أدب الرعب والعام

عرفتهم

بقلم : النصيري – مصر

ارتبك فهي وأخذ يلملم أوراقه التي تناثرت منه من هول المفاجأة

 اقترب جمال فهمي من باب مكتب مدير المؤسسة التي يعمل بها ، دفع الباب دون أذن من السكرتارية ، صنع على وجهه ابتسامة عريضة تحت شارب كث اتبعها بعبارات النفاق المفضوح بعبارات تثير الغثيان ، اعترضه سيادة المدير العام بسؤال ألجمه عن الاسترسال في الكلام ، قل : ما عندك يا جمال ؟ ..

ضحك جمال ضحكاً مكتوماً يحمل في طياته المكر والخبث جالساً أمامه منحنياً وأخذ يتلو ما جمعه من أسرار العاملين وهذه الأسرار هي مخالفات في سير العمل ، مثال على ذلك موظف استنفذ التصاريح له بالخروج أثناء العمل تعرض لظرف طارئ و يخرج دون إذن أثناء ساعات العمل الرسمية ويعود قبل التوقيع في دفتر الانصراف ، والكثير من المخالفات يقوم جمال فهمي بنقلها للسيد المدير ليضع هؤلاء في القائمة السوداء لديه متحيناً الفرصة لتوقيع الجزاء عليهم وينال جمال فهمي الحظوة والامتياز في التقارير السنوية.

بعد حيرة طويلة في من ينقل ذلك للإدارة وبدأ الجميع يشكون في بعضهم وضاعت الثقة ، وقعت التهمة على جمال فهمي فهو الوحيد الذي يتردد علي مكتب المدير  فأخذ الجميع الحيطة منه ، وجد جمال من يدافع عنه بأنه رجل التقوى الورع ، والحقيقة هو يتمتع بشخصية تحار فيها لا تسمع منه إلا النصح والإرشاد وقسمات الوجه النورانية والابتسامة التي لا تفارق فمه ، فدائماً شاربه ممطوط ، حاول أحدهم أن يفهم شخصية فهمي وما الدافع نحو هذا السلوك فلم يجد ما يجبه على ذلك فهو ذا مظهر لا ينم عن ذلك أذا تكلم فهو مقنع يرشد زملاءه إلى البعد عن النميمة والاغتياب والجميع يسيرون خلفه ، الغريب في الأمر أن كل ما يحدث من مخالفات في مكتبهم يكون المدير أول العارفين به و تعجبوا من ذلك ، إذن هنا ومن بينهم شخص ينقل للمدير ما يحدث ! من يكون هذا الشخص ؟ حامت الشبهات حول الكثير منهم إلا جمال فهمي ، فكيف لهذا الرجل الوقور يكون هو هذا الشخص النمام ، قال أحدهم : ربما يكون فهمي ، وقبل أن ينطق بتوجيه الاتهام له انهالت عليه الاعتراضات طالبين منه الاستغفار على ما أجرم في حق الرجل ..

لم يستمر ذلك طويلاً إذ بالصدفة سمع أحدهم بأذنيه جمال فهمي وهو يقص على المدير من أخبارهم عن إهمالهم في عملهم وخص بالذكر من حولوا مكاتبهم إلى مطعم لتناول الوجبات واحتساء الشاي وأخذ يسهب في الوصف ، لم يصدق الرجل ما سمع وبالتأكيد لم يصدقوه اذا نقل لهم ما سمع ، ولكن في نهاية الأمر ستُعرف الحقيقة والشر سيُهزم في نهاية المطاف.

اصبح فهمي شخصية مستباحة في غيابه نسجت حوله الأقاصيص ويكون هو محورها الوحيد في النذالة و وضاعة الأخلاق ، قص عنه احمد دياب بصوت شبه مسموع وهو يلتفت بناظريه نحو باب المكتب خوفاً أن يأتي فهمي فجأة ، منذ أسبوعين حدث شجار بينه وبين زوجته كاد أن ينتهي بالطلاق والسبب أنه اتهمها بالإنفاق على أمها المريضة دون علمه وأن الراتب لا يكفي مصاريف الشهر ، أضاف لهذه التهمة تهمة أخرى بأنها تذهب إليها دون علمه ، ولأن الزوجة مضطرة إلى ذلك فليس لامها من يعولها إلا هي ، فأقسمت علي أن تبر أمها وليحدث ما يحدث ، استغرب من يستمع لأحمد .. هل هو بخيل ؟ هز أحمد دياب رأسه مؤكدا ذلك ، عاوده السؤال : ولكنه ينفق الكثير على مظهره وملبسه ! أجابه دياب : أنت لا تعرفه مثلي ، فهو يسكن بالقرب مني وأرى أولاده و زوجته بنفس الملابس القديمة منذ عام أو أكثر.

هرش احمد دياب رأسه وكأنه عثر علي شيء ثمين وجحظ عينيه موجهاً كلامه لمن يحاوره : لو قلت لك أنهم محرومون من الطعام أتصدقني ؟ ..

كيف ؟! ..

أجابه وكأنه وصل إلى استنتاج عبقري : بأن ولديه دائماً يشترون الفول والفلافل ولم أرى فهمي يحمل أو يشتري الفاكهة لهم ، ومن المدهش أن فهمي يتردد على أفخر المطاعم لتناول اشهى المأكولات ، رد عليه محاوره  وكأن الرجل – يقصد فهمي – مسرف على نفسه بخيل على أسرته ، مد دياب يده لمصافحة محاوره إعجاباً بما وصل إليه من نتيجة لتحليل شخصية فهمي ، فجأة فُتح باب المكتب فإذا بفهمي ، فتغيرت لغة الحوار وعاد أحمد دياب ومحاوره بانشغالهم بدفاترهم وأعمالهم.

شعر فهمي بشيء لم يألفه مع زملاؤه ، قل الترحاب به والتساؤلات عن أمر الدين والدنيا والسعي إلى فتواه اذا دخل المكتب ، سكت الجميع وتحول مسار الحديث إلى مواضيع أخرى وتغامزت عليه العيون فإذا تكلم لم يستمع إليه أحد أو يعيره أدنى اهتمام ، لم يجد فهمي ما ينقله للمدير الجديد الذي عُيّن بدلاً من صديقه وهو يرغب في التقرب إليه بأخبار ، وكانت المفاجأة التي تحاكي بها كل من يعمل بالمؤسسة ، كالعادة دخل فهمي مكتب المدير دون إذن من السكرتارية مرحباً بالسيد المدير باسمي آيات النفاق أنه وكل العاملين بالمؤسسة في أتم السعادة بقدومه وأنه الأول والأخير في أحقيته لهذا المنصب أما غيره فلا ، ضحك المدير ضحكة مكتومة فتورم وجهه ثم انبسط هذا الوجه عن أنياب ثم صوت مزمجر مرتفع قبل أن يعرض فهمي وشايته عليه ، هل طلبت منك أن تنقل لي ما يحدث في المؤسسة ؟ ثم تابع ذلك بسؤال أخر : من أنت ؟ وفي أي قسم تعمل ؟ ..

ارتبك فهي وأخذ يلملم أوراقه التي تناثرت منه من هول المفاجأة التي لم يتوقعها ، وأمره أن يخرج فوراً من مكتبه ولا يأتي إليه إلا بطلب منه ، وقبل أن يخرج استوقفه آمراً إياه بأن يطلعه على دفاتره وكيف يسير هو في عمله ، انحني فهمي خارجاً وهو لا يدري كيف يواجه زملاءه ، وانتشر الخبر في المؤسسة انتشار النار في الهشيم وعلم القاصي والداني بما حدث وتعالت الهمسات إلى صيحات ، و أصبح مكتبه غرفة تحقيق وتوالت عليه الأسئلة البريئة والخبيثة ماذا حدث ؟ هل المدير طردك من مكتبه ؟ ولماذا ؟ يا سبحان الله كيف حدث ذلك وأنت رجل جاد في عملك ومخلص ! ..

جاءت الضحكات الشامتة من جوانب المكتب بكل استهزاء ، شعر فهمي بأنه أشبه بكلب عقور الجميع يريدون التخلص منه أو على الأقل الابتعاد عنه ، لم يجد مفر من هذا الموقف إلا أن يكتب إذن بالخروج من العمل لظروف الجميع يعلمها ، لم يكن هذا حلاً لمشكلته فالفضيحة أصبحت شائعة على مستوى المؤسسة وجميع أقسامها ، فهو ملاحق بالنظرات والهمس وربما الضحكات الساخرة منه ، لم يذق طعم النوم أو راحة البال وحاول أن يجد حلاً يعيد له هيبته و وقاره المزعوم ، ولكن كيف وهو أصبح حديث الساعة ، هل يقدم طلب نقل من المؤسسة ؟ رأى أن هذا الأمر صعب التحقيق ، فهو يعمل هناك لمدة خمسة عشرة عام فكيف له العمل من جديد في مؤسسة أخرى ؟ وأخذ يصب اللعنات على ذلك المدير الغبي الذي رفض التعاون معه في إدارة المؤسسة ، توقف عن التفكير وهز رأسه تأكيداً على استمراره في المؤسسة ، أما عن الهمز واللمز وسخرية الحاقدين عليه سوف تنتهي بمرور الزمن وربما يرحل هذا المدير الغبي ويأتي مدير أخر ، ومنى نفسه أن يكون هو المدير في يوم من الأيام ، شعر فهمي بالنشوة تسري في أوصاله وهز قبضتيه علامة على الثقة بنفسه رغم كل هذه الصعاب.

اشتدت الخلافات بين فهمي وزوجته وهذا لم يكن وليد اللحظة وإنما هي خلافات قديمة تستيقظ كلما ايقظها فهمي ، لم تسكت الزوجة على إهانات زوجها بأنه ينفق على أمها المريضة ، بصوت عال أسمعت كل الجيران بانها تعيش هي و ولديها في مجاعة ومذلة وأقسمت بأنها و ولديها لم يذوقوا اللحوم أو الأسماك منذ فترة طويلة ، وأمسكت بطرف ثوبها وأقسمت أنها لا تملك إلا هذا الجلباب الذي أبلاه الزمن ، وجهت له سؤالاً : قل من أين آتي بالأموال لأنفقها على أمي وأنت تضع كل شيء تحت يديك ؟ أنت مجنون و لن استمر في هذا المنزل الملعون دقيقة واحدة  بعد هذه اللحظة ، أخذت ولديها إلى بيت أبيها دون رجعة.

عاش فهمي وحيداً بعد رحيل زوجته و ولديه إلا أن يذهب إليها معلناً اعتذاره عما بدر منه في حقهم فترفض العودة وتتمنع فيأتي بوسطاء يحكمون عليه أن يأتي لهم بملابس جديدة ويقوم بتجديد الأثاث و آلا يعود لأهانتها مرة أخرى ، مر ذلك بذهن فهمي فشعر بثقل الأمر فهو لا يحب أن يكون في هذا الموقف الذي تخيله ، ومن أين يأتي بالأموال ليلبي مطالب الوسطاء في الصلح فهو ليس مذنباً ليعلن التوبة ويطلب الغفران من زوجته ، الأمر بالنسبة لرحيل زوجته سهل فلتذهب إلى الجحيم ، أما الشيء الذي يحز في نفسه هو غياب ولديه عنه ، ولكنه هوّن على نفسه مطمئناً إياها بانهما في أمان لا يخشى عليهما من شيء مؤكداً لنفسه إذا طالت مدة غيابها ستشتاق إليه وتعود ، نعم ستعود دون قيد أو شرط بل سترجو مني أن أعفو عنها والصفح عما بدر منها في حقه ، ارتسمت على وجهه علامات الرضا والراحة و أخذ يضع ما جاء به من السوق من لفائف الفاكهة والطعام وغيّر ملابسه الأنيقة مرتدياً ملابس النوم و أنكب على الطعام وكأنه لم يذق الطعام منذ أيام طويلة ، ومدد جسده وتسلل إليه النوم فنام بعمق شديد.

استمر هذا الوضع فقد مر أسبوعين فلم تأتي زوجته ترجوه العفو والسماح كما توقع ، لم يتحرك قلبه نحوهم وظهر تأثير غياب الزوجة على نظافة الشقة التي اهملها فامتلأت بالنفايات من زجاجات فارغة وأطباق متسخة وأكياس ورقية ممزقة ، إلا إنه لم يهمل أناقته ونظافته الشخصية ، راوده شياطين الأنس من رفاق السوء وزينوا له فكرة الزواج والمطالبة بولديه عن طريق المحكمة الشرعية واختمرت الفكرة لديه وبدأ التفكير بجدية في ذلك وانتشر الخبر بالمؤسسة ، وعلى الرغم من أنه شخصية غير محبوبة إلا أن أهل الخير نصحوه بأن يذهب ليأتي بزوجته و ولديه ولا يدخل دوامة تعدد الزوجات ، حاول أهل الخير أن يردوا له زوجته و ولديه واخبروها بما اقدم عليه زوجها ، ولكنها رفضت وبشدة فهي منذ أن تركت المنزل اعتبرته في عداد الأموات واعتبرت بُعد الأولاد عن بخله وقسوته أمراً يُحمد عليه.

ومن سوء حظه دلوه على امرأة مطلقة حديثاً من بيئة تربت على الإجرام فهي الوحيدة الصغيرة لخمس إخوة معظمهم مسجل خطر وهو لا يدري بذلك إلا أن المسكين سعى سعياً لإتمام الزواج بها ، وعرضت عليه الإقامة في شقتها التي حصلت عليها من زوجها الأول ، رحب بذلك واعتبره غنيمة زواجه وأخذ يستعجل مراسم الزواج كأنه مراهق لم يسبق له الزواج ، تم الزفاف وأُغلق عليهما الباب ومرت ليلتهم بسلام ، وأخذ فهمي يلعن كل لحظة قضاها مع الأولى وأنه قريباً يرد ولديه بحكم محكمة ليستكمل سعادته ، لكن فوجئ فهمي بشيء لم يتوقعه إذ وجد في غرفة نومه رجل على سريره بملابسه الداخلية ، تراجع على الفور مستدعياً زوجته سائلاً عنه ، ضحكت الزوجة : كيف لا تعرفه ؟ إنه أخي ، تكرر الأمر كثيراً و أصبح الأخوة الخمس يعيشون معه فضاعت راحته وأنفقت أمواله ، غامت الدنيا في ناظريه وشعر أنه على أعتاب مصائب كبار وبدأ يفكر في الخلاص من هذا المأزق وذكر زوجته الأولى بكل خير ولعن نفسه على ما فعل بها و ولديه ، فوجئ بإعلان من المحكمة الشرعية أو ما يُقال عنها محكمة الأسرة تنذره بتهمة إهمال زوجته الاولى و ولديه وزواجه من امرأة أخرى دون علمها وطردها من بيت الزوجية بالقوة ، لجا لأكابر المقربين من أهله بأن يسعوا بطلاقه من زوجته الثانية وتحرش به إخوة زوجته وكادوا أن يقتلوه ، وخرج من هذا الموقف بمجموعة إصابات ، أعلن لهم أنه مستعد لدفع أي تعويضات ترضيهم على أن يتم الطلاق ، باع جزء من أرضه مسدداً ما أتفق عليه والخروج من هذا بسلام ، نجح فهمي برد ولديه و زوجته ولكن السعادة التي يرجوها بعد أن ندم على ما فعل لم تتم أذ أخبرته زوجته بأن ولديه ظهرت عليهما بوادر مرض نفسي خطير ، أصابه الذعر بأن الأمر وراثياً مؤكداً لها أن والده أصيب بمرض انفصام الشخصية ومات منتحراً ، واخبرها بأن الأطباء حذروه من الزواج أو الأنجاب ، دُهشت الزوجة أمام هذه المعلومات التي تسمعها لأول مرة ، صرخت صرخات متوالية وغابت عن الوعي .

 أبو داود ..

هذا الشخص أعرفه جيداً وكنت أتوسم فيه الخير ، عندما انتقلت من عملي من بلد نائية إلى المكان الذي أقيم فيه عرفته بكلامه المميز بلغة عربية تغطيها علامات الفصاحة ، وكوني لا أجيد فصاحة اللغة ظننت ذلك في هذا الرجل إن صح هذا الوصف فهو في سن الخامسة والعشرين من عمره نحيف الجسم متوسط القامة لا بالطويل ولا بالقصير يعلو فمه شارب تكثر المسافات بين أسنانه فتجعل منه شخصية ثقيلة الظل حتى لو تكلم بفكاهة تشعر بانها مصطنعة والجميع يعرف أنه أكبر إخوته ، أما عن والده فهو رجل شديد الفقر والعوز ولكنه مستور الحال بميراث من الأرض لا يتجاوز ربع فدان ، ومنزل قديم متهالك على مساحة نصف قيراط ، تكلم معي في أول يوم وعرفت أن إخوته في التعليم من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادية وأن الظروف التي يعيشونها قاسية ، سمعت كلامه ولم أعيره اهتماماً ، ذلك أنني كنت عقدت النية على أن أغير مكان عملي وذلك لبعده عن مسكني ، ومرت الأيام ثم مر عام وراءه عام أخر إلا أنني لم أوفّق في موضوع النقل ، ومن الغريب بمرور الزمن وكثرة الحوارات المفروضة علي فرضاً إلا اني لا أعرف اسمه وذلك لعدم اهتمامي بذلك ، عرفت أسمه بمحض الصدفة ، سمعت أحد العمال يناديه بأبو داود ، ضحكت وأنا اسأل : هل أنت متزوج ؟ رد بالنفي معاوداً السؤال : ولماذا تسأل ؟ قلت : أبو داود ، ضحك ضحكة لم أرى مثلها فهو عندما يضحك يجمع كل أجزاء وجهه عند انفه مخرجاً صوت كفحيح الأفاعي ماسكاً كفه بالكف الأخر مع اهتزاز جسمه هزات سريعة ومتقطعة ، حاولت أن أتقرب إليه واقنع نفسي أنه ربما يكون صديق ، إلا أن هذه النفس أبت وكنت أنا على خطأ ونفسي على صواب وذلك بشهادة الكثير من الموظفين بالمؤسسة يروا ما أراه من شخصية أبو داود.

مرت السنوات سريعاً وتزوج أبو داود والحقيقة أنه دعا الجميع لحضور حفل زفافه دعوة عامة ولم أكن أنا من الذين لهم دعوة خاصة فهذا لم يكن مهماً بالنسبة لي فأنا عقدت العزم على عدم الحضور سوى بدعوة عامة أو دعوة خاصة ، وأخذ أبو داود يشرح للزملاء كيف استطاع أن يعثر على خطيبته هذه وأنه محظوظ وأن معه دعاء والديه فهي من عائلة كبيرة وأنها تعمل معلمة وأنها لم يتجاوز عمرها الخامسة والعشرون ، سأل أحدهم بمكر : هل لها أخوات يمكن أن يتقدم لأحداهن ؟ ضحك بصوت غريب تغيرت فيه ملامح وجهه و أخذ يفح فحيحاً كفحيح الثعابين ثم سكت عن ضحكه وعادت قسمات وجهه كما كانت وأخذ نفساً عميقاً وكأنه يستعد للإجابة عن سؤاله : إنها وحيده والديها ، لا أخ ولا أخت لها ، فهي الوريثة الوحيدة لأملاك كثيرة من أراض وعقارات ، وانهالت عليه التهاني من كل جانب وكان الجميع يرغبون في إنهاء الحديث والتفرغ لأحاديث أخرى تخص العمل .

حان موعد الزفاف وعُلّقت الزينات وفضّل أبو داود أن يقيم حفل الزفاف في سرادق يقام أمام المنزل و أعد العشاء للمدعوين فهو لا يحبذ إقامة الأفراح في القاعات المغلقة ويري أن يلتحم الأهل والجيران في مؤدبة العشاء وذلك اتباع لوصايا الرسول (ًص) اطعموا الطعام ، وذهب من الزملاء بسياراتهم وراء موكب الزفاف ومن حضر هذه الليلة أقر بأنها من أجمل الليالي التي حضروها.

تغير أبو داود بعد زواجه من السيء إلى الأسواء فأصبح كأنه الوحيد الذي يملك المواهب العلمية والأدبية وبميراث زوجته رأى أنه يمكن أن يشتري الدنيا و زاد الأمر سوءً بعدما تخرج إخوته وتقلدوا مناصب مهمة ، أصبحت ملامح أبو داود البسيطة إلى ملابس مقبولة وامسك بمسبحة و أكثر من التسابيح أمام الناس وكثرة الصلاة على الرسول وكتابة الأشعار والمديح فيه ، ولكن كل ما فعله أبو داود لم يدخل القلب فهو لا يدع اثنان يتكلمان إلا وإذنه معهما ويلتقط اطراف الحوار ويقحم نفسه فيه حتى عرف الجميع ذلك فحاولوا أن يتجنبوه ، أصابه أمر غريب ، ظن أن الناس ضده وأنهم يكرهون له الخير الذي هبط عليه ، فاذا ضحك عليه أحد ظن أنه يضحك ساخراً منه فيعاتبه على ذلك فيقسم أنه لا يسخر منه وهل هو مدعاة للسخرية ؟ ..

ظن أبو داود أن الدنيا سعت إليه وستعطيه ما يريد هو وليس ما تريد هي ، فبعد أن أنجب المولود الأول ذكراً أقسم بأن الثاني ذكراً ، تكرر الأمر ثلاث مرات فأصبح له ولد وثلاثة بنات ، هل مشكلة أبو داود هي الخروج من طبقة العوز والفقر التي كان يعيش فيها ويرغب في أن يمحوها نهائياً أم أنه يرغب في النظر للناس من أعلى كما نظر إليه أنه فقير ومريض ؟ فبدأ يتكلم كرجل أعمال وأنه قريباً سيشتري سيارة ويشتري سكناً جديداً و أنه سيضع مبلغاً للأولاد في البنك ثم يتراجع عن ذلك ويقرر أنه سيشتري ذهباً فالذهب سعره في ارتفاع ، ولكن كما يقول المثل جعجعة بلا طحين ، هل أبو داود اشتري سيارة ؟ ما زالت دراجته موجودة ولكنه عزف عن ركوبها بعد أن تيسرت حالته المادية ولم يشتري سكناً فهو لا زال يسكن بيت والده القديم ولم يعرف طريق البنك إلا لصرف راتبه عن طريق الفيزا.

توفي والده فحزن أبو داود حزناً شديداً و أراد من كل الناس أن تذهب للمشاركة في مراسم الدفن ولا عذر لأحد ومن تخلف عن ذلك وُضع في القائمة السوداء ومنذ ذلك الحين لم يخلو حديثاً لأبو داود عن والده من الحكمة وإرشاد الأخرين وأن الناس كانت تسعي إليه طلباً لحكمته وخبرته في الحياة ، لم يكتف أبو داود بذلك بل هكذا تحول أبو داود إلى شخصية تريد من الجميع أن يخضعوا له بالسمع والطاعة و الإجلال ولا يسمعوا إلا إليه ، فأصبح أبو داود الشاعر والسياسي و رجل الدين وخبير في علم الهندسة الوراثية وعلم الجينات.

لم يسلم أبو داود من النقد من أقرب المقربين له ، تغيب أبو داود عن العمل لمد ثلاثة أيام متصلة دون إبلاغ المصلحة بذلك وهذا ليس بعادة له ومما اقلقنا امتداد غيابه لليوم الرابع والخامس ، وعرفنا أن السبب ليس لدواعي مرضية وعرفنا بأن أحد أعمامه ارتكب جريمة قتل لأحد جيرانه لخلاف قديم بينهما وقام بتسليم نفسه للشرطة وأصيب أبو داود بالخوف والفزع ليس من أجل عمه فالعلاقة بينه وبين عمه وأولاد عمه ليست على ما يرام هو يهمه أمر إخوته أن يصيبهم مكروه ، على الفور ذهب لأهل القتيل معلناً أمام الناس أنه لا شأن له وإخوته بما فعل عمه فمن أراد أن يثأر فليثأر ممن قتل ، لقي الأمر قبولاً من أهل القتيل واطمئن أبو داود ، ولكن هذا لا يمنعه من الاحتراس من كل شيء ولا يأمن لأحد ، وجاء أبو داود يملأه البشر والاطمئنان بأن العدالة أخذت مجراها فقد حُكم على عمه بثلاث سنوات بحكم أن الحادث تم في شجار في أحد الأسواق وتضاربت أقوال الشهود و رضي أهل القتيل بحكم القضاء وانتهي الأمر.

أدعى أبو داود البطولة ونسب الجريمة إلى عمه وإخوته مفتخراً بخشية الناس لهم والأمر غير ذلك وإنما هو توصيف من خيال أبو داود ، الأن وبعد مرور عشرون عاماً على معرفتي به ما زلت أتعجب من هذه الشخصية التي لا تعرف لها لون محدد وكيف تتعامل معها ! أو لا تعرف كيف يتعامل معك ، فأنت في نهاية الأمر في كل حديث كلامك مردود عليك بحكم أنه خطأ والصواب عند أبو داود ، نظرت إلى المشيب الذي انتشر في رأسه وتراجع صحته وإصراره الغريب على شخصيته ونظرته للأخرين …

للمرة الأخيرة تغيب أبو داود عن العمل و إذا بي أقرأ في لوحة الإعلانات عبارة توفي إلى رحمة الله ، و إذا بي أتخطى هذه المقدمة ناظراً إلى أسم المتوفي فإذا به أبو داود والعزاء في السرادق المقام أمام منزلة ، كيف حدث ذلك فمنذ يومين كان أبو داود يعرض لنا أراءه في الوضع الاقتصادي وأن أسعار الأشياء قد اشتعلت وأن هذا الأمر لم يُطاق ثم يناقض نفسه ، على العموم نحن أفضل من غيرنا ثم يستشهد بأحد الزملاء ، كيف حدث ذلك هل توفي أبو داود في حادث فهو لم يمرض ولم يشكو بمرض مزمن ، سألت أحد الزملاء ؟ نظر إلي بوجه يملأه الحزن وقال لي خبراً لأول مرة أعرفه ، ألم تعلم بأن أبو داود يشكو من مجموعة أمراض ولكنه لم يعلن عنها حتي لا يشعر بالضعف أمام الأخرين ، سألته في استغراب وكأني لا أعرف أبو داود ، كيف عرفت ذلك ؟ انبسطت أساريره وكأنه أتي بشيء لم استطع ، أن أبو داود قد خصه بأسراره فكان يثق في بحكم أني متزوج من إحدى قريباته ، أخذت نفساً عميقاً مترحماً على أبو داود ، إنه كان غريب الأطوار في حياته وعند مماته .

أبو الشيخ ..

ظل كمال الشيخ عندما التحق بالعمل في المؤسسة التي أعمل بها شهراً كامل لا يسمع له حديثاً يعمل في شبه صمت منكباً على أوراقه يراجعها فاذا كانت مستوفاه وضعها داخل الملفات والقى بها فيما يعرف بالصادر مسجلاً إياها فيما يُعرف بالسركي والرجل قد تجاوز سن الأربعين لم يظهر ذلك عليه من قوامه الرياضي وشعرة لم يظهر فيه المشيب وعرفنا سر هذا الشباب إنه رياضي يعمل بالتحكيم كهواية وهو من عشاق كرة القدم.

أقترب أبو الشيخ من مكتبي طالباً بعض البيانات لأحد العملاء ، رحبت بذلك وقدمت له ما طلب وقبل أن يذهب إلى مكتبه سأل عن أسمي وظروفي الاجتماعية ؟ قاطعته عاتباً عليه تأخيره عن التعارف فهو قد قارب على استلامه العمل أكثر من شهر ، أعلن أبو الشيخ مخاوفه أنه سمع عن المشاكل التي تحدث و خاصة في هذا القسم وأنه لا يحب المشاكل ، هدأت من مخاوفه بأن هذه الأمور تحدث في كل مكان ولكن كما يقول المثل الوقاية خير من العلاج ، يعني من تدخل فيما لا يعنيه أكمل أبو الشيخ المثل بصوت مرتفع لم أتوقعه من المقدمات الهادئة التي بدأها معي وتكملة المثل نال ما لا يرضيه ..

حان موعد الانصراف ونحن مازلنا نتناول اطراف الحديث وتزاحم الموظفون وكأنهم امضوا فترة العقوبة ، لم يكن في ذهني إلا كلمات أبو الشيخ فلم تكن الدقائق التي افصح فيها عن نفسه كافية لأتعرف عليه والحقيقة شعرت بالارتياح له وتمنيت أن يكن صديقاً لي وذلك لتواضعه ودماثة أخلاقه وخفة ظله ، جمعني معه العمل مرة أخرى وضع أمامي لفافة بها إفطاره عارضاً علي مشاركتي له للإفطار ، شكرته و قلت له : أني تناولت الإفطار مع أولادي ، وشعرت بصدمة عندما علمت أنه لم يتزوج إلى الأن وأنه يعيش مع أمه في عمارة تتكون من ست طوابق من اثنتا عشرة شقة هجرها إخوته بعد أن تزوجوا ، وكان سؤالي البديهي ولماذا لم يقيموا في هذا المنزل الكبير ؟ أجاب أعمالهم في محافظات مختلفة ومنهم من أُعير إلى دول عربية ، وقبل أن أوجه السؤال الثاني إذ بمدير المؤسسة يمر مقترباً من أبو الشيخ و  إذا به يعرض مشاكل الفرع ويرجو المدير أن يذللها وتحول الموقف فكاهة مما اضحك المدير ويبدو والله أعلم انه نال رضاه.

عزوف أبو الشيخ عن الزواج لهذا السن المتأخر أنه يمتلك كل مقومات الزواج ، يمكن أن يكون لهذا السبب كما قصه هو بنفسه ، عندما أدى الخدمة العسكرية وذهب هو ووالده لخطبة إحدى زميلاته وتمت الخطبة وسعد بها وأخذ يعجل بموعد الزفاف إلا أنه كان غير متفائل وخائف أن يحدث أمراً يعرقل أو يلغي هذا الزواج وأزعجته رؤية كان يراها باستمرار ، يرى خطيبته ترتدي السواد باكية بكاءً يصحبه صراخاً شديداً وترفض لقاءه وتهرب منه ، فإذا قص عليها هذه الرؤية شعرت بالحزن وطلبت منه تعجيل الزفاف ، إلا أن القدر كان سريعاً ففي اليوم الذي سيتم فيه تحديد موعد الزواج تلقي خبر وفاة خطيبته ، فكانت الحادثة التي غيرت أبو الشيخ فأصبح مكتئباً ولم يفكر بالزواج من غيرها رغم محاولات الأهل والأصدقاء له إلا أنه رفض رفضاً شديداً ، وعندما تهامس البعض بأن رفضه للزواج لعجز لديه يمنعه من ذلك فأعلن لهم أنه لا يعاني من أي مرض عضوي ولكنه مصدوم فيمن أحبها ولم يستطيع نسيانها ، وعلى الرغم من ذلك تهكم عليه البعض وأخذوا يعيرونه ولكنه كان يأخذ الموضوع بفكاهة و يسايرهم دون غضب ، وأكد لهم بأن زواجه أصبح مستحيلاً.

اقترب السن القانوني لإحالتي على المعاش وأخذ المقربون مني يعدون للاحتفاء بهذه المناسبة وقُدمت لي هدية رمزية وكان أبو الشيخ نجم هذه الاحتفالية وأخذت أتردد على أبو الشيخ لأتسامر معه شطراً من كل مساء ، اخبرني بأنه يعد أوراقه للسفر إلى العربية السعودية رفيقاً لأخته التي تعمل أستاذة في إحدى الجامعات هناك ، أنتهى الحال بي فقد زوجت أولادي وبناتي وامتلاء البيت بالأحفاد وطال بي العمر فأصبحت بلا رأي في أي موضوع ، يُقدم لي الطعام والشراب والدواء ومنذ ذلك الحين لم أرى أبو الشيخ ولم أسمع عنه خبراً.

 النهاية …..

تاريخ النشر : 2019-08-13

guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى