سينما ومرئيات

فيلم "سارقة الكتاب": الوجه الآخر للموت

بقلم : ميرفا عون – lebnon

فيلم سارقة الكتب هو نظرة مختلفة على تاريخنا الإنساني
فيلم سارقة الكتب هو نظرة مختلفة على تاريخنا الإنساني

عديدة هي الأفلام التي تناولت الحرب العالمية الثانية و لكن النقطة الوحيدة التي تجمعها هي شيطنة الطرف الألماني الذي دوما ما نراه يقدم كوحش كاسر يسعى بالخراب و الدمار في أرجاء العالم، مماهيا بذلك بين “هتلر” و ألمانيا.
لا أحد ينكر ما قامت به النازية من مجازر إبان الحرب و لكن للأسف أيضا لا أحد يذكر بأن ألمانيا لم تكن كلها مع الفيرهور و أنه و كما هو الحال هناك دائما نور وسط العتمة مهما كان ضئيلا و ضعيفا و فيلم “سارقة الكتب” خير مثال على ذلك.

هو فيلم انتج سنة 2013 من اخراج براين بيسفال مقتبس عن رواية للكاتب ماركوس سوزاك و من بطولة الطفلة صوفي نيليس و جيفري راش و ايملي واتسون و عدد من الممثلين الاخرين.

يروي الفيلم قصة الطفلة ليزيل
يروي الفيلم قصة الطفلة ليزيل

يروي الفيلم على لسان الموت (صوت روجر آلام) قصة الطفلة ليزيل و التي تفقد شقيقها الأصغر بسبب البرد و الأوضاع الإجتماعية و المادية القاسية فتضطر والدتها للتخلي عنها و عرضها للتبني، فيتبناها زوجان ألمانيان فقيران و هما هانز (راش) و روزا (واتسون) و تعيش في كنفهما حياة بسيطة و لكنها آمنة و هادئة.

يتم تبني ليزيل من قبل هانز و روزا
يتم تبني ليزيل من قبل هانز و روزا

في تلك الظروف العصيبة و الحرب تدق طبولها حثيثة و عنيفة تجد ليزيل سلواها في القراءة فتبدأ باستعارة الكتب من منزل أحد قيادي الحزب النازي إضافة إلى تسكعها مع صديقها الجديد رودي.

ليزيل تمضي وقتها مع صديقها رودي
ليزيل تمضي وقتها مع صديقها رودي

يبدأ هتلر مخططه لإبادة اليهود الألمان فيداهم بيوتهم و يسوقهم جنوده إلى مختلف المعتقلات. و في إحدى الليالي يدق الشاب ماكس أحد اليهود المطلوبين باب منزل هانز والد ليزيل و يطلب منه مساعدته في التخفي من هتلر و جنوده و يوافق الأب دون تردد لأن لوالد ماكس فضلا عليه في الحرب العالمية الأولى.
و هنا تبدأ صداقة ليزيل الصغيرة و ماكس الشاب المحب للكتب و تتعلم منه التمسك بالأمل في أحلك الظروف.
فتنقل ليزيل ما تعلمته من الكتب و من والدها و الشاب ماكس إلى العالم من حولها فتبدأ بقص الحكايات على الجيران و الأصحاب في ملاجئ الإختباء وقت الغارات مانحة إياهم بخيالها عالما جميلا يتوقون جميعا إليه و إن لم يصرحوا بعيدا عن الحرب و رائحة قنابلها و بارودها.

تبدأ صداقة بين ليزيل الصغيرة و ماكس الشاب المحب للكتب
تبدأ صداقة بين ليزيل الصغيرة و ماكس الشاب المحب للكتب

يرحل ماكس في احدى الليالي كما جاء مخلفا ثغرة في قلب ليزي ثم ما يلبث أحبائها في الرحيل هم الآخرون و تبقى الفتاة وحيدة.
تنتهي الحرب و يرحل هتلر و النازية و تبقى ألمانيا غارقة في الدمار و العار تتلمس طريقا جديدا لا تعترضها فيه رائحة الموت التي خيمت طويلا عليها.

يرحل جميع احبائها .. لكن ليزيل تنجو لتعيش حياة اخرى
يرحل جميع احبائها .. لكن ليزيل تنجو لتعيش حياة اخرى

تلك بإيجاز شديد قصة فيلم سارقة الكتب و لعلكم أو بعضكم قد أدركتم سبب اختياري له من بين كل الأفلام التي تتحدث عن تلك الفترة من التاريخ.
إنها إنسانيته و تناول مختلف لقضية الحرب العالمية، ففي هذا الفيلم لا نجد ذلك التعميم الذي نتلمسه في بقية الأعمال التي عادة ما تقدم لنا الألمان و هم حينها شعب مكون من 70 مليون نسمة و كأنهم نسخ مكررة من هتلر!
مع أن التاريخ قد أثبت بأن شريحة لا بأس بها من الشعب الألماني كانت ضد النازية و حروبها و منها من إنتقل إلى العمل السري في سبيل تصحيح مسار ألمانيا و النأي بها عن مصير مظلم تقودها إليه طموحات الفروهر.
بل إن الفيلم تجاوز ذلك إلى تصوير معاناة الألمان أنفسهم ممن كانوا أول من دفع ثمن سياسات الحزب النازي و حروبه الطويلة المكلفة، فعائلة هانز ـ و هو جندي سابق في الجيش الألماني خاض غمار الحرب العالمية الأولى و كاد أن يلقى فيها حتفه لولا أن أنقذه والد ماكس ـ تعاني و كشأن بقية أفراد الشعب من صعوبات المعيشة اليومية و استحالة توفير الحاجيات الأساسية فتعمل زوجته روزا في غسل الملابس لمساعدة زوجها في إعالة الأسرة فيما يتمتع أعضاء الحزب النازي و مسؤولوه بحياة رغدة تتوافر فيها جميع الكماليات و كأنهم يعيشون في زمن آخر.
معاناة لا تقف عند مصاعب المعيشة بل تمتد إلى تسخير الشبان للخدمة في الجيش و مغادرة البلاد إلى أراضي المعارك البعيدة في مشارق الأرض و مغاربها و لا يعودون إلا في توابيت خشبية أو بعد فقدان عضو من أعضائهم و لم يبقى في ألمانيا سوى العجائز و الصبية و ذبلت فيها الحياة و كأنها مجتمع أشباح!

blank
صورة لاحراق الاف الكتب على يد النازيين في احدى الساحات العامة عام 1933 .. من سمات الانظمة الشمولية احراق وحظر ومنع الكتب خصوصا تلك التي تقدم رؤية ومنظور اخرى مختلف عما تتبناه هي

قد أبدع الفيلم في تصوير هذه المآسي من خلال قصص عدد كبير من شخصياته فوالد رودي المعيل الوحيد لأسرة كبيرة و أب لأربعة أطفال يساق إلى الجبهة مخلفا ورائه عائلة تكافح للصمود في برد الشتاء القارس.
و هانز والد ليزيل العجوز هو الآخر يجبر على الإلتحاق بجبهات المعارك عقابا له على دفاعه عن جاره اليهودي الذي هاجم الجنود محله و قادوه إلى المعتقل.

آلاف اليهود الالمان يقادون الى معسكرات الاعتقال .. والكثير منهم سيذهب الى عنابر الاعدام بالغاز فور وصوله
آلاف اليهود يقادون الى معسكرات الاعتقال .. والكثير منهم سيذهب الى عنابر الاعدام بالغاز فور وصوله

لكن الرعب الحقيقي لم يكن نقص الطعام و لا الملبس و لا بقية الحاجيات المعيشية و لا حتي قنابل التحالف التي تسقط على رؤوس الألمان و إنما كان الخوف الذي نجح العمل في أن ينقله إلينا عبر الشاشة فنعاينه في نظرات الشخصيات المفزوعة و في إرتعاش الشفاه الصامتة و في إلتفات الجميع خلف ظهورهم إن نبسوا بحرف حتى داخل مخادعهم!
الجميع متوجس و مرتعب لا ينطق إلا لماما و حديثهم في مجمله همس و إشارات.
الكبار يلاحقون الأطفال بالتنبيهات و الوعيد و الأسرار خوفا من أن تزل ألسنتهم أمام عيون و أذان الحزب النازي المنتشرين في كل ركن من المدن الألمانية.
حملات تفتيش مفاجئة، مداهمات للمنازل ، الجميع مرَاقَب و الجميع يراقِب حتى الأطفال في المدارس يتجسس بعضهم على بعض و يشي بعضهم ببعض!
لا ريب فقد تحولت البلاد إلى سجن كبير مخيف، لا مجال فيه سوى للطاعة.
هذا الوضع بالذات لامسني خاصة و أنني أدرك تماما معنى أن يتحول الوطن إلى ثكنة عسكرية يطحن فيها الفرد فلا يعود له أهمية و لا لحقوقه وجود بتعلة الأمن العام و حماية الوطن!

صورة من برلين بعد نهاية الحرب مباشرة
صورة من برلين بعد نهاية الحرب مباشرة .. هكذا انتهت طموحات نظام ظن انه من عرق اعلى وارقى من بقية البشر وانه سيحكم العالم

سارقة الكاتب هو فيلم ينأى بنفسه عن التصنيفات أيا كانت و يجعل من محوره الإنسان و صراعه للحصول على إنسانيته في ظروف مجنونة كحال الحروب التي يختلط فيها الحابل بالنابل و الخطأ بالصواب و الوحشية بالوطنية.
الإنسانية جعلت الكتاب و حب الكلمات و الصداقة و الأمل تجمع شتات قلوب شخصيات الفيلم المختلفة.
تلك الإنسانية التي فتحت للأمومة طاقة في قلب روزا فرعت ليزيل ثم ماكس و كأنهما من صلبها، و بثت الشجاعة في قلب هانز فهب يدافع عن جاره حينما وقف الجميع حوله متفرجون، و جعلت ليزيل تواسي طوابير اليهود المرحلين إلى المعتقلات غير عابئة بالسلاح المصوب نحوها.

هذا المعنى تجلى بوضوح من خلال اختيار الموت ليروي لنا وقائع قصة الفيلم و كأنه يهمس في أذاننا بأنه وحده الخصم الحقيقي الذي يجب أن نعد له العدة “لأن لا أحد سيعيش إلى الأبد ” و نتوقف على عداء بعضنا و أن لا نكون عونا للموت على أنفسنا.

و للسخرية فإن الموت هنا لم يكن عنيفا مع من يقبض أرواحهم بالعكس كان لطيفا و مراعيا فإستخدم تعابير كالأحضان و القبل و السهر و غيرها ربما في محاولة لإبراز قسوة الإنسان ضد أخيه الإنسان و شراسة عدائه له التي قد تفوق في وحشيتها فاجعة الموت.
الموت يحتضن و الإنسان يفجر و يفرق، الموت يقبّل و الإنسان يطعن !

المقطع الترويجي للفيلم

فيلم سارقة الكتب هو نظرة مختلفة على تاريخنا الإنساني الذي نعتبره مسلما به فتتحجر أفكارنا عند طرح معين منه أو رواية محددة له فنتبناها دون التفكير فيها حقا.
لأننا لو تأملنا الحروب بعقولنا و قلوبنا لعرفنا بالتأكيد بأنها بعيدة كل البعد عما يتغنى به مهندسوها أيا كانوا و أيا كانت أيدولوجياتهم و أسبابهم أو تبريراتهم.. إنها كوارث لا ينتصر فيها أحد بل جميعنا خاسرون و أبسط ما نقامر به في الحروب إنسانيتنا !
أو ليست تلك خسارة فادحة ؟!

المصادر :

The Book Thief (2013) – imdb
The Book Thief (book) – Wikipedia
The Book Thief (film) – Wikipedia

تاريخ النشر : 2019-02-14

guest
38 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى