أدب الرعب والعام

عبث في منتصف الليل

بقلم : مريم – مصر
للتواصل : [email protected]

عبث في منتصف الليل
كان آخر ما رآه تلك الوجوه الشيطانية التي كانت تبتسم من بين النيران

 

تخترق أنفه تلك الرائحة القوية ، كان النعاس يملأ جفونه لوهلة لكنه ما إن ميز رائحة الأسلاك المحترقة حتى قفز من سريره مذعوراً وفتح باب غرفته بقوة ليعرف مصدر الرائحة .

لا شيء غريب هنا و والداه نائمين بعمق ولا روائح لأسلاك تحترق ، الشيء الوحيد الغريب هنا هو وقوفه بين كل هذا وعيناه تنطقان ذعراً .

***

– لا أعلم سر هذه الأحداث الغريبة التي تحدث معي ! ، قالها عمر وهو يحملق في الفراغ .

– شيء غريب حقاً ، في البداية استيقظت لترى جدران غرفتك محترقة و بعدها عاد كل شيء مكانه والآن تلك الأسلاك .

– و كل ذلك يحدث أثناء نومي ، إن لم يكن في نفس الوقت .

كان عمر يعتقد بأن رؤيته للنيران المشتعلة من المطبخ أثناء خروج والديه ومواجهته لها وحيداً هي السبب في كل ما يراه .

لكن شيئاً يجعله يشك بأن هذا هو السبب في ذلك ، ربما لأن هذه الأحداث لم تواجهه إلا في وقت نومه وفي منتصف الليل ، المرة الأولى كانت بصرية والثانية ، هل سيسمع صوت نيران في المرة المقبلة ؟.

ابتسم بوهن طارداً تلك الأفكار من عقله وقرر أنه سينسى كل شيء .

***

لمن لا يعرف فـ ( عمر ) صديق حميم لـ ( يوسف ) منذ أول أسبوع لهما بالجامعة فقد كان عمر ويوسف يدرسان في كلية الإعلام .

وكان يوسف يحمل القليل من الانطوائية ويشعر بأن عالم الجامعة الواسع لا يناسبه لكن لقاؤه بعمر كان بداية صداقة قوية بينهم .

***

كان شارداً بينما يلقي الدكتور على مسامعهم محاضرة عن مواصفات الإعلامي الناجح .

كل الأحداث الماضية كانت تشغل ذهنه بشكل فظيع ، كان يتمنى أن لا يرى أسوأ مما رآه في المرتين السابقتين ، لكن قلبه كان يخبره أن ذلك ليس كل شيء .

قاطع حبل أفكاره صوت الدكتور الصارم :

– عمر ، هل سمعت شيئاً مما يقال هنا ؟.

انتبه عمر إلى أن الحديث موجه إليه فقال بارتباك :

– آسف كنت شارداً قليلاً .

لم تفته تلك النظرات الخبيثة التي يتبادلها الطلاب فيما بينهم بينما التزم يوسف الصمت وكأنه يعرف ما يفكر فيه عمر حقيقة .

هل يعتقد الطلاب الحمقى أنه يفكر في أمور غرامية وأنه قد أضناه التفكير في حبيبته التي تنتظره !.

لم تكن تلك الأشياء بالطبع مما يشغل باله فهناك شيء أبعد بكثير من ذلك قد أشغل باله و أرق منامه في الأسبوع الماضي .

***

عندما عاد من دوامه الذي كان طويلاً وثقيلاً على نفسه قرر أن يريح نفسه من عناء أفكاره وأخذ كتاباً لتمضية وقته .

وعندما حل الليل كان مرهقاً لدرجة أنه لم يشعر بنفسه وهو يضع الكتاب جانباً ويستسلم لنوم عميق.

***

فتح عينيه ببطء.. ببطء .. وذلك الصوت الذي يشبه الفحيح يرن في أذنيه باستمرار ،  لكنه ما إن استوعب المشهد الذي أمامه حتى فتح عينيه بقوة وتراجع في سريره بذعر حقيقي ، فما كان أمامه هو آخر ما تمنى عمر أن يراه ، إنه يرى نيراناً مستعرة تشتعل في منتصف الغرفة من العدم ، لتصل إلى السقف ثم تنطفأ وتعاود الاشتعال ثانية بقوة أكبر في حركة جعلتها تظهر كأنها نيران متراقصة ثم انطفأت فجأة .

لم يمهل عمر عينيه لترى ما رأته ثانية فقام من سريره بفزع من تلاحقه شياطين الجحيم واتجه إلى باب الغرفة تاركاً ساقيه للريح ، لكن الباب كان مغلقاً رغم أنه تركه مفتوحاً ، لم يكن ذلك ما سيقلقه في الوقت الراهن المهم أنه سيفتح الباب ثم وجد الباب موصداً بإحكام ، ليستوعب عقله لأول مرة بأنه لا يعاني من صدمة نفسية ، بل إن كياناً شيطانياً يعبث به ، اشتعلت النيران فجأة لآخر مرة وشعر بأن ذلك فوق تحمله فسقط فاقداً للوعي و كان آخر ما رآه هو تلك الوجوه الشيطانية التي كانت تبتسم له من بين النيران .

***

رغم أنه استيقظ منذ عدة دقائق إلا أنه لم يرغب بأن يفتح عينيه ليشاهد ما شاهده مرة أخرى ، لكن صوت الممرضات و رائحة المستشفى المألوفة أخبرته بأنه يرقد في المستشفى .

شعر بيد حانية تتلمس جبينه بعطف ، ففتح عينيه بضعف ليجد أمه تجلس بجوار سريره الأبيض وما إن رأته حتى دمعت عيناها وقالت له بصوت متألم :

– كيف حالك الآن يا بني ؟.

رد وهو يتعمد النظر في كل الاتجاهات عدا عيني والدته الدامعتين :

– بخير ، كيف وجدتموني وأين ؟.

قالت بصوت ملؤه الشفقة والحزن :

– لقد وجدك والدك فاقداً للوعي بجوار باب غرفتك عندما سمع طرقاتك المتتالية على الباب  ( واصلت حديثها بتردد ) ما الذي حدث لك ؟

تنهد بحزن :

– نفس المرات السابقة .

لم يشأ عمر أن يخبرها بما حدث حقيقة أو أنه وجد باب غرفته مغلقاً وموصداً ، لم يرغب أن يزيد من قلقها وخوفها عليه يكفيها ما هي فيه الآن.

***

رشف آخر قطرة من القهوة سارحاً في أفكاره ، لم يكن سيوافق بالذهاب إلى طبيب نفسي لولا إلحاح والدته وترجيها له بالذهاب للاطمئنان عليه لا غير ، لكنه كان موقناً تماماً أنه سليم من الناحية النفسية .

كان يتذكر ما قاله الطبيب لوالدته :

– إن ابنك مصاب بعقدة من النيران نتيجة رؤيته لتلك النيران التي اشتعلت بينما كان يواجهها وحيداً ، بالطبع هذا نتيجة صدمة نفسية ،  يكفيه أن يخرج للتنزه قليلاً وأن يحاول نسيان تلك الحادثة تماماً ما رآه مجرد هلوسات.

شعر بسخافة ما يقوله الطبيب فهل يعقل أن مرضه النفسي جعله يتوهم أن الباب مغلق ، كان عقله مشوشاً فقرر أن يفعل شيئاً لم يكن ليفعله في أي وقت من الأوقات لكنه يحتاج إليه الآن ، يحتاج إليه بشدة ، قرر أن يعرض مشكلته على أحد المواقع .

***

كان يقرأ ببطء وتأني بعض الردود على مشكلته :

” أعتقد أن ما تعاني منه هو نتاج صدمة نفسية ، تحتاج أن تراجع طبيباً نفسياً لتتخلص من عقدتك “

مصطفى.

” أنا مع الأخ مصطفى ، من رأيي إن معظم الحالات النفسية لا نستشعرها بأنفسنا ونظل نقنع نفسنا بأنه ليس نحن من قد يصاب بمرض نفسي حتى تتفاقم المشكلة ، أتمنى لك الشفاء العاجل أخي عمر “

صفاء.

كانت معظم الردود على نفس وتيرة الطبيب الذي ذهب إليه ، إلا أن أحد الردود كان مختلفاً تماماً عن سابقيه وشعر لوهلة أن ذلك هو التفسير الواقعي للأمر .

” عزيزي عمر ، الجميع هنا يقول لك ويحاول إقناعك بأنك مريض نفسي وتعاني من آثار الصدمة ، ربما كان ذلك صحيحاً في حالات أخرى كثيرة لكن في حالتك وبالنسبة لي لدي رأي مختلف :

أعتقد وعلى حسب ما قرأته في الحالات النفسية مسبقاً أن الصدمة النفسية لا تغلق الباب وتوصده بإحكام عندما تحاول الخروج من بين النيران التي تتوهمها ، أظنك تعرف من المتسبب بذلك وأنا متأكدة بأن الكثيرين يعرفون الحقيقة لكنهم يخشونها دائماً ، لا أحب إخافتك لكن أنا لن أتسبب في جعلك تعيش في وهم مرض نفسي أنت لا تعاني منه حقيقة ، دمت بود : ” مريم

ما تقوله هذه الفتاة هو أقرب للواقع فعلاً ، هكذا قال عمر لنفسه .

لكن ذلك أثار في نفسه رعباً أكبر فلو كان ما تلمح له الفتاة صحيحاً فهو الآن قد يدخل في دوامة مرعبة كان يتمنى دائماً أن لا تخرج من نطاق أفلام وقصص الرعب ، شعر بالإرهاق لكنه قرر أنه لن ينام حتى يأخذ أقراصه المنومة التي أخبره الصيدلي أنه لو أخذها فلن يوقظه شيء لمدة 8 ساعات حتى لو مر إعصار بجواره ، وذلك كان يعني أنه سيستيقظ بشكل طبيعي.

تمــنى في سره أن يــكون كلام الصيدلي صـحيحاً .

***

أحياناً تكون الحقيقة مخيفة أكثر من الخوف نفسه .

***

فتح عينيه بانزعاج ، نظر للساعة التي كان يراها بصعوبة تحت ضوء القمر الباهت ، الساعة كانت تشير للثانية صباحاً .

– لقد كذب عليه الصيدلي ، ها هو يستيقظ ببساطة دون أن يمر ذلك الإعصار اللعين بجواره ، لكنه يخبر نفسه بأنه محظوظ على الأقل لأن غرفته كانت تغرق في سكون تام ، لا نيران ، لا جدران محترقة ، لا رائحة أسلاك مشتعلة ، حاول أن ينهض لكن شيئاً غير مرئي جعله عاجزاً عن النهوض ، شعر بعجزه وكاد يصرخ طلباً للمساعدة لكن صوته لم يخرج منه سوى حشرجة مبهمة ، لم يعد يتحمل ذلك العبث الشيطاني .

جائه ذلك الصوت كالفحيح ، صوت كأنه يخرج من الجحيم نفسه :

– لا تخف ، أنا فقط أريد مساعدتك .

غمغم عمر محاولاً الكلام لكنه ما زال فاقداً القدرة على الحديث .

جاءه ذلك الصوت المخيف مرة أخرى لكن هذه المرة كأنه في عقله :

– أريدك هادئاً فقط ، أسمع لست أنا من يقوم بتلك الألعاب الصبيانية إنهم من يقومون بذلك .

تساءل عمر في عقله وقد كاد يفقد صوابه : من هم ؟.

جاءه الصوت في عقله :

– مجموعة من الجن العابثين و المتمردين ، أنا فقط أحاول حمايتك منهم ، أعدك بأنك لن ترى ما رأيته ثانية ، على الأقل سأحاول .

فجأة شعر عمر بجسده يتحرر وقد زال ثقل كبير عنه .

فتح ثغره كاشفاً عن ابتسامة خافتة .

قد تقول أن الموقف غير مناسب للابتسامات لكن عمر  كان قد وجد طريقه لهاتفه المحمول و فتح صفحة البحث المألوفة ( google ) وبدأ في البحث المحموم .

***

كان ينظر من نافذة السيارة إلى الشوارع التي تتوالى أمام عينيه وعلى شفتيه تستطيع رؤية ابتسامة من أزاح عن كاهله عبئاً ثقيلاً ، كان سعيداً لأنه في طريقه إلى منزل آخر ، بأنه سيبتعد عن ذلك المنزل المرعب بعد أن أقنع والدته بأنه سيُشفى من مرضه لو أنهم انتقلوا إلى منزل آخر حيث لا ذكريات للنيران هناك ، وقد كان موقناً في قرارة نفسه بأن الجن ليس لديهم الكثير من الوقت الفارغ لينتقلوا معه إلى منزل آخر للعبث معه فقط .. وكان متأكداً بأنه لن يستطيع العيش في مكان يعلم أنه يعيش فيه تحت حماية أحدهم .

تنهد بقوة وهمس :

– فليكن الله بعون صاحب الشقة الجديد .

 

تمت

 

إهداء : إلى بطل القصة الذي ألهمني أسمه لمواصلة الكتابة .

تاريخ النشر : 2019-01-03

مريم

مصر
guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى