أدب الرعب والعام

قصتي مع الطبيب الشرعي

بقلم : حبر أخضر – السعودية

في مدينة الرياض وتحديدًا في حي الحزم توجد بناية باللونين الأبيض و البني ٬ بناية كبيرة نوعًا ما و تتألف من دورين ٬ الدور الأرضي عبارة عن فيلا ضُربت جدرانه من الداخل باللون الأخضر الفيروزي الفاتح ٬ والدور الثاني من البناية يوجد فيه شقتين متقابلتين لكن ساكنَيها متنافرَين ٬ في هذ المبنى تحديدًا حصلت قصة ٬ قصة نادرة الحدوث وأغرب من الخيال ٬ تناقلتها الصحف والأخبار التلفزيونية ٬ لم يبقى أحد من سكان الحي إلا وقد اخترقت القصة أذنيه وشغلت حيزًا من تفكيره لشدة غرابتها.

في شهر مايو وتحديدًا يوم الخميس وعند 11:49 دقيقة عادت أمينة من السوق والتعب والإرهاق يعلو وجهها ٬ دخلت من الباب الرئيسي المؤدي إلى الفيلا والذي من خلاله تستطيع الصعود إلى شقتها ٬ أما زوجها عيسى فقد كان منشغلاً في إنزال بقية الأغراض من السيارة.

وصلت إلى صالة الجلوس التي تتوسطها طاولة خشبية مستطيلة الشكل ٬ وعلى الجدار عُلِّقت شاشة تلفاز سينمائية حديثة من نوع سمارت ٬ وأسفلها وُضعت طاولة بيضاء مزينة بالورود الصناعية والتحف الثمينة وعلى سطحها يوجد عدد من الكتب و روايات الحروب ٬ وعلى الأريكة وجدت حماتها لطيفة تشاهد التلفاز مع ابنتها رغد ٬ وفي الجهة المقابلة كانت سلفتها أمل تجري مكالمة مع أحد أقاربها على الهاتف ٬ وفي منتصف الصالة كانت ليان صاحبة التسع سنوات تلعب مع ابنة عمها سارة ذات السبعة أعوام ٬ لكنها لم تجد أثرًا لطلال الذي يبلغ من العمر ست سنوات.

ألقت أمينة التحية عليهن ووضعت كيس المشتريات على الأرض ٬ جلست على الأريكة تتنفس الصعداء بعد مشوار طويل وشاق من التسوق ٬ نظرت إلى حماتها التي تشاهد التلفاز وسألتها : أين هو طلال ؟

خاطبتها حماتها ببرود كما تفعل في العادة : طلال نائم في غرفتي

أمينة بسؤال أخر لكنه كان موجه لرغد هذه المرة : منذ متى وهو نائم يا رغد؟

أجابت و هي تأكل الفشار : لا أدري ربما من ساعة

أومئت أمينة برأسها ثم أمرت ابنتها ليان التي لا تزال تتسلى و تلعب مع سارة أن تلملم ألعابها تأهبًا للصعود من أجل النوم ٬ حملت كيس المشتريات و مشت بخطوات ثقيلة “يا إلهي مع هذا التعب كيف سأصعد الدرج” هذا ما تمتمت به أمينة.
وقبل أن تصعد إلى شقتها توجهت إلى أحد الغرف ٬ دخلت وأشعلت الأنوار ٬ وجدت ابنها على الأريكة يغط في نوم عميق ٬ دنت منه لتوقظه من نومه لكنه لم يبدي أية حركة ٬ شعرت بوخز في قلبها يُنَبِّأها بقدوم غيمة سوداء ستعصف فوقهم بعد قليل ٬ أفلتت كيس المشتريات و شرعت تناديه بين الفينة والأخرى ٬ صُعقت حين اكتشفت أنه لا يحس ولا يشعر ٬ فأطلقت أمينة صرخة مدوِّية سمعها كل من في البيت ٬ فدخلن عليها مذعورات و وجدنها تبكي الدم بدل الدموع وتلطم نفسها وتردد عبارة : “لقد مات طلال”

تجمدت أمل في مكانها من هول ما سمعته ٬ أما رغد شعرت كأن الموت يقرعها فغابت عن الوعي ٬ أما الجدة فبقيت فاغرة الفاه لبرهة من الزمن ثم استدارت نحو الخادمة التي تقف خلفها مباشرة حتى لا ترى المنظر وتتأزم حالتها أكثر ٬ أما عيسى انطلق يهرول بعد سماع صراخ زوجته غير أبهٍ بالأغراض التي وقعت منه أثناء عبوره الحديقة ٬ وجد أخته طريحةً على الأرض ووجد فلذة كبده على الأريكة بلا حراك ٬ إحتار ولم يعرف إلى أيهما يسير لكن مشاعر الأبوة طغت على قلبه أكثر ٬ فقفز من فوق أخته وركض نحو ابنه ووضع يده أسفل ذقنه وهو يدعو الله أن يكون حيًا ٬ حدق في عينيه أملاً في أن تتفَّتح و يرى بريقهما ٬ لكنه لم يرمش حتى وغادر الدنيا ٬ وكأن روحه الطاهرة تأبى البقاء في عالم قد لوثته حقارة بعض البشر.

إنهار الأب و جثى على ركبتيه وعيناه جاحظتان وابنته ليان عند الباب تسمع وترى ٬ إستوعب عيسى وجودها و استجمع قواه و أشار للخادمة التي تقف عند الباب أن تبعد الأطفال وتغلق الباب ٬ أشاح بنظره إلى البعيد حتى لا يضعف عند رؤية ابنه وأخرج هاتفه بصعوبة ويداه ترتجفان واستدعى الطبيب الشرعي ليتصرف في الأمر ٬ أنهى عيسى المكالمة وأخذ زوجته و أخته التي استعادت وعيها إلى الغرفة المجاورة حيث كانت تجلس فيها أمل مع حماتها لتخفف عنها ٬ بقين فيها ولم يخرجن حتى بعد مجيء الأطباء ٬ كُنَّ بحالة يرثى لها و كذلك عيسى لم يكن أفضل حالاً منهن ٬ لكنه لآخر لحظة كان يحاول أن يكون قويًا لأجلهن.

إنضم إلى الطبيب الشرعي الذي بدأ بفحص الجثة ٬ وهو طبيب مختص بعلم الأمراض يدعى سعود حسين ٬ طبيب متمرس ذو خبرة عالية ونجمه لامع ٬ يمتاز ببعد النظر وسرعة البديهة وقد كان لهاتين الخصلتين دور فعال في تميُّزه وبروزه بين الأطباء ٬ تبين له مع الفحص الظاهري عدم وجود أية أثار للضرب أو الخنق ٬ إذًا من المفترض أن تكون الوفاة سكتة قلبية ٬ لكن هناك شيء جعل الطبيب غير مقتنع بأن الوفاة وفاة طبيعية ويعتقد أن هناك شيء خفي و غامض يختبئ خلف موته ٬ إلتفت إلى والد الطفل الذي كان يحاول أن يكون ثابتًا كالجبل الشامخ رغم وجعه ٬ طرح عليه عدة أسئلة حول كيفية الوفاة ووقتها وزمانها فسرد له الأب تفاصيل ما حدث ٬ وقف الطبيب بعد أن أمعن النظر في الجثة وقال : إعذرني ٬ لكن يجب أن تخضع الجثة للتشريح حتى أتأكد أكثر من سبب الوفاة

الأب وقد تعجَّب من كلامه : لكن لماذا ! هل تشك أن الوفاة ليست عادية ؟

أجاب وهو ينظر إلى الجثة : أخشى أن أقول نعم ٬ وبما أنني شككت في حقيقة الوفاة فإنه يجب علي يا سيدي أن أجري له تشريحًا من أجل أخذ العينات المطلوبة لتشخيص سبب الوفاة ٬ هذه هي الإجراءات يا سيدي

إنكمش قلب الأب وقال : لا تقل لي أن ابني قد قُتل ؟

طمئنه الطبيب قائلاً : لا تقلق الجثة لا توجد عليها علامات عنف وليس من الضرورة أنه قُتل ٬ لكن جثته متخشبة بشكل غريب رغم أنه لم يمضي على وفاته أكثر من ساعتين وقد أثار هذا شكوكي ٬ هل أنت متأكد أنكم اكتشفتم الوفاة بعد ساعة ؟

– أجل أيها الطبيب ٬ بحسب كلام والدتي لقد كان حيًا قبل ساعة حتى حبسته زوجة أخي في الغرفة لتعاقبه ولا يعلمون متى توفي بالتحديد ٬ وحين وصلت مع زوجتي اكتشفنا موته

– على كل سأقوم بعمل التشريح حتى أتأكد أكثر ٬ ربما يكون قد ابتلع شيئًا من دون علمك أو مات بشيء تجهلونه ولا بد لي أن أعرف ماهيته حتى أكتبه في التقرير ٬ كان الله في عونك وربط على قلبك

عض الأب على شفتيه وتمالك أعصابه ٬ شاهدهم وهم يرفعون الجثة نحو الطب الجنائي تمهيدًا للتشريح ٬ وقد صادف ذلك عودة عمار شقيق عيسى الأصغر من الخارج ٬ فظهرت عليه علامات الدهشة حين رأى عدد من الأطباء وهم ينقلون جثة طفل صغير قد غُطِّي جسده بالكامل بشرشف الأدلة ٬ عرف أن ابن شقيقه قد مات ٬ تبعهم إلى الخارج وشاهدهم وهم يضعونه في سيارة الطب الشرعي من البوابة الخلفية وانطلقوا به نحو المشرحة ٬ أسند ظهره على الجدار والدوائر السوداء تملئ عينه وهو يراهم يبتعدون به عن بيتهم.

وقد أصدرت أحد الجهات العليا قرارًا بلزوم تشريح الجثة دون اللجوء لرأي العائلة لأن الأمر أصبح بيد القانون ٬ باشر الطبيب عمله وشرّح الجثة لكنه لم يجد في جسده أية مواد قاتلة ومميتة ٬ ومن خلال التشريح استطاع تقدير زمن الوفاة التقريبي ما بين الساعة العاشرة وأربعون دقيقة والساعة الحادية عشرة وخمس دقائق ٬ إذا لماذا أعصاب الجثة مشدودة بهذا الشكل ؟ الجثة عادةً تبدأت بالتيبس بعد ساعتين ٬ هذا ما تمتم به الطبيب وهو يحك رأسه.
فكتب للشرطة في التقرير أن الوفاة ليست طبيعية وعليهم مباشرة التحقيق.

تأهب الضباط الجنائيون للإنطلاق نحو بيت الضحية المدعو طلال العقيلي ٬ دخلوا الفيلا وألقوا نظرة سريعة على الحديقة التي زُيِّنت أطرافها بزهور التوليب مع زنبق السلام ٬ وفي منتصف الحديقة وُضِعَ كرسي متأرجح باللون الأزرق تحيط من حوله ظلال الأشجار الباسقة التي تُدخل السرور إلى قلوب ناظريها ٬ وبجانبه وضعت طاولة صغيرة دائرية الشكل.

وعن يمينها يوجد مطبخ يفصل بينه و بين الفيلا حوالي سبعة أمتار تقريبًا ٬ عبروا الحديقة الصغيرة نحو الفيلا و أجروا مسح شامل في كل ركن من أركانه ٬ و كذلك فتشوا في المكان الذي مات فيه الطفل ٬ لعل هناك التماس كهربائي صعقه و أدى إلى موته لكن لا يوجد شيء مثير للشبهة ٬ عبروا الممر الذي يفصل صالة الجلوس عن بقية الغرف ٬ وفي نهاية هذا الممر يوجد باب يمكنهم من خلاله صعود الدرج إلى الدور الثاني لتفتيش الشقتين ٬ وبحانب هذا الدرج يوجد ممر يؤدي إلى الباب الخلفي الذي يطلُّ على الشارع ٬ إستجوبوا الأم وأكدت أنها وجدته ميتًا حين كانت توقظه من نومه ٬ كما أن جسده خالي من علامات العنف ولم يبتلع شيئًا أدى إلى موته ٬ لم يثمر بحثهم بشيء رغم كل المجهودات فغادروا المنزل ٬ وعلى هذا الأساس قررت الشرطة إغلاق القضية لإنعدام الأدلة والأسباب التي أدت إلى موته ٬ لكن الطبيب سعود بقي مصرًا على رأيه في أن هناك سبب خفي في موت هذا الطفل ٬ هناك شبهة جنائية يجب أن يرفع الغطاء عنها ٬ لذا كتب تقرير أخر مطالبًا الشرطة بإعادة التحقيق في القضية و كشف ملابساتها ٬ وكان الضباط متعجبين من أمره لأنه بنظرهم ليس إلا طبيب شرعي مختص في تشريح الجثث وفحصها وليس في التحقيق وجمع الأدلة.. فاصطحبوا معهم الأسرة كاملة إلى مركز التحقيق.

وهناك في المركز جلس ضابط نحيل طويل القامة أسمر البشرة خفيف الشعر أسود العينين ويدعى صلاح مرزوق ٬ وهو ضابط نجراني مستقر في الرياض ٬ عازب رغم أن عمره جاوز السابعة والثلاثين لكن شكله يبدو أصغر من عمره بخمس سنوات ٬ طقطق أصابعه تأهبًا لاستجواب كل من كان موجودًا ساعة وفاة الطفل ٬ وقد كان كل من الجدة والإبنة والسيدة أمينة والسيدة أمل متخمرات – وهي عباءة ترتديها المرأة في السعودية – ٬ وقد وجدت أمل نفسها أمام فوهة المدفع لأنها الأولى التي استدعاها الضابط ٬ سألها عن اسمها الرباعي وعمرها وغيره من الأسئلة المعتادة ثم باشر التحقيق معها باهتمام.

– هل صحيح أنك حبستِ الطفل قبل وفاته كما وصلني من الطبيب الذي فحص الجثة ؟

– نعم سيدي ٬ أخذته إلى الغرفة من أجل فض النزاع الذي حصل بينه وبين ابنتي سارة ٬ وطلبت منه البقاء فيها وعدم الخروج كعقاب له

– كم كانت الساعة حينها ؟

– كانت في تمام الساعة العاشرة وسبعة وعشرون دقيقة تقريبًا

– حسنًا أكملي

– تركته وصعدت نحو شقتي لأن زوجي عمار أخبرني أنه على موعد مع صديقه و طلب مني أن أوقظه في الوقت المحدد

– وهل هناك أحد دخل بعدك إلى الغرفة ؟

– نعم سيدي ٬ عند نزولي مع زوجي إلى الأسفل صادفت رغد تقف أمام الغرفة وهي تغلق بابه ٬ أما أنا فقد توجهت إلى صالة الجلوس لمشاهدة التلفاز بعد أن ودعت زوجي

– وكم المدة التي استغرقتيها منذ صعودك لإيقاظ زوجك حتى عودتك إلى الدور الأرضي ؟

فكرت أمل قليلاً وأجابت : ربع ساعة تقريبًا

– هل توجد لك عداوة مع أمينة والدة الضحية

– هي ليست عداوة لكن من المستحيل أن تجدنا متفاهمتان ٬ كثيرًا ندخل في شجارات بسبب عدم انسجام أطفالنا أثناء اللعب وتعارك كل واحد مع الأخر

– ولم تكتشفوا موته إلا بعد عودة أمينة إلى البيت

– أجل ٬ لم تصدق المسكينة أنها فقدت ابنها وأن روحه فاضت إلى السماء ٬ جميعنا انصدمنا ولم نتوقع خسارته بهذه السرعة ٬ ياله من مسكين

أطل الحزن من عيني الضابط وهو يقول : شكراً لوقتك يا سيدة أمل يمكنك الإنصراف

غادرت أمل المكان بخطى متسارعة واستدعى بعدها مباشرة الأنسة رغد ٬ تلك الفتاة العازبة التي ترغب في مواصلة دراستها الجامعية ٬ دخلت عليهم بخطى متعثرة وبنظرات حائرة وجلة ٬ لم تتصور يومًا أن تتواجد في مثل هذا المكان..

سألها الضابط بعد أن جلست : تقول زوجة أخيك أنها عاقبت الطفل وحبسته وصعدت إلى الأعلى ٬ وحين نزلت وجدتك عند باب الغرفة و أنت تغادرينها ٬ هل هذا صحيح ؟

إرتبكت رغد وأجابت : نعم سيدي ٬ تلاقت أعيننا بعد خروجي من الغرفة مباشرة

– و حين دخلتِ الغرفة هل كان طلال لا يزال على قيد الحياة ؟

– أجل ٬ لقد وجدته يقفز على السرير فطلبت منه أن ينزل ويجلس على الأريكة

– وماذا كنتِ تفعلين في الداخل ؟

– لقد طلبت مني أمي أن أرتب لها الفراش

– أفهم من كلامك أن الغرفة التي مات فيها الضحية هي غرفة أمك ؟

– نعم سيدي ٬ و عند مغادرتي أراد طلال الخروج معي فرفضت لأنه كان كثير الحركة ٬ وحين اكتشفنا أنه توفي شعرت أن الدنيا دارت بي وغبت عن الوعي
تغير صوتها و أردفت : لقد كان يلعب أمامي قبل موته وكانت صحته جيدة

الضابط يبدي أسفه : أتفهم شعوركم ٬ كان الله في عونكم

أغمضت رغد عينيها معلنة استسلامها للأمر الواقع وأردف الضابط بعد صمت : كم كانت الساعة حين غادرتِ الغرفة ؟

– كانت في تمام العاشرة و ثلاثة وأربعون دقيقة

– و أين توجهتِ ؟

– خرجت مباشرة نحو حديقة الفيلا لأجري مكالمة مع صديقتي ٬ وبعد خروجي إلى الحديقة بعشر دقائق شاهدت أمي وهي تغادر المطبخ إلى داخل الفيلا

– هل لديك فكرة إلى أين ذهبت ؟

– لا أدري ٬ لقد بقيت أتحدث على الهاتف مطولاً وأنا على الكرسي المتأرجح ٬ لكن من المستحيل أن تؤذي أمي ذبابة أنا متأكدة

شكرها الضابط وغادرت رغد المكتب ولكن بثبات هذه المرة ٬ استدعى بعدها سيدة الفيلا الخمسينية لطيفة العقيلي التي كانت ترتدي نظارة طبية ٬ جلست ببطئ وكان يبدو عليها أنها تعاني من ألم في ذراعها الأيمن..

– لديك ثلاث أبناء صحيح ؟

– أجل سيدي عيسى ورغد وعمار أما زوجي لقد توفي منذ فترة

– إشرحي لي مجريات ما حدث يوم الواقعة ؟

أجابت : أخر مرة شاهدت فيها طلال على قيد الحياة حين كان يلعب مع شقيقته و ابنة عمه في الممر ٬ ثم سحبته أمل نحو الغرفة لتعاقبه بسبب الضوضاء التي كان يحدثها ٬ أما أنا تركت الطفلتين تلعبان وخرجت أبحث عن ابنتي رغد

– وأين كانت ؟

– وجدتها في الحديقة وهي تحاول الإتصال بصديقتها فطلبت منها أن تترك الهاتف جانبًا وتذهب و ترتب لي الفراش ٬ عادت إلى الداخل طواعية أما أنا فقد توجهت نحو المطبخ لأنه حان موعد تناول دوائي الذي وصفه لي الطبيب بسبب معانتي من الشد العضلي

– لكنكِ تأخرتِ في الخروج من المطبخ و بقيتي في الداخل عشر دقائق إضافية ؟

أجابته الجدة بسرعة : أجل صحيح ٬ لم أجد علبة الدواء فأخذت أبحث عنه بين الأدراج حتى عثرت عليه

– وهل توجهتِ إلى غرفتك مباشرة بعد مغادرة المطبخ ؟

– نعم ٬ دخلت غرفتي ووجدت حفيدي نائم على الأريكة ٬ أذكر أنني ارتحت كثيرًا حين وجدته نائم لأنه رحمة الله عليه كان كثير الحركة

– لكن بحسب أقوال رغد كان الطفل مستيقظًا أثناء وجودها في الغرفة ٬ وحين دخلتِ أنتِ وجدتيه نائم ؟

– هذا ما حدث بالفعل

– ألم تلحظي عند دخولك أية حركة على طلال قبيل وفاته ٬ أرجوك تذكري ؟

– لا لم أرى أية حركة ٬ كان يبدو كالملاك الصغير وهو نائم ولم أكن أدري أصلاً أنه ميت ٬ لا أصدق أن هناك من خطط لقتله

– ولا أنا يا سيدتي ٬ لكننا لن نيأس وسنحاول معرفة السبب قريبًا

– أرجو ذلك ٬ ما زال صغيرًا على الموت

– كم كانت الساعة حين دخلتِ إلى غرفتك ؟

– كانت في تمام العاشرة و ثلاثة وخمسون دقيقة

– وماذا فعلتِ في الداخل ؟

– دخلت لكي أريح رأسي من الإزعاج الذي سببَّه أحفادي قبل قليل ٬ فكما تعلم الكبار أمثالي يكرهون الصخب و الإزعاج ويفضلون الهدوء والسكينة ٬ وبعد أن شعرت بالراحة قررت الخروج فأطفئت الأنوار على حفيدي وأغلقت الباب

– وكم استغرقتِ من الوقت وأنتِ مسترخية ؟

– تقريبًا نصف ساعة

– إذًا فقد بقيتِ في الداخل حتى بعد انقضاء المدة المقدَّرة للوفاة

– لا أدري يا سيدي ٬ أنا لا أعرف متى مات بالتحديد

الضابط وهو يشبك بين أصابعه : لقد قدّر الطبيب الشرعي وفاته ما بين الساعة العاشرة و الأربعون دقيقة والساعة الحادية عشر و الخمس دقائق ٬ وابنتك غادرت الغرفة في الساعة العاشرة وثلاثة وأربعون دقيقة وأنتِ دخلتيها في الساعة العاشرة وثلاثة وخمسون دقيقة ٬ يعني أنك أنتِ و ابنتك الوحيدتان اللتان دخلتما الغرفة في الفترة المحددة للوفاة ٬ هل تعرفين ما معنى هذا ؟

إنزعجت الجدة وأجابت بحدة : غير صحيح ٬ لماذا أقتل حفيدي ولماذا تفعل ابنتي ذلك ؟ لقد أخبرتك أنني حين دخلت وجدته قد نام ٬ وبعد خروجي أمضيت بقية الوقت أشاهد التلفاز مع أمل ٬ ثم انضمت إلينا رغد وهي تحمل معها الفشار وجلسنا نأكل حتى عادت أمينة

– إذًا من يمكن أن يكون له علاقة بموت الطفل ؟

– أشك في الخادمة يا سيدي ٬ لعلها دخلت في المدة الفاصلة ما بين خروج ابنتي ودخولي أنا ٬ وقد وجدتها عند عودتي من المطبخ وهي تنظف الأرضية في بداية الممر قبل شروعي في دخول غرفتي

– تقصدين الممر الذي يقع بالقرب من غرفتك أليس كذلك ؟

– أجل سيدي ٬ لقد كان لديها الوقت الكافي لتنفيذ جريمتها

– ألم تلحظي شيئًا غريبًا على الخادمة يوم الحادثة أو في الأيام التي سبقتها ؟

عادت الجدة بذاكرتها إلى الوراء ثم أجابت : لا أبدًا ٬ كانت طبيعية جدًا ٬ لكن هذا لا ينفي أن تكون هي التي فعلتها ٬ وبصراحة لا أستبعد أن تكون أمينة نفسها هي التي اتفقت مع الخادمة على التخلص منه مقابل مبلغ مادي ٬ لقد كانت دائمة التذمر من ابنها وأحيانًا تضربه ٬ وكثيرًا تندب حظها لأنها أنجبته وتتمنى لو تستطيع نفيه إلى البعيد

– شكرًا لتعاونك سيدة لطيفة

– العفو

غادرت العجوز المكتب و تنهّد صلاح ٬ فكرة أن تكون أمينة هي القاتلة مستبعدة وبقوة ٬ لم يكن مقتنع أنها هي من بعثت الخادمة للتخلص من طفلها ولديها حجة غياب قوية ومستحيل أن تقتل ابنها لسبب تافه كهذا ٬ فاتجهت شكوكه نحو الخادمة والتي كانت متواجدة أثناء وفاة الضحية ٬ بما أنها كانت تمسح أرضية الممر طوال الوقت فبإمكانها أن تتسلل إلى غرفته و تقضي عليه بسهولة ٬ وبحسب خبرته في القضايا المتعلقة بالأطفال فإن أكثر مرتكبيها هم من الخادمات بسبب مشاعر سوداوية حاقدة نحو الأهل ورغبة عارمة في الإنتقام منهم ٬ هذا ما كان يصول و يجول في عقل السيد صلاح.

فقام بإستدعاء الخادمة وهي امرأة فلبينية الأصل تدعى فيرنا ٬ لكنها في التحقيق أكدت محبتها للطفل و أنه ليست لها دوافع إنتقامية ولا توجد ضغينة مع العائلة التي ذكرت أنهم يعاملونها بأسلوب حَسَن ٬ وكذلك أكدت أنها لم تقتحم الغرفة في المدة الفاصلة بين خروج رغد ودخول الجدة ٬ وأكدت انشغالها طوال الوقت بمسح الأرضية ولم تنتبه على ما يدور حولها بسبب انهماكها في التنظيف ومراقبة الأطفال الذين يلعبون أمامها في الممر ٬ ثم شرعت في إعداد القهوة بناء على طلب الجدة التي غادرت الغرفة ٬ ثم عادت لإكمال تنظيف رفوف الخزانة ثم بقيت في المطبخ طوال الوقت ٬ وجد الضابط أنه ليس لها مصلحة في قتل الطفل فقام باستبعادها من دائرة الإتهام.

ترك القلم من يده وبدأ يحدث نفسه ٬ واضح أن الطفل المرحوم مات بشكل طبيعي ٬ وكل الذين يعيشون معه في البيت هم عائلته ٬ لكنني لا أدري لماذا يصر الطبيب الشرعي على وجود جناية!! من يمكن أن يقتل طفل صغير!!

أفاق من شروده وتذكر عمله واستلّ قلمه مرة أخرى لمتابعة الإستجواب ٬ واستدعى أمينة بعد أن هدئت قليلاً وبدت بأحسن حال ٬ فباشر التحقيق معها بهدف معرفة طبيعة علاقة الأخرين معها في البيت وهو يأمل أن يمسك بطرف خيط يساعده على فك شفرة القضية..
قدَّم تعازيه الحارة وقال : كيف هي علاقتك مع أهل زوجك ؟

– تقريبًا سيئة

– وما سبب سوء العلاقة بينكم ؟

– عندي اختلاف مع حماتي لأنها لم تكن راضية عن زواجي من عيسى من الأساس بسبب وجود خلاف بينها وبين أمي ٬ لم تتقبلني حتى الأن رغم مضي ثمانية أعوام على زواجنا و دائمًا تفتعل المشاكل بيني وبين زوجي ٬ أضف إلى ذلك يا سيدي أنها أحيانًا تطرد طفلاي من صالة الجلوس بعكس ابنة سلفتي ٬ وكثيرًا أجدها تفضّل سلفتي علي وتقف معها ضدي

– وماذا عن رغد ؟

– في البداية كانت تكرهني وتضايقني بتحريض من أمها ٬ ولكن في السنوات الأخيرة أصبحنا منسجمتين

– وكيف هو حال أمل مع طفليك ؟

– كثيرة الشكوى منهما ولم تكن هي المرة الأولى التي تحبس ابني فيها أثناء غيابي ٬ و أحيان أخرى أتخذ معها مواقف حازمة لأن ابنتها تكون في أوقات هي المخطئة

– وكيف وضعك أنت مع طفليك ؟

غضبت أمينة وقالت : بالتأكيد أحبهما ٬ إنهما قطعة من روحي ٬ هل تلمح بسؤالك أنني القاتلة ؟

رفع الضابط يديه مبتسمًا : لا ياسيدتي لا أقصد ما فهمتيه ٬ لكن بحسب ما وصلني عنك أنك تعاملين ابنك بقسوة وتتمنين لو لم تنجبيه أليس كذلك ؟

– نعم صحيح ٬ أحيانًا أتذمر منه و أتمنى لو لم أنجبه لكن هذا لفرط شقاوته ٬ كان مشاغب جدًا و كثير الشجار مع أقرانه ٬ هذا هو واقع كل أم ٬ حين تغضب من أطفالها تنطق بما ليس في قلبها و تندم عليه لاحقًا

– حين عدت من السوق تلك الليلة ألم تلحظي شيئًا غريبًا على وجوه الموجودات

– في الواقع لم أركز جيدًا ٬ كنت متعبة و قدماي تؤلمانني وبالكاد استطعت حمل الأغراض ٬ كل ما أذكره أن حماتي و ابنتها كانتا تشاهدان التلفاز و سلفتي كانت تتحدث على الهاتف

– هل تظنين أن موته طبيعي أو أن هناك شبهة جنائية ؟

الأم بعد صمت : لا لا أعتقد ٬ من يمكن أن يقتل طفل عمره ست سنوات

تغير صوتها في نهاية الجملة وكأنها تغالب دموعها ٬ لكن دموعها خانتها وأبت إلا أن تذرفها ٬ فبكت بصوت خافت ٬ أبدى الضابط تعاطفه وواساها قائلاً : هوني عليك الأجال مكتوبة وكلنا على هذا الطريق ٬ نحن فعلاً متأسفون لأجلك

بقيت أمينة على حالها تبكي فناولها المنديل لتجفف دموعها ٬ وبعد أن هدئت استأنف الضابط استجوابها : هل زوجك له عداوات مع أحد ؟

– نعم شقيقه عمار ٬ لقد اختلف معه على الميراث الذي تركه لهما والدهما منذ فترة ودخلا في شجار عنيف من بعد وفاته ٬ ومنذ ذلك الوقت والعلاقة بينهما متوترة

– أفهم من كلامك أنه يوجد فجوة كبيرة حاصلة بينهما ؟

– نعم

– وماذا تعرفين عن عمار ؟

– مدخن شره وعصبي هذا كل ما أعرفه عنه

– يمكنك الخروج سيدة أمينة

أومئت أمينة برأسها وغادرت المكان واستدعوا عم الضحية للنظر في أمره ٬ وهو رجل قصير القامة عريض المنكبين وجهه دائري وأصلع الرأس ٬ دخل وجلس على الكرسي بهدوء ٬ ابتدأ الضابط حواره وهو يراقب تعابير وجه عمار بدقة : يؤسفني ما حل بالطفل ٬ تعازيي الحارة لك

عمار وقد بانت على وجهه علامات التأثر : شكرًا

– ما الذي تتذكره ذلك اليوم ؟

أجاب وهو يحاول أن يسترجع ذاكرته : أتذكر أنني حين نزلت رأيت الخادمة وهي تنظف أرضية الممر ٬ وفي الممر كان الأطفال يلعبون ٬ شاهدت رغد أمام الباب ثم ودعت زوجتي وغادرت من الباب الخلفي حيث ركنت سيارتي خارجًا

– و لماذا طلبت من زوجتك أن توقظك في وقت محدد ؟

– لأنني كنت على موعد مع صديقي يحيى في أحد المطاعم

– وهل غادرت المنزل مباشرة بعد أن ودعت زوجتك ؟

– أجل سيدي ٬ كنت على عجلة من أمري

– ومتى عدت إلى البيت ؟

– بقيت أتعشى معه في المطعم حتى الساعة الثانية عشر و عشرين دقيقة وحين عدت فجئت بالأطباء وهم ينقلون جثة ابن شقيقي

– بلغني أنك تشاجرت مع أخيك بسبب الورث وحصلت بينكما قطيعة هل هذا صحيح ؟

– نعم ٬ لقد كتب أبي في الوصية أن الجزء الأكبر من الميراث لأخي عيسى و رغد ٬ أما أنا فقد ترك لي القليل ٬ لكنه بعد وفاة أبي طمع عيسى أكثر وحرم أختي نصف حصتها من الورث

– إذا قد يكون هناك خلاف بينه وبين رغد أيضًا

– نعم سيدي ٬ لم تكن راضية بالظلم الذي حصل لها وقاطعته لفترة ٬ لكنها رضيت بقسمتها وسلّمت أمرها إلى الله وعادت تتحدث معه لكن بجفاء وسطحية ٬ أما أنا لم أرضى ويستحيل أن أرضى ٬ فطلبت منه أن يعطيني الباقي من حصتي لكنه أبى فاشتد عليه حقدي وغضبي

– وقد يكون حقدك عليه هو الدافع في جعلك تقدم على قتل ابنه لتحرق قلبه

إنفعل عمار على الضابط مخرجًا ما في قلبه : وكيف أقتل ابن أخي ! لعلك نسيت أنني عمه يا حضرة الضابط ٬ ثم إنك لا تعرف أن أخي شخص أناني و متعجرف وطماع وجشع الدنيا كله لا يساوي شيئًا أمام جشعه ٬ لقد غضب مني فقط لأنني طالبت بحقي ٬ وحين ضغطت على نفسي واقتربت منه ليلة الحادثة لأواسيه و أهون عليه أبعدني عنه و أدار ظهره لي هل لك أن تتصور هذا ؟ لو كنت مكاني كيف ستشعر ؟

لم يبدي الضابط أية تعليق وقال : يمكنك الإنصراف لكن قد نستدعيك مرة أخرى

– حسنًا ٬ لكن ثق تمامًا أنني بريء من دم ابن أخي ٬ ولعلمك لقد رفعت دعوة على أخي منذ مدة بتهمة التلاعب في الوصية وسأسترد حقي وحق أختي منه شاء أم أبى

غادر عمار المكتب بعد أن نفَّس عن غضبه المكبوت ٬ لكنه ما زال ضمن قائمة المشتبهين لأنه الوحيد الذي لا يزال ناقم على أخيه ويريد حقه ٬ ويملك سبب كبير وقوي يدفعه للإنتقام منه عن طريق إبنه ٬ لكن الطفل لم يمت إلا بعد أن غادر عمار المنزل بقليل لأنه وحسب كلام رغد كان الطفل حيًا حين خرجت من عنده ٬ كما أنه لا يستطيع التسلل إلى الغرفة بوجود رغد وزوجته معه ٬ إذًا يستحيل أن يكون هو القاتل.

أخيرًا استدعى أخر فرد من العائلة وهو عيسى العقيلي والد الطفل المتوفي ٬ لكنه كان أكثر صمودًا و ثباتًا من زوجته ٬ وهو بعكس أخيه طويل القامة و جسده ممتلئ أبيض البشرة ولديه شارب مثل هتلر ٬ جلس على المقعد ورغم جلوسه فقد بدى أمام الضابط وكأنه واقف وهذا يرجع إلى طوله اللافت للنظر..

– كيف هي علاقتك مع ابنك و ابنتك ؟

– أحبهما أكثر من نفسي

– هل كنت مع زوجتك في السوق طوال الوقت ؟

– أجل سيدي

– ومتى خرجتما إلى السوق ؟

– خرجنا في تمام الساعة الثامنة و عشر دقائق أي قبل وفاة ابني بساعتين و نصف تقريبًا

– هل لديك خلاف مع أحد ؟

– حاليًا عندي عداوة مع أخي الأصغر لكن مع غيره فلا

– وما هو سبب الخلاف بينك وبينه ؟

– السبب هو التركة التي تركها أبي بعد وفاته ٬ لقد كتب لي ولأختي نصيبنا من المال وكانت الحصة الأقل من نصيب أخي

– صحيح أنها أمور عائلية لا دخل لي فيها لكن لماذا ؟

– لأنه رجل خالي من المسؤولية ٬ لا يعرف كيف ينفق أمواله ويصرفها على بلاوي و أشياء لا قيمة لها ٬ لذلك حرمه أبي نصف حقه من الميراث أما أنا فكنت الأجدر بها ٬ ومنذ ذلك الوقت و هو لا يحترمني ويقلل أدبه معي فقاطعني وقاطعته

– ولكن ماذا عن أختك ٬ مكتوب في الوصية أن لها من النصيب مثل ما لك ٬ لماذا لم تعطيها نصف حقها ؟

تلعثم عيسى وانعقد لسانه ٬ هو يعرف أنه على خطأ لكنه الجشع والطمع ٬ كثيرون هم أمثال عيسى ٬ دائمًا يحرمون البنات حقهم من الورث فقط لأنهم بنات ٬ هذا ما دار في خلد الضابط وهو يدرس نظرات عينيه الهاربة

– كيف هي علاقتك مع أختك ؟

– لا تتحدث معي إلا في الأمور الضرورية

– هل تشك في أحد من داخل البيت له علاقة بموت ابنك ؟

– لا ٬ ولكن أتمنى أن تأخذ العدالة مجراها وينال المجرم جزاءه أيًا كان ٬ أرجوكم ابذلوا جهدكم في العثور عليه وردوا حق ابني الضائع لي

– ثق بنا وسوف نكون عند حسن ظنك ٬ وسنحرص على رد حقه إليك هذا وعد

شكره والد الضحية وغادر المكتب و أخذ عائلته معه وغادروا المخفر ٬ شعر الضابط بمسؤولية كبيرة بعد الوعد الذي قطعه على نفسه أمام الرجل ٬ وأصبح لزامًا عليه فك هذه الأحجية ٬ لكن ماذا لو لك تكن هناك جريمة ؟
بل إن المشكلة تكمن في تناقض كلام الطبيب الشرعي ٬ عاد بذاكرته إلى الوراء حيث دار بينهما هذا الحديث ٬ كان يقف معه في أحد الممرات ويتجادلان

الطبيب سعود وهو يمسك التقرير : أعطي القضية فرصة وأعد النظر فيها ٬ لماذا لا تستطيع الوثوق في كلامي ؟

الضابط : لأن كلامك متناقض ٬ تقول لي أنه لا يوجد أثار عنف على جسد الضحية ٬ وعند تشريحك للجثة أثبتَّ لنا خلو جسده من المواد المنومة والسامة ٬ ثم تعود مرة أخرى وتصر على وجود شبهة جنائية في القضية رغم تفتيشنا للبيت ٬ المعذرة لكن يبدو أنك متأثر بالقصص البوليسية

– أرجوك افهم ٬ أنا متأكد من وجود شبهة جنائية ٬ منذ يومين وأنا لا أستطيع النوم جيدًا ٬ الطفل يأتيني في المنام ويخبرني أنه تم قتله ولدي احساس قوي تجاه ذلك

– أرجوك كن واقعيًا ٬ من غير المعقول أن نحقق مع الأبرياء و نزجَّ بهم في السجن من أجل حلم أتاك في المنام ٬ لقد شرحّت الجثة وتأكدت بنفسك وحلمك هذا لا أصل له

سعود بعزم وثقة : شئت أم أبيت أنا متأكد أن الطفل مات مقتولاً

الضابط : وما الذي يجعلك واثق ؟

سعود يتكلم بجدية أكثر : جسد الطفل متشنج وأعصابه مشدودة رغم أنه لم يمضي على وفاته سوى وقت قصير جدًا ٬ وأنا أعتقد يا حضرة الضابط أن موته قد حصل بسبب شيء غير طبيعي ٬ شيء من النادر أن يتسبّب في موت انسان لكنني لا زلت حتى الأن أجهل كنهه ٬ وأنا أرجوك أن تعيد النظر في القضية ٬ حقّق مع كل الموجودين وأنا متأكد أننا سنصل إلى نتيجة

عاد الضابط إلى وقته الحالي وهو على المكتب ٬ الثقة واضحة كوضوح الشمس على وجه الطبيب وهو يتكلم ويكاد يقسم أن الجريمة حدثت بفعل فاعل ٬ ولكن كيف حدثت الجريمة هنا السؤال يطرح نفسه ؟ الوحيدتان اللتان داخل دائرة الإتهام إما أن تكون الجدة أو ابنتها رغد ٬ لكن من دون دليل بحوزته لن يستطيع إلقاء التهم جُزافًا ٬ سلاح الجريمة لازال مجهول والجميع ينكر صِلَتَه بالواقعة ولم يبقى إلا الأطفال ٬ نعم الأطفال ٬ أعدل جلسته و صوب كامل تركيزه نحوهم ٬ الأطفال لا يكذبون ٬ لقد كانوا متواجدين ليلة وقوع الحادثة ولعلهم رأوا شيئًا قد يفيدهم في التحقيق..

قرر استدعاء أهل الضحية في اليوم التالي ومعهم الطفلة ليان صاحبة التسع سنوات ٬ وقد طلب مقابلة الطفلة وحدها دون والديها خشية أن يؤثرا عليها في التحقيق ٬ مشت بخطوات خفيفة وجلست على الأريكة ٬ كانت ترتدي بدلة وردية وشعرها الأسود الذي زاد من جمال وجهها الدائري يتدلى على كتفيها..

سألها الضابط مع ابتسامة عريضة : أخبريني عن كل ما تعرفينه منذ دخول أخيك الغرفة ؟

أجابت بصوت طفولي مبحوح وهي تمسك بطرف بدلتها : كنا نلعب أنا و سارة و أخي في الممر حتى جاءت زوجة عمي و أخذت أخي إلى الغرفة و حبسته ٬ بعدها رأيت عمتي رغد تدخل عليه

سكتت الطفلة وسألها الضابط وهو يحدق بعينيها : ومن أيضًا ؟

– كانت أمل

الضابط وقد زاد اهتمامه : هل دخلت أمل الغرفة مرة أخرى ؟

– نعم ٬ بعد أن غادر عمي رأيتها تخرج كيسًا كان أسفل قميصها و دخلت إلى هناك

– وهل سمعت صوتًا في الداخل ؟

– لا لقد أغلقت الباب

– وحين خرجت أمل هل كان الكيس ذاته معها ؟

رفعت ليان كتفيها وتقوَّس فمها نحو الأسفل

مسح صلاح على شعرها وقال : يمكنك الخروج صغيرتي..

غادرت الطفلة الغرفة وشعر الضابط بالخجل الشديد من الطبيب الشرعي ٬ منذ وقوع الحادثة وهو يتجادل معه بشأن حقيقة وفاة الطفل لكن احساس الطبيب بدأ يصدق ٬ لقد وهبه الله من الفراسة والحدس ما جعله يؤكد أن الطفل قد قُتل ٬ والشيء الذي تسبب في موته موجود قطعًا في داخل هذا الكيس ٬ لم يضيع الوقت أبدًا وأمر رجاله أن يتحركوا بسرعة البرق ويلقوا القبض على أمل ٬ فأسرع الضباط في إحضارها إلى القسم دون أن تعرف السبب الذي أخذوها لأجله ٬ دخلت عليه وهي وجلة وتشبك بين أصابعها ٬ أما صلاح فكانت عيناه تبرقان كبريق الرعد وابتسامة النصر ترتسم على محيَّاه..

جلست أمل و انحنى الضابط بجسده إلى الأمام وقال بجدية : لقد حققنا مع ليان و عرفنا منها أنك أخرجتِ كيسًا كنتِ تخفينه تحت قميصك عند دخولك إلى الغرفة ٬ ماذا كان داخل هذا الكيس ؟

بدأ العرق ينساب على جبين أمل وهي تجيب : لا أدري عن ماذا تتحدث ٬ كيف لك أن تأخذ بكلام طفلة صغيرة

الضابط وقد اشتد صوته : أجيبي من دون لف أو دوران ٬ لقد كذبتِ حين قلتِ أنك ودعتِ زوجك وذهبتِ لمشاهدة التلفاز مباشرة ٬ لكنكِ غافلتيه وانتظرتِ أن يذهب وكذلك غافلتِ الخادمة أثناء انشغالها و تسللتِ إلى الغرفة ومعك هذا الكيس ٬ وبعد أن أنهيتِ مهمتك و خرجتِ من الغرفة تخلصتِ من الكيس في مكان ما ثم توجهتِ إلى صالة الجلوس قبل دخول السيدة لطيفة إلى الفيلا ٬ وحين دخلت لطيفة غرفتها ظنت وقتها أن الطفل نائم لكنه في الحقيقة كان ميت ٬ ماذا أعطيتِ الضحية ليموت ؟

أمل تحاول ضبط أعصابها : لم أفعل له شيء ٬ لقد أدخلته إلى الغرفة بغرض معاقبته فحسب ٬ كان شقيًا جدًا هذا كل ما في الأمر ٬ صدقني لم أقتله

– لكن التقرير الطبي يؤكد وجود شبهة جنائية ٬ الجثة عند تشريحها كانت متخشبة ومتشنجة رغم أنه مات منذ وقت قصير ٬ ولو كانت وفاة الطفل طبيعية فعلاً فمن المستحيل أن تكون الجثة بهذا الشكل ٬ لعله رأى شيئًا صدمه و جمَّد عروقه ليفارق على أثرها الحياة ٬ هيا اعترفي و إياك أن تنكري ٬ ماذا فعلتِ مع الطفل ؟

أمل وهي تصر على الإنكار : وما مصلحتي أنا في قتل طفل لا حول له ولا قوة ٬ لماذا تصر على إلصاق التهمة بي ٬ كم مرة سأقول أنه لا ذنب لي

الضابط وقد زاد غضبه أكثر : لا يهمني إن كان لك ذنب أم لا ٬ كل ما أريد معرفته ماذا كنتِ تخبئين في ذلك الكيس ؟

أمل بدأت تبكي : حسنًا سأروي لك كل شيء ٬ لكن أقسم لك أنه لم تكن نيتي قتله كنت أريد تأديبه فقط

الضابط وقد بدأ صبره ينفد : لا يهمني ٬ هيا اعترفي و لا تضيعي وقتي

أمل والدموع تتسابق على وجنتيها : قبل الحادثة بيوم أحضر شقيقي راشد قناع بلاستيكي للوجه وهو قناع مرعب جدًا ٬ كان يريد تقديمه كهدية لابنتي سارة وحين شاهدت القناع غضبت منه وعاتبته على شراء هكذا لعبة مخيفة قد تمتنع بسببها ابنتي عن النوم لأيام ٬ فأخذتها منه و وضعتها جانبًا تمهيدًا للتخلص منها لكنني نسيت أمرها ٬ وكما تعلم لقد كان طلال طفل مشاكس جدًا ودائم الشجار مع ابنتي ٬ وفي يوم الحادث أخذ منها لعبتها ورفض إعادتها فأردت بدوري تهذيبه ٬ سحبته من يده نحو غرفة حماتي و أغلقت الباب ٬ وكنت أعرف أنه إذا خرج سيعود إلى شغبه وسيتصدَّع رأسي منه ٬ ففكرت في طريقة أجعله يكف فيها عن شغبه و تذكرت أمر القناع ٬ لكن قبلها كان علي أن أوقظ زوجي من نومه ٬ فصعدت إلى الأعلى ووجدته قد استيقظ ٬ وحين كان منشغلاً في تبديل ثيابه ذهبت أبحث عن القناع لأنني نسيت أين وضعته فوجدته خلف الوسادة التي على الأريكة ٬ كان داخل الكيس فأحضرته و نزلت إلى الأسفل مع زوجي وودعته ٬ ثم أخرجت القناع وأنا أدخل عليه فوجدته على الأريكة مطأطئ الرأس ٬ وحين رأني طلب مني أن أخرجه ٬ فأغلقت الباب و أطفئت الأنوار ثم شرعت في ارتداء القناع ٬ ثم أعدت إشعال الأنوار و رفعت يداي و انطلقت نحوه واستقريت أمام وجهه وأخفته ٬ حدّق إلي بعينين جاحظتين وسرعان أن غاب عن الوعي ووقع على الأريكة ٬ خلعت القناع و أنا أظن أنه مغمى عليه و لم أكن أعرف أن قلبه توقف فعليًا ٬ فوضعت القناع في الكيس و خرجت نحو الصالة ورميته في سلة القمامة ثم جلست أشاهد التلفاز كأن شيئًا لم يكن ٬ وحين عادت أمينة واكتشفنا أنه ميت تجمدت عروقي وخشيت إن كان قد مات بسببي لأن الوضعية التي كان عليها هي ذاتها وضعيته حين تركته ٬ لهذا السبب لم أعترف من البداية

أمل وقد اشتد بكاءها : صدقوني لم أقصد قتله

أما الضابط فلا تعليق ٬ خنقته العبرة وهو يستمع إلى القنبلة النووية التي فجرتها أمل في اعترافاتها بالذات وأن الضحية طفل صغير..
و لعل هذه من أغرب القضايا التي حقّق فيها منذ أن بدأ عمله كضابط في قسم الشرطة ٬ ومن غرابتها و بشاعتها انعقد لسانه و لم يجد الكلمات التي يمكن أن تصف القضية التي أدمت قلبه ٬ رفع رأسه نحو أحد رجاله و أمره أن يأخذها تمهيدًا لإحالتها للمحاكمة

أدركت أمل مصيرها المحتوم ٬ جثت على ركبتيها ورفعت يديها تتوسل إليه : أرجوك لا تدعهم يقتصون مني ٬ لدي ابنة تحتاج إلي ٬ أرجوك استرني أنا نادمة حقًا أنا لست قاتلة

تجاهلها الضابط ولم يستمع لتوسلاتها وقال بصوتٍ عالٍ : خذوها

أخرجوها من المكتب و صدى صوتها يتردد في الأرجاء : دعوني لست قاتلة أنا لست قاتلة..

في يوم الأحد تاريخ ۹ ٤ ۲۰۲۲ من شهر يونيو تمت محاكمة أمل ٬ و نظرًا إلى كونها لم تتعمد قتله وأن الجريمة حدثت عن طريق الخطأ حكم عليها القاضي بدفع ديِّة مع كفارة عتق رقبة بحسب الشريعة الأسلامية لأهل الضحية تعويضًا عن الضرر الذي لَحِقَ بهم ٬ وكانت صدمة أمينة و زوجها و بقية الأفراد كبيرة جدًا حين عرفوا هوية القاتلة ٬ وكانوا يتمنون و خصوصًا أمينة أن تكون العقوبة هي القصاص بالسيف الأملح ٬ لكن خاب أملهم بعد صدور الحكم..
وكذلك تم تطليقها من قِبل عمار وحرمها من رؤية خيال ابنتها لأنها لا تستحق أن تكون أم..
وعن الضابط صلاح ٬ فإن الدرس الذي تعلمه من هذه القضية هو أنه أصبح يأخذ بكلام الأطباء الشرعيين في كل جريمة تُعرض عليه ٬ لأن الطبيب الشرعي دقيق أكثر من الضابط ٬ يرى أشياءًا قد لا يراها ألمع المحققين ٬ الطبيب الشرعي هو نعمة كبيرة من الله وبفضل حدسه و إحساسه قد يساهم في حل عدد كبير من القضايا وتأدية الأمانة للمقتولين الأبرياء الذين باتوا تحت الثرى ٬ هنا تكمن أهمية الطبيب الشرعي..


ملاحظة : للأمانة القصة والشخصيات من تأليفي لكنها مستوحاة من قصة يُقال حقيقية حدثت لطفلة.. أنتظر سماع أرائكم حول القصة وملاحظاتكم بكل وضوح وشفافية..

guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى