أدب الرعب والعام

صلوات الشيطان

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

جنود يحيطون بالمنزل لمنعنا من الخروج، يبدو أن نيتهم بحرقنا أحياء صحيحة
جنود يحيطون بالمنزل لمنعنا من الخروج، يبدو أن نيتهم بحرقنا أحياء صحيحة

 
الإيمان شيء ضبابي للغاية ، رأيته بداية الاستسلام للواقع ، الطريقة المنمقة لقول أننا نحن البشر أضعف من أن نتغلب على كل شيء.

قرش في بحر الواقعية ، حين نكون الأسماك سيتملكنا الإيمان بأننا سنكون بخير حين يمر بالقرب منا ، آمنا بهذا لأننا لم نجد طريقة أخرى لنهزم خوفنا من الحقيقة.

لا أذكر متى ، و لكن حتماً كان هناك وقت فقدت فيه إيماني بكل ما يمكن الإيمان به ، البشر، الحياة ،  ولو تمكنوا من قراءة تلك الكلمات وأنا حي، فسيأمرون بشنقي ، سأكون زنديقاً ، و لن يكون اللقب بجديد عليّ ، تم اتهامي بالصفة مسبقاً ، ثم الآن ، لا أعتقد أن شنقي سيصنع الفارق الذي يريدونه.
 
منذ أن عرفت الحقيقة ، و منذ وقعت الكارثة الكبرى، وأنا لدي رغبة ملحة بالكتابة، بالسؤال، كيف أتيتُ إلى هنا؟ كيف تبلوّر عالمي وكيف كانت ملامح الطريق؟ بل كيف آمنت بكل ما كفرت به سابقاً؟ وهل حقاً هذه نهاية العالم؟.

هنا و الآن بعد كل ما حدث، أهكذا سأموت؟ وماذا حدث إذن؟.
 
عقلي يتذكر، يتذكر أخي وهو يهنئني بأن الملك أمر بسجني لسنتين فقط بدلاً من الإعدام، كان مؤمناً بأن الملك سيسامحني ، لقد كنت هناك ، سمعت الملك يقولها.
“سنتان للزنديق” ظننته رحيماً، الزنادقة يُشنقون في الميدان، ولم تكن ظنوني وقتها تعلم أن سجن القلعة هو درك من دروك النار ، الدرك الهادئ الذي يزحف ببطء لقلب المرء وعقله، حتى يتركه صريعاً بالجسد والنفس.

أذكر ريجبي ذات مرة وهو يصف الأمر ، ينظر للحائط بعينين يغزوهما الفراغ، ثم يقول بنبرة مرتجفة يشوبها الاندهاش:

– قاتل مجنون يستمتع بصرخات موتك البطيء.

متحدثاً عن السجن ، ريجبي زميلي في الزنزانة منذ أشهر ، أتى بديناً كثيران الحظيرة الملكية، وأضحى نحيفاً كعود قمح جاف ، لا يزال يرفض انتزاع الملعقة الذهبية من فمه، يبدو أن طعام سجن القلعة لا يناسب فرداً من عائلة أوكسفورد العريقة.

ظننت دوماً أن الجوع مطرقة فولاذية تحطم كبرياء من يظنون أن لديهم كبرياء ، ريجبي لم يكن يظن أنه يملك كبرياء، كان مؤمناً بأنه يملكه، يراه ويتكلم معه، فيزداد إيمانه، ويمتنع عن الطعام إلا فيما ندر.

انتفض ريجبي فجأة كعاصفة نحيلة تدور في المكان، وقبل أن أفهم كان يمسك بفأر ويرميه بعنف من باب الزنزانة ، سمعت صوت ارتطامه بالحائط ، فأر سمين، خسارة! كان يمكننا أكله.

– و مَن يحمينا غيرك يا مسيح!.
قالها وهو يرسم الصليب على صدره ، الطاعون يلتهم إنجلترا كشطيرة صباح ، اقتربت منه ثم لكزته من الخلف قائلاً:

– أترى يا ريجبي ؟ لقد حلمت به وهو يخبرني أن الطبيعة تعاقبنا.
التفت لي ثم قال باستغراب يأبى أن يفارق تفاصيل وجهه:
– ألا تسأل نفسك لماذا أصيب الجميع إلا كلانا؟.
– لأن القوى العليا تريد حمايتنا.

أطلق تنهيدة ثم هبط إلى الأرض ليتمدد وينام ، تلك الغرفة الضيقة التي تصرخ برائحة فضلاتنا، حياة الإنسان يمكن أن تكون قذرة فعلاً ، قمت إلى باب الزنزانة ونظرت من الفرجة الصغيرة به، ناديت:

– أووليفر.. أوليفر أين أنت!
يأتيني صوت من مكان بعيد، يسبني بأمي وعدة أشياء سائلاً عما أريد.
– تعال خذ دلو الفضلات حتى نستطيع النوم.
 
أوليفر لديه قلب طيب، قلب لا يمكن أن يوجد لدى مسؤول ضبط في سجون القلعة، وبقوة الرب، أمكن ما لا يمكن، وظهر لنا ذلك الرجل حنطي البشرة، ليصبح كالبلسم على جراحنا النفسية. عيبه هو لسانه الأهوج. سمعت خطواته الساكنة فابتعدت عن الباب، ولم أسمع الخطوات الأخرى التي ترافقه إلا بعد أن اقتربت الأصوات. خطوة خفيفة إما تعود لشخص أنحل من ريجبي، وإما تعود… لطفل؟.
 
فُتح الباب ليدلف منه أوليفر بشاربه الكث الذي ينافي ما نراه منه كسجناء. من خلفه رأيت ظل صغير. فتاة على ما بدا لي. اقتربت فتبدّت لي هيئتها تحت ضوء المشعل الذي يحمله أوليفر. جميلة في البداية، وما إن اقتربَت حتى رأيت احمراراً عشوائياً ينتشر في بقاع مختلفة من جسدها. تركها أوليفر تطالعني بحيرة وكأني كائن غامض، ومشى إلى دلو الفضلات قائلاً:

– هيلين بالمناسبة.
ابتسمتُ و رددت محدقاً بعينيها:
– جميلة هيلين.
بادلتني الابتسام بعد سماعها الإطراء للذي لا بد من أنها لم تعد تسمعه كثيراً بعد تشوه طلتها بالاحمرار المريب.

– اقتربي.
قلتها لها محاولاً تصنع اللطف، فاقتربت. مددت يدي إلى رقبتها أتحسس الغدد المنتفخة هنالك، وتأكدت ظنوني.

– عراف ولي العهد يقول أنه الموت بعد شهر.

قالها أوليفر من خلفي. فانتفضت الفتاة الذكية لإدراكها الفوري بأنه يتحدث عنها. حتى أنا لم أفهم أنه يتحدث عنها. طالعتُ الفتاة وقد خرجت بغضب طفولي عودة إلى الممر، ثم وقفت أسأل أوليفر:

– مَن هي؟.
التفت برأسه يتأكد من أنها رحلت قبل أن يعود إلى ما كان يفعله بتعبئة الفضلات في زكيبة كبيرة:

– ابنة غير شرعية لولي العهد، ماتت أمها معشوقة الأخير، فتكفل بها حتى أصابها ذاك الذي تراه على وجهها ، ولما أخبره عرافه أنها ستموت بعد شهر، وأنها معدية، حال المرض الأسود الذي يتفشى في لندن، اتخذ قراره. لم يكن من محبي المجازفات يوماً إذا سألتني.
– بماذا أمر؟.
– بتركها في الشوارع حتى تموت.

كان قد انتهي مما يفعله فقام واقفاً وعاد يواجهني مكملاً:
– يظن أن الظروف تجبر المرء على اتخاذ قرارات قاسية.
ثم ضحك بوهن قبل أن يغادر ببطء كما أتى. قبل أن يغلق الباب أوقفته:
– وماذا تفعل معك؟.

– شوارع لندن لا تناسب الأطفال مثلها. أعتني بها، وأتركها تقضي ليلها هنا، بما أن الشمطاء رفضت إدخال جندي من جنود الشيطان إلى بيتها. تخاف أن تكون الصغيرة اللطيفة هي الهلاك لنا ولأطفالنا.
ثم اقترب مني ليقول:

– النساء يا رجل. الأعوام جعلتها تنسى أنه بيتنا.. بيتنا.
ثم ضم الوسطى والسبابة معاً ليكمل بصوت مرتفع:
– سوياً هاه!

قالها أغلق الباب ورحل و هو يتذمر بشتائم خفيفة على رأس زوجته.
هيلين.. هذا بالضبط ما أدخلني السجن. كطبيب الحاشية، حاولت إقناع الملك أن ليست كل الأمراض الجلدية تعني الهلاك، هكذا وجدت طريقي إلى السجن كزنديق لا يؤمن بكلام الرب.

“يا بني، إذا مرضت فلا تتهاون، بل صَلِّ إلى الرب فهو يشفيك”
جعلني أردد هذه الكلمات من سفر يشوع لألف مرة قبل أن يأمر بسجني.
 
أما مرض هيلين فليس إلا الحمى القرمزية، مرض يصيب الأطفال في سنها، وما ذنبها أن يكون والدها وشقيقه من حمقى المدينة؟.
تمددت على الأرض بجانب ريجبي عميق النوم، ولا أعلم لماذا بدت الأرضية الصلبة مريحة بعد أن خفّت الرائحة المزعجة.
 
استيقظت في اليوم التالي على صوت طرقات خفيفة على الباب. أفقت لأجد ريجبي يطالع الباب بلا اكتراث. استمرت الطرقات لبعض الوقت، وهو ما جعلني أقدّر من صوتها أنها تعود لعظام صغيرة. قلت بصوت أجش يلازمني بعد النوم:
– مَن؟.

سمعت صوت كرسي خشبي يتم جّره، ثم سكن وظهر بدلاً منه رأس يبتسم بسذاجة وطيبة لا متناهيين. هيلين. كيف لم ألحظ البارحة أن فكها العلوي ينقصه ناب! الأمر الذي أعطى ابتسامتها ما يجعل القلب يرق. قالت بعد وهلة:
– العم أحضر لي هذا ولم أستطع أن أكمله.
ومدت لي يدها بشطيرة كاملة من الجبن، أما ريجبي الذي رآها تطل من الباب فهب واقفا إليها كالمسعور. دفعته بيدي للخلف:
– اهدأ يا ريجبي.
ثم نظرت إليها سائلاً:
– لكنها كاملة.
– لا أحب الجبن.
كذبة أخرى على الأرجح. تساءلت بنفسي عن السبب. هل لأني الوحيد الذي قلت أنها جميلة، صارت تعتبرني صديقها؟ ألهذه الدرجة كانت تفتقد للعطف!.
– سآخذها لكن بشرط.
– وما هو؟.
– أن تأكلي نصفها أمامي.

هزت رأسها بلطف قبل أن تقسم الشطيرة بعشوائية، فانتهت إلى جزئين غير متساويين، أخذت قضمة من الجزء الصغير ثم مدّت يدها بالجزء الأكبر، ابتسمت لها ثم أخذت ما بيدها الممدودة. همّت بالنزول فقلت:
– أنتِ جميلة، أنا أحسدك.

شعرت أن كلماتي لمست جزءاً سعيداً بداخلها، وكان أن رأيتها تبتسم بلطف قبل أن تهبط من على الكرسي وتبتعد بسعادة الأطفال وهي لا تستطيع حتى أن تكتم ضحكتها البريئة. ما أن ابتعدت حتى طالعت ريجبي الذي لم يكن يهتم لأي من هذا سوى ما يلمع بيدي. أعطيته ما أراد فالتهمه بنهم لم أره فيه قبلاً.
 
في الأيام التالية تكررت زياراتها، و زادت وجبات ريجبي، وتضاعفت سعادتها بإطراءاتي لها. قبل أن أدري صارت تحادثني وراء الباب بالساعات أحياناً، ويومياً دائماً. ربما كانت تميمة حظي، لأنه بعد وقت قليل من لقائي بها قرر الملك أنه سيثق برأيي مجدداً كطبيب، ذلك أن الأطباء كلهم تركوه حينما رأوا جنونه وتمسكه بقضاياه الوهمية. العلم يقول أن كل الأمراض لا يمكن أن تكون معدية. ثلة من الجبناء، لن يقولها أحدهم له، لكني قلتها له في سري، برغوث الطاعون نخر دماغك يا سيدي الملك!.
 
كان وقت اقتيادي في الممر الطويل خروجاً من السجن، هو الوقت الذي قررت فيه انتهاج استراتيجية جديدة. هو كذلك الوقت الذي رأيت هيلين فيه تطالعني من بعيد، حزينة لرحيلي، وخلفها يقف أوليفر يلوح لي.
 
– إذن… تقول أنهم هبطوا عليك؟.
– نعم سيدي.
– من السماء؟.

هززتُ رأسي بالإيجاب فتنحنح في مكانه، منذ متى والذكاء يعرفك يا مولاي؟ لماذا تشكك الآن بكلامي؟ فقط قلتُ أني رأيت الملائكة في سجني، أهذا شيء يصعب تصديقه؟ أكملت:
– أوحت لي بالحقيقة، أتعرف ما قالته يا مَلكي؟ قالت أن كل شيء يمكن شفاؤه، بماذا ستسأل، بالدعاء طبعاً!.

بدا أنه يعيرني اهتمام أكبر، أول قدم في الشرك، الأخرى قادمة. قال الملك فجأة:
– إذن زوجتي العزيزة، أصيبت بنوع من الأمراض الخبيثة، هل يمكن شفاؤها؟.
وصلتني الأخبار أنه يحبسها في غرف القصر ولا يحبذ إخراجها لأنه يظن أنها ستنشر مرضها. خادمتها أخبرتني بأعراض مرضها، وهو ليس معدياً إلا في رأس المهرّج الذي يجلس أمامي، وما أدراه هو بالطب!.
– صعب! صعب للغاية يا سيدي، لكني سأحاول، سأدعو و أحاول.
 
 
تلك كانت البداية. عالجت المرأة في وقت قصير. وضعت بطعامها الدواء اللازم، ثم طلبت من الخادمة أن تخبرها بإجراءات علاجية على شكل أوامر من الملك، لعلها سألت نفسها لماذا يريدني زوجي أن أنام على جانبي الأيمن، أو أن أشرب منقوع عشبة غريبة ؟ الجيد أنها لم تسأل عن الطعم الطريف المريب للطعام.
وأمام الملك والحاشية، كنت أضع يدي فوق رأسها وأدعو لشفائها متصنعاً الجدية.
 
بعد أيام، وحينما جلست الملكة على كرسي العرش بجانب زوجها، ظنوا أني ساحر. لوهلة، ظننت أن الأقدار ستعبث بي مجدداً، وأني قد أُحاكم بتهمة الشعوذة. عطاء الملك لي قد أزال كل تلك الظنون، آمن أني عالم دين، وليس أي عالم دين، بل واحد من النوع الخاص جداً، النوع الذي تتواصل معه الملائكة ويستجيب الرب لدعائه، و رغم ذلك، كنتُ تحت الشمس، لم تزل العيون تراقبني، تريد التأكد من صحة ادّعاءاتي.
 
آه يا هيلين! في أبعد أحلامي، وأكثرها جموحاً، لم أكن لأظن أني سأستخدمكِ كأداة وصول لآمالي. أما القدر، فظننت أنه يساعدني على ذلك يا هيلين، لأن أوليفر، الذي كان يعني بكِ، أصيب ببعض الزكام وغاب عن العمل، فظنّ الظانون أن عامل السجن اللطيف سيقضي نحبه بسبب شفقته على فتاة صغيرة معدية.
 
يقولون إن ملاك الموت يمكن أن يتلبس بفتاة صغيرة، كانت تلك هي الرؤية التي أشاعت أن المدينة، لندن، يجب أن تتحلى ببئس شديد، آنذاك ظهرت حملة تعليم القلوب التحلي ببعض القسوة. يقولون، لا تدعوا براءة الأطفال المصابة تنسيكم أنهم الهلاك يمشي على قدمين، المصابة بماذا يا رفيق! المصابة بماذا؟ هذا هو السؤال الذي نسيه الجميع.
 
في البدء طالبتُ بأحقية وصايتها، ولم تمانع الصغيرة قط، ولا أوليفر كذلك. ثم بعدها عزمت علاجها، الجسد يأتي أولاً، ثم الأعسر يُترك للنهاية، وهو علاج نفسيتها المتردية. قد كنت أعرف أن تلك الفتاة تريد ما يملأ الفراغ بداخل قلبها، فلم أرها قد ملكت مما يملكه الأطفال شيئاً، لا أم، ولا أب، ولا اهتمام.
 
هل كان الوقت متأخراً للغاية لكي أعرف أن ثمة كاذب في القصر الملكي؟ ربما نعم، لكن الأقدار تعرف طريقها، لا تتعثر أبداً.
ذلك الكاذب كان ولي العهد، والد هيلين. رجل كريه، يرمي ما يقبض بعد أن يمل منه، يحيك خيوط كذبة ويبيعها لمن هم دونه، ويصدقونها بكل رضا وبراءة، لماذا؟ لأنه شقيق الملك، ولي العهد الشرعي، كيف يمكنك ألا تبتاع ما يقوله!

أوليفر، السجان، الرجل الطيب، ابتاع قول الرجل البغيض، وصدّق كذبته بأن والدة هيلين قد ماتت، حتى هيلين صدّقتها. أما أنا، فصدّقت تلك المرأة الحافية شديدة النحافة على باب بيتي وهي تخبرني أنها تريد أن ترى هيلين. رأيت هيلين في عينيها فأريتها إياها، فبكت، وبكت الصغيرة معها، رأيت بدوري أن البكاء على باب البيت لا يصح فجذبتها من ذراعها للداخل، فدخلت بدون عناء مع هيلين التي التصقت بجذعها.
 
تقول وهي تحدق في نيران المدفأة:
– ابتسامة الحياة.
بدت ساهمة، بادرت بسؤالها:
– ما بها؟
نظرت لي فالتقت الأعين للحظات أمكنني فيها أن أشعر بخوف شديد، خوف على وشك أن يرغم صاحبه على البكاء. قالت:
– هل تعتقد أن هذه ابتسامة أخرى من الحياة؟
 
صمتُّ لوهلة أفكر فيما تقوله. اعتقدَت أن الحياة تبسمت لها حينما أتاها القدر بقصة حبها. فكرتُ بعقلها ورأيتُ بعينيها، قصة حب بين شقيق الملك، جيمس ولي العهد، وبين فقيرة يتيمة تعمل بأحد مخابز لندن. قصة حب مشتعلة. سيحارب من أجلها وستحارب من أجله، وسيخلدهما التاريخ، حتى هبّت رياح التغيير في مدينة القدر، وعصفت بكل تلك الذكريات الجميلة التي لم تحدث قط.

وفيمَ تهم تلك الأمور الآن يا آن، ونحن جميعاً موتى؟ نهاية العالم اقتربت، أستطيع أن أسمع صرخات المعذبين من بعيد أثناء كتابتي لتلك السطور، وستكونين منهم عما قريب، آمل أن تكوني منهم.
 
أسأل نفسي، آنذاك، متى لاحظتُ ذلك الشيء؟ متى أدركت أن جمالها ليس عادياً؟ لا أعلم، لكن ربما حدث الأمر حينما تهتُ في تلك الحدقيتين، ربما حدث حينما سمعتُ الأزرق الصافي يناديني، يتوسل لي أن أركّز معه، وأمتثل لرجائه. كان ذاك هو الوقت الذي أدركت فيه أني لم أر في حياتي لون عين بهذا الصفاء. أحدق فأرى الانعكاس، حلقة من السماء تراقبني بفضول.
 
– هل أنت بخير سيدي؟
أفقت على صوتها، الذي بدا لي أرق من حبيبات الثلج الطافية التي نراها في بداية ديسمبر. وأعيد سؤال نفسي، لماذا لم ألحظ ذلك سوى الآن؟
– أنا بخير.

قلتها ثم أشحت بوجهي بعيداً عنها، فشعرت بها تفعل المثل لتنظر للنيران مجدداً:
– كنت فرحة للغاية بأني وجدت طفلتي هيلين، لدرجة أني نسيت أن أشكرك على عنايتك بها.
نظرتُ للصغيرة المتكومة على الأريكة وقد التحفت بلحاف أفضل صوف في المملكة بأكملها، لم أدّخر شيئاً لراحة تلك المتبسمة النائمة، وكيف لا تبتسم في منامها وقد لاقت أمها أخيراً! نظرت إلى الأخيرة مجدداً، ابنتها تشبهها فعلاً. حاولت إبهاجها قليلاً لما لاحظت بؤسها الشديد:

– أتعلمين؟ قلة فقط ممن قابلتهم يخافون من الأشياء السعيدة التي تحدث في حياتهم.
لم تنطق واستمرت بتحديقها في مصدر الضوء والدفء، ربما كانت تحتاج شيئاً مثل هيلين، شيء تفقده وتتضرع لأجله.
 
– الذي دلني عليك، أخبرني أنك طبيب الملك.
– وصف غير دقيق، أنا طبيب.. فقط طبيب.
نظرت لي:

– يقولون أنك تعالج بالدعاء.
– وما ظنك عن قولهم؟.
– الأحمق فقط مَن يصدق هذا، أنت فقط طبيب جيد جداً.
– يا له من عالمٍ قاس! لماذا امرأة في ذكائك تمر بكل هذا؟.
انتابتها نوبة ضحك فجأة، حاولَت خفض صوتها لكي لا توقظ صغيرتها، حتى توقفت بعد ثوان وقد دمعت عينيها، قالت وهي تمسح دموعها:

– عذراً، الأمر طريف، التفكير بأن الملك وصل لما وصله بهذه العقلية. وأنا…
توقفت وبدأت تشهق بصورة مفاجئة، نوبة بكاء هذه المرة، قالتها بصوت مرتجف:
– وأنا أنام.. أعيش كالحيوانات… و…

لم أدرِ كيف ومتى اقتربت منها لأضم رأسها إليّ مهدئاً إياها، ولا متى دفنَت رأسها في صدري وكأنها تريد أن تخترقه. بكت هناك بحرقة لم أرها في بكاء قط. كنتُ مُحقاً يومها، كانت تحتاج شيئاً، على الأقل لصدر لتبكي عليه.

استوجب عليّ أن أعرف، وجب أن أسأل، لماذا ترتجف أطرافي كلما رأيت تلك المرأة؟ الحق؟ ذلك الهاجس بداخل كان يخبرني دوماً بالإجابة، لكني لم أصدقه قط. يهمس لي أثناء نومي “أنت تحبها” فأستيقظ من نومي وقلبي ينبض بقوة. أحياناً أرد عليه وأسأله “و هل ثلاثة أسابيع تكفي للوقوع في الحب” فيتركني ويمضي ولا يجيب.
 
الطريف أني في كل مرة أريد أن أبتسم فيها، أتذكر وجهها حينما عرضتُ عليها أن تعمل كخادمة للبيت، وعليه تعتني بابنتها هيلين. وقتها كتبتُ رسالة لريجبي القابع في السجن، وعدته فيها أني سأحاول إخراجه بأي ثمن، وسألته” عزيزي ريجبي، هل رأيت الملائكة تبتسم يوماً؟”.
 
كيف كانت؟ أكافح لأتذكر وجوههم يوم وقفت أمامهم هيلين السليمة، هيلين المعافاة وكأن الضّر لم يمسها قط. استمتعتُ بالأمر، العيون الجاحظة، الأعناق المشرئبة، الهمسات فيما بينهم، متأكد من أنهم كانوا يسألون بعضهم البعض، أين ذهب الاحمرار الشديد في جلدها؟ أين ذهبت البقع الغريبة على جلدها، أين ذهب التورم في رقبتها؟
فزتُ بنظرات إعجابهم و دهشتهم، وتلك كانت نهايتي.
 
الذكريات تطرق باب وعيي، تذكرني بأشياء قاربت على نسيانها، تذكرني كيف نهضت من قاع الذل، إلى قمة المجد. تذكرني بالواقع كلما قاربت على النعاس.
سمعت ما يقولونه عني آنذاك. بعضهم قال إني عالِم دين، وظن البعض الآخر أني نبي، لست الأول ولا الثاني، أنا الأخير الذي يوجد ألف شخص قبله، أنا الطبيب لا أكثر ولا أقل.
 
ربما في ذلك الوقت آمنت للقدر، لأنه -وأعترف- كان رحيماً بي، فلم يأتِ لي بحالات مستعصية، ولولا أوامر الملك بألا يدخل أي عامّي إلى القلعة، لوجدت أمامي مريض طاعون ينازع الموت ويطالبني بأن أدعو الشفاء لأجله، والطب الذي أعرفه لا يعرف علاجاً للطاعون إلا إحراق الجسد، والابتعاد عن الفئران، والفئران لا تكثر إلا في بيوت البسطاء. هكذا كانت رغبة الرب، النبلاء ينعمون بقصورهم شبه الخالية من الفئران، والبسطاء يقيمون محرقة كل أحد وخميس في شوارع لندن.
 
لست أدري كيف مرّت الأيام، ولا كيف صرتُ من النبلاء الذي حنقت عليهم لكل لحظة في حياتي قبل خروجي من السجن. لست أدرى متى صارت آن، والدة هيلين، خادمة منزلي، ولا كيف مرق الزمان كمر السحاب لتمضي أربعة أشهر كن كافيات لكي تستعيد آن صحتها المفقودة. اكتست العظام بلحم في بياض وطراوة ونعومة القطن، ونضر الوجه واحمرّ الخدين. تزداد ارتجافاتي كلما نظرت لها أو فكرت بها، تشتعل حواسي كلما رأيت ذلك العنق الأبيض الطويل، وترتعش أصابعي كلما تخيّلت نفسها تقبض على تلك العنق لتفرض سطوتها عليه، وفي ذات الوقت لتستشعر نعومة فريستها العاجزة. أو حتى الشفتين الرماديتين المرسومتين بدقة خالق حيث لا دقة تضاهي دقته.
 
كانت الأصوات تهمس في عقلي:
“نبلاء لندن يقيمون علاقات مع خادماتهم وكأن الليل لا ينتهي”.
أراوغها تلك الأصوات، أسد أذنيّ عنها، أصمت، ولما يفيض بي الكيل أرد عليها:
“آن أكثر قداسة من أن أتخيلها كدمية تفريغ شهوات، نجمة الليل وشمس النهار لا تُلمس ولا يُرجى منها إلا النظرات”
أقولها لنفسي ثم أرحل غاضباً من غرفتي وكأني كنت أناقش ظلي.
 
– السيدة ماري تشكرك.
كانت هذه آن تحدثني في أمسية باردة قبل وقوع الكارثة الكبيرة، وقد كنت أقرأ كتاباً طبياً من مكتبة القصر، رددت عليها بدون أن أبتعد بنظري عن الكتاب.
– لطالما واصل فيليب على العلاج الذي أعطيته له بدون أن يخبرها فستكون كل الأمور بخير.

– تقول أنها تتمنى لو كنتَ موجوداً قبل موت زوجها، لربما أنقذته دعواتك.
همهمتُ بشيء على غرار “للأسف”
قالت بعد لحظة صمت:
– من كان يظن أن ستساعد الجيران مجاناً!.
ابتسمتُ وآثرت الصمت، فعادت تقول بعد لحظات:
– أحترمكَ حقاً.

نظرت لها بدهشة، فاكلَمت وقد كانت تجلس القرفصاء أمام المدفأة وتعطيني ظهرها:
– أنتظر، وأنتظر. أسائل نفسي، متى سيسقط عنه قناعه؟ متى سيلتهمني؟ أعرف أنه يريدني بشدة، فلماذا لا أراه يتحرك؟ أنا مجرد خادمة، صحيح؟
ارتخت مفاصلي وتسارعت دقات قلبي، أسمعها تزيد:
– لماذا لم تتحرك؟ لم تركتني أعود للذة الماضي؟

شعرت باهتزاز صوتها في الجملة الأخيرة، ثم أدركت متأخراً أنها كانت تبكي. ولم أدرِ سبب بكائها إلا في صباح اليوم التالي حينما ارتج باب المنزل بعنف. جدر بي أن أخمّن ذلك، وجب أن أتوقع كل هذا قبل أن يحدث. الخطر كان يزحف في الظلام لكني لم ألحظه قط، ليس إلا حين رأيتُ وجهه، أين كان؟ لا أعلم. لكنه حينما يعود، وحينما يخبره أحدهم بأن ابنته شُفيت، بالتأكيد سيطالب بعودتها له. جيمس الدنيء يحادثني أمام باب المنزل.
– بأمر من الملك، ستسمح بعودة ابنتي لي.

ليس وحده بالطبع، سيكون أجبن من أن يأتي وحده، لن يأمن إلا بنصف دزينة من الحرس الملكي، لهذا يرسلهم أولاً فيدفعونني جانباً ليأتوا بهيلين الباكية في ظرف لحظات قليلة. لم يهتز كيانه ولو لثوان لابنته التي كان من الواضح جداً أنها لا تريد العودة له، رغم صغر سنها تعرف أن تخلى عنها مرة، لن يجد أي صعوبة في أن يتخلى عنها مرة أخرى، أما الحنان فلم تعرفه معه قط، عرفته أولاً مع سجين بسيط، ولما خرج السجين وظنّت أنه سينساها مثل الجميع، عاد مجدداً لأجلها، بل وجلب أمها معها، ولم يفرّقهما كما فعل ذاك الذي يرغمها على الرحيل معه الآن.

– أحضروا آن أيضاً.

حاولت الاعتراض لكن سيفاً على عنقي منعني من التقدم خطوة، ولم أشعر إلا بيد تتشابك بيدي، كانت ناعمة باردة كالثلج، وما كانت إلا يد آن نفسها. سمعت صوتها الناعم:
– سأبقى معه.

خفق قلبي بعنف إثر المفاجأة، فشددت يدي على يدها وفعلت المثل، حتى تقدم جيمس، زوج آن الأسبق و والد هيلين، وقف أمامنا لثوان قبل أن تخرج الكلمات من حلقه كحفيف الأفاعي:
– ثبّتوه.

وامتثالاً لأوامره عضدني اثنان من حرسه، ثم فجأة، وبدون سابق إنذار، هوى بصفعة على خد آن، هول المفاجأة سحب كل شيء مني، حتى عقلي، سمعته يقول:
– ستأتين معي الآن!.
ازداد صوت عويل هيلين بينما خانني جسدي بأكمله، لم أتمكن من تحريك عضلة واحدة. لحظتها، شعرت بيد آن تخلّص نفسها من أصابعي، نظرت لها بطرف عيني، وما رأيته، هزّ كياني كما لم يفعل أي شيء بي قط. أقسم برب السماوات السبعة، كانت تبتسم:
– أمرك يا سيدي.
لأول مرة منذ رأيتها أرى فرحة كتلك على محياها، فرحة لا غريبة لا يمكن وصفها. يهمس أحد الحرس بأذني:

– ألم تدرِ؟ تتلذذ العاهرة بذلك!.
قالها ثم تركني أسقط أرضاً، وطالت السقطة حتى ما ظننت أني سأصل للأرض أبداً. آخر ما رأيته قبل أن يغلقوا الباب هو هيلين التي تحاول التملص من قبضة أحد الحرس، وآن التي خرجت للشوارع حافية كما أتت.
 
– لقد كانت بضاعة مستعملة.
صمت قليلاً ثم أضاف:
– من قِبل الجميع.

قالها ساقي الحانة قبل أن يضحك مفجراً قنبلة ضحك ممَن تجمعوا حولي. ضربتُ المنضدة بالكوب الفارغ علامة على رغبتي بإعادة ملئه. أخذ الساقي الكوب الخشبي من يدي بينما لكزني أحدهم بكوعه:

– أقول، ألم تسأل نفسك من أين عرفها ولي العهد؟.
ضحكات سَكَر جديدة، يقول آخر:
– خنق، ضرب، بصق. اختر طريقة لتؤذيها بها، وستجيب طلبك أيما كان. ممسوسة من قبل الشيطان نفسه.
 
لا أعلم لماذا قادتني نفسي لأسأل عن آن في مكان نشأتها في لندن، لكن يبدو أن لديها سمعة سيئة. يعرفونها بسبب الأزرق في عينيها، الوحيدة بعينين زرقاوين بين أخريات اسمهن آن. الجامحة التي يعرفها الجميع. اسمها المهني، المحيط المستثار. عاهرة من الطراز الأول يقولون. يحادثون بعضهم:

– السبب الوحيد الذي جعل جيمس يتيقن من أنها حامل بابنته، هو أنها عاشت معه لأكثر من السنة قبل أن يبدأ حملها.

– نعم ، لكنك لا تعرف، قد يكون أحد الخدم مثلاً، أعني لن تقول لا، لا؟.
ضحكات وضحكات، العالم يدور بي والهرج يكثر حولي، قبل أن يهبط الظلام ويسحب كل شيء بداخله.
 
استيقظت على هزة من الحوذي، يخبرني بلطف أن الليل قد استوحش، وأن الفرس على وشك النوم. فجأة تذكرت، لقد تركت عربة الخيل التي أوصلتني لهنا خارج الحانة. اعتذرت له ، فقال أنه دفع الحساب ثم ساندني على الوقوف والمشي حتى دخلت العربة لينطلق بنا. كنتُ تحت تأثير السكر لكني لاحظت الأمر. لندن مخيفة ليلاً. مصابيح زيت الشارع لا تضفي إلا لمسات من الرعب. والهواء البارد الذي يلسع الوجه واليدين يزيد من تأثير شعور الحاجة للدفء والأمان. أسمع طرقعات سوط الحوذي وهي تلهب ظهور الخيل، وأشعر بالعربة تهتز بي يمينا ويساراً. في لحظة معينة، مددت رأسي خارجاً وأفرغت ما ببطني، فانزاح ألم انتفاخ بطني وبقي الضباب الذي يحوم حول رأسي ليجعل تفكيري ثقيلاً.
 
وصلنا للمنزل بعد فترة جحيمية قضيتها بالعربة، فترجلت منها بعد أن نقدت الحوذي أجره. ثم رحل أخيراً تاركني والظلام وحدنا. فتحت باب بيتي ظاناً أني سأنام ليلتي آمناً، أما ما لاقيته فظلين لشبحين يختبئان في الظلام. أحدهما قصير والآخر بطولي. كدت أخرج عبر الباب الذي لم أغلقه بعد لكن استوقفني دخول الشبحان لدائرة الضوء. آن وهيلين!
أغلقت الباب مستمعاً لصوت آن الهامس:

– يجب أن نرحل الليلة!.
الشياطين التي ترقص في مؤخرة رأسي أخبرتني أني يجدر بي فعل شيء ما بها. هي، المقدّسة، كانت دنسة! منذ البداية، منذ أول نظرة، كانت متسخة بقاذورات العالم كله! وأنا الذي وضعتها في أطهر مكان في قلبي. صرخات الشياطين عميقاً بداخل وعيي” أقتلها، أقتلها، أقتلها”.
 
لا يهم لو كان ذلك تأثير سكري أم لا ، قتلها سيعطيني شعوراً ربانياً بالراحة. نعم، سأنقض عليها لأخنقها بيديّ هاتين، ستصرخ هيلين وتحاول منعي لكني سأدفعها بعنف ليصطدم رأسها الصغير بالمنضدة وتسقط كجثة هامدة أمام مرأى آن التي سأكون معتلياً إياها. ستحاول الهروب مني لكن قبضتي أقوى منها، سأخنق وأخنق ، و أخنق ، حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة وعيناها مثبتتان على ابنتها هيلين المغشي عليها.
 
حينئذ، أقسم أني سمعت صوتاً، لم أعرف كنهه، لم أعرف إن كانت للجعة يد في الموضوع، لكني سمعته بوضوح القمر في تلك الليلة “لقد تغيّرَت” أكان ملاك؟ ربما. أبسبب صوته اختفت أصوات الشياطين من عقلي؟ على الأغلب. كان كالضوء الذي هبط عليّ فجأة، فأنار كل شيء بداخلي. محقاً كان، كيف ستعود هرباً إليّ إن لم تكن قد تغيّرت،

لأجلها ولأجل ابنتها. تقدمت نحوها ببطء ثم رميت نفسي عليها أحتضنها وأتسند عليها ، آمنت وقتها أن ذلك هو قدرنا سوياً، أن كل الأشياء تحدث لسبب وأن عودتها لا تعني إلا أن هذا هو ما يِفترض به أن يحدث، وهذا ما سيحدث. وما حدث هو أنها عضّت رقبتي بعنف، فتناثرت الدماء من عنقي إلى كل مكان حتى طالت السقف. صرختُ فأفقتُ فجأة لألفي نفسي متسطحاً على الأرض بقرب باب منزلي. تحسست عنقي فوجدته سليماً، حينذاك أدركت، كان حلماً، آن لم تعد قط.

 
ومرت الأيام. ظهرت بوادر الشتاء برياح قوية حملت معها دعوات وتوسلات البسطاء بأن ينحسر الطاعون عن المدينة، لكن القدر كان يخبئ للمدينة لعبة أخرى مختلفة تماماً عن لعبة الطاعون، وأراد الرب لي أن أكون هناك لأشهد على الكارثة.

صادف ذلك وقت خروجي من إحدى الحانات القريبة من مركز الكارثة، كان خروجاً طارئاً إذ أتى أحد رجال العمدة يخبرنا بضرورة الابتعاد عن المكان. لم أفهم ما يحدث، ولم أكن قد وصلت إلى مرحلة متأخرة من السكر بعد، لذا خرجت أتفقد الأمور، وما إن فعلت، حتى رأيت الأمر. ضوء برتقالي ينبعث من على بعد عدة بيوت. مشيت قليلاً ناحية الضوء وأنا أتساءل عن ماهيته. ثم كان أن سمعت الصرخات. ثمة أمر جلل يحدث!
 
منعوني من الدخول بكل حال، نصحوني بالرحيل عن شارع بودينج لاين إن لم أرد أن أموت. وخلفي صاح الحوذي للمرة الخامسة أنه خائف وأننا يجدر بنا العودة. فامتثلت لأوامرهم عازماً على العودة في الصباح. ولم أعد قط.

حريق لندن العظيم، ذاك ما يطلقونه عليه حالياً. استمر ليومين كاملين حتى الآن، كارثة حقيقية، نهاية العالم كما أراها.
أما البطل في أعين الناس؟ ليس إلا جيمس ولي العهد، الوجه الذي يطاردني في أحلامي. يقولون أنه ساعد الآلاف وأنه دوره في إيقاف النيران كان هائلاً. أقول أن دوره في إفساد حياتي كان هائلاً كذلك.
 
في ذلك الوقت أدركت أني لم أفِ بوعدي بعد، وأن ريجبي لا يزال يعاني وحده. لم يأبه الملك لطلبي ولم يجد وقتاً لملاقاتي أصلاً، ذلك وقد كان باله مشغولاً بتبعات الحريق التدميرية من ناحية الأرواح والموارد. وقتها كانوا يحصون ما يقرب من الثلاثين ألفاً من الأرواح الميتة! حمدت الإله أني لم أكن من قاطني وسط مدينة لندن، وأن منزلي على مسافة آمنة من الحريق.
 
كان هو الوقت كذلك شعرت فيه بألم شديد في صدري، مع صداع قوي وارتفاع درجة حرارتي إلى حد مؤلم، أما ما جعل شعر رأسي ينتصب، فكان اللون الأسود الذي تلون به خنصر يدي اليسرى. دق جرس الإنذار في عقلي، أعرف تلك الأعراض جيداً، المرض الذي لا أستطيع علاجه بالدعاء، إنه الموت.
 
لكن حتى في ذلك الوقت، لم تكن لدي رغبة واضحة في كتابة أي شيء، فاستسلمت لواقعي ظاناً أن ما يحدث معي كان عقابي لأني كسرت وعدي مع ريجبي.

حينما فاض بي الوهن ظهيرة اليوم، فاستلقيت نائماً وأنا أدعو أن يكون موتي سريعاً. استيقظت إثر ما يبدو أنه عناق حار، فتحت عينيّ لأجد هيلين الصغيرة تحتضن عنقي المنتفخ قليلاً، ظننت أني أحلم، حتى ظهر أمامي وجه جيمس الذي أبغضه، قال بوجه جامد:
– اعذرنا على الدخول بدون دعوة، لكن يبدو أنك تركت الباب مفتوحاً.
نظرت حولي محاولاً استيعاب ما يحدث، فرأيت آن تجلس في أحد الأركان تطالعني بنصف ابتسامة، بينما جيمس يقف على بعد خطوات مني.
– ابنتي أرادت العودة لك، قالت أنك والدها الحقيقي.

قالها جيمس ثم أعطى ظهره لي مردفاً:
– الحريق جعلني أدرك الكثير من الأشياء.
هتف أشد الأصوات هلعاً بداخل رأسي… ليس حلماً! ما يحدث ليس حلماً!.
دفعت هيلين عني بأقسى ما يمكن لجسدي الضعيف فسقطت أرضاً بعنف، صرخت بصوت واهن:

– لا! لا! اخرجوا! جميعكم!.
ذُهل الجميع مما يحدث، أما هيلين فوقفت وحاولت الاقتراب مني قائلة:
– ما الذي يحدث؟ هل آلمك عناقي؟.
دفعتها عني بذات القسوة السابقة، فسقطت أرضاً مجدداً. قلت بنبرة حاولت أن أجعلها حازمة:
– لا تقتربي ، أبداً!.

وحينئذ رأيت النظرة في عيني هيلين، دهشة ورغبة بالبكاء، حتماً ذات الشعور الذي ساورها حينما تم رميها في الشارع، للمرة الثانية يتم التخلي عنها، في الوقت الذي ظنّت فيه أنها وجدت من يحبها ويهتم بها. شعرتُ بعجزها وهي تقف، لا تدري ما هي بفاعلة.
– لا تبدو لي أنك بخير سيد روبرت.
قالها جيمس متوجساً:

– أنا مريض، مريض الطاعون لا يمكن لمسه! اخرجوا جميعكم!.
ظننت أنهم سينفذون ما أمرت به، لكن كل النظرات تركتني واستقرت على هيلين، تلك التي بقت صامتة في مكانها. لم يبد لهم أني أمازحهم، وإلا فلماذا أبدو شاحباً و واهناً لهذه الدرجة. من فورها وقفت آن لتخرج من المنزل بينما فعل جيمس المثل، حاولت هيلين الاقتراب من والدتها، لعلها الوحيدة التي ستواسيها في حالتها تلك، أما آن فابتعدت عنها:
– لا تقتربي عزيزتي، سنجد حلاً لذلك.

بدت الصغيرة مرتبكة للغاية، لماذا يتخلى الجميع عنها؟ حاولت الاقتراب من جيمس فأخرج سيفه من غمده فوراً، ليضع سنه أمام وجهها مهدداً:
– لا تحاولي الاقتراب مني.
آه يا هيلين، منظرك وأنتِ تنهارين على الأرض، تكومكِ الهادئ على نفسك، سكونك المفجع. لماذا لم تبكِ وقتها يا هيلين؟ لماذا لم نسمع منكِ سوى الصمت؟

رحل جيمس وآن مع الحارس الذي أتى معهم، ليتركوني مع هيلين على هذه الحالة، قبل أن أدرك أنهم ربما سيحرقون المنزل بأكمله. لن يسمحوا لنا أبداً بالخروج، حب هيلين الذي جعلها تعانقني هو ما أفضى بها إلى ابتعاد الجميع عنها، وإلى موتها كذلك. حب الأطفال الطاهر النقي، حب لم تلوثه خبائث البشر، والموت هو ضريبته. استقمت جالساً وقد كنت نائماً على الأريكة:

– هيلين عزيزتي، أنا لم أبعدكِ عني إلا لأني مريض وسأموت قريباً، إذا لمسني أحدهم سيموت معي.
قالت بصوت لم أسمعه منها قبلاً، صوت حزين وهادئ:
– علمتُ أنك مريض، أنا من دعوت الله أن تمرض، كما دعوته أن يخرجك من السجن، وكما دعوته أن يحقق رغبات أمي.

لم يعد جسدي قادراً على إبداء علامات الدهشة، سألتها:
– ولماذا دعوتِ الله أن يجعلني أمرض؟.
– لكي نتمكن من أن نأتي لزيارتك بحجة مرضك.
ضحكت بوهن:

– ألم يكن بإمكانكِ الدعاء أن تزوروني فحسب؟.
نظرت لي ثم جلست هي الأخرى لتقول:
– هذا ما فكرت به بعدها، وبالفعل دعوت الله أن أزورك وأبقى معك.
– وما كان آخر دعاء دعوته؟.
– أن نموت أنا وأنت سوياً.

ابتسمت ثم أشرت لها أن تقترب، ابتسمت بدورها ثم سارعت تجلس بجانبي، ضممتها إليّ ثم سألتها:
– وماذا دعوتِ أيضاً؟.
– ألا يخرج الرجل البغيض الذي كان معك في السجن أبداً. رأيته يأكل الشطائر التي أعطيها لك! وأن يطهّر إلهنا المدينة من الشرور.
 
 
وقتها، فقط وقتها، أفضت إليّ نفسي بأن أكتب ما حدث. ربما تحققْ دعوات هيلين مجرد صدفة، ربما لن نموت سوياً. من يعرف؟ القدر يعرف. صممتُ أن أكتب كل هذا وهي متعلقة بي نائمة على كتفي، لم أرد أن أبعدها عني و لو للحظات.
 
والآن أسأل نفسي مجدداً، هل كنتُ الشيطان الذي كان سبباً لكل شيء؟ ولو كان، أيطيب لي الاستغفار الآن؟ بعد أن انتهى كل ما كان وما سيكون؟
أرجو منك الرحمة يا إلهي، أطلبها منك الآن بقلب مرتجف. اغفر ذنوبي يا رحيم.
 
منذ قليل، مددت رقبتي ونظرت من النافذة، لأجد عدة جنود يحيطون بالمنزل لمنعنا من الخروج، يبدو أن نيتهم بحرقنا أحياء صحيحة، في جهة تحترق لندن، وفي جهة نحترق نحن، ربما حريق لندن عاقبة سابقة لقتل هيلين، أما الأكيد، فهو أن العالم ليس مكاناً لتعيش به تلك الصغيرة، من الأفضل لها أن تتركه وتذهب معي إلى مكان أفضل، المكان الذي ربما حقق دعواتها، المكان الذي سنبقى فيه أنا وهي سوياً للأبد.
 

النهاية …..

ملاحظات الكاتب : وجهات النظر المطروحة في القصة تعود لأبطالها ، و لا يُقصد بها المساس بالدين على الإطلاق ، و لا يُقصد بها إهانة من أي نوع للأديان.

أما أخيراً ، قد لا تكون بعض الحقائق التاريخية المذكورة صحيحة ،هي قصة من وحي الخيال.

تاريخ النشر : 2021-08-21

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
49 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى