أدب الرعب والعام

قدر – الجزء الأول

بقلم : جمال – سوريا
للتواصل : [email protected]

تسارعت نبضات قلبها أكثر ثم أكثر حينما رأته بات أكثر قرباً إليها
تسارعت نبضات قلبها أكثر ثم أكثر حينما رأته بات أكثر قرباً إليها

ربت ذلك الرجل على وشاحه السميك ، و حرص على أن يلف به عنقه بعناية ، ثم أمسك كوب شاي و قال لرجل أخر يجلس بجانبه :

– هل صحيح أن هذه العاصفة لن تكون كسابقاتها؟.
رفع الرجل أكتافه ليدل على أنه لا يملك ما يقوله ، ثم ضغط قبعته الفرو نحو الأسفل لتغطي كامل أذناه و أردف :

– هكذا يقول الجميع و أني أرى ما لم أراه من استعدادات في الأعوام الماضية.
 ثم أمسك كوب الشاي و أخذ رشفة واتجه بناظريه نحو الشارع و استأنف :
– أما أنا و أنت فمثلنا كمثل بائع الحلوى الغريب ذاك لا يعلم ماذا و كيف سيصنع ، يا له من أحمق!.
 
 حلوى.. حلوى.. اشتروا بعض الحلوى أنها تشعر بالدفء في هذا البرد القارص ، ثم أخفض صوته وهمس لنفسه:

– يا الهي ! هل تكفي كلمة قارس لهذا البرد ؟ أكاد لا أحس بأطرافي ، و الطامة أني لم أبع شيئاً حتى الأن.

لا يمكنني العودة للمنزل في هذا الجو و إن استمر الحال هكذا لن يمكنني دفع إيجار منزل يأويني ليلة أو اثنتين في هذه البلدة ، عندها سأموت من البرد.
 
 وضع الرجل كفيه مواجهةً المدفأة برهة ثم حكهما عدة مرات وقال:
– أراهن أن بائع الحلوى ذلك يشتم البلدة وسكانها ، انظر إليه ، يبدو أنه لم يبع شيئاً حتى الأن.
 
رد عليه الرجل الأخر متململاً:
– ومن سيشتري من غريب ؟ اه نعم ..
سوى غريب آخر ، انظر إلى ذلك الرجل لم يسبق لي أن رأيته من قبل ، يبدو أنه يتجه اليه.
 
****
 
 هتف مارديك وهو مقطب الجبين مندهش:
 هل هذا حقيقي ؟ حبيبتي ماري هل أعددتِ قهوة حلوةً فعلاً ؟.
كان صوته صوت شخص لا يصدق ما جرى ، إذ لم يحدث قط أن ماري أعدت قهوةً حلوةً أبداً .

كانت ماري بالنسبة لمارديك الجوهرة الخاصة به ، امرأة ذات حسنٍ و جمال ، بوجه نضر بهيج ، ذاتَ بشرةٍ بيضاء، بعينين سوداويتان ، فكأنما الليل والنهار قد تمثلا في ذلك الحور في وجهها ، وكأن الشمس أضفت ذلك الطيف الوردي المتشرب به ، عدا عن كونها زوجة داعمة متفهمة ، ولعل أشد ما أثره عنها عشقها الشديد للقهوةِ الخاليةِ من السُّكر وكرهها بل حقدها لمن يضع للقهوة سكّراً .
 
 ارتشفت ماري القليل من فنجانها ثم ابتعدت مشمئزة :
– يا الهي ، كيف فعلت هذا ؟ أنا حقا لا أعلم .. اللعنة على هذا  .
ثم صمتت برهةً واتبعت :

– حسناً مارديك يجب عليَّ أن أُخبرك ، إنَّ التفكير في هذا الأمر وحدي يكاد يفقدني صوابي.
 
وضع مارديك الفنجان من يده ثم سحب كرسيَّه وحاذاه بجانب ماري وجلس مهتماً ثم اتبع :
– ما الأمر عزيزتي ، أخبريني هل تعانين من خطب ما ؟.
 
– نعم .. لا.. ربما ، أقصد أني يمكن .. يمكن ..
وصمتت ماري مرتبكةً برهة ثم نظرت إلى عينا مارديك التي كانت تحثها على إكمال كلامها فاستأنفت :
 
 – يمكن أن أكون حاملاً .
 
 لم يستوعب مارديك ما سمعه آنفاً ، فهزَّ برأسه مستفهماً دون أن ينطق ببنت شفة بتعابير ذهولٍ قد سيطرت عليه .
 
– هذا ما أخبرتني به الطبيبة منذ عدة أيام ، أتذكر .. لم أكن أُعاني من توعّكٍ أو ما شابه ، أنها آثار الحمل.
 
ظل ماردك صامتاً مشدوهاً ، مسترسلاً بالنظر إلى وجه زوجته ، حتى أنه نسي فمه مفتوحاً ليدرك ذلك بعد برهةِ صمت ، ثم هز رأسه عدةَ مرات كأنه يحاول تبسيط شيء معقد جداً :
 
– هل يمكن أن تعيدي لي آخر كلمة ، هل تعنين ما تقولين ؟ اعيديها من فضلك ؟.
 
– مارديك أنا حامل ، أنا حقاً كذلك .
 
ذلك التأكيد الأخير كان بمثابة ثوران بركان انتفض في داخل مارديك ، فبعد سبع سنوات من الزواج ، رافقها سبعة أُخر من العلاجات والأدوية والأطباء ، وحتى اللحظة التي نطقت بها ماري كان هذا الماراثون لا يزال مستمراً .
 
– سأُعد قهوة غير هذه .
 
 انتفض مارديك ممسكاً بذراع زوجته مرجعاَ إياها إلى حيث كانت تجلس لقد كان مرتبكاً لا يعلم ماذا يفعل ، يداه المرتجفتان تدلان على ذلك .
تبسم ، ضحك ، مسح جبينه ، تنفس بعمق .
 
– لا تقومي بأي عمل من الآن و صاعداً ، اسمعيني ، يجب أن تبقي مرتاحة حتى يثبت الحمل ، حتى تأتي لنا بإبننا ، ثم لما الخدم هنا إذن ؟.
 
– لكني لا أحب أن تشرب القهوة في صباحك إلا إذا كنت أنا من أعدها .
 
– حملك فوق أي اعتبارات الآن ، لحظة واحدة ، يا إلهي نسيت اسم الخادمة ! انتونيلا ، انتونيلا تعالي إلى هنا بسرعة .
 
***

 ” دائماً مع يخفي لنا القدر في طياتهِ أحداث و منعرجاتٍ كثيرة ، وبدون أي سابق إنذار نرى أنفسنا على خط مواجهة جديد ، نواجه ما نحب أو قد نواجه ما نخشى ، المهم بل الأهم أننا سنواجه ما يريده القدر “.
 
***

ردت ماري شعرها المنسكب إلى الخلف ، واستندت على سريرها تنظر إلى بطنها ، تمعنت ملياً في راحتي يديها ثم تنهدت بحزن وعمق ، جفلت قليلاً وترجلت بعدها لتخطو نحو النافذة
، حتى هذه الإطلالة الأخاذة التي لطالما كانت تُذهب الهم عن ماري بمجرد النظر اليها وتأملها لم تعد كذلك .

استدارت واتجهت نحو الخزانة ، أرادت شيئاً واحداً محدداً ، لربما إن أفرغت ما بداخلها على كراستها كالمعتاد ستنال شعوراً مرضياً ،  لكن الأمر الآن أصعب من السابق اذ لم يسمح لها هذا البطن الذي بدأ بالانتفاخ برفع نفسها حتى نهاية أصابع قدميها كما كانت تفعل سابقاً ، لكن لا باس من المحاولة .
 
 – لا ماري لا ..لا.. لم نتفق على هذا ، يا الهي ستلحقين الضرر لنفسك وللجنين .
 
كان هذا صوت ما رديك و قد دخل الغرفة فوجد ماري على تلك الحال ، اقترب منها و لفَّ ذراعه حول خصرها ثم أسند رأسه على كتفها بعناية :

– عزيزتي أرجوكِ عليكِ بالراحة فقط ألا تريدين أن تسمعي كلمة ماما ؟ هيا عودي إلى سريرك ، أي شيءٍ تريدينه فقط اطلبي مني أو من أحد الخدم .
لم يكن من الزوجة إلّا أن انصاعت لرغبة زوجها واستسلمت له وهو يعيدها إلى السرير:
 
– أردت فقط أن ..
– أردتِ ماذا حبيبتي ، اخبريني ؟.
 
– لا شيء ، لا تهتم ، أتعلم .. تذكر ذلك اليوم الذي أخبرتك به بأمر حملي قبل ثلاثة أشهر ، لم أكن حينها استوعب ما أقول ، ربما لأني حينها تصالحت مع وضعنا كوننا لا ننجب ، ثم أصبحت حاملاً فجأة ، إنها العدالة مارديك صحيح ؟ ، أنا متأكدة أنها العدالة ، سعيدة جداً و راضية أنا الآن .
 
ربت مارديك بحنوٍ على كتف ماري :
– بالطبع أنها لعدالة ، نستحقها ، تعالي إلي.
 
ثم ضمها بقوة إليه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة شيطانية تفوح مكراً وخباثة ، أما وجهها في الجهة المقابلة فلم يكن أقل خبثاً من وجه زوجها ،
ابتسامة شيطانية صفراء أخرى كانت قد اعتلت وجهها المستند على كتفه .
 
***
 
-أتعلمين من هي تلك السيدة التي شغلت الغرفة الحادية عشرة من الجناح الخاص ؟.
 
-لا ، و لكنها وبالتأكيد من الطبقة المخملية الراقية ، لقد تلقينا تنبيهات من مدير المشفى بنفسه توصي بالاعتناء الخاص بها .
 
– بل إنها زوجة الثعلب الأبيض.
 
– … تقصدين أنها ابنة العمدة السابق و زوجة أكبر تاجر في مدينتنا !.
 
– بالضبط .. متشوقة لأن أراه ، يقولون عنه أنه ماكر حاذق في التجارة ، إذ لم يدخل بصفقة و خسرها قط.
 
– لو لم يكن كذلك لما أُطلق عليه لقب الثعلب ، وقد زاده الشيب هيبة و وقاراً فأصبح الثعلب الأبيض .
 
****
 
الغرفة الحادية عشرة في مشفى النبلاء ، المشفى المخصص لذوي الطبقة المخملية الراقية ، يخرج منها الطبيب وقد بدت آثار التعب عليه ، بجانبه ممرضة بيدها منديل تمسح به التعرق على جبينه و وجهه ، أما هو فقد كان يتنفس بعمق مرات متتالية.
 
– هل هي بخير أيها الطبيب ؟.
 
– نعم بالطبع ، لكني و بصدق رغم تمرسي في هذه المهنة إلا أنني عندما علمت أنها زوجة الثعلب الأبيض أُثقلت بالتوتر والخوف.
 
– استرح الآن ، ها قد تكلل كل شيء بالنجاح ، و لربما ستحصل على مكافئة كبيرة جداً عندما تنقل له البشارة ، لكن لا تنسَ أن تدعونني إلى عشاء فاخر جداً بعدها .
 
– أهه .. بالطبع ، بالطبع هذا مؤكد ، بالمناسبة أين هو الآن ؟.
 
– في غرفة الانتظار الخاصة ، لا بد أنه متشوق لسماع أخبار جميلة .
 
***
 
” السماء صافية ، الليل هادئ ، القمر بدر ، كل شيء جميل ، لقد رضي عني القدر ، أنا الآن المنتصر ، أنا من فزت ، نعم أنا الذي قد ظفر “.
 
وقف الطبيب أمام مارديك الذي كان جالساً مستنداً على الكرسي يتمتم بتلك الكلمات وقد أغمض عيناه ، مسد على لحيته وشاربه البيضاوان ثم فتح عيناه واتجه بناظره نحو الطبيب الذي أخذ وضعية الاستعداد :
 
– ما الأخبار أيها الطبيب ؟.
 
أجاب الطبيب وقد ظهرت علامات مستبشرة على وجهه :
– لقد سار كل شيء على ما يرام .. سيدي ، مبارك لكما .
 
-لكما ؟ من تقصد ب “لكما”.
 
رد الطبيب وقد شعر ببعض الارتباك :
– أنت و زوجتك سيدي .. الحمد لله على سلامتها.
 
-هل تأكدت أنها بخير ، هل خرجت من الغرفة وقد تأكدت من حالتها ؟.
 
– نعم ، بالتأكيد ، إنها والمولود بكامل الصحة .. سيدي.
 
أكفهر وجه مارديك وضرب بعكازه على الأرض ثم وضع وجهه بين راحتي يديه قليلاً و اردف :
 
– اخبرني أيها الطبيب ، هل سبق و سمعت بأغنية القدر ؟.
 
– نعم سيدي ، إنها أغنية تحمل أسطورة من الخرافات القديمة.
 
– هل القدر راضٍ عنك ؟.
 
– أعذرني سيدي ، وما أدراني اهه .
 
– خذني حيث زوجتي و أبني الحبيبان ، لا تكاد السعادة تصف حالتي الأن.
 
دخل مارديك الغرفة بملامح مشوهة ، حملق بزوجته النائمة للحظات قبل أن تتقدم الممرضة حاملة ابنه له .
 
– طفلك سيدي ، إنه جميل كطلة البدر ، بل أكثر ، لقد أثار دهشتنا هذا الشقي و ذعرنا حينما أخرجه الطبيب بدون أن يصرخ ، إنه هادئ جداً .
 
أمسك مارديك بابنه واسترسل بالنظر إليه ، فاضت عيناه بالكثير من المشاعر الغير مفهومة ، قبّله ثم تنهد تنهيدة طويلة وأعاده للممرضة .
 
****
تجمهر الناس حول قصر الثعلب الأبيض ، بوجوه اعتراها الحيرة تساءل الجميع ، ما الذي يجري ؟ خرجت الشرطة من القصر ، ليعلم بعدها الجميع نبأ موت الثعلب الأبيض و زوجته.
نص التقرير الأخير على وجود مارديك وزوجته مضرَّجان بدمائهما و بينهما ابنهما الذي لم يكمل الستة اشهر نائم بهدوء تام ، و ذُيِّل التقرير على أن الزوجان ماتا مقتولان بطلقين ناريين .
 
****

منزل قديم على طرف البلدة ، موقعه و حالته لا تدل على أنه يحوي أية آثار للحياة ، تمادى الظلام في أرجاءه حتى التهمها جميعها ، ربما ستسمع منه صوت بومة تتسامر على إحدى نوافذه ، أو صوت قطة تعيسة الحظ قد ضلت طريقها .
 
“هذا الشعور .. لن يمكنني كبحه طويلاً ، عاجلاً أم أجلاً سيطفو “.
 
انطلقت هذه الكلمات بوتيرة هادئة من داخل ظلام ذلك المنزل ثم تحولت لصرخة مدوية أطاحت بكل ذلك السكون .
 
******

– كش مات ، اعطني المال.
 
– هيه تتمختر وتتبختر ومن ثم تخسر ، يا لك من عار على لاعبي الشطرنج ! .
 
– من الأفضل لك أن تصمت و تلعب معه و عندها أرنا إن كنت تستطيع هزيمته.
 
– هات المال و من ثم أكمل شجارك معه .
 
يمكنك أن ترى هذا الموقف يتكرر عدة مرات في مقاهي وحانات هذه البلدة ، طاولة ، رقعة شطرنج ، وجمهور يترقب كسب الرهانات ، يمكنك أيضاً أن تميّز شاب في أواسط العشرينيات يحمل عينان زرقاويتان وشعر ذهبي أشقر و قوام هزيل ، مجرد من الانفعالات و المشاعر ، لا تكاد تسمع صوته إلا عندما يطلب المال حين يطيح بخصمه ، هالته العدمية تلك تشعر كل ناظر إليه باكتئاب غريب ، لكن عدا عن كل ذلك لقد كان ظاهرة القِمار في البلدة .
 
– يبدو أنك في ورطة أيها الشاب.
– ملكك سيموت بعد ست نقلات ..ضع المال.
 
لم يعلم أحد عن ذلك القاطن الحديث إلا أنه يسكن في منزل متهالك على طرف البلدة وأنه يجمع المال ليشتري السجائر التي كان شره جداً بافتراسها.
 
في تلك الليلة ، الحانة ممتلئة كالعادة ، الجميع متجمهر حول الطاولة في منتصفها .
 
– أراهن على خسارة هذا الأشقر بخمس وعشرين ألفاً.
 
-أراهن على فوزه بضعفها.
 
بينما كان الجميع منشغل بمن خسر ومن كسب كانت هي تتبعه بنظراتها ، تحملق به عن كثب ، تتأمل أنامله وهي تحرك القطع ، تنتقل من مكان لآخر لتكون أكثر قرباً ، فعلى الرغم من أنها تكبره إلا أن كبرياء ثلاثينياتها قد انهار شغفاً به .
 
 -يا إلهي ماذا قد تكون أنت ، حتى النظام اللندني* لم يفلح معه.
 
– أعطني المال .
 
ظلت تتربص به ، تطارده من طاولة لأُخرى و استمر هذا الحال حتى همَّ خارجاً.
توجهت إليه مترددة بين خطوة مقبلة و أخرى مدبرة ، لكن غشاوة غطت على أخر ما تبقى من سطوة عقلها فاستلم قلبها زمام الأمور و سرعان ما لحقت به.
 
كانت تمشي خلفه جارة ثوبها الأحمر المتلألئ ، منحه انعكاس ضوء القمر عليه حلّة ساحرة جعلته يبدو كأنه حفنة من اليعاسيب تتجول في المكان .
أما هو فعلى الرغم من أنه قد شعر بتلك الخطوات خلفه إلا أنه تابع مسيره متجاهلاً غير آبه.
 
قُضِي شوطٌ لا بأس به من تلك المطاردة الهادئة فكّرت بعده أن تعود أدراجها قبل أن تدرك فيما بعد أن لا مبرر لها للحاق به ، و كأن العقل عاد لمكانه في القيادة فباتت تصف نفسها بالغباء و السخف .
توقفت مطأطئة رأسها نحو الأسفل :
 
– ما الذي أفعله بحق الجحيم؟ .
 
همست لنفسها بتلك الكلمات لتؤكد على قرار عودتها ، ثم عادت و رفعت رأسها  لتقف متسمرة في مكانها مدهوشة .

هناك و بعد مسافة منها وقف تحت أحد القناديل و كأنه يخبرها أن تقلع عن قرارها بالعودة وتهرول مسرعة إليه ، وقف دون أن يلتفت لها ، أما هي فقد نسيت كل ما نعتت نفسها به وهمّت راكضة نحوه .

تسارعت نبضات قلبها أكثر ثم أكثر حينما رأته بات أكثر قرباً إليها وازداد  ذلك الشعور الذي يمزج بين الرهبة و الحب فيبعث ضيقاً محموداً في صدور العاشقين .

حملت الخطوة الأخيرة ما هال من التخيلات التي كانت بطابع الأمنيات ، مثلها كمثل القصص التي كانت تمر على رأس هذه الجميلة ، المحبوبة تتقابل مع من تحب في اللقاء الأول ، تعترف له ويعترف لها و من ثم يتبادلان قبلة تكون كالبصمة في عَقد الحب .
 
-اسمي فاليريو ، ولا شأن لي مع النساء .
 
أطاحت هذه العبارة بكل ما صال وجال في ذهن تلك العاشقة الفاتنة ، لقد قالها دون أن يلتفت حتى ، و قد قطع عنها أي طريق للمواصلة فقد كانت تنوي أن تفتتح حديثها معه بالسؤال عن اسمه .
 
– طالما أنك قد أخذت إجابة تساؤلك ، كفِ عن ملاحقتي.
 
كانت هذه أطول جملة سمعتها منه طيلة تلك الأيام التي قضتها و هي تراقبه فيها ، لكنها لازالت بتلك النبرة العدمية الهادئة .
فجأة فقدت تلك العاشقة قدرتها على الكلام ، لم يعد لديها ما تقوله لمّا اجتاحها الخزي و الخجل :
 
– على الأقل استدر ، انظر إلي ، احتراماً للمسافة التي قطعتها من أجلك.
 
لم يخفى عليها صوت تنهيدته المستاءة ، ببرود استدار نحوها لترى انعكاس النور على ذلك المحيط البائس في عيناه ، أما هو فما إن ركّز نظره إليها حتى بدت ملامحه تتغير ، لاحظَت بوضوح اهتزاز حاجبه ثم جحوظ عيناه ، تلفتت خلفها ، نظرت يمنة و يسرة ، سألته بتعابير وجهها ما الأمر ! ، لكن جسده بدأ بالارتجاف ، أخرج يديه من جيوبه و وضعهما ضاغطاً على رأسه منهاراً ، هرعت تلك الحسناء فزِعة إليه عندما صدر منه أنين علا ثم تعالى ليتهاوى بعده جسده الهزيل على الأرض .
 
***
 
– أخيراً استيقظت ، سعيدة لأنك بخير .
 
فتح فاليريو عيناه و أنتظر برهة منتظراً أن تنقشع الغشاوة عن عيناه ليجد نفسه مستلقياً على سرير في مكان لم يعهده سابقاً ، وأنامل تتلمس وجهه وتسري عليه بعناية ، ثم ما لبث أن جلس معتدلاً بهدوئه المعتاد .
 
– ما الأمر ؟ حتى في موقف كهذا لن تتكلم ، على العموم ، أهلاً بك في منزلي المتواضع ، أُدعى بيرلا ، لقد سقطتَ فجأة بالأمس حين قابلتك ، يا إلهي لقد كان ذلك مريعاً ، ثم جئت بك إلى هنا ، لا تسألني كيف ؟.
 
تابعت عيون فاليريو الناعسة بيرلا وهي تتحدث ، عيناها ، فمها ، أنفها ، هناك ما يجب أن يفهمه بل يجب على الأقل أن يستوعبه.

” ما الذي يجري ، ما الذي يحاول عقلي إخباري به ، ما الأمر ، لماذا بمجرد نظري إليها أشعر هذا الشعور الغريب ، لماذا حصل لي ذلك بالأمس عندما رأيتها ، من تكون هذه ؟.
هناك شيء في أعماق عقلي .. لا استطيع ..لا استطيع ، اللعنة هذا الصداع مؤلم جداً.
 
لا تزال بيرلا مسهبة في حديثها بينما كان فاليريو محاطاً بكل تلك التساؤلات التي انتهت بصداع مزعج ، لكنه ما لبث أن ترجّل بهدوء متجاهلاً بيرلا و حديثها قاصداً الخروج
” لم اعد استطيع التحمّل أكثر “.

وضع يده على جبهته واستند إلى الجدار هنيهة حاول انتعال حذاءه لكنه تهاوى إلى الأرض ، انتفضت بيرلا ملهوفة تحاول مساعدة فاليريو الذي سقط مغشياً مجدداً بدون أي حركة أو صوت :
– فاليريو ..فاليريو .. فالي أجبني أرجوك ، أرجوك. .
 
****

– هل سيكون بخير أيها الجد ؟.
 
– نعم ، نعم هذه حالة صداع مزمنة ، تحدث لبعض الأشخاص بشكل متكرر ، قابلت هذه الحالات كثيراً ، المهم الآن .. من هذا الشخص و ماذا جاء به لمنزلك ، لقد باتت الصغيرة بيرلا تخفي عن الجد أخبارها أليس كذلك ؟.
 
أحمر وجنتا بيرلا وطأطأت رأسها لحظة ثم اطلقت ابتسامة متوترة :
 
– لا أيها الجد ، أبداً ، لكني لم أجد الوقت ، ثم إنها قصة طويلة ، بكل الأحوال كنت سأخبرك بالتأكيد ، ثم أني أتسلق حائط الثلاثين من عمري و لا زلت تنعتني بالصغيرة ، تبقى القليل وأصبح هرمة مثلك.
 
– هرمة مثلك ! و ترميها في وجهي هكذا ، يا لصراحتك !.
 
ثم أطلق قهقهة عالية و أتبع :
 
– إنكم تسرقون الوقت منا و تكبرون ، يا للزمن !.
 
تبسمت بيرلا بشيء من التقدير و الخجل ثم عادت بنظرها تتأمل فاليريو النائم.
 
– آه ، قلت لك أنه سيكون بخير ، سيستيقظ بعد أن تفقد الأعشاب تأثيرها.
 
– لكن أيها الجد ألم يكن من الأفضل لو أخذته للمشفى ؟.
 
قالت بيرلا ذلك ثم أدركت بسرعة أنها ارتكبت خطاءً جسيماً بقولها هذا للجد الذي نظر إليها مستخفّاً ، فطلبت الإذن لتعد الشاي وغادرت الغرفة مسرعة .
 
****

– من هو ذلك العجوز الذي كان هنا ؟.
 
– هل تقصد الجد  ، كيف عرفت بشأنه ؟ أظن أنك قد كنت نائماً طيلة الوقت !.
 
– ليس تماماً.
 
 يٌتبع …….

تاريخ النشر : 2021-06-06

جمال

مهندس نظم قدرة كهربائية وكاتب ومعلق صوتي - للتواصل عبر البريد الالكتروني : [email protected] عبر تلغرام ؛ https://t.me/Jamsyr ايضاً من خلال صفحتي على فيسبوك أو انستغرام ادناه :
guest
43 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى