أدب الرعب والعام

قصص قصيرة

بقلم : هشام بودرا (hibo)
للتواصل : [email protected]

تاهوا في مجاهل المحيط بعد أن توفي قبطان سفينتهم

                         الحمار المتكلم

بينما كان فلاح ذي سمعة سيئة يقوم ببعض الأعمال في حظيرته المتهالكة ، ترامى إلى سمعه همهمة تصدر من حماره ، استرق السمع جيداً فاكتشف أن حماره يحدث نفسه و قد كان الحمار مغتاظاً من شح الأكل و سوء المعاملة ، هرول الفلاح نحوه و هو يكاد يطير فرحاً ، فقد يحصل من وراء هذه المعجزة على ثروة طائلة و شهرة في كل أصقاع الأرض ..

توجه الفلاح بالحديث إلى حماره : هل تجيد الكلام يا حماري العزيز ؟ أجابه الحمار بصوت أجش : نعم يا سيدي العزيز .. فالضغط يولد الانفجار .. تهللت أسارير الفلاح : كم أنا سعيد بهذه المعجزة .. ضم رأس حماره إلى صدره و أغذق على جبهته الواسعة بفيض من القبلات .. ثم صاح سأصبح من أغنى الأغنياء بفضلك يا عزيزي الحمار ..

ابتسم الحمار بمكر و صدى صرير أسنانه يترامى إلى سمع الفلاح بشدة : و كيف ذلك يا سيدي العزيز ؟.. و من شدة غبطة الفلاح بالأمر استرسل في الشرح لحماره .. كيف سينشر الخبر على صفحات الجرائد و القنوات التلفزيونية و على شبكة الانترنت ليشاع الخبر في كل أرجاء المعمورة .. وختم الفلاح شرحه : سأقيم مزاداً علنياً و سأبيعك بملايين الدولارات فأنت أول حيوان يتكلم بطلاقة كبني البشر ..

كان لكلام الفلاح وقع الضحك في نفس الحمار.. فخاطبه مستهزئاً : و هل تظن يا سيدي أن هناك من سيصدقك .. و أردف يا لك من فلاح أرعن ثم نهق .. استشاط الفلاح غضباً و بدت على أساريره علامات الغيظ .. لكنه تماسك و حاول تلطيف الأجواء : و هل ستخذلني يا حماري العزيز فأنا رغم قسوتي عليك بعض الأحيان ، إلا أنني و الله يشهد على ما أقول .. أحبك كثيراً و أحترم وفائك لي منذ زمن بعيد ، و لولا ضيق الحال وقلة الرزق ، لأغدقت عليك بما تشتهي به نفسك من مأكل و مشرب و ما آثرت عليك من شيء فليس هناك ما هو أعز منك إلى قلبي العليل .. ثم تنهد و هو يلملم دموعه المصطنعة ..

كان الحمار يستمع لكلام سيده بامتعاض و تقزز، و فجأة استعر بركان غضب الحمار : أيها المنافق اللعين لطالما عاملتني باحتقار و قسوة و أذقتني أصنافاً من العذاب و المهانة و الضرب بالسوط لأتف الأسباب، حتى أنك لم ترحم يوما كبر سني فتعاملني بإحسان و رأفة ، أضف إلى ذلك تجريعي مرارة الجوع حتى التحم جلدي بعظمي ..آه منك أيها المهتوه يا من مات ضميره منذ الأزل .. استمع لقولي هذا جيدا : أيها السكير اللعين لن أتكلم إلا أمامك و ستعيش بئيساً معدماً طيلة حياتك و ستموت كذلك..

استحكم الخلاف بين الفلاح و حماره فتناول الفلاح هراوة كانت بالقرب منه وهوى بها على حماره المسكين فأرداه قتيلاً .. حاول الفلاح إسعافه لكن دون جدوى .. فقد فات الأوان .. حزن الفلاح بالشدة لما فقده من ثروة و شهرة كادت تتحقق لولا سوء الحظ و الماضي السيئ للفلاح الخبيث مع حماره ..

اجتاب الفلاح على وجهه في كل درب من دروب البلدة يصيح كالمجنون حماري يتكلم .. حماري يا قوم يتكلم .. من يشتري حماري .. أين حماري ..

شاع خبر الفلاح في القرية و نعت بمجنون الحمار .. عاش الفلاح ما تبقى من حياته هائما في البلدة و قد أصابه الجنون.. يسأل كل من يلقاه من المارة بهوس عن حماره المتكلم .. إلى أن عثر على الفلاح ميتاً في إحدى الأحراش .. و مرت السنون و كلما مر الناس من أمام قبره تهامسوا بينهم .. إنه قبر ذاك الفلاح الحمار الذي ادعى أن حماره يتكلم ..

**

                         غرق الجاهل بجهله

حينما يسمح الناس للجهلة بقيادتهم ، فالكارثة حتمية .. هذا ما حدث لبحارة مبتدئين تاهوا في مجاهل المحيط بعد أن توفي قبطان سفينتهم إثر سكتة قلبية مفاجئة .. و بعد مد وجزر بينهم اقتنعوا بتسليم أحدهم قيادة السفينة بعد أن ادعى معرفته الواسعة في هذا المجال و اطلاعه على كل ما يخص عالم البحار و المحيطات ، وأنه قادر على إنقاذهم إذ مكّنوه من أمرهم . فلم يكن في إستطاعتهم سوى أن ينصبوه قبطاناً جديداً للسفينة المتهالكة و التي تتلاطمها الأمواج العاثية من كل اتجاه.. و ما كان من المدعي الجاهل سوى أن ساهم أكثر في الخوض في متاهات المحيط الشاسعة ..

أحس البحارة أن من نصبوه ليس سوى متطفل أرعن فقرروا عزله لكنه بمكره و خبثه أقنعهم مرة أخرى بمنحه فرصة القيادة لأسبوع آخر .. و بعد يومين ترامى إلى بصر البحارة جزيرة صغيرة .. فصاح الجاهل في البحارة وهو يضحك و يقهقه .. ها هي اليابسة التي وعدتكم بها أيها المغفلون ..
كان الجاهل يحس بنشوة انتصار و كبرياء لا حد له تختلج صدره .. سعد البحارة بالنجاة الوهمية ، و ازدادت ثقتهم أكثر بالجاهل رغم إساءته لهم بالكلام الجارح .. رسوا بالسفينة على حافة الجزيرة ذات الأشجار الكثيفة الملتوية و الملتفة ..

و بمجرد أن وطئت أقدامهم اليابسة ، هاجمهم سرب من سكان الجزيرة العراة المتوحشين من آكلي اللحوم .. فقتلوا و أسروا 13 بحاراً بينما تمكن خمسة فقط بينهم المدعي الجاهل النجاة بأرواحهم و الرجوع يسابقون الريح إلى سفينتهم المتهالكة ، أداروا الدفة و أبحروا بعيداً تاركين وراءهم الجثث و الأسرى ..

استحكم الخلاف بين الخمسة حول من كان السبب في هذه الكارثة ، حاولوا توجيه اللوم إلى الجاهل .. إلا أنه استطاع التملص من أفواه الأربعة بمكره المعتاد و خداع المتقن ، و بعد أن خف التوثر ، أقنعهم الجاهل أن ما حدث ليس سوى قضاء و قدر و ابتلاءً من الله ، و وعدهم إن بقي قبطاناً للسفينة فإن نجاتهم ستكون حتمية ..

امتثل البحارة مرة أخرى لطلب الجاهل فمنحوه فرصة أخرى .. مرت أيام و أيام و هيكل السفينة يزداد سوءاً .. توفي البحار الأول تلاه الثاني فالثالث من الجوع و المرض بينما أقدم الرابع بعد ذلك على الانتحار برمي نفسه في مياه المحيط العاتية إثر تدهور حالته النفسية و يأسه من الحياة . ليجد المدعي الجاهل نفسه وحيداً على سفينة تكاد تغرق تقذفها المياه تارة و الرياح تارةً أخرى في كل اتجاه ..

عانى الهزال الشديد و المرض و الجوع .. حاول إنقاذ حياته بأكل جثث رفاقه المتعفنة، كان أمله الوحيد أن تمر سفينة أخرى عابرة من نفس الاتجاه فتنقذه من الهلاك .. بعد أن يئس تمنى الموت مراراً و تكراراً لعله يرتاح .. و بعد أيام أخرى غاصت السفينة المتهالكة بعد أن خرقتها المياه بشكل كلي في أعماق المحيط .. فغرق الجاهل بجهله ..

كم من مدعي جاهل مخادع خدع نفسه و الأخرين و تسبب في مآسي و مصائب كان بالاستطاعة تجنبها .. لكن هل يقع اللوم على الجاهل وحده .. أم اللوم الأكبر يعود لمن سايروه في نهجه و غروره و جهله .

رابط مدونة الكاتب :
hibopress.blogspot.com

تاريخ النشر : 2018-07-17

guest
23 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى