أدب الرعب والعام

عندما تُغتال الزهور: الساكورا و التوليب – الجزء الثالث

بقلم : Samer Saleh

عندما تُغتال الزهور: الساكورا و التوليب - الجزء الثالث
اقتربت منها و أخرجت خنجري و جرحت اصبعي

 المكان: أوساكا.

الزمان: السادس من مارس 1999 م.

مر من الليل منتصفه أو يزيد و ما زال السيد “فوشيدا” جالساً في الصالون أمام صورة زوجته المتوفاة مواصلاً حكايته و راوية سره الذي أخفاه عنها لخمسين سنة:

ـ أقبلت على “ربيكا” و ما إن رأتني حتى تراجعت نحو الزاوية المقابلة ، توقفت في مكاني عند الباب محاولاً تهدئة روعها و أخبرتها بلغة الإشارة بأنني لن أقترب أكثر ، و حين هدأت لوحت بورقة كتبت عليها باللغتين اليابانية و الألمانية عقد الزواج و وضعتها فوق منضدتها.

اقتربت منها بحذر و قرأتها على عجل ثم لوحت برأسها رافضة.

حاولت التواصل معها و لكنها لم تكن تفهم اليابانية و لم أكن بدوري أفهم الألمانية و لذلك غادرت الغرفة على عجل و عدت مصطحباً المترجم.

توجهت إليها بالحديث فيما كان هو يترجم كلامي:

ـ عقد الزواج هذا سيجعلك زوجة ضابط في الجيش الياباني و بالتالي ستنسبين إلي و ستتمتعين بحمايتي و سأستطيع بذلك أن أمنع إلحاقك بمنازل المتعة العسكرية أو تعذيبك في المعتقل.

و أشرت إلى الورقة على الطاولة مضيفاً : إنه حصانة لك ، حصانتك الوحيدة ثقي بي .

كان المترجم يسترق النظر إلي بطريقة مريبة و هو يحادثها و يترجم ما أقوله لها ، و قد لاحظت بأنه قد استغرق هذه المرة وقتاً أطول في الترجمة و بدأ لي و كأنه يخبرها بكلام لم أقله ، كلام أثار اهتمامها و جعلها تقترب من المنضدة ببطء و تعاود قراءة العقد.

و بعد وقت قصير من الصمت هزت “ريبيكا” رأسها موافقة في إذعان ، فاقتربت منها و أخرجت خنجري و جرحت اصبعي و بصمت على الورقة و عندما هممت بسحب يدها ترددت لوهلة و نظرت إلي بخوف ثم ما لبثت أن مدت يدها طوعاً فجرحت إبهامها و ضغطته على الورقة قبالة بصمتي المدماة.

لا أعلم ما قاله لها المترجم حتى غيرت رأيها و لكني متأكد بأن له علاقة بما يحدث في بيوت المتعة ، فقد كانت تلك البيوت السيئة الذكر أسوء كوابيس الأسيرات في قبضة الجيش الياباني.

******************************

المكان : أمستردام.

الزمان : العشرين من أبريل 1999م.

عاد “فيليب” من جولته الصباحية المعتادة التي لم يمنعه كبر سنه و لا العجز الذي لحق قدميه فأقعده على كرسي متحرك من القيام بها يومياً ، و كعادته منذ تزوج “ريبيكا” فقد اشترى لها وردة حمراء من عند بائع زهور على ناصية الطريق.

و لكنه لاحظ اليوم أن زوجته لا تبدو على ما يرام و قد استقبلت وردته بفتور لم يعهده منها.

جلس الزوجان في الشرفة يحتسيان الشاي و يراقبان الشارع في صمت قبل أن تقول “ربيكا” بتوتر واضح:

ـ لقد وردني اليوم اتصال هاتفي من اليابان.

فسألها زوجها محاولاً عدم إظهار انفعاله:

ـ أكان هو؟.

ـ لا أعلم ، لقد رفضت استقبال المكالمة .

صمتت “ربيكا” قليلاً ثم سألت زوجها بنبرة منفعلة:

ـ هل تظن بأنه هو؟.

ـ ربما هو أو أحد أفراد عائلته و قد يكون شخصاً لا علاقة له بما حدث في الماضي فلا تقلقي ، قد يكون أياً كان ، و ربت على كتفها بلطف مطمئناً.

********************************

المكان: نيويورك

الزمان: أغسطس 1945 م

كان قد مر على انتقال “ربيكا” إلى مدينة نيويورك سنتين و نصف و كانت تعمل في مطعم للوجبات الخفيفة نهاراً لتعيل نفسها بينما تزاول مهنتها الأصلية كصحافية في صحيفة محلية صغرى مساءً.

في تلك الفترة كان العالم لا يزال منتشياً و لم يفق بعد من سكرة انتصار الحلفاء و نهاية كابوس الحرب العالمية الثانية التي ظن الجميع بأنها لن يمضي إلا بفناء البشرية جمعاء.

و في تلك الأجواء المنعشة المليئة بالأحلام و الأمال تعرفت “ريبيكا فون درمون” المراسلة الحربية السابقة ذات الثمان و العشرين ربيعاً على “فيليب ديبون” المحامي الأمريكي من أصول فرنسية و الذي سيصبح بعد شهرين من اللقاء الأول زوجها الثاني بعد الياباني “ايتاما فوشيدا” الذي تزوجته قسراً في المعتقل الياباني لأسرى الحرب في الصين و الذي كانت ما تزال عالقة في دومته عاجزة على نسيان ما لاقته فيه من الترهيب و التنكيل حتى صالحها القدر و أرسل إليها “فيليب” فمسح بيده أحزانها و احتضن قلبه بحنو قلبها و نفض عنه أوجاع و مآسي الماضي القريب.

قبله كانت شبه يائسة و شبه موقنة بأن لا رجل سيقبلها و يتقبل ماضيها ، فكرت في أن تسير على خطوات بنات جنسها ، فتسقط ما حدث لها في الحرب من حساباتها و ذاكرتها ، تنفيه من حياتها تنكره و تدفنه في مقبرة النسيان ، و تدعي بأن ما كان لم يكن و بأنها وُلدت يوم النصر فلا عرفت المعتقلات و لا شهدت المجازر و لا نالها من أخبار الحرب شيء.

فكرت كثيراً قُبيل قدومها إلى نيويورك في أن تغير أسمها و تذوب وسط الجموع و تبدأ حياة جديدة بعيداً عن أوروبا و أنقاضها و رائحة الجثث و الموت فيها ، و تبحث عن فارسها في المدينة الجديدة العظيمة و تنسى و تحيا و كأنها بُعثت من العدم.

و لكن هاتفاً ظل يهتف داخلها بأن الماضي لا يمل من ملاحقة أصحابه و بأنه و في يوم ما و بينما هي غافلة عنه سيطل برأسه من باب منزلها صائحاً بشماتة كريهة ” ها قد عدت”.

و من أجل تلك اللحظة بالذات قررت أن تواجه ماضيها و تحرمه من فرصة الانقضاض على مستقبلها فحكت ل”فيليب” في أولى مواعيدهما كل قصتها منذ وُلدت و حتى لحظة جلوسها بين يديه ، فتمسك بها الشاب أكثر و فتح لها ذراعيه و قلبه.

*****************************

المكان: أوساكا.

الزمان: السادس من مارس 1999م.

أصاب التعب السيد “فوشيدا” بعد يومه الطويل في جنازة زوجته فقرر أن ينهي رواية اعترافه المتأخر خمسين سنة و هو ممدد على سريره ، نهض ببطء و سار بخطوات صغيرة أشبه بالزحف منها بالمشي و أخذ صورة زوجته و قصد غرفته.

وضع الصورة على وسادة قرينته المتوفاة و تمدد بجانبها و قال بعد استراحة قصيرة التقط فيها أنفاسه:

ـ لم يكن زواجي ب”ريبيكا” أو “روكو” كما أسميتها بعد ذلك .

و عندها قطع حديثه الذي لم يكد يبدأه و التفت إلى الصورة و تمتم:

ـ أعلم ما تفكرين فيه الآن ، كيف بلغت بي الوقاحة أن أسمي ابنتنا الوحيدة على اسمها ؟.

أنت محقة تماماً ، كانت تلك وقاحة مني تجاوزت بها كل حدود اللياقة و المسؤولية ، و لكني لم استطع التفكير في أسم غيره عندما رزقنا بابنتنا، كان يستحوذ و صاحبته على كل تفكيري حتى بعد نهاية الحرب و حتى بعد الزواج و الأنجاب ، ظللت أسأل نفسي دائماً عن مصيرها ، هل نجت من الحرب ؟ و في أي جزء من العالم هي الآن ؟ هل تزوجت ؟ هل أنجبت؟ هل تذكرني؟.

قطع العجوز حديثه و صمت قليلاً و كأنما يسأل نفسه مجدداً نفس الأسئلة ، و لكنه ما لبث أن واصل كلامه ، لقد كان متعباً و لكنه كان يشعر أيضاً و كأن الزمن يسابقه:

ـ كان زواجي من “ربيكا” أقرب للعقد منه للزواج ، فلم يباركه كاهن و لا قسيس و لا عُقد في جهة رسمية معترف بها سواء في اليابان أو هولندا ، كان عقداً عرفياً استلهمت فكرته من أحكام الأجداد في بلادنا ، و لكي اُكسبه الشرعية و لأضمن اعتراف رؤسائي و أسرتي فيما بعد به ذيلته بالدم الميثاق الوحيد الذي يقدسه اليابانيون ، فما تجمعه صلات الدم لا يفرقه أحد.

و هكذا توحدت مع “ربيكا” بصلة الدم و نقلتها إلى غرفتي و أشهرت الزواج في المعتقل و منحتها أسم “روكو فوشيدا” و عاملتها كزوجة يابانية ، فلم أنتقص من حقوقها شيئاً ، اشتريت لها افخر الكومونو و الثياب العصرية و أهديتها المجوهرات ، حتى أني لما علمت شغفها بقراءة الكتب و كنت أوصي الجنود بمقايضة بعض السلع و الطعام بالروايات و الكتب الألمانية.

كنت أسترضيها بكل الطرق الممكنة و خففت من قسوة معاملة الأسرى في المعتقل و زدت حصصهم من الطعام طمعاً في أن تحنو “روكو” و تقبل علي كزوجة محبة.

لم أهتم طوال فترة خدمتي في الصين باحتساب الأيام و تتبعها كما فعلت بعد زواجي ، فقد أصبت بهوس النظر في رزنامة الشهر ستة مرات في اليوم على الأقل ، كنت أعد الساعات و أتمنى سرعة انقضائها حتى أصطحب زوجتي و أعود إلى اليابان ، فلا أخشى بعد ذلك شيئاً.

يا له من تفكير ساذج ! خاصة و أنا أعلم الآن من نتائج الحرب ما أعلم.

و لكن ذلك لم يستمل قلب “روكو” فكانت في النهار تعاملني كما يعامل الأسير سجانه و في الليل تتصرف معي كفتاة متعة تؤدي ما عليها خوف الموت و كأن الزواج لم يكن.

و كنت عاجزاً على إيجاد الطريقة الصحيحة لاستمالتها أو حتى شد انتباهها ، كانت لا تنظر في وجهي، لا تحدثني، لا تجلس بجانبي و لا تقترب مني .

كانت تقضي الساعات في قراءة الكتب و الكتابة على دفتر صغير لا يفارقها ، و عندما تنهي الكتب جميعها كانت تعيد قراءتها مراراً تكراراً حتى تتوفر لها كتب جديدة أتركها لها على المنضدة.

خلال تلك الأسابيع التي أعقبت زواجي بها و انتقالها إلى غرفتي لاحظت أن هناك شيئاً واحداً يسيطر على تفكيرها و يهمها ، الحياة خارج أسوار المعتقل.

كانت تقف أحيانا لأمسية كاملة تراقب أضواء المدينة القريبة البعيدة دون أن ينالها التعب أو الملل و كانت حواسها جميعها تتحفز و تتوثب ما إن أبدأ بالحديث عما يجري وراء الأسلاك الشائكة و عما رأته في مهماتي خارج المعتقل.

و لذلك دأبت على رواية تلك الأحاديث التي كانت وحدها تدفعها إلى ترك الكتب و الإنصات باهتمام لما أقوله و تمد بيننا جسراً إنسانيا مؤقتاً سرعان ما ينقطع ما إن انهي حكاياتي.

تواصل الأمر على ما هو عليه حتى قررت في احدى الأمسيات بأن أصطحب “روكو” إلى خارج المعتقل لقضاء بعض الوقت في مدينة شينغهاي القريبة ، كنت متلهفاً لتجربة الحياة الزوجية الطبيعية كما يجب أن تكون بمنأى عن الموت المتربص في كل شبر و الأسلاك الشائكة التي تزداد قوة و علواً كلما طالت الحرب.

كان قراراً متهوراً فلو انكشف أمري لتعرضت للمحاكمة و ربما السجن ، و لكن شعور الرضا الذي سأراه على وجه زوجتي عندما أهديها تلك المفاجأة السارة كان دافعاً أشد قوة من خوفي.

و لم يخب ظني فمنذ أعلمتها بالأمر اختفى التجهم الذي لازم ملامحها شهوراً و حلت محله سعادة كانت تحاول عبثاً إخفائها.

أسرعت و غيرت الكومونو و ارتدت فستاناً عصرياً بلون الخوخ و قبعة كبيرة التهمت رأسها و جزء كبيراً من وجهها ، علها تحميها من أن يتعرف عليها أحد ما في المدينة فيفسد بهجة انعتاقها الأول من الحبس و دست جسدها النحيل الفارع في معطف وثير أسود اللون حصلت عليه في مقايضة مع تاجر ألماني قال بأنه يعود إلى زوجة أحد الأثرياء الصينيين.

تسللت برفقة “روكو” و خبأتها في صندوق السيارة العسكرية و قدتها إلى خارج المعتقل و اتجهت إلى المدينة ، و قبل الوصول إليها توقفت على جانب الطريق و أخرجت زوجتي من السيارة و أركبتها بجانبي و نزعت معطفي العسكري و عدلت بدلتي و أسرعت نحو حانة صغيرة معزولة في ضاحية المدينة لا يرتادها سوى الأجانب و قلة من الصينيين.

كان العد التنازلي قد بدأ للاحتفال بعيد الكريسماس و إن كان قد فقد منذ اندلعت الحرب كثيراً من رونقه و بهجته و اقتصر على أحياء سهرة العيد في بعض الحانات و المطاعم القليلة التي تستعد لهذه المناسبة.

دخلنا الحانة و جلسنا في أحد الأركان و كانت “روكو” لا تكف عن الالتفات حولها و التحديق في كل ما يحيط بها بلهفة منذ غادرنا.

لم يكن المكان مزدحماً و اقتصر الحضور على بعض الأجانب الباحثين عن متنفس من ويلات الحرب ، كانوا يشربون و يتمايلون على وقع الموسيقى الغربية الهادئة و كانوا لطفاء إلى حد ما ، فالكل بدا و كأنه نزع حقده و خوفه و عدائه عند باب الحانة و انهمك منذ دخلها في شأنه الخاص ، لا أحد يهتم إن كنت صينياً ، ألمانياً ، أمريكياً ، يابانياً أو من المريخ حتى ، ما دمت لا تذكر الحرب و تشغل لسانك بالأكل أو الشرب.

حرصت على أمساك يد “روكو” بإحكام رغم محاولتها سحبها بين الفينة و الأخرى ، كنت أخشى أن يغريها تساهلي المفرط معها فتنتهز الفرصة و تهرب.

كنا جالسين بصمت في ركننا البعيد و كل منا غرق في عالمه الخاص عندما اندفع نحونا مصور فتوغرافي أجنبي و بدأ يشير إلينا بحماس و يأمرنا بالتموضع للتصوير، وقفت “روكو” فوقفت بجانبها فأشار المصور بأصابعه “1،2،3” و لمع ضوء الكاميرا.

سحب الرجل الصورة و سلمها إلى “روكو” قائلاً كلاماً لم أفهمه ، أظنه كان باللغة الإنجليزية أو ربما لم يكن كذلك.

سلمتني زوجتي الصورة و جلست فعدت إلى مقعدي و أنا أتأملها ، و كانت تلك الصورة الوحيدة التي ابتسمت فيها ابتسامة حقيقة.

كانت السهرة تسير بسلاسة و لم يعكر صفوها إلا ابتسامة ماكرة لمحتها على وجه أعرفه جيداً و لم يكن صاحبه سوى القائد “ياماماتو” رئيس فرق “نساء المتعة” جالساً برفقة بعض الغانيات الصينيات على طاولة في الجانب المقابل من القاعة.

أحسست برعدة سرت في جسدي كادت تصطك لها أسناني و ضغطت بشدة دون وعي مني على يد “روكو” فتأوهت فسحبت يدي و اعتذرت لها و عندها لاحظت انسحاب “ياماماتو” من مجلسه و إقباله علينا.

كان يسير نحونا و الابتسامة الخبيثة لا تفارق وجهه ، و ما إن وصلنا إلى طاولتنا حتى قال و هو يتأمل “روكو” التي أخفضت رأسها حتى لا يعرفها:

ـ القائد “فوشيدا” ، لم أكن أعلم أنك من رواد هذه الحانة ؟!.

أجبته في ضيق واضح:

ـ أزورها عرضياً بين الحين و الآخر.

إقترب “ياماماتو” أكثر و انحنى نحو مرافقتي و رفع بطرف سبابته قبعتها قليلاً فأسرعت بإبعاد يده عنها ، و لكنه قال بمكر:

ـ الأسيرة الألمانية أليس كذلك ؟.

فأدركت تماماً ما كان يقصده ، وضعت راحة يدي على كتف “روكو” فإذا هي ترتجف فاستجمعت شجاعتي و أجبته:

ـ بل زوجتي السيدة “روكو فوشيدا”

بهت “ياماماتو” قليلاً و لكنه سرعان ما بدأ بالتصفيق مهللاً:

ـ تهانينا ، دعونا نشرب نخب هذا الحدث السعيد.

و أشار إلى نادل مار بالصدفة فناوله قدحاً من الشراب احتساه دفعة واحدة و عيناه لا تفارقان وجهي .

في يناير سنة 1940 م احتدمت المعارك في مقاطعة شانشي الشرقية في الصين و تمت محاصرة الفيلق السادس و الثلاثين للجيش و انتشر الهلع في صفوفنا من أن لا يصمد الجنود المحاصرون و يستسلموا ، و لذلك استدعت القيادة العامة أكبر عدد من الجنود كتعزيزات لشن هجوم مضاد و كسر الحصار بأسرع وقت ممكن.

كانت الأجواء مشحونة بالقلق و الخوف و الجميع يترقب ما سيحدث و اختلط الحابل بالنابل في معظم المراكز، و لم يستثنى المعتقل من قرار تقليص عدد حراسه لإرسال بعضهم إلى الجبهة في شانشي.

و في الثاني من يناير زارني القائد “ميتسودا” و قد كان يشرف بنفسه على التعبئة العسكرية و أرسال التعزيزات ، كان هدف الزيارة المعلن الحصول على مجموعة ثانية من الجنود من حراس المعتقل ، و لكن هدفها الحقيقي لم يظهر حتى اختلى القائد “متسودا” بي في مكتبي فنزع قفازه الجلدي و صفعني به على وجهي بعنف قائلاً :

ـ كيف تتزوج فتاة متعة ؟ إن لم تكن مهتماً بسمعتك أو بسمعة عائلتك كيف تتجرأ و تلطخ سمعة الإمبراطورية ؟.

و صفعني مجدداً على خدي الآخر فحنيت رأسي و التزمت الصمت ، بينما واصل فورة غضبه صارخاً :

ـ لقد أقنعت القيادة العليا بأن زواجك من فتاة المتعة إشاعة أطلقها أعدائك و قمت بتكذيب التقارير التي أتهمتك بذلك و أثنيت عليك و على تفانيك أمامهم و أذللت نفسي من أجل إنقاذك إكراماً لوالدك الذي لا يعلم من حماقاتك شيئاً ، أما الآن فقد حان دورك لتنظيف ما أحدثته من فوضى.

لولا أزمة شانشي لكنت الآن تحاكم عسكرياً على حماقتك الكبرى.

انتظرت حتى هدأ قليلاً و أخرجت عقد الزواج و قدمته له هامساً:

ـ لا أستطيع ألغاء الزواج.

تأمل الورقة قليلا ثم قال مغاضبا:

ـ زواج موثق بالدم تستغل حكمة الأجداد لألحاق العار بهم و بالإمبراطورية ، و لكن لا تقلق سأخلصك منه.

شق الورقة إلى نصفين و إستل سيف الساموراي المعلق بخصره و دفعني و اندفع نحو الرواق يبحث عن “روكو” حتى وجدها في غرفتي ، سحبها من وراء منضدتها حيث كانت تدون يومياتها ممسكاً بتلابيب ردائها بينما اتسعت عيناها من الرعب لرؤية السيف بيده ، أسرعت نحوه بينما نظر إلي و صرخ ساخراً:

ـ أتظن بأنك إن ألبستها الكومونو ستصبح سيدة تليق بضابط في الجيش الإمبراطوري ؟.

و هوى بالسيف يريد عنقها ، فاعترضته براحتي دون تفكير فبتر أثنين من أصابعي و جزء من كفي سقطت جميعهاً عند قدمي و انفجر دمي فأغمي على “روكو” من الرعب ، فيما ارتميت عند قدمي القائد “ميتسودا” و مرغت وجهي تحتهما أطلب منه لها الصفح و الرحمة.

ظللت أتوسل و ألح في التوسل و التذلل و أبكي كطفل بينما يدي تنزف على جزمته العسكرية دون توقف و لا أعلم كم مر من الوقت و أنا جاثم على الأرض قبل أن يدفعني القائد “ميسودا” بعيداً عنه و يقول متوعداً و الشرر يتطاير من عينيه:

ـ استمتع بعاهرتك لما تبقى لكما من الوقت ، لأنه ما إن ينتهي هجوم شانشي و يستتب لنا الأمر ستُعزل من منصبك و ستُقدم للمحاكمة العسكرية و سنرسل عاهرتك البيضاء إلى معتقل سيبدو معه الموت نعيماً لا يضاهيه نعيم.

يُتبع …..

هوامش :

 زواج ميثاق الدم: نوع من أنواع الزواج المعتمدة في العهود الغابرة في المعتقدات الوثنية و هو من أقدس الزيجات الذي لا يحتوي على حق الطلاق ، لأنه يربط الزوجين بصلات الدم إضافة إلى العلاقة الزوجية .

 

تاريخ النشر : 2018-10-23

guest
7 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى