سينما ومرئيات

فيلم "مانشستر قرب البحر" الثمن الباهظ للحظة غفلة!

بقلم : ميرفا عون – lebnon

فيلم يصور انعكاس خيارات الماضي على الحاضر والمستقبل
فيلم يصور انعكاس خيارات الماضي على الحاضر والمستقبل

قد يرتكب المرء هفوة تافهة لا معنى لها أو هكذا يظن و لكن تلك الهفوة بالذات يكون لها تأثير كبير و مرعب على حياته كاملة و قد تغيرها إلى الأبد.
و قد رأينا في محيطنا الإجتماعي أفرادا قد مروا بهذه التجربة الحاسمة و لم يعودوا أبدا بعدها كما كانوا مهما حاولوا ذلك.
فيلمنا لليوم يروي قصة مشابهة عن الهفوات و الخطايا و نعمة النسيان المستحيلة.

blank
كاسي أفليك وميشيل ويليامز بطلي الفيلم

هو فيلم “مانشيستر قرب البحر” لكاتبه و مخرجه “كينيث لوجان” صدر سنة 2016 و من بطولة الممثل “كاسي افليك” و الممثلة “ميشيل ويليامز” .
و قد كان لهذا الفيلم نصيب الأسد من الجوائز السينمائية لموسم 2016 و أهمها على الإطلاق أوسكار أفضل نص سينمائي أصلي للمخرج كينيث لونرجان” و أوسكار أفضل ممثل في دور رئيسي و كان من نصيب “كاسي افليك”.

تدور قصة الفيلم حول رجل يدعى “لي” يعمل كحارس لأحد المباني في مدينة بوسطن الأمريكية و يعيش وحيدا في غرفة صغيرة في الطابق السفلي.
يعاني “لي” من ذكريات غامضة تتوضح ماهيتها مع تقدم الفيلم، كما يعاني من مشكلة الغضب الشديد و صعوبة التحكم فيه.
في أحد الأيام يتلقى “لي” إتصالا هاتفيا يعلمه بوفاة شقيقه الأكبر “جو” و عندما يقصد مسقط رأسه لحضور جنازته يجد نفسه متورطا في حضانة إبن “جو” المراهق الذي يعاني بدوره من مشاكل نفسية مختلفة.
ثم و بتقدم أحداث الفيلم نكتشف بأن البطل يتعايش مع صدمة كبيرة هي السبب و التفسير المنطقي الوحيد لشخصيته التي تبدو لنا في البداية نزقة و عنيفة بشكل غير مبرر فليس هناك في حاضر “لي” و لا في طريقة رواية الفيلم ما يفسر خاصيات شخصيته و لا تصرفاتها.
لكن و عن طريق المراوحة بين الماضي و الحاضر و من خلال مرافقة البطل بين رحلته في دفن أخيه و الوصآية القانونية على ابنه المراهق من جهة و بين ذكريات حياته الماضية في مسقط رأسه حيث كان يعيش برفقة زوجته “راندي” و أطفاله سنتوصل في النهاية إلى معرفة القصة الكاملة.

هي قصة واقعية ليس فيها إعمال كثير للخيال و لا مبالغة في الأحداث ، قصة قد يمر بها أي منا في خضم حياته دون أن يتخيل للحظة بأنها قد تصبح فيلما سينمائيا و بالتأكيد دون أن يتصور أيضا بأنه قد يتحول إلى بطل من أبطال الشاشة.

blank
أغلب أحداث الفيلم تدور على شاطئ كئيب مليء بقوارب الصيد

يبدو الفيلم مغرقا في الواقعية و السوداوية منذ بدايته و يظهر ذلك جليا من خلال اختيار المكان ، مدينة ساحلية لا نرى فيها بالرغم من ذلك شواطئا حالمة ساحرة بالعكس كل ما نراه فيها طوال الفيلم قوارب صيد مهترئة يتآكلها الصدأ و تتلاعب بها الأمواج العنيفة.
أما عن الزمان فقد كان فصل الشتاء القارس في النصف الشمالي للكرة الأرضية حيث الصقيع و الثلوج المتراكمة التي منعت “لي” من دفن شقيقه و الفرار مجددا إلى بوسطن و عرضته لمواقف عصيبة قضى سنوات يحاول تجنبها.
المكان و الزمان هنا يلعبان دورا رئيسيا في الفيلم لا يقل عن دور الشخصيات ، و لهما تأثير كبير في سير الأحداث بل و تتدخل في تغييرها و تبديلها.
و الواقعية تتجلى أكثر مع الشخصيات أبطال العمل ، فهم كما سترونهم أناس عاديون يعيشون حياة عادية جدا و قد تكون أقرب للملل و الرتابة ، و لو أن شخصا ما اقترحهم كأبطال كتاب أو فيلم لما أخذه أحد على محمل الجد.
فهم ليسوا كبقية الشخصيات التقليدية التي نراها في الأفلام ، تلك الشخصيات التي لابد من أن تمتلك قدرا مميزا و مختلفا و جملة من الخصال تبوؤهم لينالوا شرف البطولة.
بالعكس جميعهم عن بكرة أبيهم يحملون صفات منفرة و مزعجة ، قد تجعل المشاهد في البداية يتساءل “كيف يكون هؤلاء الأشخاص محور الفيلم و أبطاله”؟
كل منهم يقدم الصورة المقلوبة للبطل في الذهن الشعبي ، إنهم مجرد أفراد مثلنا جميعا لهم نقاط ضعفهم ، و صفاتهم السيئة المنفرة و أخطائهم الفادحة و المعيبة.
فبطل الفيلم “لي” رجل مستهتر و مهمل و مدمن للخمر و التسكع مع أصحاب السوء ، يقوده اهماله إلى أن يتسبب لنفسه و لغيره في مأساة يعاني و يعانون توابعها لما بقي من حياتهم جميعا.
أما شقيقه ” جو” فلا يقل عنه استهتارا و لا اهمالا و لا حتى ادمانا للخمر و إن حالفه الحظ بأن أفظع خسائره كان الطلاق و تشتيت أسرته الصغيرة و مشاكل عديدة و متجددة مع إبنه المراهق الذي نال حضانته على حساب طليقته مدمنة الخمر أيضا!

blank
بطل الفيلم رجل متعب مثقل بالعيوب والهموم

لقد بدا لوهلة بأن الفيلم يركز فقط على عيوب الشخصيات و لا شيء غير ذلك ، فجميعهم ظهروا دون مساحيق تجميل و لا أقنعة أو حتى تبريرات لهذه العيوب.
إلا أننا و بعد أن ننفر منهم في البداية و نستهجنهم و أفعالهم طوال الفيلم سنجد أنفسنا مع تقدمنا نحو النهاية نتواصل معهم إنسانيا و نتفهم خياراتهم و عيوبهم.
بل للعجب قد نجد نقاط مشتركة تجمعنا بهم أو بأحدهم على الأقل.
الفيلم درامي كما يبدو و لكن له جانب نفسي لا يمكن إغفاله ، فهو يسعى من خلال قصة “لي ” الرئيسية و بقية القصص الفرعية و المتشعبة إلى أن يحدثنا عن صراع هام يخوضه كل منا و هو الصراع مع الماضي و ذكرياته.
ذلك الصراع المستمر الذي يضعنا دائما في وجه خياراتنا السابقة و التي قد تبدو لنا في مرحلة ما خيارات مجنونة و كارثية.
بل إنه يتجاوز كنه هذا الصراع ليتناول مسألة الندم و توابعه على حياة الإنسان و كيف يتمكن هذا الإحساس المجرد من أن يتحكم في مصير الإنسان من خلال سلاح فتاك.. الأفكار و الذكريات.
و إن كان بإمكاننا أن نطلق عنوانا آخر على الفيلم سيكون “الندم” بالتأكيد ، فهو النقطة التي تجمع الجميع في بوتقتها.

المقطع الترويجي الرسمي للفيلم .. ملاحظة : يحوي بعض المشاهد الجريئة (لمن لا يرغب بالمشاهدة)

لكن و كما هو حالنا في الحياة الواقعية فإن تعامل شخصيات الفيلم مع شعورهم بالندم الذي يلاحقهم مختلف و متباين.
فبعضهم آثر الهرب و تغيير المكان ك “لي” و بعضهم قرر البداية من جديد ك “راندي” و بعضهم عاد إلى الماضي عله يسكت الندم و لكنهم جميعا و من خلال طرقهم المختلفة في مواجهة الندم و التعامل معه كانوا يبحثون عن سبل للنسيان.
النسيان تلك الشخصية اللامحسوسة الحاضرة الغائبة طوال الفيلم و التي تطل علينا و تختفي من أمامنا بسرعة البرق هي في الواقع البطل الحقيقي لفيلم “مانشستر قرب البحر”.

يقول أحد الحكماء “لا شيء يجعلنا عظماء إلا ألم عظيم” و لكن أحيانا الألم العظيم لا يجلب العظمة بقدر ما يسبب الانكسار و الوهن.
أظنه أمر متعلق باختلافنا ، بعضنا قد يكبر بالألم و أوجاعه و لكن معظمنا للأسف يسقطه الألم بالضربة القاضية فلا يقوم من سقطته تلك أبدا مهما حاول .
و لكي نكمل حياتنا على كل منا أن يطور دفاعاته الخاصة ضد الألم و الندم ومرارتهما.

المصادر :

– Manchester_by_the_Sea_ Wikipedia
 
– Manchester by the Sea (2016) – IMDb
 
– Manchester by the Sea – film 2016 – AlloCine
 
– Manchester by the Sea Official Trailer 1 (2016) – Casey Affleck Movie 
 

تاريخ النشر : 2019-05-11

guest
32 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى