أدب الرعب والعام

صدّق أو لا تُصدّق!

بقلم : رفعت خالد المزوضي – المغرب
[email protected]

كان شاردا كعادته، ينظر من خلال نافذة الطابق الرابع إلى ساحة الحديقة الخضراء المضاءة، في هذه الليلة الباردة من شهر دجنبر..
صوت هدير رتيب لآلات لا يعرف كنهها تماما، رغم سنوات عمله الطويلة بهذا المكان. فما هو – آخر الأمر – إلا مذيع شاب بمحطة مذياع شبه مغمورة، ومهنته التي طالما صَعُبَ عليه إقناع غيره أنها أكثر من مجرد “كلام” تتلخص في إلقاء الأخبار والإشهارات المدفوعة مع تنشيط برامج حوارية أو تفاعلية مع المستمعين.. أما هذه الأجهزة والأضواء المتلألئة بمختلف الألوان فلا يدري عنها شيئا.
فنجان القهوة بيده يبث دفقات شبحية من الدخان الساخن اللذيذ.. أغمض عينيه في ما يشبه سِنة النوم مستحضرا البرد بالخارج قبل أن يفتحهما فجأة على إثر صياح زميله الذي أطل من وراء باب أحمر..
– حمزة ؟.. لم تتبق إلا دقائق على انطلاق البرنامج، هلمّ !

* * *

– السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أهلا وسهلا بكل المستمعين والمستمعات في موعد شهري جديد من برنامجكم الأثير : (صدّق أو لا تصدّق)!
هنا منبر من لا منبر له، فرصة من لا فرصة له.. هنا تحكي أغرب ما واجهك مما تخجل من ذكره أمام الأصحاب، أو تخشى التكذيب إن أنت ذكرته..
ثق بي – عزيزي المستمع – لا أحد يُكذّبك هنا، مهما قلت. فقط إحك لنا، أو اسمع حكاية غيرك ثم.. صدّق أو لا تُصدّق!

أخرج حمزة رأسه من بين السماعات السميكة ورفع إبهامه في إشارة متفق عليها لينطلق صوت تشويقي خاص بمدخل بالبرنامج، فتغير لون مصباح أمامه إلى الأخضر..

اختطف بخفة قارورة المياه المعدنية وجرع منها ما تيسّر وهو يكاد يحفظ عدد الثواني المتبقية ليحمّر المصباح من جديد ويعود على (الهواء مباشرة)..
– إذن.. أجدّد بكم الترحاب أعزائي المستمعين والمستمعات. ومباشرة دون إطالة ننتقل لأول اتصال لدينا. محمد.. من.. فاس، تفضل يا محمد!
-السلام عليكم..
– وعليكم السلام، مرحبا بك..
– هل أنا.. على الهواء ؟
– نعم، نعم.. تفضّل.
– حسن.. أنا محمد من مدينة فاس، عمري تسعة عشر..
– تشرفنا بك يا محمد وبأهل فاس.. هل لديك واقعة غريبة تودّ مشاركتها ؟
– نعم.. أنا ابن البادية، منزل أهلي يقع خارج المدينة، والقصة التي شهدتها حدثت هناك.. في البادية.
– تحية لأهل البادية الطيبين..
– شكرا.. أنا أرعى الغنم عادة، وأحب ذلك كثيرا لأنه يشعرني بالأهمية..
– عجيب..
– نعم.. لا أشعر بأهميتي إلا وأنا أقود غنماتي وأعطيها الأوامر. المهم.. كنتُ ذاك المساء أمشي متقدما غنمي كعادتي، واضعا عصاي خلف عنقي ومعلقا عليها يديّ، في وضعية الرعاة الشهيرة عندنا كما تعلم..
كان يسود صمت طويل في ذاك الوقت من العصر، وكنتُ أنظر للسماء حيث الأشكال العجيبة التي كوّنها الضباب كأنه يحاول إخباري شيئا ما.. قبل أن أتعثر فجأة في منحدر حجري لم أنتبه له، ويلتوي كاحلي بشدة!
– أووه!.. هل تأذّيت ؟
– كثيرا.. سقطتُ صارخا بكل ما أوتيت من صوت، ثم لم أفلح في النهوض..”.

لحظات من الصمت تلت كلام المتصل جرع خلالها حمزة المزيد من الماء، ثم ألقى بنظرة متسائلة تجاه زميله التقني عبدالله الذي أشار إليه بأن الاتصال لم ينقطع..
– أكمل يا محمد.. ماذا جرى بعدها ؟
– … ظللتُ مُستلقيا فترة من الزمن حتى مال قرص الشمس واحمرّت السماء فوقي. كانت الغنمات متحلقة حولي، فطفقتُ أرقبها بصمت وترقبني بأعين زجاجية خاوية قبل أن تنطلق فجأة في ضحك جماعي!
– ماذا ؟؟
– كانت تضحك كما يضحك الآدميون، إلا أنه ضحك أعلى من الضحك وأخشن!
– غريب حقا.. ثم ماذا ؟
– …
– محمد ؟؟… حسن يبدو أن الاتصال انقطع. لقد كانت قصة غريبة بحق، وسنترك التعليق عليها لنهاية الحلقة كما عوّدناكم.. والآن مع فاصل إعلاني قصير، فابقوا معنا..

* * *

– مرحبا من جديد في حلقة الليلة من (صدّق أو لا تُصدّق).. هل تشعرون بالبرد الشديد مثلي ؟ ررر.. يبدو أنكم تحت الأغطية الدافئة. حسن لدينا اتصال ثان من الأخت.. فراشة، هي سمّت نفسها هكذا.. تفضلي يا أخت فراشة:
– أريد النوم بأي وسيلة كانت..
– نعم ؟
– أريد النوم بأي وسيلة كانت، فتعبي كان شديدا..
– يبدو أنك لا تضيعين وقتك كثيرا يا فراشة..
– نعم.. آسفة، أنت لا تعرف حجم توتري..
– لا عليك.. خذي ما يكفيك من الوقت.
– شكرا لك.. قلتُ أن التعب يتملكني وأريد النوم بشدة. ولكن نباح الكلب لا يفارق مسمعي. المشكل أن لا أحد يمتلك كلبا هنا في قريتي، ولا أحد يسمع صوت نباحه غيري. وفي كل مرّة أكلّم فيها أحد الجيران عن هذا الأمر يرمقني باستغراب مشكّكا ثم يمضي..
– ممم.. هل تتوهمين عادة ؟
– نعم ؟
– لا شيء.. واصلي يا فراشة..
– قرّرتُ أخيرا أن أترصّده خلف باب منزلي، حتى إذا اقترب بنباحه المزعج أنقضّ عليه..
– لا أعتقد أنها فكرة سديدة أختي فراشة..
– أعرف.. لم أكن لأستطيع ذلك على كل حال، على الأقل ألتقط له صورة حتى يصدّقوني !
– أفهم شعورك..
– وهكذا انتقل اهتمامي من نباح الكلب و إزعاجه إلى حمل الناس على تصديقي..
على كل حال.. لقد أطفأتُ الآن كل شيء يُصدر صوتا في المنزل، وأطفأت الأضواء.. لا شيء يُسمع إلا صوتي وأنا أكلمك من هاتفي المحمول وسط الظلام. حتى ساعة الحائط نزعت بطاريتها.. هي الآن تشير للعاشرة مساء منذ مدة..
– حسن.. يبدو هذا مثيرا..
– اسمعوا معي!.. هاهو النباح يقترب.. هل تسمعون ؟ هه؟
– أأأ.. في الحقيقة لا نسمع. آسف..
– حسن.. لحظة، سأفتح الباب.
– أمتأكدة من أنك بأمان يا.. آنسة فراشة ؟
– إنه واقف أمام البيت.. ينظر لي بصمت !
– من ؟.. الكلب ؟
– لماذا.. لماذا لا يصدقني أحد ؟ لقد عاد رغم أني دفنته.. تبا !
– نعم ؟؟
– …
– ألو ؟؟.. من جديد ينقطع الاتصال للأسف.. صدقوني أنا لا أحب هذه الانقطاعات المثيرة للأعصاب، لكن ماذا نفعل ؟.. فلنرجوا فقط أن يكون من يتصل لاحقا أكثر وضوحا. نريد قصصا كاملة من فضلكم. على كل حال… صالح من مدينة بركان.. تفضل يا صالح.
– مرحبا أستاذ حمزة.. لا تعلم كم أحبك يا أخي، وكم أنا سعيد بالتحدث إليك أخيرا..
– شكرا عزيزي.. هه، تفضل.
– لا، فقط أردت إلقاء التحية وسماع صوتي بالمذياع.. ههه، ستفرح زوجتي بهذا كثيرا.
– حسن.. احم، شكرا. اتصال غريب على كل حال.. فاصل إعلاني ثم نواصل، لا تذهبوا بعيدا.

* * *

– عباس من المحمدية.. تفضل.
– ألو.. السلام عليكم، شكرا لقبول مشاركتي.. أنا عباس حارس ليلي بمدرسة ابتدائية.
– حياك الله أخي عباس.. نعم، هل لديك قصة ؟
– نعم.. في الحقيقة هي لقطة إن شئتَ وليست قصة، ولكنها غريبة كما هي مواضيعكم في هذا البرنامج..
– فليكن، أخبرنا بهذه “اللقطة”.
– كنت قبل أسبوع، أقوم بجولتي الليلية أتفقد المدرسة وممراتها.. الحديقة، السقيفة، المراحيض ثم الأقسام.. كنت على وشك الانتهاء من جولتي مع تمام الواحدة بعد منتصف الليل عندما وصلت للقسم الأخير..
– نعم.. ما به القسم الأخير ؟
– آخر قسم في رواق الطابق الثاني.. حسن، كيف أقولها ؟ كنت قد أطفأت مصباحي لأن بطاريته نفدت تقريبا، لذلك أطللت من النافذة على القسم تحت ضوء القمر فحسب.. وكان ما رأيته عجبا !
– خير إن شاء الله ؟..
– رأيت القسم ممتلئا..
– ماذا ؟
– نعم.. كان ممتلئا بأطفال غريبي الشكل.. في الحقيقة لم يكونوا أطفالا.. كانوا أقزاما !
– يا للهول..
– نعم لقد كان هولا.. شهقت بلا شعور مني فالتفتوا كلهم ينظرون إلي.. فقدت توازني وانطلقت أسابق الريح..
– ثم ؟
– فقط.. هذه هي اللقطة.
– إنها “لقطة” لا يحسدك عليها أحد عزيزي عباس.. حمدا لله على سلامتك. وشكرا على مكالمتك..
– العفو..

– منيرة من الجزائر العاصمة.. أهلا منيرة وتحية لك ولأشقائنا الجزائريين..
– شكرا أستاذ حمزة.. أنا لم أفوّت أي حلقة من البرنامج.
– هذا يسعدني أختي منيرة..
– العفو.. أنا.. أنا أعاني من مشكلة لحد الساعة التي أكلمك فيها..
– خيرا يا منيرة.. لكل مشكلة حل.
– أرجو ذلك.. أنا أسكن وحدي، ولا تسل عن السبب.. أسكن بغرفة صغيرة يكاد سقفها يخرّ علي من فرط قربه من رأسي.. هناك زاوية ضيقة تشبه المطبخ، وحمّام ملحق.. ومن الحمّام بدأت الحكاية.
– حسن.. كلنا تقريبا مررنا بمراحل اختنقنا فيها ماديا إن صحّ التعبير.. ولكن، دوام الحال من المحال يا منيرة..
– ليس الفقر مشكلتي صدقني.. فأنا عندما استأجرت الغرفة أول مرة كنت فرحة لأني وجدت جدرانا تأويني وتُبعدني عن شرور الناس، بمقابل مادي بخس يناسب ما أجنيه من ترجمة ملفات بعض الشركات..
– الحمد لله..
– دخلتُ الغرفة أول مرة، فأثارت أنفي رائحة الخشب المبتل.. كانت رائحة نفّاذة جدا، ولحدّ الساعة أنا لا أعرف مصدر تلك الرائحة الغريبة!
في الحمّام مرآة معلّقة بطريقة غير احترافية.. كانت مائلة بزاوية حادة، ولأني أعشق النظام ولا أحتمل رؤية شيء في غير مكانه، عدّلتُها حتى أخذت مكانها الصحيح. قمت بعدها بتنظيف الغرفة.. وحين انتهيت تمددت فيما يشبه السّرير، ولم أستيقظ إلا بعد الساعة الثامنة..
– أنت فعلا دقيقة..
– نعم.. قمت مباشرة للحمّام، غسلت وجهي ورحتُ أمشّط شعري لأنتبه إلى أنّ المرآة تحرّكت من مكانها وعادت للحالة الأولى التي وجدتها عليها! عدّلتها مرة أخرى ولم أبالي.. ربما لم أثبتها كما ينبغي. ثم أسرعت للمطبخ لأحضّر قهوتي، وأشربها على عجل وأخرج..
– جميلة طريقتك في السرد يا منيرة.. لكن أرجو منك الاختصار لو سمحت.
– حسن.. في المساء عدتُ وفتحت الباب ولكم كانت دهشتي كبيرة حين وجدتُ كوب القهوة الفارغ موضوعا على الأرض سليما بطريقة لا توحي بسقوطه، كأنّ هناك من حمله من فوق الطاولة ووضعه أرضا..
عصرتُ ذاكرتي محاولة استعادة حوادث الصباح لأعرف إن كنت أنا مَن وضعته على الأرض دون وعي مني! لكن لم أذكر شيئا كهذا..
حاولت نسيان هذه الحادثة، لكن رائحة الخشب المبلّل لم تساعدني على ذلك..
وفي الصباح الموالي نهضت متعبة كأن شاحنة داست على عظامي.. نظرت للمرآة فوجدتُ كدمة خضراء على وجهي، وبينما كنت أتفحّصها باستغراب انتبهتُ إلى أن حافة المرآة قد مالت مرة أخرى مع كسر طفيف في زاويتها !
– بلا تفاصيل يا منيرة.. ثم ماذا ؟
– من شدة الخوف توقّفت حواسي عن العمل للحظات.. استجمعت قواي وأسرعت لأرتدي معطفي و أهرب بعيدا من هذا المكان، ولشدّ ما كانت دهشتي كبيرة حين وجدت إحدى ذراعيه معقودا !
– ذراع المعطف ؟
-نعم.. ثم تكلّم صوت من خلفي – ولم أجرؤ على النظر إلى مصدره – قائلا: “لا تعبثي بغرفتي” !
– أوه !
– بكيت من شدّة الخوف.. ثم جريت نحو الباب أفكّ مزلاجه، لكنه لم يُفتح، وكأنه مقفل من الخارج. حرّكته بشدة، ولكن بلا جدوى..
وهكذا بقيت حبيسة للمجهول لحد اللحظة التي أكلّمك فيها، هل يمكن أن تجدوا لي حلاّ ؟ أنا…
– ألو ؟.. منيرة ؟ تبا..
آسف على العبارة.. لكني فعلا أنفعل وأعيش مع تفاصيل القصة، ولا أريد أن تنقطع هكذا.. حسن، فلنأخذ فاصلا آخر..

* * *

– خالد من الدار البيضاء.. مرحبا.
– مرحبا.. أنا الآن أقود سيارتي..
– هلا انتبهت للطريق يا خالد، أركن السيارة لتكلمنا بهدوء..
– لا يمكن أنا… أنا مُطارد !
– إذن أظن أن عليك الانتباه للطريق.. أنا في نفس المدينة وأعرف خطورة السياقة بها. اقصد مخفر شرطة بدل الاتصال بنا يا خالد.
– أنت.. لا تفهم يا أستاذ حمزة. إنها تطاردني في كل مكان..
– ما هي ؟
– الحجارة.. هناك من يرميني بالحجارة حيثما ذهبت.. أنا الآن متوقف أمام إشارة طرقية و…
– ما هذا الصوت ؟ هل هو تكسر زجاج ؟
– نعم.. لقد أخبرتك، هناك من يرميني بالحجارة.. تبا لقد جُرحت.. سأخرج من السيارة..
– أين أنتَ بالضبط ؟؟
– أنا.. تبا. لحظة، أنا أمام ساحة الحمام.. هناك صيدلية العافية و..
– لا أصدق! نحن في الطابق الرابع فوق الصيدلية..
– سأصعد عندكم حالا..
– لا !.. انتظر يا خالد، أرجوك لا تفعل !
– ….

guest
10 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى