مذابح و مجازر

عبير : عندما يكون جمالك ذنباً!

بقلم : كرمل – فلسطين

في شهر مارس من عام ٢٠٠٦ أسدلت محكمة المحمودية جنوب بغداد الستار على واحدة من أبشع الجرائم بحق الطفولة في العراق، ربما هي المرة الأولى التي ستقرأ عن هذه الجريمة .. هي أشبه بسيناريو فيلم رعب عن بلدة صغيرة تسكنها عائلة بسيطة تعرضو للقتل بأبشع طريقة لسبب سخيف للغاية

دعونا لا نطيل الكلام ولنبدأ قصتنا

بداية الأحداث

blank
عملية تفتيش امريكية لاحد المنازل

بدأ كل شيء في تاريخ ١٢ مارس سنة ٢٠٠٦ في بلدة اليوسفية.. حوالي الساعة ١٢ ظهراً شاهد الأهالي دخان كثيف يتصاعد من منزل عائلة الجنابي وعندما إتجهو نحوه كانت
النيران تشتعل في منزل العائلة المكونة من ٦ أفراد يليه صوت سيارات الإطفاء القادمة برفقة عدد من الجنود الذين كانوا في المنطقة في ذلك اليوم ، بينما الكل في حالة هلع كان البيت من الداخل هادئ للغاية فلم يسمع أحد أصوات صراخ أو إستغاثات بالإضافة أن أحد الجيران لمح أجسادهم عبر نوافذ المنزل وهم ملقون على الأرض بلا حراك فتوقع الجميع أنهم ماتوا وسيطفئون النيران ويخرجون جثثهم في الحال
ولكن كان بإنتظارهم ما لم يكن في الحسبان..

بعد إخماد الحريق قليلاً دخلوا المنزل و كان المنظر مروعاً للغاية ..

أمامهم جثة الأب قاسم وسط بركة من الدماء وقد فجر رأسه بطلقة نارية، أما الأم فخرية فقد أُطلق عليها النار من الخلف وكانت جثتها في حالة يرثى لها، وطفلتهم الصغيرة هديل مقتولة أيضاً بالرصاص في يدها وردة كانت قد قطفتها من حديقة منزلهم قبل دقائق من مقتلها.. على الجانب الآخر في إحدى غرف المنزل كانت شقيقتها الكبيرة عبير أيضاً مقتولة وهي مكبلة اليدين و القدمين، دماؤها لا تزال تسيل ودخان يتصاعد من رأسها وجسدها محترق مع ثوبها الأبيض.

هنا أدرك الجميع أنهم أمام مذبحة مروعة ولم ينجي من هذه الفاجعة سوى طفلي العائلة الصغيرين محمد وأحمد الذان كانا في المدرسة في ظهر ذلك اليوم، أثارت هذه الجريمة الكثير من الجدل ليس لدمويتها وبشاعتها فقط بل لهوية مرتكبيها ايضا.. والأن دعونا نتعرف على هذه العائلة أولاً.

قصتهم

blank
صورة عبير عندما كانت في السابعة من عمرها .. صورة المنزل بعد الجريمة

تعددت الروايات حولهم لكن الأوسع إنتشاراً هي أن عائلة الجنابي ( قاسم – فخرية – عبير – أحمد ومحمد – وهديل) عاشوا حياة هادئة في بلدة اليوسفية ،كان الأب يعمل حارساً في مخازن البطاطا الحكومية، على الرغم من أنهم كانوا يعانون من الفقر إلا أنهم كانوا في وئام دائم ، لم تكن لديهم مشكلة سوى الحرب آنذاك.

لم يكونوا يستطيعون الخروج للتنقل بين البلدات المجاورة بسهولة، كما كانت العائلة تتعرض أكثر من مرة من المداهمات في منزلهم من الجنود الأمريكيين المتواجدين وقتها ، وكانوا يتعرضون للمساؤلات كثيراً فعانت العائلة من تقييد كبير في حريتها
أرادو وأملو أن تتحسن أوضاعهم المادية  كي ينتقلو لمدينة أكبر كـ بغداد مثلاً.

كان منزلهم يقع على بعد 200 متر تقريبا من نقطة تفتيش أمريكية فيها ٦ جنود وقد وقعت أعين بعض الجنود هناك ذات مرة على إبنتهم البالغة من العمر ١٤ عاماً عبير حيث كانت تتمتع بجمال جذاب، كثيراً عندما كانت تذهب للمدرسة كانو يوقفونها ويفتشونها ثم يتحرشون بها بشكل غير مباشر
وقد كانت عبير مرعوبة للغاية منهم لدرجة أنها بدأت تخاف من الذهاب المدرسة ، ومن قلقها لم تستطع إخبار أمها بما يحدث معها.

بدأ إزعاج وتحرش الجنود في عبير يزداد يوماً بعد يوم لدرجة أن الجيران بدأوا بملاحظة الأمر حيث كانوا يحدقون بها غالباً عندما كانت تقوم بأعمالها اليومية أو عندما تقوم بتنظيم الحديقة فذهب الجيران لمنزل العائلة وبدأوا بتحذير الأب من نظرات الجنود وتصرفاتهم تجاه إبنته ، لكن الأب طمأنهم بأنه يعرف هؤلاء الجنود جيداً كما أن إبنته صغيرة وإن حدث أي أمر فبندقيته جاهزة لأي شيء.

بعد ذلك سكت الجيران وبدأت الأم فخرية بملاحظة تصرفات الجنود الغريبة تجاه إبنتها.. فمثلاً كان الجنود كثيراً ما يشيرون بأصابعهم تجاه عبير بحركة الإعجاب تليها إبتسامات على وجوههم كما كانو ينظرون لها كثيراً وهم يتهامسون على مرأى ومسمع الأم ، فخافت على إبنتها منهم ولم تسكت على ما يجري و قررت أن تمنع عبير من الذهاب للمدرسة نهائياً ثم نقلتها  للعيش في منزل عمها لفترة معينة حتى ينسى الجنود أمرها ويكفوا عن إزعاجها.

بعد أيام من مكوث عبير هناك إنزعج والدها قاسم من إبتعادها وقرر إعادتها وبالفعل أعادها وهناك لم تكن الفتاة تخرج أبداً من المنزل ولم يكن هناك أي إزعاج من الجنود فإرتاحت الأم ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان..

يوم الجريمة

blank
الجنود الضالعين بالجريمة

على الجانب الأخر كان الجنود وعددهم أربعة عند نقطة التفتيش يتسامرون وهم يشربون الكحول ويحيكون مخططهم الشنيع فيما بينهم وهو إغتصاب عبير فذهبوا وبدلوا ملابسهم العسكرية وإرتدوا ملابس طويلة سوداء ثم إقتحموا منزل عائلة الجنابي في تاريخ ١٢ مارس ٢٠٠٦ ، عندما دخلوا المنزل فصلوا عبير وعائلتها إلى غرفتين منفصلتين وتناوب إثنين من الجنود على إغتصابها وضربها وهي تصرخ وتبكي بشدة، عندما سمعتها والدتها ركضت نحوها بسرعة لنجدتها ولكن سرعان ما أطلق أحد الجنود النار عليها لتسقط ميتة فوراً.

هنا جن جنون قاسم لمقتل زوجته فذهب لمهاجمة الجندي فقام بإطلاق النار عليه أيضاً في رأسه ثم في صدره ثم قتل إبنته الصغيرة هديل التي حاولت الركض مبتعدة لزاوية الغرفة ..
وبالنسبة للمسكينة عبير فبعد أن إنطفئت نزواتهم المريضة قتلها نفس الجندي رمياً بالرصاص دون رحمة ولم يكتفو بذلك وحسب بل إن أحدهم كان يداعب مناطقها الحساسة!
ثم أغرقو جسدها بالكيروسين من مصباح زيتي وأضرمو النار بجسدها ثم قامو بفتح صمام قنينة غاز البروبان في المطبخ فإشتعل المنزل فوراً.

على الجانب الآخر عاد الطفلان محمد وأحمد من مدرستهما ليفجعا بالنيران التي تتصاعد من منزلهما، فوقفا هناك يبيكان وهما مرعوبين.. لاحقاً تركا المدرسة وفقدا مستقبلهما.

فظاعة قصتنا لم تنتهي عند هذا الحد فلقد عاد الجنود الأمريكيين لنقطة التفتيش وكأن شيئاً لم يكن وهم فرحين بعظمة ما فعلوه حتى أن أحدهم كان يقفز على سريره فرحاً وهو يقول
“كان شيئاً رائعاً!”

إعترفو فيما بعد بفعلتهم لرئيسهم في الكتيبة ، وهل تعتقدون أعزائي أنه قام بتسليمهم للعدالة؟
على العكس تماماً قام بالتستر على فعلتهم وفيما بعد إنتشر بين الناس خبر أن مرتكبي الجريمة هم مجموعة من المتمردين لا أكثر وللأسف صدق أقارب عائلة الجنابي الخبر وذهبوا للجنود الأمريكيين لطلب مساعدتهم

.. القتلة أنفسهم!.. هناك بالمنزل أثناء التحقيقات كان رئيس الكتيبة والجنود يقومون بإخفاء الأدلة قدر المستطاع.

والأن هل تتسائلون من هم هؤلاء الجنود المجرمين؟

هم كورتيز، وجيسي سبيلمان وجيمس باركر وستيفن غرين بالإضافة لرئيس الوحدة.. جميع هؤلاء تعاونوا واجتهدوا في إغلاق القضية وقاموا بنقل معلومات خاطئة للشرطة آنذاك لتضليلهم، ولربما كانت ستبقى قصتنا دون حل ولكن إرادة الله فوق كل شيء فقد شاء أن يحدث أمر قلب الأمور على رؤوسهم جميعاً.

في يوم من الأيام إقتحم مجهولون نقطة التفتيش التي يعمل بها الجنود الجناة وقتلوا جندي اسمه ديفيد ثم إختطفوا جنديين آخريين وهما توماس لويل وكريستيان ميشاكا، بعد البحث عنهم دون جدوى نشروا صور لهم وهم مقطوعي الرأس، فيما بعد تبين أنه تم تعذيبهما قبل وفاتهما وقد أرسل المجهولون رسالة برروا فعلتهم هذه بأنها إنتقام لعائلة الجنابي.

أثارت هذه الحادثة غضب وإستياء زميلهم الجندي أنتوني يورب وقال لصديقه جاستن وات بأنه سمع مخطط إغتصاب عبير وقتل عائلتها ولكنه لم يقم بفعل أي شيء حتى عندما عاد الجنود من جريمتهم شاهد ملابسهم ملطخة بالدماء وإغتاظ بأن هؤلاء المجرمين أحرار، ذهب جاستن وات لرؤسائه وأبلغهم بالحقيقة كاملة التي سمعها من زميله.

القبض عليهم

blank
المتهم الرئيسي بالجريمة

كان القاتل غرين في أمريكا تحديداً في فيرجينا ليحضر جنازة زميل له وهناك قبضت عليه القوات الفيدرالية وسلمته للسلطات بتهمة إغتصاب عبير وقتلها مع عائلتها، طلب محامي غرين أن لا تنشر فضائح موكله لكن القاضي رفض طلبه وعند توجيه الاتهامات له هل تعتقدون أنه أظهر أي ندم؟.. على العكس دافع عن نفسه وكأنه لم يقم بفعل شيء، وهناك بالمحكمة بدأت الكثير من الحقائق المرعبة تتكشف واحدة تلو الأخرى..

في الماضي وعندما كان غرين بالثانوية أراد العمل بالجيش بشدة وعند قبوله تم إرساله للعراق سنة ٢٠٠٥، وهناك بدأ يتعلم العنف شيئاً فشيئاً وقد قيل له بأنه يجب أن يدافع عن نفسه بقوة و أكثر حادثة أثرت عليه هو أن أحد الأشخاص أطلق النار على زملاؤه بالجيش وهو في نقطة تفتيش، فأصبح عنيف للغاية وبدأ بتعاطي المخدرات والكحول، روى قصة أنه ذات مرة وبينما هو يمشي شاهد قطة وهي تموت ببطء أمامه وكان مستمتع بالمنظر!
شخصه الأطباء بأن مصاب بإضطراب الشخصية المعادي للمجتمع.

وكان يفرح بشدة عندما يتم قتل أي بريء قائلاً أن قتلهم مثل سحق نملة، حتى أنه بعد جريمته بحق عائلة الجنابي إحتفل هو وشركائه بالجريمة بعمل حفل شواء وهو يقول :
“أنا متحمس ومتحفز لأنني قمت بعمل شيء كبير في حياتي!..

هو نفسه من قتل العائلة كلها بالمسدس وهو من قام بسكب الكيروسين على جسد عبير بعد إغتصابها وهو من كان يقفز فرحاً على السرير عندما إنتهى من جريمته

بعد كل هذا تم إحضار شركاؤه بالجريمة واستمرت محاكمتهم ٤ سنوات، ثم أمر أمر القاضي بإحضار ما تبقى من عائلة الجنابي وهم الصغيرين محمد وأحمد بعد أن كبرا قليلاً و أقاربهم لكي يواجهوا غرين، عندما دخلت الجدة بدأت تصرخ  بشدة وذهبت نحو غرين لمهاجمته فأبعدها المسؤولين عنه، أتى بعدها أحمد ومحمد وقالا بأنهم كانوا يرون غرين وهو يقتحم المنزل بأوقات متأخرة من الليل وهو يبحث عن أشياء ليست موجودة أصلاً ويقوم بلمس شقيقتهم عبير .

فجأة ظهر الندم على غرين وإعتذر لأطفال العائلة وقال بأن إعتذاره لن يمحي الماضي وبأن الله سيأخذ حقهم منه.. أثناء إحتجازه في أحد السجون تم نقله لسجن أخر بسبب إعتداء باقي السجناء عليه، فكما نعلم هناك المتهم بالقضايا الجنسية أو القضايا العنيفة يتم إزدرائه بشدة ومهاجمته وهنا بدأ الندم يزداد في نفس غرين.. وأخيراً نطق القاضي بحكم هؤلاء المجرمين وهي كالأتي:

جيمس باركر : ٩٠ سنة سجن مع عدم إمكانية الإفراج المشروط إلا بعد ٢٠ سنة.. حاول باركر أن يُمثل الندم أمام الناس لكن الصحافيين المتواجدين أنذاك قالو بأنه كان يقوم بتدخين سيجارة ولم يبد عليه الندم إطلاقاً ولم يظهر مشاعر لعائلة المغدروين

كورتيز: حكم عليه بالسجن ١٠٠ سنة

جيمس سبيلمان: حكم عليه بالسجن ١١٠ سنة

براين هاورد: ٢٧ شهر.. لم يقم بالإشتراك بالجريمة ولكنه سمع مخطط غرين وزملاؤه ولو أنه أبلغ عنهم لكانوا عائلة الجنابي أحياء بيننا حالياً، لكنه برر فعلته بأنه إعتقد أن الأمر مجرد مزحة ولم يصدق أنهم سيقومون بذلك فعلاً

أنتوني يورب رئيس نقطة التفتيش : تم الحكم عليه بعرقلة التحقيقات وتقديم بيان كاذب لكن إسقطت عنه جميع التهم وتم تسريحه من الجيش بدرجة فشل

وبالنسبة لغرين : حكم عليه بالسجن لمدة ١٥٠ سنة، مع مرور الأيام بدأ الندم الشديد يخنق غرين شيئاً فشيئاً فقام بشنق نفسه ومات منتحراً سنة ٢٠١٤

أما بطل قصتنا جاستن وات الذي لولا الله ثم فضله لما كان أحد عرف حقيقة مقتل العائلة، تم تكريمه ورفع رتبته لجندي من الدرجة الأولى، يقول جاستن بأنه تلقى تهديدات ورسائل كراهية من مجهولين معترضين على كشفه لحقيقة الجريمة.. لكنه لم يهتم بل عمل في متجر إلكترونيات بعيداً عن الجيش.

الأعمال المستوحاة من حكاية عائلة الجنابي

blank

فيلم Redacted

كأي جريمة تحدث يقوم بعض المخرجين بعمل فلم يتناول قصتها كاملة وهذا ما حدث مع المخرج الأمريكي براين دي بالما الذي قام بإخراج فيلم سنة ٢٠٠٧ اسمه Redacted
يتحدث فيه عن مجموعة مختلفة من الجرائم التي حدثت في العراق من ضمنها مقتل عائلة الجنابي .

الفيلم دموي ومأسآوي للغاية كما أنه يحتوي على لقطات حقيقية لجثث عائلة الجنابي ومن ضمنهم عبير المحترقة، هذا الفيلم تسبب في مقتل اثنين من أفراد سلاح الجو الأمريكي في مطار فرانكفورت بألمانيا من قبل مواطن ألماني كان قد شاهد الفيلم على اليوتيوب فقام بقتلهم إنتقاماً لمقتل العائلة.

للأسف هذا الفيلم شاهده عدد قليل جداً من الأمريكيين إذ كانت عائداته ٢٥ ألف دولار فقط مقابل إنتاج الفيلم الكبير والذي كانت كلفته ٥ ملايين دولار، كما حجب اليوتيوب الفيلم في أمريكا وعدد من الدول الأوروبية.

كتاب القلوب السوداء

نُشر هذا الكتاب للكاتب جيم فريدريك في عام ٢٠١٠ يتناول فيها التحقيق في الجريمة

مسرحية ٩ دوائر

أستلهم بيل كاين أحداث المذبحة وعرضها في مسرح بوتليغ في لوس أنجلوس عام ٢٠١١

ختاماً..

عجزت أن أجد كلمات أصف فيها فظاعة القصة، هي مأسآوية بكل ما تحمل الكلمة من معنى ودعوني أذكركم أعزائي أن قصة عبير وعائلتها هي مجرد غيض من فيض من الآلاف قصص عائلات تعرضوا للقتل وفتيات تعرضن للإغتصاب لكن ما لم تتحقق العدالة لهم يوماً وستبقى جريمة عائلة الجنابي جريمة لن يطويها النسيان.

مصادر:

عبير قاسم حمزة
Former US soldier guilty of rape found hanged

كرمل

فلسطين
guest
108 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى