مجرد قطع يلاعبها القدر، نكتشف حقائقاً مزيفة لنكتشف فيما بعد حقائقاً مزيفة تزيف ما قبلها أيضاً

حقائق جديدة :

” نحن لا نعرف شيئاً ، لا نعرف من نحن أو أين نحن ، كل ما نعرفه أو ما فتحنا عينيا عليه ، ما أخبرنا الناس به ، نحن مجرد قطع يلاعبها القدر، نكتشف حقائقاً مزيفة لنكتشف فيما بعد حقائقاً مزيفة تزيف ما قبلها أيضاً ، حياتنا عبارة عن كذبة مزيفة”.
– ماثيو أين أنت ؟ تعال بسرعة وساعدني!.
كانت تصرخ و صوتها قد أعاد للبيت حيويته ، كانت تركض في أرجاء المنزل باحثة عن ماثيو ، حتى كادت تستسلم ، لكنها تذكرت الحديقة الخلفية ! بالطبع أنه هناك ، ركضت باتجاهها و وجدته نائماً في الأرجوحة ، صرخت به قائلة:
– لما أنت نائمٌ هنا ؟ هيا انهض بسرعة ، احتاج مساعدتك!.
تململ قليلاً لكنه بعد نداءاتها المتتالية المزعجة أفاق و نظر لها و قال بحنق:
– بحقك كم الساعة لتيقظني بهذه الطريقة؟.

– السابعة والنصف ، ليس لدينا الكثير من الوقت!.
قال بانزعاج : يا فتاة لم استطع النوم حتى الساعة الثالثة صباحاً ! لما أيقظتني الآن؟.
– قالت مستغربة: لما ، هل أنت مريض؟.
– لا ، لست مريض ، لكني كنت أفكر فقط.
– ليس مهماً ، هل تعرف أين المطرقة ؟.
نظر لها باستغراب و قال : ما الذي ستفعلينه بها؟.
– أكسر باب الغرفة المقفلة ، أنظر ، إياك والمعارضة ، أنا فقط أريد مطرقة ، هل تملك؟.
– لا أملك ، هل بحثت في المنزل؟.
– منذ السادسة صباحاً و أنا أبحث ، لم أعثر عليها.
– إذاً لقد ألغيت الفكرة.

نظرت له بحزم و شيء من الجدية : لا ، لم تلغى و لن تلغى ، عندما تصبح الساعة التاسعة سأذهب لأستعير مطرقة من عند أحد الجيران!.
نهض وقال : أنا لن أساعدك بهذا ، عن أذنك.

نهض تاركاً روكسانا لوحدها ، عليها الانتظار لبعض الوقت ، فمن قلة الأدب أن تطرق باب جارك الساعة السابعة صباحاً مهما كانت الأسباب! قررت الدخول إلى الداخل لأن الهواء كان بارداً. بعد تفكير ارتأت أن تجلس في غرفتها حتى يحين الموعد ، سارت باتجاه الداخل لتلمح عدة أوراق مرمية على الأرض ، انتشلتها بسرعة وهمت بفتحها ، لكن جاءها صوت ماثيو من الخلف يقول لها:

– ما الذي تفعلينه؟.
– أخفت الأوراق في جيب سترتها و قالت بابتسامة تحاول التستر على الأوراق : لا شيء ، ذاهبة إلى غرفتي ، هل تحتاج أمر ما؟.
– لا ، أردت سؤالك إن رأيت بعض الأوراق المرمية على الأرض.
– لا ، لم أر شيئاً ، لما؟.
قال بارتباك : أنها مسودة مسرحيتي أريد مراجعتها.
– قالت بلامبالاة : لا ، لم أرها ، أتمنى لك التوفيق في البحث عنها.

اتجهت نحو غرفتها بسرعة وأقفلت الباب خلفها ، جلست على السرير و أخرجت الأوراق من جيب سترتها و فتحت الورقة الأولى بحماس شديد ، يبدو بأن مصيرها كان القمامة ، بدأت بالقراءة ، لا شيء مثير للانتباه بهذه الأوراق ، على ما يبدو بأن ماثيو لم يكذب ، حقاً لا شيء مثير  مجرد كلمات غير مترابطة ، هل هي أفكاره المشوشة ؟ رمت الورقة على السرير دون إكمال قراءتها و فتحت الثانية ، نعم الثانية بها شيء من الإثارة ،

أنها رسمة رسمةٌ لمن ؟ هل هو من رسمها ؟ تأملت الرسمة ، صراحةً لم تفهم شيئاً ! مجرد خربشات كطفل في الرابعة ! أهي فتاة أم ماذا؟ يا له من أحمق ! جعلها تتحمس بدون فائدة ، استلقت على السرير وأغلقت عينيها لكن النوم قد أحكم سيطرته تعليها وأخذها لعالمه ، استفاقت بعد مدة لتنظر للساعة ، لقد أصبحت التاسعة حقاً ! كيف يمضي الوقت بسرعة ، رمت الأوراق على السرير و نزلت السلالم تاركة باب غرفتها مفتوحاً ، سألها ماثيو من المطبخ :

– إلى أين؟.
– أبحث عن مطرقة.
– هل تريدين كوباً من القهوة؟.
– لا ، لا أحبها ، شكراً لك.
– كما تريدين.

خرجت روكسانا بسرعة وأغلقت الباب خلفها. نظرت نحو المنزلين المقابلين لها ، لم تتعرف على منزل العم ريتشارد ، لكنها تعرف بأن المنزل الملاصق لمنزل جدتها مهجور لم يسكن به أحد من قبل و هو مقفل ، تبقى منزلان أمامها أحدهما للعم ريتشارد والأخر لشخص غريب لا تعرفه ، قررت طرق المنزل ذا الباب الأسود لأنها تحب هذا اللون. طرقت الباب عدة طرقات منغمة ، انتظر بضع ثوان حتى قدم صوت فتاة من الداخل صارخاً:
– قادمة ، قادمة !.

ابتسمت روكسانا و فُتح الباب ، ظهرت لها فتاة ، أوه حسناً لتكن صريحة ، توقعت أمرأة بدينة تمسك في يدها ملعقة خشبية للطبخ مع مأزر وردي ، لكن من فتح لها الباب كانت صبية تبدو في الخامسة أو الرابعة عشر ، رشيقة ذات شعر يميل للبرتقالي لون جذاب ، كانت ترتدي قميص جينز خفيفاً مع بنطال جينز أيضاً ، نظرت إلى عينيها لونهما جميل رمادي ، فتاة جميلة حقاً لمحة من الذكاء والحزن تطفو على وجهها ، ابتسمت لها روكسانا و قالت:
– كنت أتوقع رؤية أحدٍ أخر ، لكن لا مشكلة ! أين هي أمك يا صغيرتي؟.

– قالت الفتاة وهي ترمقها بحدة: لا شأن لكِ ، ليست هنا.
قالت روكسانا و قد صُدمت من جواب الصغيرة: كوني محترمة قليلاً يا فتاة ! أنا لم أقلل من احترامك.
كانت الفتاتين تنظران لبعضهما بحدة حتى جاءت صبية من الخلف تبدو في الثلاثين من عمرها تقول:
– آني ! ماذا تفعلين؟.

توقفت أمام الباب و صُدمت بوجود زائرة غريبة أمام منزلها ، قالت بود:
– أعتذر عن تصرف أبنة أختي ، أنها صغيرة.
قالت روكسانا بودٍ مزيف وهي ترمق الصغيرة بحدة : لا مشكلة عزيزتي ، أنا جارتكم التي تسكن هنا  و أريد طلبَ ، طلبٍ صغير منك إن لم يكن هناك إزعاج.
– أفسحت الشابة المجال لروكسانا  وقالت: لا مشكلة ، طبعاً بداية أدعوك إلى الداخل الجو حارٌ حقاً.

ضحكت روكسانا و دخلنَّ ثلاثتهن إلى الداخل.
– كانت تكذب علي.

تأمل ماثيو غرفة شريكته بعد أن جلس على السرير واستعاد أوراقه ، من الجيد بأنها متسرعة و لم تتفحص الورقة كاملاً ، عليه التخلص منها بأسرع وقت ، أنه نادم لكتابة ما كتبه مساءاً ! لم يكن بحالة سكر ما الذي خطر بباله ، فقط  أعاد الأوراق لجيبه مؤجلاً رميها لوقت لاحق ، خرج من الغرفة ونزل السلالم و هو ينتظر روكسانا لكي يعرف نتيجة زيارتها هذه ، لكنه بكل حال كان واثقاً بانه لن يعثروا على شيء مهم في الغرفة ، لكنه لن يتدخل ، لا يريد أن يكون فضولياً تجاه قرارات شريكته.
 
دخلت دارين حاملة بيديها كوبي قهوة  وضعت أحدهما أمام روكسانا و قالت :

– أتعرفين ؟ كانت تسكن في منزلك الخالة إيزابيلا ، كانت امرأة رائعة ! لكن الجيدين يموتون بسرعة ، كانت تملك ابنة واحدة و حفيدة واحدة ، أنا لم ألتقي بحفيدتها من قبل لكني ألتقيت بابنتها ، كانت تدعى هيلسي ، لكني لا أحبها ! أنا أحب الخالة إيزابيلا أكثر منها ، أتمنى الالتقاء بحفيدتها لأعرف إن كانت تشبه جدتها أم والدتها ؟.

– قالت روكسانا بابتسامة : و برأيك هل أشبه والدتي أم جدتي؟.
فتحت دارين عينيه بدهشة وقالت: هل أنت حفيدتها ؟.

ابتسمت روكسانا وقالت : نعم ، أنا هي ، أتيت لأسكن مؤقتاً هنا مع ….. تداركت روكسانا الموقف و قالت : مع زوجي ، لكن علينا إجراء بعض الإصلاحات للمنزل ، فالعلية في حال يُرثى لها. و للأسف نسينا المطرقة في منزلنا القديم لذا أتيت لأستعير من عندك مطرقة.
– ابتسمت دارين و قالت: طبعاً ! لكن دعينا نتكلم قليلاً كونك حفيدة إيزابيلا.
– رشفت روكسانا رشفة من كوبها و قالت : يسعدني هذا عزيزتي دارين.
– أضافت دارين و قالت : ما اسم زوجك؟.
– ماثيو ، انظري لدي سؤال لك.
– قولي.

قالت روكسانا بشيء من التحفظ : هل كان هناك فتاً صغير يزور جدتي ، أو امرأة غريبة ؟.
عقدت دارين حاجبيها و قالت: لا ، لا أذكر ذلك ، قالت بصوت منخفض: في إحدى المرات نشروا عنها إشاعة بأنها كانت تملك أبنة ثانية مخفية عن الجميع ، لكن اتضح بأن هذا مجرد كذب ، كانت صديقةً حميمة لريتشارد و كنت صديقة لها و له بالطبع كانت ستخبره ! و هو بالطبع كان سيخبرني. ، لكن لما سؤالك هذا؟.

– فضول لا أكثر عزيزتي ،  قالت مغيرة الموضوع من أجل أن لا تُكشف : من تكون هذه الفتاة المتمردة الصغيرة؟.
التفتت دارين حولها و قالت بصوت منخفض : ابنة أختي ، تُدعى آني ، ماتت والدتها بعد إتمامها السابعة  و تخلى عنها والدها لتربى عندي منذ ذلك الحين ، فعزفت عن الزواج من أجلها.

ابتسمت روكسانا بحزن : أن يتخلى الجميع عنك أمر مؤلم صحيح؟.
ابتسمت دارين و قالت: طبعاً.
نهضت روكسانا وقالت : لا أستطيع أن أترك ماثيو بمفرده أكثر من ذلك.
نضهت دارين و صعدت السلالم و قالت: انتظريني لأجلب المطرقة ، ثواني معدودة.
وقفت روكسانا منتظرة دارين ، رأت آني تخرج من المطبخ و تقول:
– أنتِ فضولية جداً.

– ابتسمت روكسانا و قالت : و أنت تشبهيني كثيراً! رأيت فيك نفسي القديمة.
ضحكت بسخرية وقالت : لا أحبٌّ أن أشبه أحد فأنا متفردة في شخصيتي ، وإن أجبرت على أن أشبه شخصاً ما لن أختارك طبعاً.
رفعت روكسانا كتفيها وقالت : لكن الأمر منتهي ، بك الكثير من صفاتي ، بلّ ماضيي حتى.
رمقتها الفتاة بنظرة حادة و باردة و قالت: لا شان لكِ ، هذه أمور خاصة.
– لن أتدخل بها فلدي أمور الخاصة أيضاً و علي حلها.
– لا أحد يسلم من مشاكل الحياة.
– كلام كبير لطفلة في الخامسة عشرة.
– لا تقولي عني طفلة.
– حسناً أيتها العجوز.

قاطع قدوم دارين هذه الحوارية و ناولت روكسانا المطرقة و دعتها إلى الباب ، سارت عدة خطوات إلى منزلها لتلتفت وترى آني تقف على النافذة ،لوحت لها  فلوحت لها آني مع ابتسامة ، لقد كسبت ودَّ الفتاة على ما يبدو ، لا يهم الآن طرقت الباب لأنها نسيت مفاتيحها كالعادة ، فتح ماثيو الباب و قال بانزعاج:

– لقد غبت ساعة ، حقاً  أين كنت؟.
قالت بسخرية : زوجي العزيز أفسح لي المجال لأدخل أولاً.
افسح لها المجال و قد شعر بالصدمة حرفياً ، أي زواج ؟ كيف و متى و لما ؟ صفع الباب و لحق بها و هي تحمل المطرقة للطابق الثاني ، و بدأ بالاستفسار والانزعاج باديٌ على وجهه ، حتى شرحت له قائلة :

– أيها الكاتب الصاعد على ما يبدو بأن الناس جميعاً يعرفون بأن لجدتنا ابنة واحدة هي أمي و حفيدة واحدة هي أنا ! أما أنت و والدتك فلا أحد يعرف بكما ! لذا نحن لا نريد أن يأخذ الناس معلومات منا بل نريد أن نأخذ منهم ، لذا دعنا نكمل مسرحية أنك زوجي و أنا وريثة هذا المنزل ، اتفقنا؟.

– قال بضيق: اتفقنا.
تراجعت للخلف قليلاً و أمرت ماثيو بالتراجع. رفعت المطرقة عالياً في الهواء وضربت الباب بقوة ، ضربته ثماني ضربات في أماكن متفرقة ، لقد استغرق الأمر وقتاً لكنه نجح فقد خُلع الباب، رمت المطرقة أرضاً وابتسمت و وجهت كلامها لماثيو:
– دعنا ندخل و نكتشف هذه الغرفة السرية!.

دخلت مجتازة الخشب المكسر و نظرت حولها ، فتحت فمها من دهشتها ، أحقاً ما ترى؟ أنها الجنة. بانت لها عشرات اللوحات المصفوفة على جدران الغرفة الواسعة ، بجدران مكسوة بالحجارة القرمزية  و علب الألوان منتشرة في كل مكان و مكتبة ضخمة تضم ما يقارب المئة كتاب ، مع مكتبة أصغر حجماً تضم ألبومات صوراً على ما يبدو ، و منضدة أسفل النافذة المغلقة بالخشب موضوع أمامها كرسي ، و أوراق نبات صناعية تزين الجدران و تلتف حول كل شيء ! دفتر عملاق أخضر ذو أوراق صفراء على تلك الطاولة. مع رفوف مليئة بالأسطوانات الموسيقية القديمة ، و رفوف متوزعة على الجدران بطريقة عشوائية تحمل تماثيل صغيرة ، صورة كبيرة معلقة في منتصف الغرفة تجمع ثلاثة نساء و طفلين أحدهما ما زال في لفافته والأخر يبدو في الثالثة تقريباً ، مع أريكة مترامية في منتصف الغرفة وُضع عليها غطاء خفيف أخضر اللون ، قالت روكسانا غير مصدقة:

– لا أصدق ما الذي تراه عيني ! انظر إلى هذا الجمال!.
قال ماثيو وهو يتجول في أنحاء الغرفة و يتمعن أرجائها : أشعر بأنني في المكان المناسب حقاً.
صرخت روكسانا به: انظر إلى هذه الصورة؟.
اقترب منها وقال: ما بها ؟ صمت للحظة وقال باستغراب : هذه أمي و جدتي ، ما المشكلة؟.
نظرت له بغضب : والمرأة الأخرى هي أمي.

تبادلا النظرات ، إذاً والدتيهما كلٌّ منهما تعرف بوجود الأخرى ، الآن فقط عليهما فهم لما لم يعترف بوجود أم ماثيو؟ لما لا أحد يعرف بوجودها ! لما لا أحد يعرف بوجود ماثيو ؟ قالت روكسانا بلهجة آمرة:
– سنبحث عن دليل!.
قال بحنق : دليل ماذا ؟ لسنا في إحدى روايات اغاثا كريستي!.
نظرت له بغضب و قالت : ستبحث معي ! أنظر ، بالطبع جدتي كتبت شيئاً في مذكراتها ، أتذكر كم كانت متعلقة بذلك الدفتر؟.

– نعم ، كلامكِ صحيح.
– إذاً لنبحث عنه ، سنعثر على شيء ما به بالتأكيد.
– هل تذكرين شيئاً عن الدفتر ، شكله لونه؟.
– كان أخضر و كبير.
لم تكمل كلامها و كان ماثيو قد ألتقط الدفتر عن الطاولة الموضوعة أسفل النافذة و قال:
– تقصدين هذا؟.
– أنت محقق ، بارع يا صاح ! قالت بفرح.
– هل سنطلع عليه كله!.

– أنا من ستقرأه لكن لاحقاً ، دعنا نكمل اكتشاف الغرفة.
نظر لها بحدة وقال: لا تضيعي الوقت ! اجلسي على الأريكة فقط و دعينا نقرأ ما كُتبَ به!.
نظرت له بغضب وقالت : لن أفعل ما تأمرني به ، هل تظنني تابعة لك أم ماذا؟.
– نظر لها ماثيو بملل وقال : أنتِ حقاً لم تتجاوزي العشر سنين ! أشك بأنك في العشرين من عمرك!.

– نظرت له بجدية و قالت: إذاً لا تتعامل معي و أخرج بهدوء من الغرفة قبل أن أرتكب جريمة قتلٍ بحقك ، كن هادئاً.
تبادلا النظرات ، لا يجب على شخصيتين كهاذين الاجتماع مع بعض ، كلاهما يحب تملك الأخر ، كلاهما يريد أن يصبح قائد لكن كل بطريقته ، قال ماثيو بشيء من السخرية بعد أن تنهد:

– أعتذر روكسانا ، هل تستطيعين الجلوس من فضلك لنقرأ المذكرات ؟ إن كنت لا تمانعين سمة الملكة ؟.
– ابتسمت له بطفولية و قالت: لقد قبلت اعتذارك ، تعال و أجلس بجانبي.
جلس الشابان على الأريكة و وضعت روكسانا الدفتر -العملاق- في حضنها ،بدأت بالقراءة بصوت عال :

– يوميات إيزابيلا ماركوس ، من السابعة إلى الموت.
لم تقرأ الصفحات الأولى لأنها يوميات جدتها في السابعة و لا تعتقد بأنها مثيرة للاهتمام ، قال لها ماثيو:

– اعتقد باننا علينا قراءة مرحلتها الثانوية.
– إنني ابحث عنها انتظر فقط ، لقد وجدتها
تنهدت و بدأت بالقراءة:

– 17/9/ 1962:

يومياتي الغالية ، اليوم ذهبت و قد كان يومي الأول في الثانوية ، صراحةً كان يوماً مملاً كالعادة ، لكن هناك طالب جديد انتقل إلى صفنا ، إنه وسيمٌ جداً ! ليتني استطع التعرف إليه ، لكن مستحيل ، من سيعجب بفتاة مثلي؟ فتاة مهمشة و بشعة ؟ لا أحد طبعاً ، لن يبتسم لي الحظ.

– 24/9/1962:

لن تصدقي ما الذي حدث اليوم ! لقد جاء الفتى الوسيم و كلمني ! اسمه ريتشارد ، أنه لطيف جداً ، لقد تكلمنا كثيراً ، لدينا الكثير من الاهتمامات المشتركة ! لا أعرف إن كنا سنصبح أصدقاء ، لكني أتمنى هذا.

– 27/9/1962م :

لقد اتفقنا أنا و ريتشارد أن نقوم بمشروع الفيزياء مع بعضنا البعض ، اصبحنا نتناول غدائنا معاً في فسحة الغداء ! أنا لا أصدق هذه المرة الأولى التي أمتلك بها صديق ، في سنواتي الخمسة عشرة كلها لم أمتلك صديقاً أو صديقة ، أخبرني بأنه علي التصرف كيفما أحب و ارتاح لأنني إن حاولت إرضاء الجميع فسيكون الأمر صعب ، حسناً علي الذهاب لتحضير نفسي ، أنا ذاهبة لمنزله لنقوم بالمشروع.
– 3/10/1962:

أنا حقاً منزعجة جداً ! أبي ضرب أمي و قد حزمت أغراضها و لا أعرف إلى أين ذهبت ، و والدي في الأسفل و زجاجات الكحول وأعقاب السجائر تملأ المكان ، أنا خائفة جداً و مختبئة في الخزانة إن حاول ضربي أو إيذائي ، لا أعرف لما ذهبت أمي و تركتني ، أشعر بالخوف الشديد ، أنني اسمع خطواته ، هو صاعد إلى هنا ، أنا خائفة جداً ، ما الذي علي فعله؟.

– 15/10/1962:

لاحظت بأنني غبت عنك كثيراً صحيح ؟ لقد كنت في المشفى و تعافيت الليلة ، في ذاك اليوم صراحة كان والدي هائجاً و قد أشبعني ضرباً ، لم يأتي سوى ريتشارد لزيارتي ، و أعطاني كل الدروس ، أنه لطيف جداً معي.
– 20/10/1962:

اليوم في حصة الفنون أخبرني ريتشارد بأن رسوماتي جميلة جداً ، لكنها حزينة و تعبر عن ألم شديد ، شرحت له بأن بعد أخذ والدي للسجن وهروب أمي إلى مكان لم يعرفه أحد.
 اضطررت للسكن مع عائلة خالتي ، أشعر بوخز في قلبي ، ليست مشكلة صحية بل نفسية ، أنا أشعر بالخوف و الغربة رغم أني أتوسط أسرة رائعة! تفهم ريتشارد ذلك و كلمني كثيراً عن هذا الأمر عندما تكون محاطاً بالمئات من الناس لكنك تشعر بالغربة وسطهم ، حسناً هذا فقط مؤلم.

– 23/10/1962:

لقد تشاجرت أنا وريتشارد ، هناك معرض للفن و يريدني أن أشارك ، فرفضت ذلك بحجة إني لا أملك لوحة مناسبة ، فصرخ بي بأنني لست واثقة من نفسي و علي أن أكون أقوى و بأن لوحتي ستكون الأجمل ، لكني لم أسمعه ، فحمل حقيبته وسار بعيداً ، صراحة أنا منزوية في زاوية غرفتي خسرت صديقي الوحيد أمرٌ مؤلم.
– 24/10/1962:

الأحمق ، لقد اتضح بأنه ذهب لتسجيل اسمي! تخيلي ؟ بل و طلب مني لوحة بأسرع وقت ممكن لأسلمها ، لقد بدأت بالرسم ، صراحةً بعد أن أقنعني بأسلوبه الرائع بأن أشارك ، لقد هزمني في هذه الجولة.
– 31/10/1962:

أرتدي فستاني الأحمر للركبة و أقف أمام لوحاتي بتوتر منتظرة (اللجنة) كما اسماها ريتشارد لتقييم لوحتي ، حسناً لنقل بأني رسمت شيئاً فريداً. الشعور الذي وصفه ريتشارد لي أن تكون في وسط الناس و من تحب لكنك وحيد ، فزت باللوحة ، و لنقل بأني الآن اجلس مقابل ريتشارد و كريستينا التي قدمت معنا و نشرب العصير واضعة أمامي شهادة التكريم التي قُدمت لي.

بدأت روكسانا تشعر بالملل فقلبت الصفحات حتى وصلت لصفحة مليئة بالقلوب و في الصفحة المقابلة لها رسمٌ كاريكاتوري لفتاة منزلةٍ رأسها بخجل و شاب يحمل بيده باقة ورد ، جذبت الصفحة انتباهها بشدة لتقرأ بصوت عالٍ و بحماس:

– 8/12/1963:

لقد أخبرني ريتشارد بأنه يحبني و قدم لي باقة وردٍ حمراء ، أكاد أطير من الفرحة ! لقد أخبرته بأنني أبادله المشاعر ، كنا سعداء كثيراً ، كنا كأزهار كرز أُزهرت في شتاء قاسٍ.
صفرت روكسانا معبرة عن حماسها الشديد ، لينظر ماثيو لها مؤنباً ، قفزت روكسانا من هذه الصفحة إلى صفحة أخرى ، لاحظت رسماً كاريكاتوري أخر يجسد صورة فتاة تجر شيئاً كأنه خيبة أمل. ليشير لها ماثيو بقراءاتها لتهز برأسها موافقة وتبدأ:

– 26/12/1963:

لا أصدق ، لقد رحل ريتشارد إلى الأبد ، لقد سافر هو و أسرته إلى مكان أخر ، أنا أشعر بألم شديد ، لم يترك لي رسالة وداع حتى ! عرفت هذا مصادفة من كريستينا ، و الأسوأ من ذلك بأني حامل الآن ، أنا في مصيبة حقاً !.
تبادلات روكسانا و ماثيو النظرات ، هل ما يقرأنه صحيح ؟ انتشل ماثيو الدفتر منها و قال:
– دعيني أقرأ أرجوك.

– نظرت له بتعاطف متفهمة شعوره: تابع لا مشكلة لدي
قلب عدة صفحات حتى قرأ بصوت مترددٍ:

– 17/3/1964:

لقد خرجت من منزل خالتي هاربة لأسكن لوحدي ، لقد تحججت بأنني أحتاج لفترة لأبقى لوحدي فنفسيتي متعبة ، و تفهمت خالتي الأمر واستأجرت لي شقة في مكان بعيد عنهم كما طلبت منها ، طبعاً لقد أخفيت بطني بشكل جيد ، هو لا يظهر كثيراً فأنا ما زلت بالشهر الثالث فقط ، حالياً أنا في القطار المؤدي إلى الجانب الأخر من المدينة ، سأهرب من أنظار الناس ، لن اسمح لأحد باكتشاف سري الصغير.
19/3/1964:

أفكر بإجهاض الطفل ، الأمر يؤرقني حقاً ! فما ذنبي لأربي طفلاً و أنجبه على حياة قاسية لا تعرف رحمة أو شفقة؟  لكن لا ، هو الأثر الوحيد المتبقي من ريتشارد ، من عزيزي ريتشارد.

– 24/9/1964:

مستلقية في سرير المشفى و أبنتي الجميلة في حضني ، أنظر إليها و أذرف دموع الألم ، دموع الألم التي امتزجت بدموع الفرحة لمواجهة كل شيء و إنجابها سراً ، أحملها بين يدي ضامة إياها إلى صدري ، أشعر بنبضات قلبها الصغيرة تنبض بي ، أشعر بأنفاسها الصغيرة تضرب في صدري، انظر إلى عينيها المغمضتين ، لا يتجاوز حجمها حجم الكفين ، تدفع الممرضة الباب حاملة بيدها حقيبتي و تقول بلطف: وقت المغادرة! ابتسمت لها بين دموعي ، تقترب مني و تعطيني منديلاً لأمسح به دموعي و تقول: كل شيء بخير ، لا تقلقي.
 
– 25/9/1964:

أقف أمام باب الميتم بهدوء ، أو لنقل بأنه دير و ميتم في آن واحد ، أسمع صرخات الأطفال الصغار التي قد تشابهت ظروفهم بظروف صغيرتي، الممرضة تسندني بالوقوف و تساعدني بالدخول ، أنها حقاً لطيفة جداً ، فهي تريد مساعدتي حتى بعد انتهاء وظيفتها في المشفى ، أطلب منها أن تنتظرني أدخل لوحدي و أتقدم نحو إحدى الراهبات ، قلت لها بتردد:
– لقد رأيت هذه الفتاة مرمية أمام باب منزلي في الليلة الممطرة السابقة ، هل استطيع تركها هنا؟.

أدركت الراهبة بأني أكذب ، فنحن أولاً في شهر أيلول، و لم تمطر من الشتاء الماضي ، ابتسمت لي محاولة تصديق كذبتي:
– لا مشكلة عزيزتي ، أعطني إياها.
ضممتها بقوة أكبر إلى صدري وأشعر بتردد كبير، تنهدت و دمعت عيني و قلت:
– هل استطيع إلقاء اسم عليها؟.
– بالطبع!.

– إيميليا ، اسمها إيميليا ، أرجوك حافظي عليها.
– ابتسمت الراهبة و قالت : بالطبع.
– هل استطيع زيارتها؟.
– متى ما تشائين!.

سرت عدة خطوات خارج الدير فسمعت صراخ و بكاء الصغيرة إيميليا ، توقفت لثواني ، عدت لأجري للداخل و أخذ الطفلة من يد الراهبة ولأحضنها بقوة وأبكي لبكائها ، ربتت الراهبة على كتفي وساعدتني لأجلس على أحد المقاعد المترامية في الحديقة ، بعد نصف ساعة ، أعطيتها للراهبة و قلت لها مبررة بأنني تعلقت بها لا أكثر ، تفهمتني الراهبة و لم تحاول تكذيبي ، جريت بسرعة وخرجت ، حضنتني الممرضة و قالت مساندة لي: فلتكوني قوية ، سترينها كل فترة ، لا تقلقي.
– 30/9/1964:

جالسة في شقتي التي استأجرتها خالتي لي ، أضع في حقيبة واسعة الكثير من الملابس لإيميليا ، التي اشتريتها من مصروفي الخاص ، حسناً ! عليك أن تكوني قوية إيزابيلا ستزورين إيميليا كل فترة ، لكن عليك العودة إلى عالمك و دراستك حالياً ، أليس كذلك؟.
كاد ماثيو أن يوشك على البكاء ، لكن روكسانا صرخت به محاولة أن تضبط أعصابها وأعصابه:

– إياك وأن تبدأ بالبكاء كالأطفال ! أقسم بأنني سأصفعك إن بكيت!.
لم يتكلم و بقي صامتاً يحاول كبح دموعه ، انتقت روكسانا صفحة بعيدة أخرى ، كان جدتها بالعشرين ، قرأت لماثيو بصوت عالٍ:
– 7/6/1966:

زفافي بعد أسبوع وأنا أشعر بالضيق ، فإن كل ما أفعله هو الكذب على هذا الشاب المسكين الذي سيكون زوجي بعد أسبوع ، مما سيجعل زياراتي لايميليا تقل ، أريد إلغاء الزفاف و أن أكون صريحة ، لكن لا ، علي فعل ذلك ، علي بدأ حياة جديدة.
قالت روكسانا بحنق وهي تنظر للوحة المقابلة لهذه الكتابة:

– على ما يبدو بأن جدتنا الغالية كانت مندفعة جداً في قرارتها ، انظر إلى هذه اللوحة ، فتاة منزوية في غرفتها و فستان زفاف معلقٌ على الخزانة و بالجانب الأخر الناس وهي تتجهز لحفل الزفاف الذي تريد الهرب منه ، لقد ارتكبت جدتنا خطئاً.
– رمقها ماثيو بنظرات حادة و قال : تابعي القراءة فقط.
بادلته النظرات وانتقلت إلى صفحة أخرى ، رمته له وقالت:
– أقرأ أنت.
التقطه و قال: سأفعل ذلك.
قال وهو يلتقطه و ينظر للتاريخ: هذا الحدث بعد سنة تقريباً ؟.
رفعت كتفها بلامبالاة و قالت و هي ترمق التاريخ بنظرة حادة : هذا تاريخ ولادة أمي.
– قلب ماثيو الصفحة وقال : لا أعتقد بأنك تريدين قراءتها.
انتشلت الدفتر منه و قالت : دعني أتولى دفة القيادة ماثيو ، أنت أحمق.
قال بلامبالاة : كما تريدين.
اختارت صفحة عشوائية مثلها لتقرأ بصوت عالٍ جداً:

– 18/3/1977:

اليوم تلتقي ابنتاي للمرة الأولى ببعضهما البعض هيلسي وإيميليا ، تتكلمان بتحفظٍ كبير ، لم أشعر بانهما أختان لكني حقاً لا أريد لإحداهما أن تتعلق بالأخرى ، فكلٌ منهما لديها عالم خاص بها، بيئة مختلفة ، تربية مختلفة ، أب مختلف ، كل أمر مختلف ، أنا أجلس في مقعد في الحديقة وهما تقفان بعيدتان عني ، بالطبع لم أقم بهذه الخطوة بدون تفكير ، لولا وفاة زوجي العام الماضي بسكتة قلبية لم أكن لأجعلهما تتقابلان ، بل لنقل بشكل أدق لولا قراءة هيلسي لمذكراتي لم أكن لأسمح لهذا اللقاء بالحدوث ، على أي حال هما تنادياني الآن سأذهب للتكلم معهما.

– قالت روكسانا بابتسامة: انظر إلى هذه الصورة.
– تقصدين رسمة؟.
– نعم ، أياً يكن.

امعنا النظر إلى الرسمة الصغيرة المقابلة لهذه الصفحة ، امرأة تجلس على مقعد و فتاتان صغيرتان تقفان بتحفظ أمام بعضهما البعض تحاولان فتح أحاديث باقي الأحداث الجميع يعرفها. تزوجت إيميليا قبل هيلسي ثم أنجبت ماثيو الذي كان الجميع حريصاً على عدم إظهاره للعالم الخارجي لأنه ابن الابنة الغير شرعية ، بعد ثلاث سنوات جاءت روكسانا على هذه العالم المخيف. نهضت روكسانا وهي تمعن النظر في ألبوم صور موضوع على الرف ، اتجهت نحوه و الحماس يتغلغل في صدرها من الصور التي قد تجدها هذه الغرفة مليئة بالأسرار ، التقطته بحرص ومسحت الغبار عنه و عادت لتجلس في مكانها بجانب ماثيو ، فتحته بهدوء الصورة الأولى على ما يبدو بأنها صورة لجدتهما في الثانوية مع المدعو ريتشارد ، علق ماثيو على الصورة و هو يشير إلى وجه ريتشارد:

– هذا جدي ؟ لم أرتح له.
– أطلقت روكسانا ضحكة وقالت : لو ترى صور جدي أنا ،  أنه مخيف!.
– ابتسم ماثيو لتعليقها وقال : بالتأكيد له صور.

انتقلا للصورة الأخرى ، كانت تجمع إيزابيلا والممرضة مع الطفلة الرضيعة التي هي إيميليا. التواريخ كانت أسفل كل صورة ، بدأ يتنقلان بين الصور لمحا صورة لإيزابيلا وهيلسي و والدها. و في مرة أخرى صورة لإيزابيلا مع الطفلتين في الحديقة المرسومة في المذكرات رأيا ثم صورة لماثيو مع والدته ، و والده وجدته ، و تعددت الصور ثم لماثيو مع جدته ، كانت صوراً كثيرة حتى لمحت روكسانا صورة لها و لوالدتها وجدتها لكن دون والدها لتعلق هامسة:

– لطالما أبعدت والدتي أبي عن الصور لا تريد ذكرى له ، حتى جدتي لم تكن تعرف صهرها كثيراً.

نظر ماثيو لها مستفهماً لتتجاهله و تتابع تصفح الألبوم ، رأيا صورة تجمع الشابتين والجدة والحفيدين ذات الصورة المعلقة على الحائط رغم أن ماثيو كان في الثالثة من عمره لكنه لا يذكر شيئاً من كل هذا ، تابعاً التقليب في الألبوم ، بعد تلك الصورة التي جمعتهما معاً مرة واحدة لم يريا ولا صورة تجمعهما مع بعضهما البعض ، أغلقت روكسانا الألبوم و قالت:
– هناك صورة ناقصة.

نهضت عن الأريكة تجاه المكتبة ذات الرفوف الجذابة رغم كمية الغبار التي عليها التقطت الكاميرا المسندة إلى المكتبة كانت كاميرا بحامل أيضاً ، قالت بلهجة أمر:
– انهض و سر أمامي.

استغرب ماثيو من طلبها و نظر إليها بعينين مستغربتين ، لكنه لم يرد التفكير كثيراً فهو حقاً يملك الكثير ليفكر به ، نزلا السلالم باتجاه الحديقة الخلفية ، ثبتت روكسانا الكاميرا أمام الشجرة الضخمة التي تتوسط الحديقة و طلبت من ماثيو أن يقف أمام الشجرة ، ضغطت عدة ضغطات وهرعت نحوه ، قفزت ضاحكة لتحيطه بذراعيها ، خرج وميض أبيض ليعلن بأن الصوة قد اُلتقطت ، جرت نحو آلة التصوير التي أخرجت الصورة ببطء ، كان ماثيو ينظر بحيرة إلى روكسانا تقول بأنها مرت بظروف صعبة ، كيف ذلك؟ هل هذا شكل فتاة مرت بظروف صعبة ؟ فتاة تخلت عنها والدتها ؟ اطلق ابتسامة صغيرة عندما رآها تجري نحوه و تصرخ:

– أنظر ، هذه هي الصورة المطلوبة حرفياً!.
– هل ستضعينها في الألبوم؟.
– لا، سأقوم بتناولها.
– مزحتك غير مضحكة.

دخلا إلى الغرفة و قامت روكسانا بوضع الصورة في الألبوم بحذر مسجلة التاريخ أسفل الصورة ، كانت الصورة تبدو رائعة ، مع نظرات ماثيو المستفهمة المتفاجئة و ضحكة روكسانا الجذابة ، خلف الشجرة التي قضيا كلاهما طفولتهما أسفلها. هذه هي الصورة التي كانا يبحثان عنها طوال سنواتهما ، عليهما إكمال بعضهما البعض و تناسي الماضي ،  لكن من يدري ؟ قد يكون هناك حقائق غير معروفة بعد  قد تقلب الموازين جميعها ، من يدري سوى القدر ؟ لا أحد سواه لذا الغموض يلف حياتهما من كل الجوانب دون أي منفذ للوضوح
 
حقيقة الموت :
 
” نهاية الحياة هي النهاية الوحيدة التي نعرفها ، الموت هو الحقيقة الوحيدة الملفوفة بالغموض التي نعرفها وسط جنون هذا العالم”.

ما زالت روكسانا تفتش الغرفة ، و ماثيو يقلب بألبوم الصور راسماً ابتسامة صغيرة على ثغره، فالكثير من هذه الصور تحمل له ذكريات سعيدة ، صاحت روكسانا وعلامات التعجب تعلو وجهها:

– لن تصدق ما رأيت!.
لم يعرها ماثيو اهتمام فقد ظن بأن عقلها الطفولي قد عثر على لعبة أو ما شابه ، حتى صاحت و هي تقذف إلى جانبه زجاجة:
– جدتي تحتفظ بزجاجات مشروب هنا!.
رمق ماثيو روكسانا بنظرات استفهام وقال:
– هل أنت جادة؟.
– انظر بأم عينك!.

أطلق ضحكة ساخرة : يبدو بأنا جدتنا ليست الجدة الطيبة التي كنا نتوقعها ، أعيديها إلى مكانها.
– التقطت الزجاجة التي أعاد قذفها : نعم ، نعم سأعيدها ، دعني أكمل استكشافي.
– أكملي ، لا يهمني.

كانت روكسانا تشعر بالحماس فهي لأول مرة تدخل الغرفة التي طالما حلمت بدخولها ، و تكتشف اكتشافات جديدة ، كانت تريد تفتيش كل أنشٍ في الغرفة ، كانت سعيدة جداً ، لكن ماثيو لم يشاركها حماسها هذا ، لكن الأمر لم يعنيها فقد اعتادت على برود الناس اتجاهها و خاصةً بغريب لم تلتقه سوى بالأمس ليكتشفا الليلة حقيقة العديد من الأشياء معاً، توقفت روكسانا للحظة فقد سمعت هدير محرك سيارة ، مددت رأسها من النافذة لترى سيارةً حمراء قديمة مهترئة تعرفها جيداً ، صرخت بماثيو :

– سيارة والدتي!.
نهض ماثيو ليخرج رأسه من النافذة و ينظر أيضاً هو لا يعرف هذه السيارة و لا صاحبتها ، قال لها:
– هل أنتِ واثقة؟.
قالت بهلع : نعم ، أنا واثقة ! دعنا نختبأ.
قال بهدوء : لا تهلعي هكذا ، ما الذي تريده والدتك؟ فلتنزلي لتلقي عليها السلام و ينتهي كل شيء.

اقتربت منه و الغضب يتطاير من عينيها : و هل تظن بأننا في فيلم ؟ أقول لك بأنها مجنونة تقول لي ألقي السلام عليها ! أصمت فقط دعنا نخرج ونختبأ في العلية.
رفض ماثيو ذلك و قال : لا ، لن أوافق.

حاولت تنظيم أنفاسها ، لكنها صاحت بالنهاية : فلتستمع إلي ماثيو!.

لكن لا حياة لم تنادي ، تركها لوحدها في الغرفة لا تنكر بأن رغبة قد راودتها بأن تلحق به و تواجه والدتها ، لكنها شعرت بالخطر ، شعرت بشيء قادم ، خرجت من الغرفة جارية إلى السلالم المؤدية للعلية لتختبئ بها منتظرة نشرة الأخبار من شريكها.
 
– كيف استطيع مساعدتكِ يا خالة ؟.
قال ماثيو موجها كلامه لهيلسي التي نزلت توها من السيارة لتظهر علامات الانزعاج على وجهها فور سماعه لكلامه و تقول:

– بداية لا تناديني بالخالة ! أنا لست كبيرة لهذه الدرجة ، هذا يزعجني.
ابتسم ماثيو ابتسامة مصطنعة و قال : حسناً سيدتي، كيف استطيع مساعدتك؟.
حاولت هيلسي رغم التجاعيد التي حقاً قد بدأت بالانتشار في وجهها رسم أكثر ابتسامة جذابة تملكها لتقول : وهل أنت جديد في الحي ؟ هذه المرة الأولى التي أراك بها هنا فمنزل والدتي هنا.

قال ماثيو مستبقاً الأحداث: السيدة إيزابيلا ؟ لقد باعت الآنسة روكسانا المنزل منذ فترة لي.
زالت كل ملامح المجاملة والإعجاب من وجه هيلسي ليحتل الغضب مكانها ، لكنها حاولت كبح جماحها لتقول :

– متى حدث ذلك ، و كيف هي وريثة المنزل . أنا هي ابنة إيزابيلا و هو……
قاطعها ماثيو ليقول : لا أعتقد ذلك فالآنسة روكسانا أرتني العقد الذي يثبت بأنه لها ، لكن على أي حال تستطيعين التفضل والدخول إلى المنزل سيدتي.
سارت هيلسي بتكبر أمامه لتقول :
– أنا لا أنتظر أذنك.

نظر و هو يكاد ينفجر ضاحكاً ، هل هذه المرأة مجنونة أم ماذا؟ دخل خلفها ليرى ما الذي ستفعله، أدخلت رمز البوابة السري لتسير بالممر المرصف رافعة رأسها بثقة عالية كطاووس تدفع باب المنزل الذي كان نصف مفتوح و لتتجول بأرجائه و تقول:
– لم تغير به كثيراً يا سيد.

– أجاب كاذباً وهو يغلق الباب خلفه : ماركوس ، اسمي ماركوس ، تفضلي سيدتي بالجلوس سأعد لك بعض القهوة.

ارتمت هيلسي على الأريكة واضعة ساق فوق ساق منتظرة انتهاء ماثيو من إعداد القهوة ، الذي كان يفكر أين اختبأت روكسانا ؟ و ما سر ظهور هيلسي المفاجئ ؟ هل هناك غاية ما تعبث في ذهنها ، أم أنها تريد استعادة المنزل ، أم هدف أخر؟ وجدته لقد صدم فعلياً ! توقع بأن جدته هي الجدة المثالية ، لكنها العكس تماماً ، لكنها تبقى في نظره الأفضل. سكب كوبين من القهوة واتجه إلى الصالة ليقدم أحدهما لهيلسي و يجلس أمامها و يقول :

– إذاً سيدة هيلسي كيف أساعدك؟ هل هناك أمر معين في ذهنك؟.
– ابتسمت هيلسي و قالت: لا ، صراحةً أردت فقط إلقاء نظرة على المنزل ، واتضح بان ابنتي قد باعته ، انظر إلى هذا الحظ العاثر!.
– ابتسم ماثيو معبراً عن أسفه ، ليحاول انتهاز الفرصة ويسألها : و كيف كانت علاقتك مع المرحومة ؟ أخبرتني الآنسة روكسانا بأنها لم تكن جيدة.

شردت هيلسي في عالمها الخاص ، هذا ما تصوره ماثيو لأنها صمتت صمتاً مريباً بعد رميه لسؤاله هذا ، لكن كأن روكسانا في اليوم الذي قضاه معها أعطته قليلاً من الفضول ، فبقي ينظر إلى عيني هيلسي محاولاً فهم ردة فعلها ، لكنه فشل ، فتنهد وأشاح بنظره بعيداً ، لكن صوتها عاد ليقول:

– لا أعرف ماثيو ، لقد وثقت بك ، لعل القدر وضعك أمامي لأقول لك.

التفت لها بسرعة و صدمة فعادت للصمت بعد تكلمها كلماتها القليلة هذه مستغلاً الفرصة أمعن النظر في تقاسيم وجهها ، يعتقد بانها بالأربعينيات بعض التجاعيد بدأت تحاول استيلاء جمال وجهها ترتدي فستاناً ابيضاً فوق الركبة بقليل بدون صدر أو أكمام ، لكنه عندما يريد المقارنة ، والدته كانت أجمل و أكثر ارتجالاً ، بدون كل هذه الألوان المجنونة التي تغطي وجهها ، و بملابس مفتوحة لا يحبها ، أنها نسخة عن الكثيرات ، لكن والدته رغم عدم تعلقه بها كانت أجمل بكثير فلا مجال للمقارنة ، لم يرى بهذه المرأة ما هو جميل لكن ليكن صريحاً صوتها فيه بحة جذابة رسمت ابتسامة على وجهها  لتبدأ بالتحدث كأنها ترى شريط الماضي ،

كانت تجول روكسانا في العلية التي تصعدها للمرة الأولى ، أنها حقاً مندهشة يبدو بان ماثيو يحتفظ بالكثير من الأمور هنا ،  وهناك الكثير من خربشات الأطفال على الجدران ، يبدو بأنه كان طفلا مشاغباً في طفولته ، جذب انتباها وهي تفتش بالكتب المصفوفة بطريقة مرتبة على رف الكتاب كتب قد خرجت عن استقامة قريباتها ، لتزيح الكتب تلك و تريمه أرضاً ليبان أمامها مغلف كبير ذو مجلد أخضر ، بالتأكيد هو لجدتها فكل شيء أخضر بالنسبة لها هو لجدتها ، التقطته بخفة و ارتمت على السرير لتمضي وقتها بقراءته ، قرأت العنوان بصوت شبه مسموع وإمارات الدهشة ترتسم على وجهها:

– مذكرات هيلسي.

لنقل بأنها عثرت على وجبة كبيرة لفضولها.

صعد ماثيو السلالم بسرعة ليبحث عن روكسانا التي اختبأت لساعة و نصف دون أن تصدر أي ضجيج ! بدأ يشعر بالقلق بعد أن تأكد من ذهاب هيلسي و قد وعدته بزيارة أخرى ، صرخ باسم روكسانا بأعلى صوته حتى رآها وعيناها مغرقتان بالدموع حرفياً نظر لها و قد شعر بالقلق والخوف والفرح بآن واحد ، قلق عليها و لما تبكي؟ خائف من الأمر الذي اكتشفته ، سعيد لأنها بخير ، اقترب منها و هزها من كتفها لتتكلم ، حتى قالت وهي تنظر إلى أعماق عينيه بكل خوف:

– إيزابيلا لم تمت بل قُتلت.

في العلية تريه ما اكتشفت ، قالت بجدية كبيرة تستعملها للمرة الأولى :

– انظر ماثيو بعد أن وجدت دفتر مذكرات أمي قرأت بعض الصفحات منه ، هي تكره والدتها لتفضيلها إيميليا عليها ، وعدد الشبان الكبير الذين تعرفت عليهم وأحبتهم لكنها كانت فاشلة عاطفياً وعندما رأت نجاح والدتك ، صُدمت لذا هي حاقدة على أسرتها العزيزة.
قال محاولاً فهم حديثها : جميعنا نعرف هذا ، لكن كيف عرفت بأن إيزابيلا قُتلت و لم تمت؟.
– تعال معي.
– إلى أين؟.
– ثق بي ماثيو.

سار خلفها واثقاً بها و بحدسها ، رآها تتجه نحو خزانة الملابس المثبتة بالجدار لترمي و تزيل كل الملابس بعشوائية ، مما جعله يشعر بالغيظ ثم يراها تتحسس الحائط مستغرباً و مراقباً بحذر ما تفعله ، فجأة ، نزعت الورقة التي كانت تغطي الباب لتفتحه و تقول مع ابتسامة سخرية:

– تفضل فالحقائق الصادمة ما زالت بالداخل.
مصدوماً دخل هذه الغرفة التي لم يكن يعرف بوجودها رغم أنه نام في العلية وقضى طفولته فيها ! قال و هو مصدوم :
– هل أنتِ جادة؟.

قالت موضحة : انظر بداية الغرفة ضيقة ولا تظهر أبداً للخارج ، لذا أرجح بأنها مكان مناسب للقتل والخطف ، ثانياً انظر هناك خزانة ، فتشتها منذ قليل و هناك العديد من السكاكين والأدوات الحادة! بل يوجد مطرقة أيضاً ! والحبال تملأ الأرضية ، انظر، لا تحوي على نافذة حتى ! أنها أنسب مكان لتقتل أحدهم!.

نظر لها باستهزاء و قال : روكسانا هذه مجرد فرضيات وضعها ذهنك الذي يحب المغامرة ، قد تكون غرفة لتقضي جدتنا وقتها به بعيداً عن كل هذا العالم!.
– لم تكن تعرف بوجودها.
رافعاً حاجبيه مستنكراً : كيف ؟.

– بمذكرات جدتي ، بالرسوم الموجودة هناك مسقط للمنزل لم أرى به الغرفة ، أنا واثقة بانها أمضت أيامه الأخيرة هنا ! لا تنسى بأن كلينا لم يحضر دفنها ! لأنه كما قال الأطباء بأنها تريد التبرع بأعضائها ! بل لا تنسى بأن القبر الذي نزوره هو.

يُتبع …….

تاريخ النشر : 2021-05-16

اية

سوريا
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى