أدب الرعب والعام

غش و غبش

بقلم : عطعوط – اليمن

رأى في المنام أنه يدور حول الصخرة ، فنظر إلى الشمس فرأها من خلالها
رأى في المنام أنه يدور حول الصخرة ، فنظر إلى الشمس فرأها من خلالها

 
تحياتي لمن قرأ وشكري لمن علق و عرفاني لمن دقق و نشر ، و دمتم مسرورين ، مستورين ، ميسورين بإذن الله ، طُرقت النواقيس و قُرعت الأجراس ، تجمع الناس ، فنادى المنادي في الصباح : من آوى ساحر فدمه مباح.
و كان قد ذاع الخبر بان حنتش وساج مسحورين و من الأبناء محرومين.

كان حنتش وساج بُغاة طُغاة ، فكان لا يأتيهم ولد إلا و مات ، فمر عليهم في وقت من الأوقات عراف رمال ، يضرب الفال و يعلل أسباب موت العيال.
ضرب الودع وقراء الكف وقال : إن السبب يعود لوجود عارض من العوارض الجسام و هامه من الهوام تدعى أم الصبيان ، تهشم العظم و ترم اللحم وتشرب الدم .
عليك قبل الولادة بساعات أن تخرجي من هذا الدار وتلدي في بيت سابع جار ، و لا تعودي مع مولودك قبل أن يمر عليك أربعون نهار.
أعطوا العراف حسابه و نفذوا ما قاله ، فرزقهم الله بولد ،  من رآه قال سبحان من خلق فصور كأنه درة من الدرر .
أتى معصار لزيارة أخته فلم يجدها في الدار ، فأخبره حنتش بما عرف العراف ونقش ، فذهب إلى أخته و عندما رأى المولود قال : إن هذا برق تمخض عن رعد ، فكان أسمه رعد.

توفى والدة بعد ولادته بعام ، و في الخامسة من عمرة لحقت أمه بأبيه ، فلم يجد من يأويه ، كفلته أخته مرعى و ضمته إلى أولادها ، فنشاء و تربى و حظي بإعجاب ماطر زوج أخته ، تعهدت ماطر بالرعاية فكان يحظى  بنصيب أوفر من نصيب أقرانه من أولاد ماطر.
فكل طلبات رعد يلبيها ماطر ، فصارت له مكانة في الأسرة وإجلال ، فكل الأولاد ينادوه يا خال.

كان رعد كثير التردد على وادي العبيد تعود ملكية هذا الوادي لأبيه ، و كانت أمه تصحبه معها عند الذهاب إلى الوادي ، فكان رعد يجد في هذا الوادي متنفس لارتباطه بذكرى والديه ، فكلما ضاق به الحال ذهب اليه.

ذات يوم ذهب إلى الوادي كعادته للتنفيس عن كربته رأى عش على فرع شجرة ، تسلق الشجرة فوجد في العش فرخان فأخذهما و أعتنى بتربيتهما و تعهدهما حتى آلفاه ، يعطيهما الحب والماء ويشاركهما اللعب و بداية الطير في الهواء وجد فيهما حنانه المفقود ، تكسوهما ألوان جميلة و أعيان كحيلة ، يشديان بالألحان فتذهب عنه الهموم والأشجان ، فأينما ذهب يذهبان على رأسه يحطان و بين الأكتاف يتنقلان.

اعترى مرعى غبط و لغط فكتمت غيضها ، لاحظت حب زوجها لرعد يفوق حبه لأولادها ، فكانت تكلف رعد بأعمال فوق طاقته في كل الأحوال.
تأمره بطحن الحب في الرحى بعد أن يقوم بتنقيته من الحصى ، و إحضار الماء من البير و رعي الأبقار والحمير ، و تكليفه بجمع بعض الأحطاب
أثناء ذهابه والإياب.

تكدر خاطر ماطر مما تقوم به مرعى حيال رعد من تنكيد وتكدير على مسمع و مراءه ، فأعتبر ذلك التصرفات من مرعى تصب في خانة الخطاء.
فطلب منها أن تقوم بتوزيع المهمات بين الأولاد بما يتناسب مع القدرات.
فحصل شجار و ارتفعت الأصوات و  تعالت الصيحات بين ماطر ومرعى ، فأشتد الخصام فصفع ماطر مرعى بغمد الحسام.
حس رعد أنه قد تسبب بخصام بين الأزواج و صدع الوئام ، غضب رعد فغادر الدار ، فاستقر في وادي العبيد على مسافة ليست بالبعيدة.
أوى إلى جوار صخرة جلس جوارها و أسند عليها ظهره.
لأحظ أن هذه الصخرة تختلف عن سائر الصخور في عدة أمور :
لونها أزرق مائل إلى السواد غامق ، ملساء ناعمة ، مصقولة بشكل فائق ، شكلها شكل قبة دائرية منتظمة.

دار حولها مستمتع بملمسها و يداه تحضنها.
فجلس يستظل في ظلها ، و نظر يتفحصها ، فلاحظ ما اذهله ! لقد شاهد الشمس من خلفها كأنها زجاج ، كان ذلك من اتجاه الظل ، دار إلى الجهة المشمسة ، فنظر في الصخرة فاذا بها معتمة ، أقر نظرة بُرهه فشاهد صورته تنعكس من الصخرة كأنها مرآة ، استمر يلف ويدور فاختلطت في رأسه الأمور.
حتى عصافيره لم تحط عليها ، عاد إلى الظل
فأسند رأسه على حجر جوار الصخرة فغفى  ونام .

رأى في المنام أنه يدور حول الصخرة ، فنظر إلى الشمس فرأها من خلالها ، دار إلى الجهة المشمسة فرأى صورته تتماها ، استمر بالنظر لصورته فتغير ملامحها شيئاً فشيء حتى تجلى عن صورة شائب علية عمامة بيضاء و أضراس فلجئ ، أرتعب  وعاد إلى الورى ، ثم تقدم نحو الصخرة مرة أخرى ، فاغر نظرة فبدأ بمشاهدة صورته ، ثم تلاشت صورته و ظهرت صورة الشايب الأخرى ، فأمعن النظر في صورة الشايب فإذ بعينه تتحرك ، فنطق بالكلام ورد السلام و قال : يا رعد توجد جوهرة تحت رأسك ، إذا وضعتها تحت لسانك فإن فيها خلاصك.

اذهب إلى الرعيان واسترع منهم نعاج و ضان.
تسمر رعد بنفس المكان و قال : هل أنت بشر محبوس في جوف الصخرة ، أم أنت ساحر من جملة السحرة ؟.
ضحك وقال : ستجدني كلما أتيت إلى هذا المكان.
أجعل هذا سرك فلا تطلع عليه إنسان.

ثم تلاشت صورته من الصخرة ، فُزع رعد من المنام مرعوب ، ثم استوى جالس على الأرض جوار الصخرة ، والعصافير شاردة عنه تقف على أغصان شجرة ، فتذكر كلام الشائب عن الجوهرة
فنظر إلى الحجر الذي كان يضع عليها رأسه.
فوقف و حمش سواعده و بيديه من موضعه على الأرض قُلعت ، فخرج من تحتها آفة ثعبان أسود كالهندوان ، ارتعب رعد فافلت الحجر فوقعت على نصف الثعبان ، فبقي ذيله تحت الحجر و رأسه خارج  ، فاتح فمه بارز اللسان..
إلى الخلف تراجع رعد مبتعداً  ، فأستمر الثعبان في التخبط حتى انقسم أثنان ، نصف تحت الحجر محشور و نصف خارج يلف على الحجر ويدور.

فكان يحاول أن يبتلع نصفه المبتور ، فنجع من فمه خرزة بحجم حبة المسبحة ، ثم استقام واقف كالعصا ، فطار وعلاء  في الهواء حتى اختفى في السماء ، بعدها تمكن رعد من الاقتراب و بطرف العصاء دحرج الكريستالة على التراب ، دعكها بالثرى ثم التقطها بيده اليسرى ، ثم أعاد نظره إلى الصخرة فرأى أنها قد تغيرت و صارت خشنة بعد أن كانت ملساء ، و تتخللها الشقوق و قد كانت صماء ، بعدها توجه إلى عين الماء فدعك الكريستالة بالطين وغسلها ، حتى برقة ولمعة وشع منها طيف كطيف قوس قُزح في الصيف.
ففتح فمه وحطها تحت لسانه ، فتشقلب كيانه و تكشفت له الأشياء ، فرأت عيانه ما لم يكن يُرى .

رأى انه ليس وحده بالوادي ، و أن حوله مخلوقات كثيرة مختلفة الأشكال ، منشغله بالأعمال ، و أن الصخرة ما هي إلا باب دخول المدينة و خلفها يقف حراس الصولجان.
التي تنتشر فيها بيوت الجان المزخرفة اللؤلؤ و المرجان ، و أن الصخور المبعثرة في أرجاء الوادي ما هي إلا قصور مشيدة.
فاخرج الخرزة من تحت لسانه فرجع لهيئته و كيانه.

فعاد  مسرع نحو الديار ، فذهب إلى حيث أمره الشايب ، فتبرع له بعض الرُعاة بعدة نعاج
، فتعهدها و رعاها فتكاثرت فكانت تلد بالأزواج ، كانت أوقاتاً تضيع بعض النعاج فترشده إلى أماكن تواجدها العصافير ، فتطير أمامه و هو يسير خلفها حتى تصله إلى ضالة أغنامه ، ذات يوم غفى فنام فحلقت الذئاب على الأغنام ، فزغرد العصفوران و نقرت على الخدان حتى ايقظاه من منامه فانقذ أغنامه ، ذاع صيته في البوادي فعُرف برعد الراعي الأمي ، فلا هو بكاتب ولا بقارئي .

ذهب إلى تاجر بالمدينة ، وقف باب المتجر و إلى مطلبه بيده أشر ، أعطاه التاجر بعد أن وزن و قبض الثمن ، كان جوار التاجر فتاة تقارب رعد سنة و صباه .
تنظر إلى رعد مذهولة من هيئته و دوران البلابل حوله ، هم رعد بالانصراف فنادته باستلطاف :

– ما اسمك ؟.
رد باستعجال : رعد !.
ضحكت و بصوت يتخلله الضحك قالت: يا أبي اسأله عن أسمه ؟.
قال التاجر: ما هو أسمك يا بُني ؟.
قال : رعد.
ضحك وقال : الرعد هو الذي يسبق البرق ويبشر بهطول المطر؟.
قالت الفتاة : قد أوضحت لنا يا أبي معنى رعد !
أريدك أن تبين لنا معنى سحاب ، و ما الفرق بين الرعد والسحاب ، و كيف أسميتني سحاب؟.
قال ملهوف : السحاب هي الغمام ، و المزن الذي تحمل الغيث من البحار ، فتنزل الأمطار و بها تحيا الأرض و تنبت الأشجار ، فالسحاب خير ، فصادف يوم ولادتك غيم و سحاب فأسميناك سحاب.
فبادرة سحاب بسؤال رعد : قد سمعت سبب تسميتي سحاب ، فهل تعلل سبب تسميتك رعد؟.
نفض العصافير عن كتفيه ، أحس بشيء قوي يجتاح وجدانه وعواطفه ، توافقت الحروف و تطابقت الأوصاف ، شعر بأن روحة استغنت عن العصافير ، و أن هناك محتل غزى جوارحه ، فألتصق فلا يغادر كيانه و لا يطير.
تلعثم و حكى لها قصة تسميته بهذا الاسم الشهير.
تبسمت سحاب مودعة رعد : إلى اللقاء المنتظر .
فكان الوفاء والصفاء رديف القدر.

رعد اليتيم السقيم تقابله سحاب ذات الثراء والنعيم
، كانت سحاب ذات جمال فائق ، فكل شيء فيها يفوق سائر الخلائق ، جدائلها تلامس التراب ، تظل وجناتها  الأهداب ، على صدرها عقد كهرمان ، تغطي رأسها صرة شديدة اللمعان بالسيف مئزرة  ، وعلى كتفها رمحان ، ذاع صيتها وتناقلتها الأخبار.
فكانت إذا خرجت من الدار تلاحقها الأنظار.
في أحد الأيام داهم رعد في المرعى فارس همام
فطلب المبارزة والنزال أو تسليمه جميع الأغنام بسلام.
فطلب رعد نزوله من على الحصان ، فنزل الفارس و دار النزال و أشتد و كاد الفارس أن يطبق على رعد الخناق .

تناطحت السيوف و تنافرت الكفوف ، دار رعد دورة فاقتلع السيف من يد الفارس و ألقاه على الأرض و وضع السيف على عنقه بإحكام ، فسارع الفارس و أماط عن وجهه اللثام ، فارتعدت فرائص رعد و أنتابه اضطراب ، فقد كان الفارس الملثم حبيبته سحاب.
غضب رعد منها غضباً شديداً ، فكان قد أوشك أن يقطع عنها الوريد ، بينما شعرت سحاب بالفخر.

و وجدت في رعد القوة لحمايتها من نوائب الدهر.
  أثناء النزال كانت العصافير تغار من سحاب فكانت تحط على وجهها و تلفحها كالذباب.
كانت سحاب تواسي رعد و تعطيه بعض الدراهم ، ذات يوم هطل مطر  عجاج فجرف السيل على رعد بعض النعاج.

وصل الخبر إلى مسامع سحاب فثارت و إلى نُصرة رعد طارت ، فحمشت الثياب و دخلت السيل فجرفها مع النعاج ، فصاح رعد ولاح و ألقاء بنفسه خلف سحاب فانتشلها وترك النعاج ، حضر والد سحاب فرآها محمولة على كتف رعد ، فخفق قلبه و أرتعش ، غضب أباها من شدة تعلقها برعد فطلب منها نبذه و عدم اللحاق به ، فتمردت و كانت ترافقه في المسراح و تلاقيه في المرواح ، فسجنها والدها و منعها من الخروج ، فامتنعت عن الطعام و أصابها السقام ، فأرسل اليها رعد في الخفاء حليب الغنم ، فشربت وانزاح عنها الغم .

كان رعد ينظر إلى موضع المرعى من مكانه بعد أن يحط الخرزة تحت لسانه فيوجه إلى ذلك المكان أغنامه ، فسمنت وتكاثرت و حلبت .
كان في المدينة فقيه يفتح الكتاب فلا يعلم غيرة من العوام بالخطاء من الصواب.
ذات مرة حدثت خصومة حساب بين والد سحاب و أحد التجار ، فاحتكما إلى الفقيه ، حضر الفقيه و طلب منهم إحضار السجلات ،  و في بيت التاجر  جرت المداولات.

أتت سحاب بسفرة الطعام مدتها بعد أن ألقت السلام ، حط الفقيه احد عينيه على السجل والأخرى على سحاب ، فُتن الفقيه بجمالها و بطلاقة لسانها ، و بعد أن حسم الخلاف حول الحساب استمر بالترد بين الحين والأخر على متجر والدها متعلل بعدة أسباب ! تقدم الفقيه لخطبتها طمعاً في ثراء والدها وجمالها ، عرض التاجر على أبنته  طلب الفقيه منها الزواج ، فساخت  و داخت وعلى الأرض ارتطمت ، و بعد أن استيقظت و أفاقت ، قالت: الموت أهون من زواج الفقيه ، و أراح ألم تكفيه زوجته نُباح ؟.

أبلغ التاجر الفقيه برفض طلب الزواج ، سمع رعد بخطبة الفقيه لسحاب فغضب و طلبها للقاء والنقاش ، اجتمع رعد بسحاب و دار النقاش.
رعد: يا سحاب هل ترغبي مني بالزواج ؟.
قالت : هذا عندي هو يوم السعد والسُعاد و التقاء الأبراج.
قال  : اذا طلب والدك مهرك فمن أين سنأتي به ؟.
قالت : نبيع نصف النعاج و نأخر نصف المهر إلى بعد الزواج ؟.
قال : لا تحزني يا سحاب ، لدي مهرك والتاج ، عندي سيف مهند و درع مزرد ، وعقد زمرد هن ميراثي من بعد أبي وأمي ، سأبيع و أدفع مهرك و أرفع رأسك ، سأعطيك مقابل وفاءك وإخلاصك كل ما أملك.

سمعت سحاب كلام رعد فانتفخت و فخت وقبضت بيد رعد وهزت.
رعد: اخشى ما أخشاه أن يرفض أباك مصاهرتي لدنو مقامي وامتهان مكانتي.
قالت  : أرى أن تصحب معاك لوالدي مجموعة من الرعيان ، و بالتالي لن تكون وحدك مهان بين مجموعة  الرعيان .

استحسن  الفكرة فطلب من الرعيان مرافقته للذهاب لخطبة سحاب.
كان والدها بمتجرة يحسب أرباحه وي فرز ضريبته.
فدخل عليه الرعيان  ، فزع وقال : هل حدث لسحاب مكروه ؟.
قالوا: بل أتينا  خاطبين لرعد بسحاب راغبين !.
2

قال : هذا لم يحدث أن تتزوج أبنة تاجر براعي على مر السنين لا في الأولين ولا في الأخرين !.
قالوا : ننتظر رأي سحاب هل ترغب من رعد بالزواج ؟.
دخل التاجر لسحاب و أعلمها بأمر الزواج.
فقالت: الرأي لك يا أبي ، و لكن أعلم أن رعد خير الأزواج ، فهو ذو أخلاق تملأ الأفاق ، و ذو كرم وعطاء لا يخشى إملاق ، كان لسحاب مكانه في قلب والدها فكان يعمل كل ما بوسعه ليرضيها لأنها يتيمة الأم ، عاد والد سحاب و بارك لرعد الزواج بشرط أن يكون تحديد المهر و لوازم الزواج متروك لتقدير سحاب.

تهلل وجه رعد فنفش الزبيب ، فطاب لقاء الحبيب بالحبيب.
كان عرس بهيج سمع به البعيد والقريب.
امتعض الفقيه أمتعاض شديد ، فكيف فضلت سحاب راعي الغنم والجياد على فقيه البلاد ؟.
سُعد رعد بسحاب و تنامت و كثرت النعاج.
في المقابل كان الفقيه يحترق بجمر نار مما جرى له وصار ، فبدأ يحيك الدسائس لرعد بهدف إهلاكه بالاستدراج كي يفوز في الأخير بالزواج من سحاب ،  مستغل سذاجة السلطان القائم الذي كانت عقليته تشبه عقلية البهائم ، كان جديد العهد بولاية المقام
فلم يمض على موت والده أكثر من عام.

فكان أبنه الوحيد عُرف بالتبلد والغرور الشديد ، فكان يُسمى يوم الجمعة عيد تُذبح الذبائح وتُعزف الأناشيد ، ذات يوم أتت إلى مقامه أمرأة فأثنت عليه بالمديح والدعاء كي يجزل لها بالعطاء .
، فقالت: أدام الله عطاء مولانا السلطان .
فأمر بسجنها من ساعته و قطع لسانها من منبته.
عجب الحاضرين ! فتقدم أحد الوزراء يشفع لها لدى السلطان عله يتراجع .
فقال: مولاي السلطان عفوك أكبر من غضبك وصفحك أشمل من عذابك .
فأمر بجلد الوزير ، فحضر الجلاد و بيده السياط و مد الوزير على الحصير .
حضرت والدة السلطان فسألته عن تِبيان سبب أمره بسجن  وقطع اللسان ، و جلد الوزير أمام الأشهاد والأعيان ؟.

فقال: هذه السائلة اعتبرت عطاء مولاها وسلطانها و ليس أنا ، و أنت تعرفين من هو عطاء ، مجرد عبد من العبيد لا ينقص و لا يزيد ! أما الوزير
كونه قذفني بما ليس بي من غضب وعذاب كبير.
طلبت السلطانة من الحاضرين الانصراف
و بجهد جهيد فهمته معاني الألفاظ والأوصاف.
فأخلاء سبيل السائلة.

و أمر الوزير بعدم اعتراض أوامره.
ذات يوم حضر الفقيه مجلس السلطان بين الوزراء والأعيان ، فقال الفقيه : مولاي السلطان لقد أصبحت سلطان البلاد مكتملة من أقصاه إلى أدناه ؟.
فقال السلطان : نعم ، و هل يوجد سلطان غيري ؟.
الفقيه: بلى ، و لكن يا مولاي بما أنك سلطان الأرض قاطبة فلا بد أن يكون لك قصر يتوسط البلاد .

السلطان : ولكن من باستطاعته تحديد منتصف الأرض ؟.
 الفقيه : رعد الراعي يستطيع ذرع الأرض .
استحسن السلطان رأي الفقيه فأرسل من يحضره اليه.
مثل رعد أمام السلطان ، فشاهد الفقيه يقف في رأس الديوان فعرف أن الأمر من تدبيره فشم رائحة المكر والمكيدة !
رعد : مولاي السلطان أتيت لطلبك ملبي فبماذا تأمرني ؟.
السلطان: أريدك أن تقوم بذرع الأرض وتحدد نقطة منتصفها كي أبني قصري عليها.
نظر رعد إلى السلطان بإمعان وقال : الأرض يا مولاي شاسعة و ذرعها يحتاج لوقت طويل وتكلفة و نفقة.

السلطان: حدد ما تحتاج من مال و سوف أمر بتجهزه و دفعه.
ذهب رعد إلى الصخرة فظهرت صورة الشائب  فحكى له المكيدة والحيلة.
فقال : أذهب إلى السلطان فأطلب منه مذرع بأعين و مدة شهرين و الف آلف درهم و قيراطين ، ثم أبدأ بالذرع من جوار بيت الفقيه شرقاً وأتمم الذرع إلى جواره غرباً.
قبل الذهاب للسلطان عاد إلى سحاب وشرح لها بإسهاب حيلة الفقيه الكذاب .
و قال : إن قصد الفقيه إهلاكي بمصيبه كي تكوني أنتِ يا سحاب من نصيبه ، فتدبري واحتاطي فأنت ساعدي و ذراعي.

قالت : نفذ ما أمر السلطان و سنرى الرابح من الخسران .
عاد رعد إلى السلطان فأعطاه ما طلب من مال و مهلة و مذرع ، فخرج في الصباح و بدأ بالذرع من جوار بيت الفقيه من الجهة الشرقية فغاب من النجد و هو يذرع و المذرع بيديه ، و في المساء عاد رعد متخفي إلى بيت خاله معصار
الذي حط عنده ما أعطاه السلطان من أمواله و دراهمه ، فكان يذهب إلى منزله في الليل و يتفقد أحوال زوجته وأغنامه .
و ذات يوم أتى الفقيه إلى سحاب في المرعى.
فقال: إن رعد ذهب و لن يعود فهو حتماً سيموت ظماء في الصحراء ، و إن نجى من الصحراء فلن ينجو من ضباع و أسود الغابات السوداء.
قالت : فماذا ترى ؟.
قال الفقيه: سيطول بك الانتظار و يسوء بك الحال ، فما تنتظرينه هو المحال ، ولكن إن رغبتي سأطلبك من والدك وبالزواج بي ستكوني  أسعد و أفضل حال.
قالت :  سأنتظر مدة الشهران المقدرة من السلطان.

ذهبت سحاب إلى نُباح زوجة الفقيه بقصد إخبارها بما ينويه ، وقفت  على الباب فشاهدت نُباح منهمكة في اللهو والطرب مع بعض صعاليك العرب.
فطفقت عائدة من حيث أتت ، فعجبت من الفقيه و تماديه على نساء الرعيان في المرعى و غفلته عما يصير في منزله من بهتان و بغى !.
استمر رعد مع خاله في صرف الأموال و تعهد أسرهم والأخوان ، و في آخر يوم من المهلة و قبل الزوال ظهر رعد من النجد الغربي للمدينة و بيده المذرع و هو يذرع و يعد ، فبلغ السلطان الخبر فجميع من كان موجود حضر ، فشاهدوا رعد يذرع بالمذرع ويرعش و ذراعه محمش وهو يعد عشرة أحداعش …

و في جدار بيت الفقية وضع المذرع وصاح و أبان و قال : هذه منتصف الأرض و هذا موضع بناء قصر السلطان.
غضب الفقيه وعرف أنه خسران.
أمر السلطان في الحال بهدم بيت الفقيه ونقل حجارة من هذا المكان والشروع في بناء قصر السلطان.
أحتاس الفقيه و في شر عمله غاص ، بينما منح السلطان رعد أموال و هبات على ما بذله من مجهودات ، عاد رعد لبيته راعياً لأغنامه
و تقاسم الغنيمة بينه وبين خاله و بقية أقربائه وأصحابه.
فعمد الفقيه لتدبيره وحيلة جديدة ، فتقرب من السلطان بعد أن غاب عنه مدة طويلة.
فقال: مولايا السلطان لقد أضحيت الأن في أفضل حال ، ولكن إذا سألك سائل كم عدد النجوم فماذا أنت قائل ؟.

فإن قلت لا أعلم فهذا لا يليق بمقام السلطان.
السلطان : هذا أمر مُحال ، فلا يقدر أحد على عد النجوم في كل الأحوال !.
الفقيه : إن من ذرع الأرض والماء قادر على عد النجوم في السماء.
أرسل السلطان إلى رعد عساكره و أمر بإحضاره.
السلطان: أعلم يا رعد أنك بعد الأن صرت من المقربين ، ذرعت الأرض فكنا لك منصفين ، سنجعل لك مجلس في المقام تأتي اليه فتدخل وتجلس في سائر الأيام و تكون من أصحاب المشورة عند التشاور في الأمور الجسام.
رعد: نشكر مولاي السلطان و ندعو له بطول العمر وصحة الأبدان.
هل من طلب قبل أن تأذن لي بالانصراف ؟.
السلطان: دعوناك لأمر هام يعد من الأمور العِظام ، أريدك أن تحصي و تعد في السماء النجوم.

في وقت صافي لا سحاب فيه و لا غيوم نظر رعد إلى الفقيه الواقف غير بعيد فهز رأسه و عرف من وراء هذا الأمر الجديد.
  رعد: أعطني مهله استشير أصحابي و غداً آتي اليك بجوابي.
ذهب رعد للصخرة في الحال و حكى للشائب طلب السلطان المحال.
الشائب : أضف شهر فوق الشهران و أجعل الألف ألفان و خيل و جملان ثم أختفي عن الأعيان.

فقص صوف الأغنام وحملها و إلى السلطان أوصلها.
عاد رعد للسلطان فأعطاه المهلة والمال والخيل وجملان.
ذهب رعد و أختفى وصرف الأموال وتيسر الحال فاشترى لحاف و مانيه و فراش ، و أهدى مرعى  عقد حُلى و أفخر القماش.
أوشكت المهلة على النهاية فطلب من سحاب البحث عن حلاق و قص صوف الأغنام وتعبئتها في أكياس .
في الصباح ظهر رعد و معه الجملان محملان يقودهما راكباً على الحصان ، أناخهما أمام القصر و صعد إلى السلطان فظهر بمظهر المرهق التعبان.
السلطان : اخبرنا يا رعد كم عدد النجوم ؟.
رعد : أنا رجل غير قارئ ، كنت أعد نجم و أحط مقابله شعرة في الكيس حتى امتلأت الأكياس الأربعة  ، والجمال بها محملات باب القصر نائخات.
السلطان : و كيف لنا أن نحصيها ؟.
رعد: الفقيه لا يوجد سواه في البلاد من يجيد قراءة الحروف و كتابة الأعداد.
أمر السلطان بإدخال الأكياس إلى غرفة من غرف القصر و بعث إلى الفقيه وكلفه بعدها والحصر.

أُدخِل الفقيه إلى الغرفة جوار الأكياس و مُنع من الخروج من قبل الحراس.
مضى على الفقيه عام و هو محبوس يعد صوف الأغنام ، تحول سواد عينيه إلى بياض فأَصيب بالعمى و روماتيزم العظام ، ثم أصدر حكم بعدد النجوم فاحتفظ به السلطان في خزانة الأحكام.
تمتع رعد و سحاب خلال هذا العام بعطايا السلطان.
فحاك الفقية مكيدة عتيدة رأى فيها نهاية رعد الأكيدة.
أتى إلى مجلس السلطان بهيئة مهانه أهدب أحدب
في يده خيزرانة وعلى عينيه نظارة ، فسأله السلطان عن أخباره وأحواله و عن سبب الزيارة؟.

فقال بصوت خافت : حفظ الله السلطان ، طاف علي طائف في المنام و اخبرني بأن لمولاي السلطان بنت وغلام توفاهم سيد الأنام و هما في المقبرة بين الأموات كالأيتام ، فلا زائر يأتيهم و لا رسول منك يصلهم ، عيروهم الأموات و نبزوهم ، ونادر ما يتصدقوا عليهم ويعطوهم ، فأباهم سلطان وهم بين الأموات في الذل والمهان.
تحركت لدى السلطان الأحزان والأشجان فسجت عيناه بالبكاء على فراق ولديه الذي ماتا في عز الصباء.

فمسح دموعة وقال: كلامك يا فقيه مُحال ، فلم يحدث أن قام أحد بزيارة الأموات في المقابر لا في الحاضر و لا في الزمن الغابر.
الفقيه: زيارة الأموات من الأمور الميسرة و لها أوقات و ساعات محددة.
فمن ذرع الأرض بماها و عد النجوم وأحصاها من السهل عليه زيارة الأموات في المقابر و تعهدها والاطلاع على أحوال سكانها.
طأطأ السلطان رأسه ثم أرسل فارس فاحضر رعد فمثل أمامه.
السلطان: ألم أخصص لك مجلس في مقامي ، فلماذا هذا التمادي ؟.
فغيابك عن مجلسي طال فساورتني عنك الظنون.
أنت تعلم يا رعد أن لي أبن و بنت ماتا في زمن الطاعون .
رعد: نعم ، و أبي و أمي ماتا أيضاً بسبب ذلك المرض الملعون .
السلطان: الأن عليك زيارتهم والاطلاع على أحوالهم ومعرفة متطلباتهم.
سيعطيك الفقيه الإشارة لتحديد وقت و ساعة ومكان الزيارة .
رد الفقيه و قال: سيكون يوم الجمعة هو يوم الفال والوقت المبارك هو وقت الزوال ، و غداً سأذهب إلى المقبرة لتحديد مكان النزول .
لم يعط السلطان لرعد مجال للرد أو طلب مهله بل طلب منه التنفيذ على وجه الاستعجال.
مُنع رعد من المغادرة و في الصباح ذهب مع الفقيه إلى المقبرة فحدد الفقيه مكان الحفرة و بدأ العمال في الحفر ، استأذن رعد للذهاب لتوديع سحاب
فاسرع إلى الشائب في صخرة الصولجان ، فاستجمع قواه وأقر ناظره بصعوبة ، فظهر الشائب مبتسم منشرح الحال ، قال رعد : لقد داهمتني الأهوال و أرى أن النجاة من هذه الحفرة مُحال.

الشائب : هل يوجد بيت قريب من المكان ؟.
رعد : نعم ، بيت خالي معصار المصان.
إذاً عليك أن تذهب الأن لمعصار و تحضر عمال يحفروا من داخل البيت باتجاه الحفرة التي يحفرها عمال السلطان في مسار مقابل و ميلان بحيث في نهاية المطاف يلتقيان ، و عليك بإخفاء التراب عن العيان ، واذا حان موعد إنزالك ستجد من يكون في استقبالك.
اذهب وستأتيك بقية الأخبار عبر عامل من عمالك.
عاد إلى سحاب مكسور الخاطر و شرح لها ما هو مقبل عليه من المخاطر.
ذرفت الدموع و صالت و جالت وقالت : ممنوع ، لا تحضر بكرة و لا تنزل حفرة ، سنشد الرحال في الليل الغاش و نترك الفقيه والسلطان يتناطحوا كالكباش.

فقيه كائد وسلطان بليد معاند ، لا ترد نفسك الهلاك فليس لي في هذه الدنيا سواك !.
قال : أعلمي يا سحاب أنك سراجي الوهاج ، لأجلك أشق الإعصار و أركب الأمواج ، سأنزل بكرة بعد الزوال الحفرة ، و في المساء ستصلك مني هذه الصرة ، إذا لم تصل عليك أن تذهبي في الصباح مسرعة إلى وادي العبيد فتجلسي إلى جوار الصخرة من جهة الشرق و تقري اليها النظرة ، ستري صورتك ثم تتلاشى وتظهر صورة شائب ، أسأليه عن مصيري و ماذا جرى لي ؟ و اطلبي منه مساعدتي و إنقاذي !.

ثم ذهب إلى بيت خاله فأخبره ، فبدأوا من داخل البيت بشق الحفرة ، فأكمل عمال السلطان الحفر فرفعوا السقال ، فثقب عمال رعد و تلاقت الحفرتان في الحال.
كان خبر زيارة رعد لابنا السلطان في المقبرة قد انتشر في أرجاء المدينة ، فتوافدوا إلى جوار الحفرة في المقبرة لمشاهدة رعد وكيف يتم إنزاله.
حضر السلطان بحاشيته والهدايا مصندقة على الجمال محملة ، وصل الفقيه حامل في يمينه كتاب و في شمالة حجاب  عليه عمامة سوداء و ثوب أبيض و رداء .

برز رعد بنكف وعلى حافة الحفرة وقف ، ضاحك شغوف لا مرعوب ولا ملهوف ، عجب الجميع لأمره ! فتهامسوا و تغامزوا و أسروا النجوى بأن للفقيه أمر خارق مارق عابر  ، فبقدرة قادر يُنزل الزوار إلى المقابر.
 
اقترب السلطان من رعد فسلم عليه بالأحضان و قال: أبلغ سلامي لقرة عيني  وأعطهم الهدايا والنقود .
تلعثم الفقيه و قال : حان وقت الزول.
– هيا عمال انزلوا رعد في الحفرة في الحال مربوطاً بالحبال.
رعد: أحب أن تنزل الهدايا قبلي تكون بشوشة بوجهي قبل وصولي.
السلطان : رأي رعد هو الصواب.
فبدأوا بإنزال الصناديق بالحبال ، فكان صاحب رعد يستقبلها يفك الحبال عنها و يأخذها في الحال.
أندهش الفقيه لما يجري ! فقد تم انزال كل الصناديق والهدايا ، فتم رفع الحبل من الحفرة فاضي ، حان وقت انزال رعد.
رفع يديه و رُبط بالحبل من خصره ، فانزلوه في الحفرة على مرأ من الحشد من حوله و أن
بعد انزال رعد انصرف الجميع ، فعاد الفقيه بعد الغروب فانزل الأحجار في الحفرة بغرض قتل رعد و دفنه ، انتقل رعد مع الهدايا إلى بيت خاله
، فارسل إلى سحاب الصرة فاستبشرت بنصره.
لكن سحاب أصرت على الذهاب إلى الصخرة
كي تلقي على الشائب نظرة ، فوصلت داره و نظرت فلم تجدها كما قال رعد ملسا زجاجية ، بل وجدتها كثيرة الشقوق ، خشنة سوداء ، لم تظهر صورتها و لا صورة الشايب ، فعادت و في طريقها وجدت خاتم ذهب.

أخذته و لبسته في خنصر اليمين ، عند وصولها البيت نظرة إلى الخاتم بتمعن ، فإذا بصورة الشايب تظهر فيه ، فقالت: أين رعد الحين والساعة ؟.
قال : نائم مرتاح بعد أن أرسل لك الصرة في الصباح.
تبسمت سحاب واعتدل لديها المزاج ، فذبحت أربع من النعاج و وزعتها على من رأت فيه احتياج ، عاد رعد متخفي إلى سحاب فأخبرته بأمر الصخرة والخاتم ، فنظر إلى الخاتم في إصبعها فتبسم وقال : عُفينا من الذهاب لوادي العبيد ، فقد أصبح الشائب في خاتم الأيد .
عاد رعد لخاله خفي.
أما الفقيه فقد عاد إلى بيته منشرح الحال بعد أن أحس أنه قضى على رعد راع الغنم والجمال.

وبعد يومين أتى ليلاً بالعمال وقام بحفر الحفرة لإخراج الهدايا والأموال ، فبزغ نور الصباح ولم يجدوا داخل الحفرة شيء ، فتعكر لدى الفقيه الحال و دارت به الوساوس واجتاحته الأهوال ، فقد نبش فلم يجد جثة رعد ولا الهدايا والبقش.

فأُصيب الفقيه بمرض التثاؤب والقُعام  ، بعد شهر ظهر رعد في الصباح الباكر واقفاً فوق الحفرة لابساً ثياب الصالحين ، بلغ السلطان الخبر فحضر ، اجتمع أهل المدينة قاطبة صغار و كبار شيبه وشبان ، الكل لرعد ناظرين منذهلين ، علم الفقيه بخروج رعد من المقبرة سالم فخر من قوامه و ارتعدت مفاصله وعظامه ، فحُمل إلى بيته بالمراعي و بقي طريح الفراش قاطع للعيش والمعاش.

أما السلطان فُسر أيما سرور بما أتى به رعد من أخبار أهل القبور .
رعد ذهب إلى بيته بعد أن أذن له السلطان لغرض الراحة والاطمئنان ، على أن يأتي إلى مجلس السلطان فيخبره بما جرى و كان.
كثر على باب رعد الزحام وتعالت الأصوات وتشابك الكلام ، خرجت اليهم سحاب وهم يتزاحمون كالنعاج .
أطلت عليهم من مكان عال فصمتوا كانه قُطع البث عن الإرسال ، فقالت: ماذا تريدون من رعد ؟ فقد طال به المطال و أرهقه سهر الليال .

نطق الجميع بصوت عابر : نريد أخبار الموتى في المقابر.
كان كل واحد يريد أن يسأل عن أحوال ميته ، فقد صدقوا الفقيه ولم يهتدوا إلى حيلته.
سحاب : عليكم التوجه إلى أمام قصر السلطان
فهناك سيحضر رعد و يذيع الكلام أمام الأعيان.
فتوافدوا حتى عج قصر السلطان ، فلحقهم رعد فبادرة السلطان بالحفاوة والترحاب.
فأجلسه في المقام و أزاح عنه الزحام.
و قال: أنقل الينا يا رعد أخبار موتانا في مقابرهم ؟.
قال: أمورهم سابرة و بيوتهم عامرة ، يتبادلون الزيارة فيما بينهم ، طائفين عاكفين إلى ربهم ناظرين ، يُقرئونكم السلام و طيب الكلام و يتوسلون منكم الدعاء بالمغفرة والرضاء.
نطق الجميع بكلمة : أمين.
السلطان: اخبرني عن أولادي و ما هم عليه الآن ؟.
قال : يقرؤنك السلام الوفير و يشكروك على الهدايا شكراً كثير.
لا ينقصهم شيء ، هم في نعيم شديد وعيش رغيد ،
إنما هناك أمر ينغصهم و يكدر صفوهم .
السلطان: ما هو ؟.

قال: لقد بلغ أولادك سن الزواج و قد حصل النصيب فخطب أبنك بنت شيخ و قور كاملة الخصال تسر الناظرين.
وتقدم اليه شاب تقي زهي ميسور مستور فخطب أخته وهم لك ناظرين ، دُفعت المهور وجهزت الهدايا والعطور وعلى إكمال نصف دينهم مقبلون.
قال السلطان: أنطق يا رعد  ماذا ينقص البنين ؟.
قال: إنهم بحثوا حتى يأسوا.
قال السلطان: على ماذا بحثوا يا رعد ؟.
قال: بحثوا عن فقيه يعقد عقد قران زواجهم وتتم أفراحهم ! فكما تعلم لم يمت فقيه في هذه المدينة من قبل ، فقبر جوارهم ! فإذا كنت تعزهم فأبعث اليهم الفقيه يكتب عقد قرانهم .
السلطان: على الرحب والسعة ، سأبعث إلى الفقيه
و أعطيه ما يكفيه فهو صاحب كتاب سيحدد طريقه و مكان إنزاله.
علم الفقيه بما جرى فكح و بح و سعل و رقل  وظهر بين أرجله البلل ، احضروا الفقيه إلى السلطان محمول ملفوف بالكفن يشكي مرضه و ضعفه والعمى والوهن.
اصر السلطان على إنزاله ليعقد زواج عياله ، ما لم فالسيف بانتظاره.
ذهبت زوجت الفقيه نُباح إلى زوجة الراعي سحاب طالبة منها التوسط لدى رعد و مد يد المساعدة للفقيه لتخليصه مما هو فيه.
أبدت سحاب تفهمها طلب نُباح ، عند اللقاء في المقبرة الصباح حضر السلطان والأعوان
والفقيه و زوجته نُباح ، واحتشد الناس أصحاب الأموات بهداياهم ، علم الناس بموعد نزول الفقيه فاحضر كل واحد ما لديه من الهدايا ليرسلوها مع الفقيه إلى موتاهم ، تلاهم بالحضور رعد و سحاب فتوجهت اليهم الأنظار.

طلب السلطان من الفقيه تحديد مكان حفر حفرة الإنزال .
قال الفقيه : على رعد أن يقوم بالاختيار ، إنه يعلم بأنفاق المقابر وسُبل الديار.
تقدم رعد وقال: المسار هو نفس المسار والغار نفس الغار ، فما اختاره الفقيه لي فهو الذي له أنا اختار ، لكن مع اختلاف موعد الإنزال يكون في بداية جنح الظلام ، هناك اختلاف في الأوقات فبداية الليل عند الأحياء يكون بداية الصباح عند الأموات.

بعد المغرب كان الموعد ، حل الظلام فبداء العبيد بربط الهدايا بالحبال و أنزالها الحفرة كرة بعد كرة حتى اكتملت ،  فكان يطلع الحبل من الحفرة فارغ فظنوا أن الموتى أخذوا ما كان فيه من هدايا و فكوا عُقدة.
حان دور الفقيه ، أقترب من رعد و في إذنه همس
قائلاً : كيف ؟.
رعد: لا تخاف ، سنتركك مربوط بحبلك كي يتمكن المنتظرين لك من الإمساك بك قبل ارتطامك  على قبة القصر الذي هم على سطحه منتظرين استقبالك.
ربطوا الفقيه مطأطئ الرأس و ألقي في الحفرة وحُسم أمرة ، فأنفض الحاضرون إلى ديارهم عائدون.

عاد رعد و القى عليه الثراء في الحفرة و ملاءها بالحصى.
وقال: الأن يرتاح من شرك الأحياء ، فأرني ماذا ستفعل بالموتى.
رجع رعد لسحاب و تبادلا المشورة مع صاحبه ،
فاقروا توزيع الهدايا والأموال على الفقراء والمساكين ومعدمي الحال و عاشوا في بهجه وسعادة .

النهاية ……

 
الحكمة من القصة :
 
من حفر لأخية حفرة وقع فيها .
 القناعة كنز لا يفنى.
عفو تعف نسائكم.
 
ملاحظة: 

هذه الرواية مستوحاة من التراث الشعبي اليمني
 
 

تاريخ النشر : 2020-10-09

الفهد

اليمن . للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
25 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى