أدب الرعب والعام

ضد مجهول

بقلم : بائع النرجس – مصر

ضد مجهول
كانت نار الغيرة تأكله شيئاً فشيئاً ومع كل دقيقة تمر كان يفقد أعصابه

 القاهرة الجديدة ، أمام أحد الأبراج الشاهقة تتوقف هذه السيارة الفاخرة ليفتح بابها فتخرج منها سيدة تبدو من مظهرها الأنيق أنها في الثلاثين من عمرها أو تخطته قليلاً ، وقد ارتدت ثوباً ضيقاً ذا لون أسود ، فظهرت مفاتن قوامها السمهري ، رفعت نظهرها إلى البرج فأظهرت الشمس لون عينيها الزرقاويتان ومدت أصابعها تعدل من شعرها الناري ذا اللون الأحمر وكأنه بركان ملتهب اشتعلت حممه بلا توقف ، وقد صُفف بعناية على طراز الستينات وتحسست قرطها الماسي لتتأكد من وجوده ، ثم تتحسس البروش الخاص بها الذى قبع على جانب من صدر ثوبها الذى كشف جزء كبير من رقبتها و نحرها فبانت بشرتها الخمرية و وجها المنحوت وقد نحت بأيدي الرحمن فأبدع نحت هذا الأنف الدقيق والعيون الواسعة ذات الأهداب الطويلة بين الكحل العربي وهذا الفم ذات اللون الأحمر فأصبح يشبه حبات الرمان الطازج ، ما تراها حتى تتمنى قطفها ، وقد أرتكز كل ذلك على جسد يشبه جسد عارضات الأزياء وكأنها فينوس قد تجسد في هذا الجسد ذات السيقان النحيلة وقد اعتلت حذاء عالي الكعب ذو لون أحمر لامع و……..

رفعت حقيبتها الجلدية ذات الماركة العالمية على كتفها وأخرجت منها نظارة شمسية أنيقة ثم وضعتها على عينيها واتجهت إلى داخل البرج بخطوات واثقة ، و ما هي إلا دقائق وكانت تقف أمام أحد مكاتب المحاماة وقد عُلقت لافته كتب عليها بخط الثلث ( مكتب المحامي كريم فوزي محامى أمام….. ) نظرت إليها ثواني قليلة وتذكرت ما تعرفه عن هذا المحامي ، إنه محامي من النخبة وقد أشتهر عنه التزامه وشخصيته القوية لا يشق له غبار في قاعات القضاء ولم يخسر قضية أبداً و ملتزم لأبعد الحدود فهو لا يعاقر الخمر ولا السجائر ولا النساء وكأنه زاهد فلم يتزوج رغم تخطيه الأربعين من عمره ونجاحه فلا نقطة ضعف له ، لم تطل النظر أكثر من ذلك ودخلت إلى المكتب و تحدثت مع الفتاه التي تجلس في الاستقبال وعن رغبتها في مقابلة الأستاذ (كريم) ولكنها أخبرتها أنه لا يقابل أحد بدون ميعاد سابق ولو كان الأمر ضرورياً فعليها الانتظار لنهاية اليوم ربما يسمح لها أن تقابله أو لا فهذه قوانين المكتب ، أجابتها أنها ستتنظر ، وأخذ الوقت يمر ، جلست صاحبتنا على هذا الكرسي و وضعت ساق على الأخرى ثم أخرجت التليفون الخاص بها وقالت بأنفة سيدات الأعمال :

–    الو ، عزت أرجو أن تلغى كل مواعيد اليوم وأن تعتذر نيابة عني.

فترة صمت وكأنها تستمع لرده ثم تتبع :

–    في الغد إن شاء الله ، مع السلامة.

و ما أن تغلق الخط حتى تضعه في الحقيبة وتخرج علبة سجائرها الذهبية وتشعل إحداها وتنفث دخانها في الهواء وكأنها تستمتع بما تفعل وكل العيون تتابعها ، ويمر الوقت ثقيلاً يأتي أناس ويغادر أخرين وصاحبتنا تجلس بدون تململ وكأنها لا تدرك كم من الوقت يمر ، انتهى اليوم وأمسكت فتاة الاستقبال بالكرت ودخلت ثواني وخرجت إلى صاحبتنا وهى تبتسم لتخبرها أن الأستاذ يسمح لها بمقابلته

خطت برشاقة حتى دخلت مقر الأستاذ (كريم) فوجدت أن الفخامة عنوان لكل شيء موجود هناك وقد ازدانت الجدران بالعديد من الشهادات والتكريمات ، و وجدته هناك رجل تخطى الأربعين وقد زحف الشيب في خجل على شعره واتسمت ملامحة بالجدية المفرطة وعيونه الثاقبة وكأنه نسر عربي لا يُستهان به وقد وضع نظارة طبية أنيقة على أرنبة أنفه وقد أرتدى حلة فاخرة يبدو أنها من ماركة عالمية و زين معصمه بساعة ماسية فخمة ، و ما أن وقفت أمامه حتى أشار لها بالجلوس وكأنه لم يبالي بهذا الجمال فلم تظهر عليه أي ردة فعل ، فجلست بترفع وبحركة نسائية منها نزعت نظارتها الشمسية فبانت عينيها ولكنه لم يبالي بذلك أيضاً وطلب منها إخباره بأمرها فقالت له :

–    ممكن اشعل سيجارة من فضلك قبل الحديث ؟.

سمح لها فأشعلتها وأخذت تنفث دخانها في خيلاء و وضعت ساقاً فوق ساق فكشفت كثيراً عنها ولكنها لم تبالي وهو أيضاً كان مشغول بترتيب أوراق ما فلم يجذبه جمال ساقها ، مرت ثواني قليلة ثم قالت و دخان السيجارة ينتشر حولها :

–    قصتي ببساطة ، أنا أريد الطلاق من زوجي.

– قضية بسيطة يستطيع أي محامي غيري يخلصك منه ، لماذا أنا بالتحديد؟.

–    نجاحك المشهود له في قاعات المحاكم وسأدفع لك أي مبلغ تريده وستكون لك مفاجأة ضخمة لو حكمت المحكمة لصالحي.

كان (كريم) رجل عملي من الدرجة الأولى فما أن ذكرت المال حتى انتبهت نواجذه وقال :

–    وما سبب الطلاق ؟.

رفعت ذراعها لتنظر في ساعتها ثم قالت وهي تنظر بعينيه :

–    الحقيقة أني انتظرتك طويلاً ، أسمح لي أن أعود بالغد لنكمل حورانا فهناك من ينتظرني ولا أستطيع التأخر عليه أكثر من ذلك.

لم يعلق بل أكتفى بالنظر إليها فقالت هي وأطفأت سيجارتها ثم مدت يدها لتصافحه ، وما أن لمس أناملها وكفها الحريري حتى أحس بدغدغة كهربائية تسري بعروقه وقد لاحظت هي ما حدث فابتسمت ابتسامة خفيفة واتجهت لتغادر الغرفة وقد أخذت تمشي بخيلاء وهو يتابع هذا الجسد الرشيق حتى خرجت وتركته وحيداً مع ما بقي من دخان سيجارتها

في اليوم التالي أخذت تنتظر وتنفث سيجارتها كالعادة وهنا أخذت تتذكر أجزاء من حياتها وكأنه شريط سينمائي تراه أمام عينيها ، ها هي ترى نفسها تقف أمام أحد الرجال الضخام بين شفتيه سيجار ضخم مثله ويحدثها وهو يبتسم ، لم تكن بهذه الأناقة ولكنها كانت على نفس القدر من الجمال ، يمر هذا المشهد ويأتي أخر ، ها هي تقف داخل قصر فخم وقد تغير حالها وبدت بأناقة أكثر ونفس الرجل الضخم يقف لجوارها و…….

تجذبها هذه الفتاه من أفكارها تخبرها أن الأستاذ (كريم ) ينتظرها ، و ما هي إلا ثواني وكانت تجلس أمامه ويتجذبان اطراف الحديث ، و ها هي تقول :

–    في الحقيقة أني كنت أعمل بائعة هوى في أحد الملاهي الليلية ولا أخجل من عملي ولا حقيقتي فما هي إلا ذكريات الآن.

تشعل سيجارتها فتنتشر رائحتها في المكان فتتبع وهى تنفث دخانها بخيلاء كعادتها :

–    في يوم من الأيام قابلني شخص مرموق وثري أُعجب بي وأُعجبت به و…….

جلست تحكى وتستعيد ذكرياتها وتصمت حيناً وتحكي حيناً آخر ، وبعد وقت غادرت المكان على ميعاد بالغد وتكررت الزيارات وفى كل يوم تكون بحلة جديدة وكأنها لوحة فنية أنيقة في كل شيء ، وأخذ صاحبنا يفكر فيها وفى طريقة حديثها وأناقتها الزائدة وقد أخذت تسلل إلى وجدانه شيئاً فشيئاً وكأن هناك شيئاً ما وُلد بينهم شيء خفى الهب قلوب الشعراء والأدباء ، و ها هو صاحبنا ينتظرها في ميعادها وينتظر ولكنها لم تأتي ، لا يعرف ما حدث له ، لماذا هذه العصبية ؟ يحاول أن يسيطر على نفسه ، يتصل كل بضع دقائق ألم تأتى بعد ؟ يتضايق يأخذ نفساً عميقاً يخرجه ، يفكر فيها و في سيجارتها التي لا تفارقها ، تمر الدقائق وهو ينتظرها بين الضيق والعصبية يلغى كل مواعيده بحجة أنه مريض ، يحاول أن يجد لها رقماً فيتصل بها ولكن لا فائدة ، يصرخ في مساعدته كيف لا تأخذ منها رقماً لمحمولها إلى الحين وتستغرب من عصبيته الزائدة أول مرة تراه بهذه الحالة الصعبة ، وفجأة تظهر صاحبتنا تقف داخل المكتب وهي تبتسم ابتسامة غير معلومة الملامح وكأنها ابتسامة خبيثة نوعاً ما ، وقد ارتدت ثوباً أحمر بلون الدم وقد أسدلت شعرها خلف ظهرها فبدت بصورة أسطورية بديعة ، وما أن رآها حتى توقف عن ثورته و أحس بالخجل من هذه الثورة الغير مبررة واتجه بسرعة إلى مكتبه فاتجهت هي خلفه بخطوات واثقة ، وجلس هو خلف مكتبه واصطنع أنه مشغول ولكنها ابتسمت أكثر وهي تجلس أمامه في صمت ولم تتحدث حتى مل هو من الانتظار فرفع وجهه وسألها :

–    لماذا لم تشعلي سيجارتك كالعادة ؟.

–    ضحكت بصوت عالي فبانت أسنانها البيضاء وقالت :

–    يبدو أنك حفظت عاداتي.

صمتت قليلاً وقالت وهي تنظر بعينيه :

–    أو تشتاق إليها .

لم تترك له الفرصة ليعلق واتبعت سريعاً :

– لقد جئت إليك لأعتذر لانشغالي بعشاء عمل بالشيراتون.

ومن ثم مدت يدها لتصافحه وغادرت وتركته في لج أفكاره ، وسأل نفسه : لماذا لم يسألها عن حالها وما الذى أخرها ؟ يجلس يفكر بدون ملل حتى يجد نفسه يقف ويركب سيارته ويصل إلى الشيراتون ويبحث بعينيه عن صاحبته بين الضيوف ، كانت نظراته حائرة وأفكاره مختلطة ولا يعرف كيف تعلق بها هكذا ؟ ما الذي فعلته لتحطم أسواره وتجعله أسيراً لها ؟ ثم يجدها هناك تلمحه هي بطرف عينيها ولكنها تجاهلته وابتسمت وكأنها كانت تعرف أنه سيأتي 

جلس بعيداً وأخذ يراقبها وهي تضحك وتصمت وتمنى لو ذهب اليها ليجلس معها ، كانت نار الغيرة تأكله شيئاً فشيئاً ومع كل دقيقة تمر كان يفقد أعصابه أكثر وأكثر ، تنتهى هي من عشائها وتغادر المكان وتركب سيارتها لتغادر فيغادر خلفها ليتبعها بسيارته إلى قصرها ، وها هو ينتظر في الأسفل في حين تلمحه هي من خلف الستائر فتبتسم في جزل وتغلق الستائر

يجلس خلف مكتبه ينتظرها ولكنها لم تأتي هذه المرة أبداً ، ينطلق بدافع لا يعلمه ليراقب قصرها ولكنها لم تظهر أبداً ، يحاول في هذه المرة أن يصل اليها من البواب ولكنه يصرفه بأدب فلا معلومات لديه ، يمل من الانتظار و يغادر في صمت وينتظر بالغدر ، يهمل مكتبه وقضاياه فقد غاب من حياته وجن جنونه وفى النهاية عرف أنه يعشقها بل مجنون بعشقها ، وقرر قرار واحد أن يحصل عليها بأي طريق ، تمر الأيام ولم تظهر ، أعصابه تكاد تفلت منه ، ها هو يقف على شعره من الجنون وبدون مقدمات يرفع رأسه ليجدها على عتبة مكتبه فينتشى ويهب واقفاً وينسى نفسه ليقول لها :

–    أين كنتِ ؟.

لم تبالى بلهفته بل قالت ببرود :

–    زوجي منعني من الخروج و يوم أن سمح لي أتيت لك مسرعة.

صمت قليلاً ثم هتف :

–    لا بد أن نسرع في إجراءات الطلاق.

نكست رأسها وقالت بحزن :

–    يبدو أنه علم بأمرنا ولن يسمح بذلك ابدأً.

تبتلع ريقها ثم تكمل :

–    لقد أتيت اليك اليوم حتى أخبرك بترك القضية إلى الأبد.

هنا رفض قلبه وعقله ما تقول فقال بسرعة :

–    ما السبب ؟.

–    لقد هددني بالقتل وأخاف من نفوذه ، وشكه وغيرته تكاد تدمرني.

علق بسرعة قائلاً

–    اذاً سنتخلص منه.

ابتسمت بجزل ثم تلاشت بسرعة وقالت

–    ماذا تقول ؟ إنه لأمر صعب بل مستحيل !.

جلسا الاثنان يتحدثان ويحاول هو أقناعها أنه سيتخلص منه دون أن يعرف أحد وستُقيد القضية ضد مجهول ، وبعد فترة صارحها بحبه وبادلته نفس الشعور وصارحته بحبها أيضاً وكيف يمنعها عقد الزواج من التمادي في هذا الحب فقد عرفت الاستقرار بعدما كانت كالنعل في أقدام الرجال

تغادر المكان بعدما تركت صاحبنا يفكر كيف يتخلص منه وقد رسمت له طريق الدخول إلى القصر والخروج بدون أن يراه أحد ، وأخبرها أن تترك القصر اليوم وتثبت وجودها مع أصحابها في مكان عام .

في الصباح يستيقظ سكان القصر على الصراخ

: سيد القصر قد قُتل ، وتحضر الشرطة وتخبرهم زوجته أنها لم تره أمس ، و يبدأ التحقيق وتُنشر القضية في الجرائد ، و ها هي تستقر بين يدي الأستاذ (كريم) ليرى ما كتب عن التحقيق و عن القاتل ، وفجأة يهب واقفاً ويحس بألم في صدره فيقع على الأرض في غيبوبة وينتقل على أثرها إلى المشفى لتشخص حالته على أنها جلطة تسببت له بشلل نصفي في الجانب الأيمن منعته من الحديث

لا أحد يزوره بالمشفى حتى تأتي صاحبته اليه وهى تتهادى وكأنها زهرة ياسمين يحملها الريح وتجلس لجواره فينتفض هو وكأنه يحاول أن يقول لها شيئاً ما ولكنها لم تبالي بردة فعله وتمسك بالجريدة التي بجواره وتقرأ بصوت عالي يسمعه آخر أخبار القضية :

–    و يبدو من ملابسات القضية أن دافع القتل مجهول وقد قُيدت القضية ضد مجهول .

ثم أمسكت الجريدة وقالت له بشماته :

–   أنظر ، يبدو أنهم نشروا صورة لزوجة القتيل وهى تتقبل العزاء.

أشاح بوجهه وحاول أن يمزق الجريدة فتركته وأخذت تسير بعيداً عنه وهو يزمجر بغضب ، فانطلقت الممرضة إليه تحاول تهدئته وصاحبتنا تتذكر : إنها فتاة هوى كان القتيل يعمل قواداً للأثرياء وللعرب ، لم تستطيع التخلص من قيوده أبداً وكان يذلها كثيراً ويعذبها ، وكانت تعلم كيف كان هذا المحامي يجلب البراءة لموكليه فقد كان خبيراً في شؤون القضاء الملتوية ، و في النهاية قُيدت القضية ضد مجهول .

نعم ، ضد مجهول.

 

النهاية ……

تاريخ النشر : 2019-01-27

guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى