أدب الرعب والعام

عندما تُغتال الزهور: الساكورا و التوليب – الجزء الثاني

بقلم : Samer Saleh

عندما تُغتال الزهور: الساكورا و التوليب - الجزء الثاني
شفتاها رقيقتين في لون زهرة الساكورا و أما عيناها فكانتا واسعتين

 

المكان: أمستردام.

الزمان: العشرين من أبريل 1999 م.

تجلس “ربيكا فون درمون” ذات الثانية و الثمانين عاماً في شرفة شقتها تنسق بعض الزهور، في انتظار أن تجهز مساعدتها لها الشاي ، عندما رن الهاتف الأرضي فأسرعت مدبرة المنزل للرد و أقبلت بعد بضع دقائق قائلة:

ـ لديك مكالمة هاتفية ، هل أحولها لك ؟.

ـ من المتصل؟.

ـ يقول عامل الهاتف بأنه اتصال هاتفي دولي من اليابان.

ارتجفت يدا “ربيكا” حتى أنها قطعت بمقصها الحاد عنق زهرتها المفضلة التي قضت سنوات في العناية بها وسط ذهول المدبرة ، و لكنها سرعان ما لملمت شتات أمرها و قالت بنبرة حاسمة:

ـ أرفضيها.

نظرت “ربيكا” بحسرة إلى زهرتها الثمينة و قد سقط رأسها المزدان ببتلات بيضاء ممزوجة بلون أحمر قاني و سال من عنقها المبتور نسغ لزج ذو رائحة نفاذة ، فلمعت في ذهنها صور مشوشة كريهة جعلتها ترمي المقص بعيداً ، و لكنها سرعان ما أدركت بأن مساعدتها الفتية تقف بجانبها ممسكة بصينية الشاي شبه مصدومة ، فابتسمت في وجهها قائلة:

ـ لم تعد يداي ثابتتين كما كانتا في الماضي ، ربما علي البحث عن هواية جديدة قبل أن أقضي على حديقة “فيليب”.

************************

المكان: أوساكا.

الزمان: السادس من مارس 1999 م.

لم يكن السيد “إيتاما فوشيدا” يجد صعوبة في تذكر أحداث قصته التي يرويها لروح زوجته المتوفاة و لكنه كان يعاني مشقة عظيمة في ترجمتها إلى حروف و كلمات و كأنه كان يشعر بالحرج مما كان يقوله ، فنضح جبينه عرقا بارداً و هو يسترق النظر إلى صورة قرينته .

سحب منديله و مسح بيدين مرتعشتين العرق و واصل قائلاً بصوت وهن:

ـ لم يطل الوقت قبل أن تحضر الفتاة الغربية إلى مكتبي في إدارة المعتقل الصغيرة التي لم تكن تحتوي إضافة إلى مكتبي العاري من الأثاث إلا من طاولة حديدية و كرسيين خشبيين و خزانة مهترئة ، و دورة للمياه و رواق طويل ضيق ينتهي بغرفة نومي و حمامي الخاص.

كان مساعدي قابضاً على ساعدها الأيمن بشدة يجرها منه بعنف ، و عندما وصل قبالة المكتب سحب يده و ألقى علي التحية و عاد و قبض على ساعدها فأمرته بتركها فتراجع .

نظرت إلى المترجم الواقف بجانب الجندي المكلف بكتابة تقرير التحقيق و قلت بلهجة حازمة:

ـ اسألها عن اسمها و عمرها و مهنتها و جنسيتها ؟.

خاطبها المترجم بلغة ألمانية ركيكة النبرات ، فقد كان شاباً صينياً أسعفه الحظ فتعلم اللغة خلال ابتعاثه إلى ألمانيا ، فردت بصوت قوي و واثق وقع في نفسي موقعاً مستساغاً رغم عدم تقبلي لحدة اللهجة الألمانية و فجاجتها ، التفت إلي المترجم و قال باليابانية:

ـ تقول بأن اسمها “إيلدا شافلر” ، عمرها 25 سنة و هي مراسلة صحافية ألمانية .

اتجهت هذه المرة بالسؤال إليها مباشرة دون أن أغير نبرتي الجدية الجافة:

ـ ما الذي تفعلينه في شينغهاي ؟.

أجابت و قد علا فمها شبح ابتسامة ساخرة:

ـ أرسلتني الصحيفة التي أعمل بها كمراسلة حربية أغطي أحداث الحرب في الصين.

و لم نلبث أن دخلنا سجالاً من الأسئلة و الأجوبة السريعة:

ـ أين أوراقك الثبوتية؟

ـ سُرقت مني في حادثة في سوق شينغهاي و قد أبلغت السلطات عن فقدانها.

ـ و ما الذي يثبت صحة ادعائك ؟ قد تكونين جاسوسة !.

ـ لو كنت جاسوسة لملكت بالتأكيد أوراقا ثبوتية تحميني و هوية منطقية تكون غطاء لعملي ، أليس هذا ما يحدث ؟.

رفعت سماعة الهاتف قائلاً:

ـ إذا إن اتصلت الآن بقيادة الجيش و التي ستتصل بدورها بالتمثيلية الديبلوماسية لألمانيا هنا فهم سيقولون بالتأكيد بأنك مواطنة ألمانية أليس كذلك؟.

فردت بهدوء يفند كل الشكوك:

ـ بالتأكيد .

وضعت سماعة الهاتف و أخذت أتأمل لهنيهة تلك الفتاة اللغز الجالسة قبالتي ، “إيلدا”.

لم يسبق لي أن قابلت قط أجانب في موطني رغم تواجد البعض منهم خاصة في العاصمة طوكيو و جلهم كانوا مبعوثين دبلوماسيين ، و مع بداية الثلاثينات تعالت الكراهية ضد العرق الأبيض في اليابان و أصبح وجودهم في البلاد يثير حنق اليابانيين المتزايد.

و لكني لن أنكر بأنهم سيكونون بغاية الجمال لو كانوا جميعاً مثل “إيلدا”.

كانت فتاة طويلة مقارنة مع النساء اليابانيات ، طويلة جداً حتى بالنسبة للرجال ، كانت عندما تقف بجانبي تتجاوزني ببعض سنتميترات لعلها 10 سم كأقصى تقدير.

تملك شعراً أشقر قصيراً متموجاً يقف عند أسفل عنقها و كانت بشرتها بيضاء كبياض الثلج مشربة ببعض الحمرة عند الخدين و الأطراف.

كانت شفتاها رقيقتين في لون زهرة الساكورا و أما عيناها فكانتا واسعتين يتوسطهما قرصان أزرقان كلون السماء الربيعية الصافية.

كان جمالها من النوع الذي لم أقابله في حياتي مطلقاً و لا حتى بعد عقود و عقود.

كانت عينيا تهربان مني لتستقرا على منطقة جيدها و صدرها ، فأستردهما بصعوبة فتعاودان الهرب مراراً و تكراراً ، تحاولان اكتشاف ما تخفيه ياقة معطفها الرمادي.

مسح العجوز حبيبات العرق المتناثرة كقطع الزجاج البارد على وجهه بمنديله القماشي الأبيض و قال كالمعتذر:

ـ  كنت شاباً في بداية العشرين، قليل الخبرة سهل التأثر و مندفع الروح ، متهوراً رغم مظهري الهادئ المتزن.

و كما تعلمين لم يكن مسموحاً لنا نحن الشبان في ذلك الوقت بالاقتراب من الإناث، و كان البلد مقسماً إلى جزيرتين منفصلتين كل منهما مجهولة تماماً للأخرى ، جزيرة النساء و جزيرة الرجال ، و لا يمكن لأي حال من الأحوال أن تتقربا إلا بمد الزواج الذي سرعان ما ينحسر و تعود العزلة بينهما .

في الحرب وفر لنا الجيش الخمر و النساء و السلاح و تحطمت القيود فانطلقنا كالوحوش لا يردعنا رادع و لا يثنينا قانون فانغمس كلاً في ملذاته ، و كم كانت مرعبة و مظلمة تلك الملذات !

، و تحولت هواياتنا من قراءة الشعر التقليدي إلى القتل و من ممارسة الخط الياباني إلى التعذيب و التنكيل ، و من طي الأوريغامي إلى الاغتصاب.

عادت “إيلدا” الألمانية إلى عنبرها وسط الأسرى فيما كنت أراها من حين لآخر في طوابير الصباح في الأيام المتتالية ، و بالرغم من أن التحاقها بالمعتقل لم يمر عليه سوى بضعة أيام قليلة إلا أنها تورطت في مشاكل عديدة مع الحراس معظمها كانت بسبب دفاعها عن غيرها من المعتقلين و قد نالت في خمسة أيام فقط عقوبتي سجن انفرادي ليوم كامل ، كانت تقضيها و تعود إلى سيرتها الأولى.

كنت أراقبها أحياناً من وراء زجاج نافذة مكتبي أو من على شرفته و هي تشارك البقية أعمال تنظيف المعتقل و نقل الحجارة و غسل الثياب و تنظيف المقر الرئيسي ، و كانت كلما التقت أعيننا ترمقني بتحدي و ندية.

لم يكد يمضي أسبوع حتى أقبلت فرقة انتقاء نساء المتعة في زيارة ثانية لنفس الشهر فأمرت الحراس بإخراج الأسيرات إلى الساحة و بدأ الرقيب المسؤول يجول بين الصفوف يتفحص الوجوه و الأجساد فيسحب بين الحين و الآخر معتقلة و يدفعها بعيداً عن الطابور فيرتفع بكاؤها و عويلها.

اكتمل نصاب العدد المطلوب ، و لكن الرقيب و أثناء مغادرته لفتت انتباهه “إيلدا” الواقفة في آخر الطوابير، فأشار إليها بالتقدم نحوه و لكنها تجاهلته فاتجه نحوها و سحبها من الصف و صفعها قبل أن أدركه.

أسرعت في أثره بعد أن رمقت مساعدي بنظرة متوعدة و حلت بينه و بينها و أنا أقول بنبرة مهادنة ظاهرها الاحترام و باطنها الغيظ:

ـ إنها مواطنة ألمانية تم أسرها بالخطأ من قبل رجالنا و قد أمرتني القيادات العليا بإبقائها في المعتقل حتى يتم الاتصال بسفارة بلادها لاسترجاعها.

حدق بي الرقيب بتحدي و لكنه سرعان ما انسحب متمتماً :

ـ كانت لتكون محظية جيدة لقائد القوات في شينغهاي.

كانت النساء هدايا قيمة لمداهنة القادة و الرؤساء المباشرين و تملقهم ، فكان الجنود و الضباط يبحثون عن الفتيات الجميلات و الصغيرات و العذراوات ليجاملوا بهن القادة ، و كلما كانت الفتاة جيدة و نالت رضى الرئيس كلما زادت حظوة المرؤوس عنده و تمتع بحمايته و امتيازاته.

و قد خصصت القائد “ميتسودا” باثنتين من المعتقلات كهدايا متعة حيث كنت أعلم ذوقه المنحرف إذ كان يفضلوهن في نهاية الطفولة و لم يتجاوزن العاشرة من العمر.

رفع “فوشيدا” رأسه نحو صورة زوجته و خُيل إليه بأنه رأى على وجهها عبوساً و استياءً فتوقف قليلًا ثم قال مبرراً موقفه:

ـ لم أكن أريد أن أتحول إلى أحد أولئك القوادين و لكنها الحرب تجبرك على وضع مبادئك و مشاعرك و كرامتك جانباً و الانغماس في سيل البقاء الجارف، فحياتك عندها تكون أثمن ما تملك أهم من الكرامة و المشاعر و المبادئ.

– أتعلمين ؟ كانت هناك في بعض الأحيان أسيرات تذكرنني بشقيقتي “ميوكو” ، بعضهن تذكرنني بوالدتي أو جدتي أو احدى قريباتي و لكنهن كن في النهاية سواء ، مجرد أسيرات حرب ، في ذلك المساء وصلتني إشارة من مركز الاتصال في قيادة جيشنا في الصين أعلمني فيها المسؤول هناك بأنه قد تم الاتصال بالسفارة الألمانية و بأنها قد أكدت عودة مواطنتها “إيلدا شافلر” إلى أراضيها منذ سبعة أشهر تقريباً و بأن هناك معلومات استخبارية تحصلت عليها خلية الاتصال تفيد بأن الأسيرة الغربية قد تكون صحافية هولندية اختفت في الصين و انقطعت أخبارها في صيف 1938م.

عندها قفزت إلى ذهني فكرة واحدة سارعت إلى تنفيذها دون تردد.

طلبت من الحراس أن يجلبوا الأسيرة الغربية إلى مكتبي لإنهاء التحقيق ، و ما إن وصلت حتى قلت موجهاً حديثي إليها عن طريق المترجم:

ـ إذاً فأنت صحافية هولندية و لست ألمانية كما تدعين ؟

لم تجبني ، فأكملت حديثي:

ـ الآن تدركين بالتأكيد بأنهم سيعودون من أجلك سريعاً.

ـ من تعني ؟

– فرق نساء المتعة ، لقد رأيت ذلك في عيني الرقيب “ياماماتو”

كنت أحرص على انتقاء كلماتي بعناية متخيراً أكثرها تأثيراً لأصل في النهاية إلى غاية في نفسي .

لزمت الصمت فأشرت إلى المترجم بالمغادرة و اقتربت منها و لكنها دفعتني بعنف ، فأمسكت يدها و سحبتها بقوة نحوي صارخاً:

ـ إما أنا وحدي أو 1000 رجل في أوكار نساء المتعة ؟.

وقف المترجم متردداً قليلاً ثم ترجم لها ما قلته و انحنى و غادر و تركنا بمفردنا.

إرتعش صوت السيد “إيتاما” و اختنقت نبراته فتوقف ليناول بعض الماء من الكوب الموضوع أمامه و ليلتقط أنفاسه لبعض دقائق ثم قال بصوت مهتز:

ـ في تلك الليلة اغتصبت “ريبيكا” و كان هذا اسمها الحقيقي ، مرتين.

و هنا اختلس النظر إلى الصورة و لكأنه ينتظر ردها و يشفق منه و لكأنها إمرأة من لحم و دم جالسة قبالته تقرعه بعينيها الغاضبتين و تلعنه بصمتها ، و مرة أخرى تراء له بأن عبوس زوجته زاد من تقوس فمها إلى الأسفل أكثر حتى أصبح أقرب إلى شكل الهلال.

ـ لم يكن هذا ما خططت له ، كنت أظنها ستوافق أن تصبح محظيتي في مقابل أن أحميها من الاغتصاب في أوكار المتعة العسكرية ، و لكنها رفضت و أبدت مقاومة عنيفة فجرحت وجهي و أحد ذراعي ، فزاد ذلك من غضبي و إصراري و أنتهى الأمر بها ملقاة على أرضية المكتب فاقدة للوعي فيما تهالكت على كرسي بجانبها.

لم تكن “ربيكا” مجرد فتاة متعة بالنسبة إلي و لا حتى أسيرة حرب ، كانت أول شخص غير ياباني أشعر نحوه بالفضول أو الاهتمام و أتعامل معه كإنسان من لحم و دم و ليس كعدد أو كاسم في دفاتر المعتقل.

شعرت نحوها بالمسؤولية و قررت نقلها إلى غرفة بجانب غرفتي الخاصة في مبنى الإدارة و سهرت على أن تنال أفضل الطعام و الشراب و الملبس و أن تتمتع بالدفيء في طقس المعتقل القارس البرودة ، و أعفيتها من الأعمال المرهقة و أصبحت تقضي كل يومها في غرفتها لا يكدر صفوها أحد ، حتى أنا منعت نفسي من اقتحام خلوتها ، أردتها أن تأمن لي مجدداً و ربما إن سارت الأمور جيداً قد تثق بي و تقدر اهتمامي و إحساني لها.

لم أقترب منها بعد تلك الليلة رغم رغبتي الشديدة في ذلك ، و بعد وقت قصير من التفكير قررت بأن أتزوجها !.

يُتبع ….

هوامش :

 الأوريغامي : فن طي الورق و هو منتشر في اليابان.

تاريخ النشر : 2018-10-20

guest
10 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى