عجائب و غرائب

عَجائِبُ منْ زَمانِ الوَصْلِ

بقلم : قصي النعيمي – سلطنة عُمان

عَجائِبُ منْ زَمانِ الوَصْلِ
منظر خلاب من داخل قصر الحمراء في الاندلس

في أغمار ذاك الظلام الذي أناخ على العالم بأستاره الرفيعة، و بين متلاطمات الموج الهادرة بأصواتها المريعة. هناك في مستودع الأسرار، و ملتقى النبوءات و الأخبار، ولد النجم المحمدي، و سطع بأنواره الأبدية على صفحة الوجود ليروي ظمأ السنين الغابرات، و اهتزت به جدباء الوجود فربت و أنبتت من شتى الباسقات. و غير بعيد عن مطامح تلك الأنوار كانت شبه الجزيرة الأيبيرية (الأندلس) تموج في دياجي النزاعات. وكانت كتائب الفتح بقيادة طريف بن مالك المعافري تمهد لإدخال الأندلس إلى حياض الإسلام و حوزته، و لم تلبث الجيوش أن تتابعت بِـوَشْيِ الأعراق المختلفة، و لكنها كانت قلوبا مؤتلفة. هذا الأمازيغي و ذاك العربي، قد ضمهم الإيمان بلفيفه الخالد، فراحوا يصيحون معا تمجيدا لله الواحد.

الله أكبر… و تم الفتح، و بدأت قصة أخرى من قصص حضارة الإسلام. و اكتحل الزمان بحسن تلك المعمورات من قرطبة إلى إشبيلية، و من غرناطة إلى بلنسية. و غدت تلك الربوع مضرب المثل في علمائها و مساجدها، مكتباتها و قصورها، بل و حتى في مسلك أهلها و طريقة عيشهم. و من ذلك الينبوع المتفجر بكل ماتع و رائع، اغترَفْتُ لكم أمثلة تحكي عن عجائب زمن الوصل الضائع:

1- بَهْـوُ قُــمَارِشْ

عَجائِبُ منْ زَمانِ الوَصْلِ
برج قمارش في قصر الحمراء بغرناطة

كانت لملوك الأندلس و أعيانها، عناية بالغة بالقصور و أفنائها، أوليست حيث يلتقي السلاطين بمبعوثي الممالك الأوربية و السفراء؟، فيُرونَهم عصارة فخرهم الطموح بأكثر أمثلته جلاء. و يزدهون بما أنبتته أرضهم من التطور و النماء، و بما جرى تحت حكمهم من التقدم و الرخاء. و لما كان الملتقى الأول للسفراء مع السلطان في الأبهاء، فقد جرت العادة أن يكون أروع أجزاء القصور حسنا، و أكثرها أنسا، و من تلك الأبهاء التي لازالت باقية إلى يومنا هذا، بهو قُمارِش.

عَجائِبُ منْ زَمانِ الوَصْلِ
البرج من الداخل

في غرناطة و بالتحديد في مركزها المسمى بالحمراء، ذلك المشرف بجدرانه العلية من على قمم جبال سيرانيفادا. كان السلطان أبو الوليد إسماعيل قد بنى قصر المُتَـزيِّن، ليكمل البناء من بعده ابنه السلطان أبو الحجاج يوسف الذي شَيَّدَ برج قمارش و زينه بالبهو المنسوب إليه، و أضاف جناحا للحمامات أسفله. و ما هدأت حركات الإضافة في قصر المتزين حتى عهد محمدٍ الملقب بالغني بالله، إذ أضاف للقصر بهو البركة.

عَجائِبُ منْ زَمانِ الوَصْلِ
البهو مزدان بالنقوش والزخارف الرائعة

و كما ذكرت فإن بهو قمارش ليس سوى جزءٍ من برجٍ بناه السلطان أبو الحجاج يوسف إضافة على قصر المتزين. و هو عبارة عن قاعة مستطيلة شديدة الاتساع (18×11م)، بل هي أكثر القاعات اتساعا في القصر، تنساب الزخارف فيها من قمة قبتها المَهولة الارتفاع (23م) لتنسكب على الجدران و الأرضيات. و حيث تتلاقى أعمدة الضياء القادمة من النوافذ العلوية المسماة بالقمارش، هناك حيث تلتقي كان عرش السلطان ينتصب بكل ما اكتنزته نقوشه و جودة صنعه من الألق و الهيبة.

كان البهو يعج مع زخارفه الأخاذة بأروع الألوان التي اختفت آثارها مع الزمن، كان يُخَيَّـل للداخل إلى ذاك البهو و كأن ألف ياقوتة و ياقوتة قد سكبت بسر جمالها على أركانه. و كأن السماء الزرقاء قد أمطرت بزرقتها على تلكم القبة الشاهقة، فلم تترك للناظرين من الجواب إلى الانبهار، و لدقة الصنع و إحكامه بالإقرار.

عَجائِبُ منْ زَمانِ الوَصْلِ
قصر الحمراء في غرناطة .. قاعات مزدانة بأروع النقوش وحدائق غناء وبرك زرقاء

لم يكن جمال بهو قُمارش فقط في زخارفه و ألوانه، بل كان جزءا من برج المتزين الذي كان يطل على غرناطة. فاستغل المعماريون ذلك أحسن استغلال و أفضله، فـقاموا بعمل نوافذ للبهو من جميع جهاته، بحيث يُتاح للداخل إلى البهو الاطلاع على كل غرناطة، و كأنها صفحة مبسوطة أمام عينيه. فتخيل عزيزي القارئ شعور ذاك السفير القادم من الممالك القشتالية أو غيرها، و هو يرى السلطان متربعا على عرشه و بين حاشيته، و قد التـقت بين يديه أضواء السماء و بحارٌ من زخارِفٍ لا زالت تصدح بــ لا غالب إلا الله، و تحت رجليه، هناك تقبع غرناطة بأسرها.

2- بهـو السِّباع

عَجائِبُ منْ زَمانِ الوَصْلِ
بهو السباع .. سمي كذلك بسبب نماثيل الاسود (السباع) التي تحمل النافورة

غير بعيد عن بهو قُـمارش، أنشأ السلطان الغني بالله – الآنف الذكر- بهو السباع، و جعله مجتمع المحاسن الأندلسية و ملتقاها، و نَصًّبهُ مُـفْتَخَرَ مَآثِره و مُنتقاها. و على غرار بهو قمارش فبهو السباع ذو أبعاد مستطيلة، و لكن صحنه يتميز عن الأول بانكشافه على السماء. و يحف هذا البهو أروقة قد اعتلتها عقودٌ محمولةٌ بما يقارب الــ 124 من الأعمدة الرشيقة المصنوعة من الرخام الأبيض الناصع، و قد تُوِّجَتْ أعاليها بتيجان من جميل العبارات و النقوش، فكأنما هي زهورٌ فارعة قد مدت بتلاتها للداخلين إلى البهو. و إذا رفعت أنظارك إلى السماء استقبلتك القباب المضلعة الخضراء. و هي على التحقيق 8 قباب موزعة حول البهو.

عَجائِبُ منْ زَمانِ الوَصْلِ
النافورة كما تبدو من داخل القصر

و في وسط البهو نافورة أو كما كانوا يسمونها “فوارة”. و هي حقا من بديع ما انتجته أيدي الأندلسيين. و الفوارة عبارة عن حوض من المرمر الأبيض يحمله اثنا عشر أسدا يفور الماء من أفواهها ليصب في قنوات معلومة. و الغريب أن الأُسودَ كانت تتناوب في إخراج الماء، فساعة تفور المياه من هذا و ساعة من ذاك، و هكذا على الدوام دون انقطاع. و أمام كل أسد بيت شعري من قصيدة للوزير ابن زمرك، كل بيت منها يفيض مع الماء عُذوبةً و رِقّـة :

تَبارَكَ مَن أَعْطَى الإِمَامَ محمدا

مَغانِيَ زَانَتْ بِالجَمالِ المَغانِيا

***

وَ إِلاَّ فَهذا الرَّوْضُ فِيهِ بَدائِــــعٌ

أَبَى اللهُ أَن يَلْقَى لَهَا الحُسْنُ ثانِيَا

***

وَ مَنْحُوتَةٌ من لَؤلؤٍ شَقَّ نُورها

تَجَلَّى بمفرض الجُمانِ النَّواعِيَا

***

يذوب لُجَيْنٌ سـال بيــن جَواهِــــــرٍ

غَدَا مِثْـلها في الحُسْنِ أَبيضَ صَافِيا

 

3- المكتبات الأندلسية

عَجائِبُ منْ زَمانِ الوَصْلِ
صفحات مزينة بالرسوم من مخطوطات اندلسية 

رغم أن كل مل تبقى من تلك المكتبات العامرة ليس إلا آثارا خالية، و أطلالا خاوية، و بضع مخطوطات هنا و هناك. إلا أنها ما زالت شاهدا على أعظم المنشئات التي طورها أهل الأندلس و اهتموا بها، و استمر التطوير فيها حتى سارت بذكر مناقبها الركبان، و تهافت على زيارتها الناس من قاصي الأوطان.

ليس من العجيب القول بأن كل حي من أحياء الأندلس كان يضم مكتبة خاصة لأبنائه، و لكن العجيب هو مدى ضخامة ما حوته كل مكتبة منها على الرغم من صغرها، و ضيق نطاقها على مجموعة صغيرة من الناس. فتلك مكتبة إشبيلية التي بناها الراضي بالله بن المعتمد، تعج بنحوٍ من عشرة آلاف إلى مائة ألف مجلد. و يُنقل إلينا أن إحدى المكتبات العامة كانت لها فهارس لكتبها تملأ قرابة الـ44 مجلدا، كما روى ذلك ابن حزم في كتابه الجمهرة. و لعلنا نتصور بشكل أكثر وضوحا مدى ضخامة تلك المكتبات عندما نعلم أن القائمين على أحدى المكتبات الصغيرة أرادوا نقل الكتب إلى منطقة أكثر اتساعا، فاستنفدوا خمسة أيامٍ لنقل كتب الشعر فقط.

عَجائِبُ منْ زَمانِ الوَصْلِ
مخطوطات اندلسية

و كان في كل مسجد من مساجد الأندلس المشهورة مكتبة ضخمة تضم كتبا في شتى صنوف المعارف و العلوم، فمن الفقه و الحديث إلى اللغة و الشعر، و من الفلك و الطب إلى علم الفِلاحَة و الفلسفة. و لم تكن تلك المكتبات نِتاجَ جهد فرد واحد، فقد كان علماء و أعيان كل مدينة يُودِعُون كتبهم وقفا في تلكم المساجد، و من ذلك وقف أبي الوليد الباجي المتوفى سنة 474هـ، و الذي أوقف جميع كتبه لمسجد بيرة. و كذلك محمد بن محمد بن لب الكناني، و الذي وقف بعض ثمين كتبه في مسجدٍ بمدينة مالقة. و في تلك المساجد التي تراكمت في مكتباتها عشرات الألوف من الكتب و الرِّقاع، و امتلأت زواياها بالفقهاء و العلماء من شتى البقاع، تكونت جامعاتٌ كجامعة قرطبة و جامعة طليطلة. و راح طلبة العلم يقصدونها حتى من خارج الأندلس.

و الجدير بالذكر أن تلك المكتبات كانت تحظى من السلاطين و العلماء ببالغ عنايتهم و اهتمامهم. فتم تعيين المشرفين و القائمين عليها، و تم تدوين كل كتاب في فهارس دقيقة، و فُتح الباب ليستعير من شاء ما شاء منها، فكانت ينابعا للمعرفة و منهلا موفورا لكل الأندلسيين. حتى لقد عاب أبو حيان بن يوسف الأندلسي من يصرف أمواله في شراء الكتب، فقال : “الله يرزقك عقلاً تعيش منه، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف و قضيت حاجتي”. (و يعني بخزائن الأوقاف، مكتبات المساجد).

4- الاهتمام بالتعليم

عَجائِبُ منْ زَمانِ الوَصْلِ
كان للتعليم اهمية كبرى 

و لقد كان التعليم في الأندلس ذا أهمية كبرى، فلم يكن أحدٌ حتى من ذوي المهن كالحدادة و النجارة ليقبل بالأمي ليعمل عنده و يستنكف من ذلك. بل ينقل إلينا ابن بشكوال أنه وجد في باعة التين و العنب على أرصفة قرطبة من كان يحفظ كتبا ككتاب “معاني القرآن” لأبي جعفر النحاس، فما بالك بطلبة العلم الذين رُوي أنهم كانوا يحفظون كتاب الأغاني و كتاب سيبويه و موطأ الإمام مالك عن ظهر غيب. و يعكس تلك الأهمية لديهم أن الحَكَمَ المستنصر بالله كان قد أوقف جميع حوانيت السَّراجين في سوق قرطبة، ليتم صرف عوائدها على المعلمين في مدارس قرطبة وحدها، و التي بلغ عددها آنذاك الـ 27 مدرسة مجانية للأطفال، و هذه غير تلك التي بنيت في الضواحي و يبلغ عددها 24 مدرسة.

لم يهتم الأندلسيون بتعليم و تثقيف صغارهم فقط، بل انصرف جهدهم إلى إيجاد وسائل تعليم للصم و العميان أيضا. و قد نقل إلينا الإمام ابن حزم في كتابه ” التقريب لحد المنطق” حكاية عجيبة في ذلك عن مؤدبه أحمد بن محمد بن عبد الوارث. و يحكي مؤدب ابن حزم عن أبيه الذي ولد له ابن اجتمع فيه العمى و الصمم. فأصر الأب على تعليم ابنه، و اجتهد في ابتداع وسيلة لذلك.

و انتهى فِكْرُ الأب إلى صنع أشكالٍ مُجَسِّمَةٍ للحروف، و قام على تعليم ابنه إياها عن طريق اللمس، ثم لما استطاع الابن التمييز ما بين هذه الحروف، أراه كيفية دمجها، و تكوين كلمات و عبارات منها. و بعد عمل شاق و طويل، استطاع الأب أن يعلم ابنه الكتابة، لتكون مدخله إلى العلوم المختلفة.

5- خاتمة

لقد انقلبت تصاريف الدهر بالأندلس إلى غير أهلها، و أناخ بتلك المعمورات البهية من لم يفهم مكنون أسرارها، و لم يدرك جليل مأثوراتها. فامتدت أيدي التخريب إلى معظم معالم الأندلس التي ذكِرَت في التواريخ و السِّير، و استحالت بعد أن كانت عينا إلى أثر. فتلك نافورة الأسود – الآنفة الذكر- ، قام الفرنجة بالعبث بها و تخريبها حتى توقفت تماثيل السباع عن إخراج المياه، و ذلك إلى أن تولت دولة إسبانيا الحديثة فيما بعد إصلاحها لتستقطب السياح. و كم من محاسنٍ قد انطمست آثارها في جنة العريف و قاعات الحمراء، و قصور قرطبة و غرناطة.

و يبقى كل ما ذكرت غيض من فيض تلك العتبات المنسية. و يبقى الحنين إلى زمان الوصل يذكو كلما هبت نسائم تلك المعاهد السنية.

تاريخ النشر : 2017-01-13

قصي النعيمي

سلطنة عُمان
guest
56 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى