أدب الرعب والعام

صرخة سكّير

بقلم : أحمد محمود شرقاوي – مصر
للتواصل : [email protected]

صرخة سكّير
ألم هائل يجتاح جسده فصرخ كمن يحترق ثم أغلق عيناه

 حينما تخرج قطع الليل المظلمة من كهوفها لتنتشر في الطرقات يهرع الناس إلى بيوتهم ويختبئون تحت ستار النوم بينما تخرج الأشباح لتصطاد من ضل طريقه وترك نفسه أسيراً للظلام ، الظلام كائن أبدي يرتبط أسمه باسم جهنم فإن كنت من أصحاب النار فحاول أن تعتاد على الظلام من الأن لأنك ستصاحبه إلى الأبد.

تقول الأسطورة أن هناك شيطانة تسمى ” عذابة القبور ” يقال أنها تخرج في شهر ديسمبر تبحث عن البشر داخل عرينها ، لا تتخطى أبداً منطقة القبور ، تبحث عن غذاء يكفيها للعام القادم ، الغذاء لا يكون سوى من الرجال ، لنبدأ الأن.

صوت ضحكات مرتفعة تصدح في الأفق ، تقترب كاميرتنا الخاصة من مدخل القبور ليظهر المشهد ، أقترب حسين من مدخل المقابر وهو يفرد ذراعيه في الفراغ قائلاً : أريد أن أطير حتى المقبرة.

ضحك كريم بشدة وتجرع من زجاجة الخمر التي بيده جرعة ثم قال: سنصل يا حسين لا تقلق وسنطير ونحلق كالنسر نحو الشمس ، لقد جلبت معي اليوم قطعة مستوردة من مخدر الحشيش ستجعلنا نهيم في السماوات والأراضين .

صفق حسين بيده و قفز من مكانه كالأطفال ، كان منتشياً سعيداً بعد أن تخلص من عبئ الجامعة وتخرج وكان لا بد من الاحتفال ، وصلوا إلى المقبرة المنشودة وجلسوا بجوارها سعداء ن استندوا على جدار المقبرة التي كانت عبارة عن غرفة فوق سطح الأرض و بدأ كريم يعمل بكل مهارة ليعد السجائر الخاصة بالسهرة ، في تلك الأثناء شرد حسين بنظره بعيداً و راح يتأمل المكان على غير العادة ، ظلام كثيف يتحرك كأمواج البحر أمام عيناه الزرقاء ، مقابر تصطف على اليمين واليسار ولا توجد سوى مسافة بسيطة للسير بينهما تسمى ” حارة ” و هناك لمحه وسط الظلام ينظر لهم بتركيز ، كلب أسود ضخم يتابعهم بنظراته في نهاية الحارة ، حاول حسين أن يلفت نظر كريم و يتحدث ولكنه أفاق على كلمة ، مساء الفل يا سحس ، قالها كريم ثم ناوله سيجارة محشوة ، تناسى وقتها حسين العالم أجمع و راح يدخن بشراهة ، يريد أن يهرب من واقعه بأسرع وقت ممكن ، أخذ عدة أنفاس من السيجارة وسرعان ما هدأ تفكيره وصفا جسده وشعر بنفسه يحلق في السماء.

بعد دقائق مرت و هم في تلك الحالة من الصفاء الكوني والهدوء والراحة النفسية قال كريم: ما رأيك في شاهندا ؟.

نظر له حسين بتأمل وكأنه يراه لأول مرة ثم صمت ، و بعد عشرون دقيقة قال: بنت زي الفل ، أنصحك بأن تتقدم لها .

بعد نصف ساعة يتابع كريم: متأكد ؟.

تمر الدقائق الكثيرة ثم يقول حسين: إن شاء الله.

يعم الصمت لدقائق طويلة بعدها لا يقطعها سوى اقتراب هذا الكلب الأسود منهما متمايلاً كفتاة لعوب ، تعلقت الأنظار بالكلب الذي جلس بجوارهما مبتسماً ، ربت عليه حسين بابتسامة حانية وقال : لماذا تأخرت يا صديقي ؟.

نظر له كريم بتعجب وقال :  مع من تتحدث ؟.

– أتحدث له ، ثم أشار للكلب.

تابع كريم : اعتذر لك يا أستاذ كلب لم أنتبه لوجودك ، ثم وضع السيجارة على فم الكلب وقال:

تنفس بعمق يا صديقي و تناسى هموم هذا العالم.

كشر الكلب عن أنيابه و تراجع للخلف فأشار له حسين بأن يهدأ وقال له : لا تجبره على التدخين فيبدو أنه محترم ولا يدخن ، ابتسم الكلب وجلس مرة أخرى.

تحدث حسين وقال : لماذا جئت تسهر إذا كنت لا تتعاطى الحشيش ؟.

تحدث الكلب وقال : جئت لكم محذراً ، أرحلوا من هنا سريعاً قبل أن تموتوا هنا.

ضحك حسين ضحكة كادت أن توقظ الموتى وظل يسعل لدقيقة كاملة ثم قال: كريم هل تحدث الكلب ؟.

نظر له كريم بعدم فهم ثم قال : ربما لا أعرف . وهنا أنطلق الكلب مبتعداً ليختفي في قلب الظلام وقال كلمات لم يسمعوها جيداً ولكن كاميرتنا سمعتها ، لقد قال : يبدو أنها على وشك الخروج.

في لحظات كانوا قد تناسوا تماماً أمر هذا الكلب وجلسوا يدخنون السجائر المحشوة بنهم ن بعد دقائق قليلة بدأ كل شيء في التغير.

بدأت الرياح في الزئير وسرعان ما راحت تصول وتجول بين حارات المقابر ، صقيع شديد راح ينتشر بين الظلام يصاحبه ضباب كثيف هبط من الأعلى كقبة شفافة أحاطت بمنطقة المقابر بأكملها ، كانوا في عالم أخر من السراب ، بدأ الصقيع يزحف كثعبان قاتل على أجسادهم فشعروا بالبرودة الشديدة ، بدأ مفعول الحشيش يقل من أدمغتهم ويعودوا رويداً رويداً إلى الواقع ، اشتدت البرودة حتى أخذ كريم في حك جسده براحة يده ممنياً نفسه بالحصول على بعض الدفىء ، تحدث حسين سريعاً :

ما تلك البرودة الشديدة ، لقد كان الجو دافئا منذ قليل ؟ تناهى إلى مسامعهم صوت الرياح بالجوار وهي تتلاعب بالغبار ، فراح الخوف يزحف نحو قلوبهم فقال كريم: هيا لنذهب من هنا .

ما إن قالها حتى أرتفع في المكان صوت ضحكات أنثوية مجلجلة ، كانت صوتها هادراً كقصف الرعود وإنه قد يتغلب على صوت الرعد ، طار أخر مفعول من الحشيش بأدمغتهم وأصبحوا في حالة جمة من الوعي والإدراك ، في تلك الأثناء هاجت الرياح و راحت تضرب أجسادهم بقسوة ، تشبثوا ببعضهم و راحوا يركضون نحو طريق الخروج.

اشتدت الرياح لتعيق تقدمهم نحو الخارج بينما راحت الضحكات ترتفع وتشتد من حولهم وكأنها تصدح من كل مكان ، طرقات عنيفة راحت تضرب أبواب القبور بعنف وكأن هناك من يريد الخروج.

صاح حسين لصديقه : ماذا يحدث يا كريم ؟.

– لا أعرف ، هيا لنخرج من هذا الجحيم ، اقتربوا من المدخل وتسارعت خطواتهم المتلهفة للخروج ولكنهم توقفوا في لحظة فسقطوا أرضاً جراء هذا التوقف المفاجئ ن توقفوا بعدما رأوها تقف عند مدخل المقابر ، وقفوا ينظرون لها بكل فزع الدنيا ،

لوح من الثلج الأبيض قد تشكل على هيئة فتاة ، هذا هو الوصف الأقرب ، بيضاء كالثلج تتأجج نيران زرقاء من أعينها ويتطاير الشرر منهما ، من حولها تساقطت قطع من الثلج على هيئة دائرة من حولها ، كانت تنظر لهم غاضبة ، ثم تحدثت بصوت هادر وقالت : تعالوا إلي يا أطفال .

وانطلقت نحوهم كسهم من الجليد قد انطلق من قوس أسطوري ، التفتوا للجهة المقابلة وانطلقوا صارخين كمن اشتعلت النيران بجسده ، ركضوا كغزال يهرب من ليث جائع ولكن كريم تعثر في حجر كبير وسقط أرضاً ،  توقف حسين ونظر له في فزع حينما أدركته الفتاة ، نظر له كريم نظرة ذهول وفزع وقال : أهرب .

ما إن أتمها حتى فتح أحد أبواب المقابر وجذبته الفتاة للداخل وسرعان ما أغلق الباب من تلقاء نفسه.

ومن داخل القبر ارتفعت صرخات كريم تشق سكون الليل كسكين حاد في قالب من الزبد ، شعر حسين بأن عقله قد توقف وجسده قد أنهار من صرخات صديقه التي توقفت تماماً ، سقط أرضاً ينتفض كمن تنتزع روحه من جسده ، راح ينتفض و ينتفض حتى تناهى إلى مسامعه صوت فتح باب القبر ، نهض سريعاً ونظر له فرآها تقف أمام الباب بهيئتها الثلجية ، صرخ صرخة المتشبث بالحياة و ركض في قلب المقابر لا يدري إلى أين يذهب.

كان قلبه يدق كقرع الطبول في أفريقيا وأنفاسه تخرج كلهاث كلب ينازع لينجو بحياته في سباق الألف ميل ،  قدماه تنهار من تحته وهو يحثها على المضي ، الرؤية شبه منعدمة والفزع يمزق قلبه و يفتته كلوح زجاج قد تهشم بالكامل.

وهناك كان المخرج الأخر للمقابر ،  صاح بسعادة شديدة وعلى الفور خرج منه ،  خرج وهو يصيح بسعادة بالغة ،  لقد هرب من الموت ونجا ، و لكنه كان قد تسرع قليلاً فما إن خرج من المدخل الثاني حتى وجد نفسه قد دلف من المدخل الأول ولا زالت القبور على مد البصر ، كاد أن يفقد عقله تماماً ولكنه التفت وخرج من المدخل الأول ليفاجئ بنفسه أمام المدخل الثاني ثانية.

كرر الأمر مرات ومرات و لكنه ككل مرة يجد نفسه في نفس المكان من جديد ، كان يتمنى أن يموت في الحال و يهرب من إحساس الفزع الذي تملكه بالكامل ، غارت عيناه وتصلب شعر جسده بالكامل ، لعنة الله على الحشيش ، كان يلعنه في سره مرات ومرات ،  ومن خلفه ظهرت من جديد ، هنا أدرك أنه هالك لا محالة ، دار عقله في تلك اللحظة كمحرك جبار و راح يفكر بسرعة هائلة ، جل ما كان يريده في تلك اللحظة هو معرفة كنهها ، تحرك لسانه كجبل ثقيل من جليد وقال : من أنتِ ؟.

نظرت له بأعينها المشتعلة وقالت بصوتها الهادر:

أنا عذابة القبور ، ثم ركضت نحوه كالبرق فرفع يده أمام وجهه ليحمي عيناه من المشهد ،  أمسكت به فشعر وكأنه قد دلف في لحظة إلى القطب الجنوبي ،  صقيع قاتل التف من حوله ، سمع صوت قبر ينفتح ثم بجسده يهوي في قلب الظلام ثم ألم هائل يجتاح جسده فصرخ كمن يحترق ثم أغلق عيناه و سقط. 

بعد ساعة كاملة كانت كاميرتنا تحوم داخل القبور كطائر قد ضل عشه ،  لمحتها الكاميرا ولمحت العذابة كاميرتنا ، نظرت لنا من خلال الكاميرا واقتربت ببطء شديد حتى ظهر وجهها كاملاً في الكادر وقالت بصوت أفعى غاضبة : سأنتظركم في تلك الليالي في القبور ، لا تتأخروا علي ، أنتظركم بشوق فأنا لم أكتفي من الغذاء بعد.

 

تمت بحمد الله

 

” ترقبوا روايتي بمعرض القاهرة الدولي للكتاب”

رواية ” إني رأيت ” لنتحدث عن كل ما يخص عالم النوم.

 

تاريخ النشر : 2018-12-21

guest
13 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى