أشباح و ارواح

قصة أشباح أدت إلى الكشف عن مقبرة جماعية‏

بقلم : اياد العطار

جاءوا بحقائب فارغة يحدوهم أمل كبير في حياة رغيدة ومستقبل أفضل .. جاءوا ليجربوا حظهم مع الحلم ‏الأمريكي حالهم حال ملايين المهاجرين الذين يمموا وجههم صوب أرض العم سام حيث المدن الأسطورية التي ‏زعم سماسرة الهجرة بأن شوارعها العريضة تفيض ذهبا وفضة!. لكن أحيانا وكما يقول المثل العربي .. تأتي ‏الرياح بما لا تشتهيه السفن .. وهذا هو بالضبط ما جرى مع أولئك الرجال الفقراء الذين أبحروا في سفينة خشبية ‏متهالكة قبل أكثر من قرن ونصف من الزمان في رحلة طويلة وشاقة انتهت بهم إلى ما لم يكن في حسبانهم والى ‏ما لم يخطر على بالهم أبدا.‏

قصة أشباح أدت إلى الكشف عن مقبرة جماعية‏
فرانك وبيل واطسن مع جدهما

سكت الجد أخيرا وساد الغرفة صمت ثقيل لم يقطعه سوى صوت الكرسي الهزاز العتيق الذي راح العجوز يهدهده بقدميه فيما راحت عيناه المتعبتان تحدق بأسى نحو السنة اللهب المتراقصة في الموقد.

– لكن هل القصة حقيقية يا جدي ؟ تسأل بيل الصغير وهو يبتلع ريقه بصعوبة.

التفت العجوز نحو حفيديه الجالسين عند قدميه واللذان بدا الخوف جليا على وجهيهما وأجاب بثقة : بالتأكيد! .. فهي مدونة في سجلات الشركة الرسمية.

– لكنهم ماتوا منذ زمن بعيد يا جدي .. لماذا إذن بقت أشباحهم في المنطقة ؟ تسأل فرانك بصوت متهدج.

– إنها أرواح غاضبة بالتأكيد!.

همس الجد لأحفاده، ثم انحنى على كرسيه وقرب رأسه الأشيب من الطفلين الخائفين كأنما يخشى أن يسمعه احد وتابع قائلا : شيء ما ليس على ما يرام في موت جميع هؤلاء الناس .. لقد أصابهم ظلم كبير .. تصور بأنهم لم يحصلوا حتى على مجرد شاهد قبر.

بيل وفرانك واطسن لم يستطيعا النوم بسهولة تلك الليلة، لقد علقت في ذهنهم حكاية الجد العجوز عن الأشباح الراقصة وتخيلوا برعب جثث أولئك المهاجرين البائسين تتحرك نحوهم بخطوات بطيئة ومتعثرة وسط الضباب الكثيف الذي يلف ارض الغابة المظلمة.

لكن ما رواه الجد العجوز لحفيديه في ذلك المساء البارد لم يكن من وحي خياله الخصب، وإنما كان قد قرأه في وثيقة قديمة محفوظة في أرشيف شركة سكك حديد بنسلفانيا حيث عمل هناك لعقود.

قصة أشباح أدت إلى الكشف عن مقبرة جماعية‏
دفيز كات

الوثيقة قديمة جدا يعود تاريخها إلى عشرات السنين، وهي تتحدث عن رجل كان يسير عائدا إلى منزله في إحدى الليالي حين مر بـ دوفيز كات (Duffy’s Cut ) وهي منطقة محاذية لخط السكة الحديدية. كان هناك ضباب خفيف يخيم على الأشجار لكن الرجل كان قادرا على تمييز الأشياء أمامه بكل وضوح. وفجأة شاهد منظرا جعل الدم يتجمد في عروقه .. منظر مرعب وصفه الرجل كالآتي :

“لقد شاهدت بأم عيني، أشباح الأيرلنديين الذين ماتوا بالكوليرا قبل شهر، كانوا يرقصون حول جذع شجرة ضخم في المكان الذي دفنوا فيه؛ هذا صحيح أيها السيد، لقد كان منظرا مرعبا. لقد كانوا أشبه بألسنة لهب خضراء وزرقاء تتراقص في قبورها .. لقد سمعت بأن أشباح الايرلنديين خيمت على المنطقة لأنهم لم يحظوا بمراسم دفن لائقة”.

ما قاله الرجل كان غريبا بحق، لم يصدقه الكثيرون، حتى أن البعض سخروا منه واتهموه بالثمالة، لكن هناك قلة ممن آمنوا بحقيقة ما شاهده الرجل، خصوصا أولئك الذين يعلمون جيدا حجم الظلم الذي تعرض له العمال الأيرلنديون في دوفيز كات.

قصة العمال الايرلنديين تعود إلى أكثر من قرن ونصف من الزمان، تحديدا إلى عام 1926 عندما باشرت ولاية بنسلفانيا بإنشاء مشروع سكة حديد فلاديلفيا – كولومبيا وقامت بتسليم إدارة أجزاء منه لمقاولين محليين لتسريع انجازه، وقد قام هؤلاء باستغلال القوى العاملة لديهم أبشع استغلال، فغالبية العمال كانوا من المهاجرين الأوربيين غير الناطقين بالانجليزية وكذلك من الصينيين والزنوج، ومعظمهم كانوا يعانون شظف العيش بعدما أنفقوا معظم أموالهم في رحلة القدوم إلى أمريكا يحدوهم حلم الحياة الهانئة الرغيدة، لكن الأقدار انتهت بهم إلى العيش كالبهائم داخل مخيمات قذرة تفتقر إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية، وفوق هذا كله كان عملهم شاقا مجهدا وأجورهم قليلة متدنية بالكاد تسد رمقهم، ولأنهم كانوا ضعفاء بدنيا نتيجة لفقرهم المدقع لذلك سرعان ما استنزفهم العمل المرهق فتفشت بينهم الأوبئة والأمراض وفارق العديد منهم الحياة.

في عام 1832 وصل 57 مهاجرا ايرلنديا للعمل مع مقاول يدعى فيليب دوفي كان مسئولا عن انجاز جزء من السكة الحديدية المارة بالقرب من مدينة مالفين، وهي منطقة عرفت لاحقا باسم دوفيز كات؛ كان هؤلاء العمال المهاجرين قد وصلوا إلى أمريكا قبل عدة أسابيع فقط. ومنذ البداية واجهوا ظروف صعبة للغاية في دوفيز كات، فإضافة إلى مخيمهم القذر وعملهم المضني الشاق، تعرضوا أيضا لمضايقات وإهانات جمة من قبل السكان في المنطقة، فغالبية الأمريكان في ذلك الزمان كانوا من المسيحيين البروتستانت (1) وكانت نظرتهم للمهاجرين الكاثوليك تتسم غالبا بالدونية والاحتقار، لذلك حين أصيب هؤلاء العمال المساكين بوباء مرض الكوليرا، الذي كان منتشرا آنذاك، أغلقت في وجههم جميع الأبواب وتم طردهم بقسوة حين ذهبوا طالبين المساعدة من سكان البلدة القريبة. باختصار تركوا ليموتوا بلا رحمة، ثم دفنوا في قبر جماعي واحد هو عبارة عن خندق طيني ضيق يمتد بمحاذاة خط السكة الحديدية التي كانوا يعملون في بناءها. طمروا في الخندق بدون مراسم دفن ولا حتى شاهد قبر خشبي صغير ومن دون أن يحزن لرحيلهم احد أو تذرف عليهم دمعة واحدة.

قصة أشباح أدت إلى الكشف عن مقبرة جماعية‏
كتاب يحكي قصة أشباح دوفيز كات

في عام 1990 عثر فرانك واطسن في أغراض جده الراحل على أوراق وسجلات قديمة تخص شركة سكك حديد بنسلفانيا التي كانت قد أشهرت إفلاسها في ستينيات القرن المنصرم، وإثناء قراءته لهذه السجلات التاريخية اطلع فرانك على تقرير قديم يتحدث عن موت العمال الايرلنديين عام 1832 والمكان الذي دفنوا فيه.

بعد قراءته للتقرير استعاد فرانك ذكريات طفولته وحكايات الأشباح الايرلندية التي كان جده يقصها عليه وعلى شقيقه بيل في ليالي الشتاء الباردة، تلك الحكايات التي ظن فرانك لسنوات طويلة بأنها مجرد خرافات لا أساس لها من الصحة.

فرانك  أتصل بشقيقه بيل وأقنعه في القيام بالبحث عن على رفات العمال الايرلنديين من اجل كشف قصتهم للعالم وإعادة الاعتبار إليهم.

في عام 2002 بدء الشقيقان الحفر في منطقة دوفيز كات المحاذية لخط سكة الحديد القديمة، في البداية لم يعثرا سوى على شوكة طعام وأثار لكوخ قديم. لكنهما لم يفقدا الأمل واستمرا في التنقيب حتى عثرا عام 2005 على صارية وعلم ايرلندي وهو الأمر الذي رفع من معنوياتهم وجعلهم يعتقدون بأنهم اقتربوا من هدفهم.

بمرور الوقت أخذت الجرائد والصحف المحلية تكتب عن مشروع الشقيقان، وسرعان ما انضم إليهما عدد من الأكاديميين وطلبة الجامعات وشاركوا في إعمال التنقيب.

في عام 2009 اكتشف فريق البحث أول قطعة عظام تعود لإنسان، ثم توالت الاكتشافات من ذلك الحين وأصبح لدى الفريق الآن سبعة هياكل عظمية بشرية تم نقلها إلى جامعة بنسلفانيا لدراستها.

قصة أشباح أدت إلى الكشف عن مقبرة جماعية‏
احدى الجماجم المستخرجة يظهر عليها اثار اطلاق رصاص

في عام 2010 ازداد اهتمام وسائل الإعلام بعمل الفريق بعد قيام مجموعة من الأطباء والخبراء بفحص الهياكل العظمية في مختبرات جامعة بنسلفانيا وأعلنوا العثور على دلائل واضحة تشير إلى تعرض العمال الايرلنديين لإصابات عنيفة وقاتلة قبل موتهم، من بينها اثنتان من الجماجم المستخرجة التي كانت تحمل ثقوبا كتلك الناتجة عن الإصابة المباشرة بطلقات الأسلحة النارية، وهو ما يرجح النظرية القائلة بأن الكوليرا لم تكن وحدها المسئولة عن موت العمال وإنما يوجد هناك احتمال كبير في تعرضهم للقتل. وهو احتمال منطقي من ناحية أن التجمعات التي تصاب بمرض الكوليرا تتراوح نسبة الوفيات فيها بين  30% – 70 % في حين بلغت هذه النسبة في مخيم العمال الايرلنديين 100%.

الاعتقاد السائد اليوم هو أن هؤلاء العمال المساكين تعرضوا للقتل من قبل مجموعات مسلحة، ربما قدمت من البلدة القريبة، وقامت بمهاجمة الايرلنديين المرضى بالأسلحة النارية والمتفجرات فقتلتهم عن بكرة أبيهم وذلك بسبب الخشية من أن يسري مرضهم في المنطقة فيصيب السكان المحليين.

– كان يمكن أن نكون نحن مكانهم.

أوضح بيل واطسن وأردف قائلا : هؤلاء الرجال قدموا إلى هنا مع لا شيء، علقوا آمالهم على الحلم الأمريكي حالهم حال ما لا يحصى من البشر. كانوا يعتقدون بأنهم سيحققون حلمهم لكن خلال ستة أسابيع فقط من وصولهم انتهوا مدفونين في هذه الحفرة هنا!.

1- غالبية الشعب الأمريكي هم من المسيحيين البروتستانت (59%) أما المسيحيين الكاثوليك فيشكلون تقريبا (23%) وهذه النسبة كانت اقل بكثير في الماضي لكن الهجرة الحديثة من أمريكا الجنوبية وايرلندا وايطاليا وغيرها من البلدان الأوربية الكاثوليكية هي التي أدت إلى زيادة أعداد الكاثوليك في العقود الأخيرة.

المصادر :

  1. Grandfather’s ghost story leads to mysterious mass grave
  2. Duffy’s Cut(Wikipedia )
 

هذه القصة نشرت بتاريخ 15 /09 /2010

guest
44 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى