أدب الرعب والعام

عشق من نوع آخر (1)

بقلم : شيطانة منتصف الليل – كوكب الظلام

عشق من نوع آخر (1)
قررنا اكتشاف سر المنزل الذي كان يلفه الكثير من الغموض

الأحد /٢٤من شهر فبراير /١٩٨٢

اليوم تمت دعوتي لقرية بعيدة و منعزلة كأن سكانها لم يحصلوا على أي من مظاهر التطور التي اجتاحت المدن آنذاك ، أخذنا نمشي في وسط الثلوج التي غطت الأرض ، كان الجو ضبابياً و منظر القرية كأنها هجرت منذ ستين عاماً ، وقف سكانها يحدقون بِنَا باستغراب و هم يتهامسون فيما بينهم ، أكملنا طريقنا حتى وصلنا إلى مختار القرية “صالح الأعور ” لُقِّب هكذا بسبب عينه العوراء التي غطت بلون أبيض ضبابي تبعث الكآبه في النفس ، استقبلنا بحفاوة لنجلس عنده .

– أهلاً بك دكتور سايغن ، يسرني مجيؤك و تلبيتك لدعوتي .
– لي الشرف ، حسب المعلومات التي وصلت لي أن هناك منزلاً قابعاً خلف القرية بستة عشرة متراً و هو مسكون كما يقولون عنه .
– أجل يا سايغن بيك ، إنه مسكون ، تحدث فيه أمور مريبة جداً و أنا نفسي لم أجد لها تفسير .. تنهد و أخذ نفساً عميقاً ليبدأ كلامه :

– كل من يمر من أمام بوابة هذا المنزل تنفتح تلك البوابة و كل شخص أمامها يذهب إليها بلا وعي لكنه لا يعود مجدداً ، لم يخرج أحد من هناك منذ أن رأينا ذلك المنزل لأول مرة حتى الآن .. كثير من الشيوخ ذهبوا إليه لكنهم يختفون بلا عودة ، أقواهم فقط يعود مجنوناً إلينا .
في النهار يبدو عادياً جداً و لكن الأمور الغريبة تبدأ منذ أذان المغرب و حتى أذان الفجر ، فدائماً ما نرى أشخاصاً غرباء يجولون بحديقة المنزل و ينظرون إلينا من خلف السور المحيط بها و يختفون بعدها ، كثير من أولادنا و بناتنا اختفوا في غياهب حديقته الواسعة ، فعندما يدخلون لا نستطيع الذهاب خلفهم و لا إرجاعهم و ننتظرهم على أمل ان يعودوا يوما ما .

صمتُّ مستغرباً من كلامه فأغلب سكان القرى يبالغون بكلامهم في وصف هكذا أمور ماورائية ثم قلت له :
– قدنا إلى البيت إذاً لنراه .

قادنا صالح الأعور حتى وصلنا إليه ، كانت بوابته مغطاة بالأشجار و كانت مقفولة بالسلاسل ، قام بعض من الرجال بكسرها لندخل أنا و فريق البحث بينما اكتفى المختار بانتظارنا في الخارج ، كانت حديقة البيت جداً واسعة ، مشينا لمسافة حتى وصلنا إلى فضاء واسع مليء بالحشائش و الأشجار العالية ، بقينا ننظر بدهشة فعلى ما يبدو أنه منزل أحد الأثرياء و لكن تركه لتسكنه الأشباح ، ظللنا نسير حتى رأينا ذلك المنزل الكبير الذي انتصب بشموخ فوق مساحة واسعة من الأرض التي بهت لون خضارها ليصبح لوناً كئيباً مع ذلك المنزل الذي يبعث الضيق بالنفس ، ظللنا نسير بممراته الواسعة ، كان راقياً جداً و يحتوي على عدد كبير من اللوحات كانت كلها غريبة الشكل و تبعث الخوف و القشعريرة ..

– اللعنة ما هذا البيت الكئيب ! لم يخطئ ذلك العجوز بوصفه للمنزل أبداً .
– هل تشعر بالخوف يا مراد ؟ أجبته مبتسماً أنتظر رده لكنه كالعادة نظر محدقاً بتكبر و كأنه يخفي خوفه .

تمشينا في الأرجاء و كنا نحاول البحث عن أي نشاط شبحي أو أي شيء مريب ، كان الوقت صباحاً ، فتحت الستائر لتدخل أشعة الشمس إلينا ، فبالرغم من انتصاف النهار إلا أن البيت مظلم بشكل كريه ! خرجنا منه و قررنا أخذ بيت قريب من هذا المنزل حتى يحل الليل لنرى إن كان ما يقال عنه صحيح أم مجرد تلفيق .

انتهى اليوم سريعاً لأختتم ما أدونه في دفتري الصغير ، فبحكم أني صائد أشباح و دارس في جامعة مرموقة للخوض بهذا العالم ، أمضيت خمسة و ثلاثون عاماً من بعد دراستي الجامعية في دراسة الظواهر العجيبة و كل ما يتعلق بالجن و الشياطين ، لكن يا ترى هل كل ما درسته يمكنني من معرفة كل الذي موجود في ذلك العالم المستتر عنا ؟ تنهدت و أغلقت دفتري الصغير و نظرت لفريق العمل لأراهم قد غطوا بنوم عميق ، أطفأت الشموع و نمت بدوري .

*****

الاثنين /٢٥ من شهر فبراير

كان الجو بارداً ، استيقظنا جميعنا و بعد الفطور حملنا المعدات و ذهبنا في أرجاء القرية لنأخذ معلومات أكثر عن البيت ، وصلت لمنزل رجل يدعى الشيخ جعفر أوصاني السكان بالذهاب إليه لأنه دخل للبيت و اختفى فيه سنة كاملة حتى وجدوه ملقى في أحد الأيام أمام بوابته ! ذهبت إليه فوراً و دخلت عليه ، قالوا أنه كان فاقداً لبصره بعد ما وجدوه مرمياً هناك ، و أيضاً أنه أصبح مجنوناً فتم إبقاؤه في منزله .

كان في السابق شيخاً يرقي الناس من الحسد و العين ، و الآن مجرد مجنون منبوذ .. جلست عنده و استقبلني ، كنت أسجل كل كلمة يقولها عسى أن تفيدني بشيء .

– إذاً يا شيخ جعفر ، قال لي أغلب السكان أن مطلبي عندك .
– قل ما تريد معرفته يا بني .
– بشأن ذلك المنزل المسكون يقال أنك حبست فيه لسنة كاملة ، أريد معرفة ما عايشته و ما رأيته هناك .
– هناك هناك حدث كل شيء …ابنتي ..ابنتي و فلذة كبدي آه أخذوها مني بلمح البصر ، لم أستطع ، لم أكن بقد ذلك الحمل .
– قل لي ماذا حدث هناك من فضلك .. ما بها ابنتك ؟
– سوف يخرجون كلهم يوماً ما و سأراها مرة أخرى .

صمت قليلاً لأحاول استيعابه فعلى ما يبدو أن الرجل فقد عقله كله .
– طيب سأعود إليك في وقت آخر إذاً ، ستكون بخير و أفضل للتكلم .
خرجت تاركاً خلفي ذلك المجنون ينتحب فأوقفني صوت أنثوي ناعم .
– من فضلك .. عفواً ؟
التفت خلفي لأجد صبية كان يبدو عليها أنها بلغت تواً ، كانت بيضاء كالقطن و قد أسدلت شعرها الأسود الطويل الذي وصل لأسفل ظهرها على كتفيها فغطى وجهها .. ظللت ناظراً إليها أملاً أن ترفع رأسها لكنها أبقت رأسها للأسفل حياءً مني .
– تفضلي !
– لقد نسيت هذا الدفتر في مكانك ، أعتذر أيضاً على سوء ضيافة أبي لك .
– لا بأس .

أخذته منها و هي لازال وجهها ناحية الأسفل .. قلت في نفسي يا لها من فتاة أخلاقها عالية ، لهذه الدرجة لم تجرؤ على النظر بعيني حتى !! أكملت قائلةً بصوت ناعم :

– أعتذر مرةً أخرى لك ، في المرة القادمة سأضيفك أنا و سنستقبلك استقبالاً أفضل .
همت بالرحيل لأستوقفها : ما اسمك أنتِ ؟
– التفتت و قد نزل شعرها و غطى وجهها : اسمي مريم .. انا ابنة الشيخ جعفر .
– ابنته !! لكنه ظل ينتحب قبل قليل و كأنه فقد ابنته هل قصد أختك ؟
لم تجبني بل اكتفت بالرحيل و أغلقت الباب خلفها ، أخذت دفتري و رجعت للمنزل الذي سكنا فيه ، كان بالي مشغولاً طوال الوقت بها و بكلام والدها .

-ما بك يا سايغن ؟
– ها ؟ لا شيء كنت أفكر فحسب .. ماذا حدث معك سامي هل جمعت معلومات مفيدة ؟
– لا لا شيء غير أنه تنفتح البوابة ليلاً و يسمعون أصوات تنادي لينجذب إليها الرجال أو الأطفال و يدخلون بلا رجعة ، أي الفلم الكلاسيكي ذاته .
– والذين عادوا أمثال الشيخ جعفر ؟
– إنهم مفقودين ، يقال أن نصفهم انتحر و الآخر رحلوا بعيداً عن هنا .. أنت ماذا حصل معك ؟ هل وجدت ذلك الشيخ المجنون ؟
– أجل .. و لكن لم أحصل على شيء ذو فائدة ، اكتفى بالبكاء و النحيب على ابنته بالرغم أنها موجودة !
– ماذا ؟ ربما لديه ابنتان .
– لكن اغلب السكان يقولون أن لديه واحدة فقط و قد التقيت بها اسمها مريم ، صبية رائعة الجمال لكنها لم تخبرني بشيء عدا اسمها و لم تسمح لي برؤية وجهها .

– إنه مجنون و ابنته كذلك .. نظرت إليه متنهداً فيبدو أن علينا المبيت بذلك المنزل المسكون .. حل الليل سريعاً لنلملم أغراضنا و كل المعدات اللازمة لرصد أي شيء ما ورائي ، رحنا معتمدين على إنارة الفانوس و وصلنا ، لكن لم تفتح البوابة بالرغم من انتصاف الليل ! نظر لي صالح الأعور و قد ابتلع ريقه و قال :

– ان هذه الحالة تحدث بأوقات خاصة أحياناً كثيرة يكون المنزل ساكناً و لكن في بعض الاحيان تبدأ الأمور الغريبة بالحدوث ..

دخلنا حتى وصلنا للبيت ، اجتمعنا بغرفتين متجاورتين و اعتمدنا على ضوء الشموع التي تراقصت ظلالها على الحيطان لتخلق جواً من الرعب .
فتحت دفتر الملاحظات و أمسكت بقلمي و شمعتي و رحت أتجول لوحدي ، فبطبعي لم أخف يوماً من المنازل المسكونة أو حتى من الماورائيات ، ظللت أحدق باللوحات و قد كانت مرعبة بحق ، فأغلبها تحمل الثقافات اليونانية التي تتكلم عن أذية الجن للبشر .. كلها لوحات تبعث الريبة في النفس .

تمشيت في الغرف باحثاً عن شيء مريب فلم أحصل على مرادي ، عدت أدراجي و جلست بالغرفة ، عند الثانية فجراً كنت قد غفوت فاستيقظت على صوت عزف بيانو ظننت أنني أتوهم و لكن كان الصوت عالياً بما يكفي لسماعه ، التفت حولي فلم أجد أحداً من رفاقي ! عجباً أين ذهبوا ؟ أخذت آله التصوير معي و رحت أمشي بخفة فدخلت غرفة حيث كان صادراً منها صوت العزف .. كان البيانو أمامي و لكن كانت الإنارة خافتة ، تمشيت بخطوات ثقيلة و بطيئة و كان صوت العزف مايزال مستمراً ، بخطوة واحدة حملت الكاميرا و صورت فانطفات الشموع كلها مرة واحدةً ، و لمحت شخصاً يخرج من الباب الآخر ، فبالرغم من الظلام الدامس إلا أن الستار المفتوح و ضوء القمر المتسلل من النافذة جعلني ألمح كأن الذي كان يعزف هو امرأة ، خرجت خلفها ببطء ، ظللت أجول الغرف إلى أن وصلت لغرفة فيها شرفة تمشيت بحذر لأجد امرأة تقف هناك ، كانت تلبس فستاناً يعود الى زمن الحكم العثماني القديم .. ظللت خلفها و حاولت أن ألتقط لها صورة حتى تبقى إثباتاً عندي .

فجأة وجدتها تقف أمامي ، استشعرت أنفاسها الساخنة على وجهي ، بقيت أحدق بمحجرين فارغين و ظللت أنظر لوجهها و بشرتها الزرقاء الباهتة ، فتحت فمها و قالت لي بصوت عميق و خشن كأنه قادم من بئر ” سترون الجحيم بعينه “

مرت علي تلك الثواني ببطء شديد للغاية ، شعرت وقتها أنني تجمدت و لا أستطيع الحراك .. بعدها اختفت فجأة كما ظهرت .. ظللت واقفاً و مصدوماً للحظات بعدها حتى عدت إلى وعيي تدريجياً و لم أشعر بنفسي إلا و أنا أركض من غرفة إلى أخرى ، أول مرة ينتابني الرعب لهذه الدرجة ، كنت أشعر بقلبي يريد الخروج من مكانه ، ظللت أركض و قد شعرت أنني في متاهة ، فكنت أدخل من غرفة و أخرج من أخرى ! ما هذا بحق الله ؟! ألهذه الدرجة هذا المنزل كبير ؟

وقفت قليلاً لألتقط أنفاسي ، هدأت نفسي و عدت أفكر بصوتٍ عالٍ و أنا أكلم نفسي .. يجب علي فقط إيجاد الطريق الذي جئت منه .. ظللت أمشي ببطء و قد وجدت غرفةً أخرى ، دخلت إليها و رحت أبحث عن مصدرٍ للإضاءة .

أحسست بحركة مريبة و كان معي عدة أشخاص ، قررت البحث عن الشموع و وجدت واحدةً و أشعلتها ، بقيت التفت ببطء أبحث حولي عن أي حركة .. كنت أشعر بأن هناك أشخاص أمامي ، ذهبت و خرجت من الباب لأجد نفسي في مكان آخر غير الذي كنت فيه ! ماذا .. بقيت متعجباً ! كيف لقد خرجت من الباب ذاته كيف وصلت لهنا إذاً !

عندها تناهى إلى سمعي صوت ضحكات خافتة ، وقتها وصل الدم لرأسي و غضبت جداً ، فهذه الشياطين الحقيرة تلعب معي لعبة سخيفة ، قررت المشي متجاهلاً كل شيء أسمعه أو أشعر به ، شعرت وقتها أنني فعلاً تهت و فوق ذلك أضعت دفتر الملاحظات و الكاميرا ، اللعنة كل شيء يسير بالعكس معي ، جلست لأرتاح على أحد المقاعد الفخمة و كنت على أتم الاستعداد فقد يحصل أي شيء .

و فجأة تناهى إلى سمعي صوت أنثوي ناعم ، إنه مألوف لي إنه صوت مريم ! عجباً هل أتوهم ؟ ظللت أتبع الصوت .. كان يخرج من زوايا البيت و يردد كلمة اتبعني ، ظللت أتبعها حتى وصلت لمكان مغلق عندها أحسست بيد على كتفي التفت لأتفاجأ بالذي خلفي .

*****

– نازكول !
– أين ذهبت يا سايغن هلكنا و نحن نبحث عنك ، حدثت معنا أموراً كثيرة تعال هيا .

رحت خلفها ، لقد كانت من طاقم العمل الذي معي ، لكن كيف وجدتني ؟! هل معقول أنني استدللت بعقلي الباطني أم الصوت كان حقيقياً ؟ طيب لماذا صوت تلك الفتاة إذا ؟ ظلت الأسئلة تتضارب في عقلي ، وصلت للغرفة و وجدت كل الطاقم هناك ! كانت الشمس فعلاً قد أشرقت وقتها .. خرجنا من ذلك المنزل اللعين و عدنا لبيتنا ، جلست منزعجاً فالكاميرا و الدفتر أضعتهما هناك ، ظللت حائراً بأمري منذ الثانية و حتى السادسة صباحاً و أنا تائه بذلك المنزل .. غريب فعلاً ! بدأت أدرك أن ذلك المنزل خطير و مخيف كما يقولون عنه أنه كالمقبرة .

تناسيت كل شيء و نظرت لجانبي بالصدفة لأجد الكاميرا و الدفتر الذي أضعته ، وجدت بداخله ورقة صغيرة مطوية كتب فيها ” لقد نسيت أغراضك هناك ” تعجبت و دهشت في الوقت ذاته ، نزلت لعند الطاقم فعرضوا ما عندهم من معلومات .

و كنت أنا أولهم :
– انظروا هذا كل ما سجلته معي من أمور ، ظللت تائهاً بذلك المنزل منذ الثانية حتى السادسة صباحاً في الظلام ، وفوق ذلك قابلت امرأة هددتني قالت أننا سنرى جحيماً ، و فعلاً قد صدقت بقولها ذاك .
– فعلاً .. و هل رأيتها مباشرة ؟
– أجل وقفت أمامي مباشرةً و نظرت لعينيها !
قال مراد بسخرية : و هل كانتا جميلتين ؟
نظرت له و أجبت بابتسامةٍ ساخرة : يا ليت ، كانا عبارة عن محجرين فارغين ..

بعدها أخذت الكاميرا و أخرجت الصورة التي التقطتها ، كانت صورة امرأة و لكن وجهها كان أسمراً جداً و عينيها تلمعان كعيون القطط و باقي جسمها عبارة عن ضباب أنا نفسي تعجبت من ذلك ، اقترحنا جميعنا ربما هي أرواح محتجزة هنا و ربما أنها سكنت هذا المنزل منذ إنشائه ، و ربما حتى منذ زمن إقامة السلطة العثمانية ، ربما ساحر استحضر هذه الأرواح او أناس قتلوا هنا .. آلاف و آلاف من الاحتمالات وضعناها ، خاصةً الصور و الملاحظات و حتى الأصوات التي سجلها الطاقم ! كانت أصوات موسيقى ممزوجة بالصراخ و العويل ، و تارة تتحول لأصوات ضحك و قهقهة ، لم نفهم أي شيء بوضوح ، فاللغة التي تكلم بها هؤلاء الأشخاص أو بالأحرى هذه الأرواح غير مفهومة ، خاصةً بعد أن يئس أحد أصدقائنا و هو الخبير باللغات ، لم ينسب كلامهم لأي لغة فلا هي تركية و لا هي إنكليزية و لا اي لغة أخرى ، بل كان الكلام الظاهر بالتسجيل كله متسارع و غير مفهوم !!

أما الصور فجميعها تحمل أموراً غريبة ، منها وجوه تبرز من اللوحات و أشخاص شفافين ، لكن صورة واحدة لفتت انتباهي التقطتها و قربتها من ناظري ، كانت لفتاة واقفة في منتصف الحديقة ، كانت شبه شفافة من الأسفل و رجليها متلاشيتان مع الضباب ، أما من الأعلى فهي أشبه بالبشر كثيراً ، لم يكن وجهها ظاهراً أبداً بل كان لها شعر طويل يصل لأسفل ظهرها و أسود اللون ! ظللت أحدق بالصورة معقول هي من تخطر ببالي ! نظر لي البقية و لاحظوا شرودي بالصورة :

– ما بك ماذا يوجد بها ؟
– من التقط هذه الصورة ؟ و متى تحديداً ؟ عندها أجابتني نوران :
– أنا التقطتها تقريباً عند الثالثة فجراً ، لم أستطع الاقتراب منها أكثر بسبب خوفي منها ، لكنها تلاشت مع الضباب بعد ثانيتين من التقاطي للصورة .

رميت الصورة على الطاولة و التقطت ملابس ثقيلة و خرجت فوراً حتى وصلت إلى بيت الشيخ جعفر ، طرقت الباب لفترات طويلة فلم يجبني أحد ؟ أين رحل ؟ معقول أنه هجر القرية ! ذهبت لمختار القرية فرأيته قد جاء و معه مجموعة رجال .
– السلام عليكم و رحمة الله و بركاته سايغن بيك .
– أين رحل الشيخ جعفر ؟
– لقد انتحر ! وجدناه معلقاً بالحبل من عنقه ، يبدو أنه وصل لحد لم يستطع الاحتمال فيه .

عندها فكرت بالذهاب لقبره ، رحت أجوب المقابر حتى وجدت قبره فوجدت ابنته هناك ، وقفت وراءها مباشرةً ، كانت تسقي قبره ، التفتت إلي لأرى وجهها مبلل بالدموع .
– البقية في حياتك .
– حياتك الباقية ..
ظللت أنظر لها و إلى ملامح وجهها الناعمة ، كانت عينيها حمراوتان جداً ، لم أجرؤ على فتح أي حديث يخص ذلك المنزل معها ، فبدا عليها الإرهاق و التعب ، اكتفيت بالصمت و رافقتها حتى جلسنا بمكان قريب من المقبرة ، كان شعرها يخفي ملامحها الباكية ، ظلت تنظر للأسفل فجلست بجانبها و بقيت معها حتى أوصلتها لمنزلها .. لم أستطع التحدث معها فقررت تأجيل الموضوع لفترة ، اغلقت الباب خلفها و أنا عدت أدراجي .

*****

اليوم ثلاثاء /٢٦ من فبراير .. الساعة ١١:٣٠ دقيقة

مرت اللحظات ثقيلة فهذه المرة قررنا التجول بحديقة المنزل ، أمسكنا فوانيس و رحنا نتجول في الإرجاء حيث انقسمنا لمجموعتين ، انا و معي سامي و نازكول ، و ذهب مراد مع نوران و جاء معنا شيخ حافظ للقرآن فاخذاه معهما .

رحت في الحديقة و قد كانت الأشجار جداً عالية و كثيفة و كذلك الحشائش طويلة ، كان الجو بارداً جداً لدرجة التجمد ، لم أستطع الشعور بأطرافي وقتها ، و كان الضباب قد احتل مساحةً كبيرةً فعرقل علينا الرؤية ، بينما اكتست الأرض بالثلوج ، فقد كانت السماء تنذر عن قدوم عاصفة ثلجية ، لذلك تركنا كل ما خططنا لأجله و عدنا أدراجنا لكن أكيد هناك مجال للمفاجآت ..

*****

ليله الأربعاء /٢٧من شهر فبراير -الساعة / ١:٦٥ دقيقة

التفت خلفي و قد وجدت الضباب أحاطني من كل الجهات ، كنت فقط أسمع صوت رفاقي لكني لم أجدهم ، ظلت نازكول تناديني و لكن صوتها كانت يبتعد كلما أحسست بأنني أقترب منها ، ظللت أناديهم بأعلى صوتي و لكن ما من مجيب ، حملت الفانوس و رحت أتجول في هذا البرد القارس و أنا لا أعرف أين أذهب ، أخرجت بوصلة صغيرة من جيبي .. من الجيد أنني تذكرت جلبها معي ، ظللت أتبع حركة أبره البوصلة حتى رأيت الباب أمامي ..

دخلت منه لأجد نفسي في قبوٍ واسعٍ جداً ، و لكنه أيضاً كان بارداً بشكل كبير ، ظللت أمشي فصعدت على الدرج حتى وصلت لأعلى ، دخلت من بابه العلوي لأجد نفسي بداخل البيت ! ظللت أتجول و أنا أوجه الفانوس و قد أخرجت جهاز التسجيل عسى أن يسجل شيئاً لا يمكنني سماعه ، نظرت أمامي لأجد مرآةً كبيرةً و خلف انعكاس صورتي فتاة .. بقيت واقفاً أراقبها بالمرأة ، كان شعرها يغطي وجهها و قد كان مبللاً ، تحركت ببطء و ذهبت للناحية الأخرى ذهبت بدوري خلفها لأرى إلى أين ستذهب ، فاختفت بالجدار الذي أمامي ! عندها بدأ صوت طرق شديد على الجدران فسقطت كل اللوحات المعلقة ثم بدأت أتعرض للضرب !

ماذا يحدث بحق السماء ؟! ظللت أركض و لكن هناك شيء يشدني للخلف ، سقط الفانوس مني و شبت النار من حولي لأرى عدداً كبيراً من الأشخاص يقفون خلف النار ! ماذا أفعل يا الله … ماذا ؟ النار تحيط بي و هؤلاء الذين لا أعرف حتى من يكونون قد أحاطوني من كل الجهات ، لا مجال للهرب لا مجال .

*****

– نازكول ..
– ماذا ؟
– أين سايغن إنه ليس معنا و لا خلفنا .
– ماذا ! لكني سمعت صوته قبل قليل .. فلنذهب للبحث عنه .
– هيا إذاً .
– مهلاً ..
– ما بك ؟
– اسمع صوتاً ينادي ؟ لحظة قليلاً يجب أن نجد مصدر الصوت .
– و لكنني لا أسمع شيئاً .. هيا يا سامي لنذهب لا وقت لدينا ، لا تصدق ما تسمعه لنجتمع مرة أخرى فلا فائدة مما تسمعه ..
أين أنت لماذا لا تجيب .
– لن يفعل .
– من هناك ، سااامي .

*****

– استطعنا الهروب بصعوبة ، هذا البيت فعلاً كالمقبرة ، كم من شبح موجود هنا يا ترى ألف ، مائة ، مليون .
– لا باس يا مراد و لكن يجب أن نجتمع ، إن بقينا هكذا سنتاذى كثيراً .. بالمناسبة أين الشيخ ؟
– أوه لا تقولي أضعته .. لحظة هذا صوت يبدو كالقراءة لنذهب ربما يكون الشيخ .
– لنذهب هيا .
– هل وجدته كان الصوت هنا قبل قليل هل اختفى !
– لم أعد أسمع شيئاً غير صوت غلق الأبواب !

*****

تباً لقد احترقت قدمي بسبب هذه النيران ، علي الخروج من هنا حالاً يجب ذلك ، ظللت أتجول بالأرجاء كالمجنون و لكن لا يوجد مخرج ، البيت أصبح كبيراً كالمتاهة و الغرف تتغير ! هنا توقفت التفت خلفي لا إراديا لألمح شعراً طويلاً أسوداً يخرج من جانب الحائط .. تقدمت ناحيته كانت السماء ترعد و تبرق ، كنت أمشي كلما ألمح ضوء البرق و أبقى ساكناً عندما يذهب ، لن أخرج من هنا هكذا !! فجأة رأيت الشموع مضاءة .. رحت أتجول و أنا أرى ذلك الشعر الطويل من جوانب مختلفة من المنزل ، ظللت أركض خلفه من مكان لآخر حتى وصلت لغرفة فوجدتها واقفة أمامي .. مريم !! ظللت أقترب ببطء و اناديها ! هل هذه أنت ؟ اقتربت منها لتلتفت إلي فزعت وقتها و ابتعدت عنها ، كان وجهها محروقاً فتحت فمها و بقيت تصرخ و كل شيء حولي تكسر حتى لم أشعر بنفسي إلا و أنا قد سقطت من النافذة ! و لم أشعر بأي شيء بعدها .

*****

يوم الأربعاء /٢٧ من شهر فبراير . الساعة ٧:٤٥ دقيقة

استيقظت و قد شعرت بألم مبرح برأسي ، عجباً رأسي سينفطر لنصفين .. وجدت قدمي ملفوفة و كانت تؤلمني فقد أحرقتها البارحة بهروبي من أولئك الملاعين .. وجدت سامي جالساً أمامي و معه الشيخ ! أين رحل الثلاثة الآخرون إذاً !! مراد و نازكول و نوران أين هم ؟ نظر لي سامي و كانت الدموع بعينيه :
– وجدت نازكول ميتة .

اتسعت عيناي لسماع كلامه فأكمل قائلاً :
– لقد وجدتها مرمية حيث أضعنا بَعضُنَا ، كان يبدو أن كلاباً قد هاجمتها ، فقد كانت رقبتها ووجها مهشمين و عليها آثار عض واضحة ، أما مراد فقد بقي مع نوران ، و قال الشيخ أنه أضاعهما هناك .

وثقت أنه يجب أن أتحدث مع مريم ، أكيد يجب أن أعرف كل ما حدث مع والدها بهذا المنزل .. ذهبت إليها و ظللت أطرق الباب فما من مجيب ، فكرت ربما قد تكون عند قبر والدها فذهبت إليها وكان ظني في محله .. انتهت من سقي قبر والدها و عندما أرادت الرحيل وجدتني خلفها :
– يجب أن نتحدث .

*****

– هل تظن أنه سينجح بالحديث معها ؟
– بالتأكيد يا بني .
يجب أن نجد فريق عمل آخر ، قد اضطر لترك المكان و العودة للمدينة .
– وماذا عن أهل القرية و صالح الأعور لماذا لا يساعدوننا كما تطوعت أنا للمساعدة
– هم جبناء و ليس لديهم أيه خبرة

*****

ليله الخميس ٢٨فبراير الساعة ٢:١١ دقيقة

بقيت في المنزل و معي مريم و سامي و الشيخ ، نزلت للأسفل و معي مريم .. قادتني للقبو و لكن لم يبدو عليها الخوف أبداً ، كنت أتفاجأ من جرأة هذه الفتاة !! لم تبلغ بعد ١٩ و لكنها تملك قلباً قوياً ، ظللت أتبعها و ما أثار استغرابي أنها تعرف جيداً جداً أين تذهب ، كأنها كانت تعيش بالبيت هنا ..

وصلنا للقبو فنزلت أمامي و أنا خلفها ، وجدنا عدداً كبيراً من الأدراج ، ظللنا نبحث فيها عن ملفات و كل ما يخص المنزل . فتحت بعض الملفات فوجدت التالي :

” في عام ١٨٩٠م .. قدم رجل إنكليزي ثري إلى قرية أرطاغول ، أتى إلى هنا و قد أقام علاقات طيبة مع السكان في القرية فأحب المكان و بنى له منزلاً كبيراً و عاش فيه مع زوجته و بناته الخمسة ، بعدها مرض الرجل مرضاً شديداً و مات على إثره .. لم يعرف أحد السبب فبقيت زوجته و بناته و بعدها توفت العائلة فالأم قتلت اثنتان من بناتها ، و انتحرت واحدة بينما هربت واحدة أخرى و الصغرى توفيت بمرض السل أما واحدة من الفتيات فقد اختفت فلم يبقَ لها أثر .. البعض فكر انها ربما قد انتحرت او قتلتها أمها ”

تاريخ المنزل فعلاً مثير للاهتمام ، قلبت الصفحة و بحثت لأجد صورة لرجل آخر .. ” أحمد الهاشمي ” تاجر عربي من أصول فرنسية قدم إلى تركيا و نزل في القرية ليشتري البيت و يسكن فيه مع زوجته و أبويه ، و كذلك تعرضت العائلة لأحداث غريبة أدت إلى موتهم واحداً بعد الآخر عدا ابنته الرضيعة التي ولدت حديثاً ، فقد وجدها السكان أمام بوابة القصر فأخذتها بعض من نساء القرية و تربت بينهم ”

اكملت البحث و قد تفاجأت من الكم الكبير للعائلات التي سكنت هنا ، و لكن لم يذكر سبب الموت غير الانتحار و الوفاة الطبيعية أو القتل ! أمر عجيب .. التفت خلفي فوجدت المكان مظلما وخالياً ، ألم تكن مريم معي ! رباه استمريت بالقراءة و لم أنتبه أنها رحلت ! و لكن لماذا قد ترحل من هنا و كيف أصلاً تعرف طريقها ؟!

هممت بالصعود فسمعت صوت حركة خفيفة تبعت الصوت لتخرج مريم من الظلام !
– أفزعتني كيف مشيت بالظلام الدامس ،
– انظر ماذا وجدت ؟ عدة كاملة لتحضير الأرواح ، و وجدت بعض الأشرطة ربما ستفيدنا إذا شاهدناها .

صعدت أمامي و تركتني أغرق في بحر من الأسئلة ؟ هذه الفتاة يلفها الغموض منذ أن التقيتها .. صعدت خلفها و اجتمعت مع سامي و الشيخ و قد أتى بعض الأشخاص الجدد ليساعدونا في صيد الأشباح .
( ميران ، أحمد ، يونس و بهار وحقي )
تعرفت عليهم و أخبرناهم بكل ما حدث معنا باختصار فظهرت عليهم ملامح الخوف و الفزع .. أحضرنا كل ما وجدناه بالقبو شاهدنا كل الأشرطة و كلها كانت تحمل تسجيلات غريبة ، فقد كانت معظمها جلسات لتحضير الأرواح و البعض الآخر غير مفهوم أبداً ..

اجتمعنا جميعاً و جلس الشيخ و بدأنا بالتحضير ، التفت للكل فلم أجد مريم بينهم استغربت كثيراً ، هذه الفتاة أصبحت تختفي كثيراً ، بعدها بدأ المكان بالارتجاج من حولنا و سمعنا أصوات كثيرة لعدة أشخاص ، عندها لمحتها بينهم تلك الفتاة التي سقطت بسببها من النافذة ، أصر الشيخ على أن نغلق أعيننا و لكن تلك الفتاة ظللت أراقبها و كانت هي و مريم أمامي ! ما هذا بحق الله ؟!! ظللت أراقبهما واحدة أمسكت بيد الأخرى و لكن ما علاقة كل ما يحصل بالبيت بمريم ؟ منذ أن التقيت والدها و كل ما حدث بالمنزل مرتبط بها بشكل ما ؟ هل معقول هذه الفتاة تكون أختها ؟؟

ارتج البيت و كأن زلزالاً قد أصاب المنطقة .. كلنا تجمعنا من الخوف ، بقيت التفت حولي ، كان الشيخ يقرأ بصوت عالٍ و كنت أرى أناساً يخرجون من الأرض ، كانوا مقيدين ! كانوا يهربون و تلك السلاسل و القيود تتكسر عنهم و لكن يخرج خلفهم أشخاص ضخام كالظلال يجرونهم للأسفل ، وضعت يداي على أذناي فكل هذا الصراخ و العويل جعل رأسي على وشك الانفجار ، بعدها كل شيء أصبح ساكنا .. توقفت الأصوات و توقفت الأرض عن الارتجاج ، لملم الشيخ أغراضه و تجمعنا جميعنا عنده

– انتهينا من نصف المهمة ، كل الأرواح البريئة غادرت و فكت قيودها و رحلت حيث يجب أن تكون .. بقي الصعب أمامنا و هي الأرواح الغادرة و الشريرة ، يجب أن نتخلص منهم نهائياً و لو تطلب ذلك احراقهم .

بقينا صامتين ، ذهبت لأبحث عن مريم فوجدتها منطوية على نفسها و هي تبكي جلست أمامها فلم تنظر إلي و استمرت بالبكاء .
– اتلك هي أختك ؟
رفعت رأسها و نظرت لعيناي مباشرة : أجل إنها أختي بالرضاعة .
– لم تخبريني بالحقيقة عندما كنّا بالمقبرة .
– لم أتصور أن أعود يوماً ما هنا و احتجز بينهم .
ظللت ناظراً إليها :
– ماذا تقولين !! ستخرجين معنا و أختك أكيد غادرت من هنا .
– سابقى حبيسة بينهم يا سايغن ، أخبرتني بذلك بنفسها فهي ترفض المغادرة .. لا تريد الرحيل من دوني .
– لكنك على قيد الحياة .
نظرت لي بحزن عميق و قالت : لم أخبرك بكامل الحقيقة يا سايغن .

نهضت من أمامي و توجهت للنافذة و استمرت بالتحديق إليها ، نهضت و وقفت خلفها .. ظللت أفكر ، ربما كل الضغط الذي يحدث معها و ما عايشته معنا في هذا المنزل اللعين أثر عليها ، إن لم أساعدها ربما فعلاً سينتهي بها المطاف أحد أرواح هذا البيت ، ابتسمت بسخرية فالذي نعيشه حتى الخيال لا يقبله .. اقتربت منها و احتضنتها :
– لن يحدث لك شيء يا مريم أنت بحمايتي ، سنخرج سوياً من هنا .
بقيت تحدق بعيني ، استغربت كثيراً ليس من نظراتها بل من عينيها السوداوين لم يسبق لي أن تأملتهما هكذا من قبل ! بقيت أحدق بهما بلا وعي ، شعرت بنفسي ضائعاً في عينيها ، شعورا غريب لم أستطع فعل شيء ، تجمد بي الزمن بتلك اللحظة .

لم اشعر بشيء وقتها ، بل شعرت بخدر اجتاح جسدي كله لم اشعر بنفسي إلا و أنا أعانقها عناقاً طويلاً و قد طوقتني بذراعيها … شعرت بنفسي تائه معها بذلك العالم ، ظللت شارداً بها ، هل هذا ما يطلق عليه سهم الحب ؟ طوال خمسة و ثلاثون سنة لم أفكر و لو لمرة كيف هو الحب و كيف شعور العاشقين ، ذبت بين ذراعيها و كان آخر ما رأيته هو وجهها الملائكي و ابتسامتها البريئة .

*****

يوم الجمعة /٢٩ اخر يوم من فبراير الساعة ٨:٤٦ دقيقة

استيقظت على صوتها العذب الناعم و هي توقظني ، لم أكن يوماً سعيداً هكذا ، فتحت عيناي ببطء شديد و تعب لأراها أمامي ، ابتسمت لي في عذوبة ، نهضت و اغتسلت جيداً و بعد الفطور جلست معها على انفراد :
– مجرد أن ننتهي من هذا الكابوس لن يعرقلنا شيء عن الزواج .
أمسكت يدها و قبلتها و ضممتها الى صدري لكنها لم تبدي أي ردة فعل !
– ما بك يا مريم ، قد أثر بك رؤية أختك البارحة ؟ و لكن أعدك فقط عندما نجد قبرها أكيد ستُدفن بجانب والدك لنزورهما معا .
ظلت صامتة ، ما بها يا ترى ؟ نظرت لي نظرة عميقة لم أفهمها ، عندها نطقت بصوت حزين :
– ستكتشف الحقيقة كاملة يا سايغن ..
تركت يدي و رحلت ، لم أفهم مقصدها أبداً ، خرجت وراءها لكنني لم أجدها أبداً ، نزلت و قابلت الطاقم و خرجنا من ذلك المنزل اللعين .. ظللنا نتجول في الحديقة قلبناها رأسا على عقب عسى أن نجد شيئاً و فعلاً قد صدمنا مما وجدناه هناك !

******

يوم السبت ١من شهر مارس الساعة ١٢:٥ دقيقة

اتصلنا بالجهات الأمنية بعد أن وجدنا عدداً كبيراً من الجثث و فسرنا لهم كل شيء و أريناهم كل الأدلة التي وجدناها .
نقلت جميع الهياكل ليتم معرفة سبب الوفاة ، أغلبها كانت هياكل نساء ، حاولت إيجاد هيكل امرأة يحمل شعراً اسوداً طويلاً عسى أن أجد جثة أخت مريم و لكنني لم أكن أعلم شيئاً عن أختها فلم تخبرني وقتها عنها لا في المقبرة و لا في تلك الليلة .

عندها تركت الكل و رحت أبحث عنها و لكن كان وقتي ضيقاً فقررت تأجيل الحديث لاحقاً ، صدمنا مما وجدناه فحتى هياكل عظمية لحيوانات نافقة وجدت هناك ، و أغلبها كان مدفوناً على مسافات بعيدة عن السطح فعلاً القاتل شخص ذكي جداً ، و لكن قد يكون أحد هذه الجثث فكل تلك الأرواح التي كانت حبيسة المنزل قد انتقمت منه و أخذت بثأرها منه .

بعد أن انتهينا تجهزنا جيداً جداً و قد جاء معنا الشيخ صالح الأعور و معه عدد من قراء القرآن ، أخيراً قرر هذا الجبان أن يساعدنا .. دخلنا للمنزل و لكن شعرت أن قلبي كأن أحداً ما يمسك به و يعصره و يخدشه بأظافره ، لا أعرف لم يقول إحساسي أننا سنرى الويل هنا .. مجرد أن دخلنا أغلقت جميع الأبواب و المنافذ المؤدية للخارج و انطفأت الشموع . اشعلنا الفوانيس و تحضرنا للأسوأ ..

عندها بدأت أصوات غريبة بالظهور من الحيطان ، اتخذ كل شيخ ركنا له و باشر بقراءة آيات قرآنية و نحن افترقنا ، فقد جاء معنا أيضاً بعضاً من رجال القرية لمساعدتنا ، فلقد تشجعوا كثيراً لهذه اللحظة ، لا عجب أن بقاءنا على قيد الحياة هو بحد ذاته أعجوبة لهم .

******

ليله السبت ٢من مارس الساعة ١٢:٠٠

دقت الساعة معلنةً انتصاف الليل ، و مع كل دقة تدق تعلو الأصوات الصادرة من الحيطان ، أخذ كل واحد منا ماء و ملح و سكين من حديد ، لا أعرف فعلاً كيف ستحمينا هذه الأشياء من أرواح تستطيع قتلنا خلال ثانية فقط ، بعد آخر دقة من الساعة انقلب البيت رأساً على عقب ، فأصبحت هناك أشياء معدنية حادة تطير ناحيتنا و قد أطاحت برجلين و قتلتهما ، بالتأكيد خالفنا الخطة و افترقنا عن بَعضُنَا ، هاج البيت و ساد الهرج و المرج ، افترقت عن البقية و لم أعرف ما الذي حدث معهم ..

هنا تذكرت مريم ، لقد أضعتها منذ الصباح ، هممت أبحث عنها و ذهبت لكل الغرف و كل جزء بالبيت لكنني فقط تهت مرةً أخرى ، و فوق ذلك فقدت نصف دمي بسبب تلك السكاكين التي تطير نحوي ، عندها حدث ما لم يكن بالحسبان ! سكن كل شيء لتنشق الأرض من تحتي ، حاولت التمسك بأي شيء من حولي لكن ابتلعتني الأرض لأجد نفسي وسط هياكل عظمية .. عرفت وقتها أنه قد انتهى أمري .

*****

– اللعنة على هذا البيت متى أخرج من هنا .
– حقي أهذا أنت ؟
– بهار ! بهار أين أنت تعالي إلى هنا .
– أين أنت حقي .. ساعدني لا أستطيع الخروج أنا محتجزة هنا .
– اللعنة الباب لا يفتح سأقوم بكسره إذاً .. بهار … بهاااار أين أنت .
– احزر أين هي .
– رباااه !! بهار أنه رأس بهار ..

*****
– سامي .
– من من أنت قولي ؟
– إنها أنا يا سامي .
– من نوران ! نوران أين كنت منذ مدة طويلة و انت اختفيتي .
– لأنني ببساطة قدر لي أن أصبح مثلهم .

*****

نهضت و أنا أتعثر بالجماجم و بقايا الهياكل لأشعر بيد أمسكت بقدمي ، و قعت بينهم لتمسكني آلاف من الأيادي و تحجزني بينها ، اختنقت كثيراً و لم أعد أتنفس حتى شعرت بمن شدني و أخرجني من بينهم .. ظللت أتنفس بقوة لأجد أمامي مريم ! احتضنتها بقوة :
– أين كنتِ ؟
– حان الوقت لتعرف الحقيقة يا سايغن .
– ماذا تقصدين أي حقيقة يا مريم .
– فقط اتبعني .

مشت أمامي و لم تعطيني مجالاً للكلام ، ظللت أركض خلفها إلى أن وصلت لغرفة تحت الأرض ، لم أجدها بل كل ما وجدته هو تلفاز قديم و شريط فديو مكتوب عليه .
” اعرف الحقيقة “
شغلته لأكتشف الحقيقة المرة .

*****

شيخنا ما الذي يحدث ؟
– لا أعرف يا بني لكن هذه الأرواح أقوى مما تصورته !
– لقد افترقنا و مات اثنان من رجال القرية لم نعرف أين البقية .. أرجوك افعل شيئاً لن نخرج من هنا أحياء .
– شيخنا لماذا لا تجبني !!!
– قلنا لكم سترون الويل هنا .

*****

– سامي أين أنت ..
– ميران .. من يونس هل رأيت البقية لا أبداً .
– لحظة ، ما هذا الصوت ؟ إنه يصدر من تحت الطاولة !
– لحظة فقط .. صالح الأعور !
– ماذا هل تختبئ هنا نحن نتعذب و نقتل بسبب هذا البيت اللعين و أنت تختبئ أيها الجبان الحقير .
– لا بأس يا ميران اتركيه نحن سنتدبر الأمر .
– و ماذا تريداني أن أفعل ، ألا يكفي أنني أجبرت نفسي على الدخول لهذا البيت الملعون .
– لا فائدة منك ، أنت ورطتنا بكل هذا و أنت ستساعدنا للخروج من هنا .

******

ما رأيته في هذا الشريط حطم قلبي و سحقه ، شعرت بألم فظيع للغاية ، فقد رأيت مريم بالشريط .. كانت محتجزة بغرفة أتى إليها شاب و شدها من شعرها ، هو و أصدقاؤه السكارى .. كان والدها هناك رآها بالصدفة ، لم يستطع فعل شيء لحماية ابنته ، أتت الأخرى أختها التوأم تلك ذاتها التي رأيتها تمسك بيد مريم في ليلة التحضير .. لم تستطع فعل شيء بل وقعت و احترق وجهها بالنار ، رصاصة واحدة تسببت بمقتلهما و تشوهها بالوقت ذاته ، أما والدهما جعفر فقأ أحد الشباب عينه و رماه أيضاً ليقوموا بربط مريم و اغتصابها .

تألم قلبي أشد الألم ، فاضت دموعي و أنا أسمع صراخها ، ثم بعد ذلك قام أحد الشباب بمسك صخرة و هوى بها على رأسها ليرديها قتيلة .. بكيت و بكيت و لم أسكت أبداً ..

توقف الشريط و التفت خلفي لأجد مريم واقفة بحزن و لكن كان جسدها مليء بالكدمات و شعرها يقطر دماً ، اختفت تدريجياً بالأرض ، أزلت السجاد و بدأت بالحفر حتى بدأت ألمح خصلات شعر طويل ! حفرت و حفرت حتى خرج لي هيكل عظمي ! كانت هي .. كانت مريم ، ذلك الشعر الطويل الأسود أمسكته أخرجت هيكلها ، كانت جمجمتها مهشّمة بالكامل و كانت بجوارها أختها .. احتضنت هيكلها و صرخت بأعلى صوتي ، ظللت أصرخ و أبكي و لكن كل ذلك لم يكفني و لم يشفي غليل حقدي .. وجدت باروداً كثيراً بأحد زوايا البيت ، أخذته و أخذت معي فانوساً ، خرجت للأعلى لأسمع صوتاً قال لي

” بقيت أنت فقط هنا و قد حانت ساعتك ”

ثم برز لي من السقف جثث كل طاقمي و الرجال و الشيوخ حتى صالح الأعور كانت جثته بينهم .
– من انت ؟ من أنت بحق الله ؟
– أنا .. أنا مالك هذا المنزل و روحه أيضاً .. من يتعدى عتبه بيتي و يعبث بممتلكاتي سيندم .
– اللعنة عليك .

أمسكت البارود و رميته بكل مكان و أشعلت المنزل ، ظل صوت ضحكه يتردد بالأرجاء ، مشيت كالمجنون و أنا أحرق بالمنزل ، حوصرت وسط النيران و قد نظرت حولي لأرى جميع جثث أصدقائي قد احترقت و أصبحت رمادا ، و هاجت الظلال السوداء من حولي و هاجمتني ، ضربتني و استمرت بضربي حتى شعرت برياح عاتية أبعدتهم عني ، نظرت للأعلى لأجد مريم .. لم تكن تلك مريم التي عرفتها يوماً .. التفت خلفي لأجد أختها ، كانت تشبهها كثيراً و لكنها كانت جميلة ابتسمت لي و قالت :

– نحن سنحميك ..

نظرت لي مريم نظرة وداع و أطلقت صرخة مدوية ، كان جسدها قد طاف بالهواء و عينيها حمراوتان بالكامل ، التفت النيران من حولها و هبت رياح قوية حتى أنها طيرتني ، شعرت أنني ارتطمت بشيء بقوة و بعدها غبت عن الوعي و آخر ما رأيته هو مريم تنظر إلي و أغلق الباب عليها .

*****

استيقظت و بعد أسئلة كثيرة و التحقيق من قبل الشرطة معي تم إغلاق ملف قضية المنزل المسكون ، بقيت بغيبوبة لخمسة أيام ، استيقظت بعدها جلست أمام النافذة لتسقط دموعي الحارة من عيناي .. أكل ما حدث سابقاً في حياتي هل كان وهماً أم حقيقة ؟! هل الحب الذي أحسست به و تلك الليله التي عشتها بلحظاتها كانت كذباً ؟ ظللت أنظر أمامي و قد جرت دموعي كالنهر بلا توقف .. مر كل ما حدث أمامي كفيلم أمام عيني ، تألمت كثيراً ، يا ليتها فقط لم تخرجني من ذلك المنزل .. يا ليتها فقط لم تبعدني عنها ، كنّا سنغدو سوياً الآن .

و لكن يوما ما ستحول هذا البعد الشاسع إلى قرب دافئ .

يتـــبع …

تاريخ النشر : 2017-02-23
guest
28 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى