قضية خاسرة
الفتاة وجدت مقتولة برصاصتين اخترقتا بطنها في الباحة الخلفية لملكية العائلة الصيفية |
” فينسنت جانسن ، غرفة الاستجواب 2
” 17 – 10 – 2009
كان الرجل متوسط القامة و أسود الشعر ، في ملامحه حدة غريبة ظهرت في فكه العريض و حواجبه الكثيفة المعقودة ، لكن رغم ذلك فقد بدا في تلك اللحظة هادئاً و هو جالس فوق الكرسي ينتظر و بين يديه سيجارة لم يشعلها بعد ، أخذ والتر رشفة أخرى ثم وضع الكأس فوق منضدة صغيرة انبسط فوقها ملف ضخم حمله فبرزت أسفله جريدة بعنوان أسود عريض:
” مقابلة مع محقق “
تصفح والتر الورقة لوهلة ثم همس متهكما :
– اجعل منها قدوتك.
و سار بهدوء خارج الغرفة قاطعاً رواقاً ضيقاً صغيراً أوصله لغرفة الاستجواب المنشودة ففتح الباب دون تردد و قال بلطف :
– سيد جانسن ، آمل أننا لم نجعلك تنتظر طويلاً .
– لا ، على الإطلاق ، رد فينسنت بهدوء بينما أخذ والتر مكانه في الجهة المقابلة من الطاولة ، بسرعة وضع الملف أمامه و سحب منه صورة فتاة شقراء لطيفة الملامح ، بعينين عسليتين لامعتين و ابتسامة ظريفة ثم ربت على الملف و قال :
– العديد من الأشياء فقدت هنا ، و منها أجزاء من قضية بحثكم عن قاتل هذه الشابة … ماري لوندون ، لذا إن تفضلت و أعدت القصة على مسامعي سيُسهل ذلك عملي كثيراً .
– بالطبع ، رد فينسنت .
أزاح والتر بضع أوراق ثم سحب صورة شاب يافع بني الشعر و بشوش الملامح ، بوجه مستدير و عينين سوداوين ، دفعها ببطء نحو فينسنت ثم قال :
– عملت مع المحقق مارتن مونغولد الذي لم يستطع أن يكون هنا ، و للأسف ليس لدي شيء عن خلفيته أو خلفيتك قبل هذا التحقيق .
بهدوء وضع فينسنت السيجارة على حافة المنفضة التي كانت أمامه ثم قال :
– كنت أعمل في الشمال ، ألاحق مجموعة تهريب بشر عبر الحدود و مارتي كان في فرقة مكافحة المخدرات و عندما ناديناه لينضم لي كشريك كان يأخذ فترة نقاهة بعدما أُصيب في كتفه خلال عملية مع الفرقة التكتيكية .
أومأ والتر برأسه ثم سأل :
– و عن هذه القضية ؟.
فرد جانسن :
– ماذا عنها ؟
أجابه والتر :
– كيف كانت .
– يا إلهي ! قال فينسنت متهكماً ثم أضاف :
– فوضى … لأصفها بشكل دقيق ، و لست متأكداً إن كنت ستستطيع المجاراة ، فلم نملك شيئاً عن الضحية سوى صورة لها و بضع معلومات سطحية جداً عنها سحبناها من ملف ضحايا الحرب الأهلية.
– الحرب الأهلية ؟ ، سأل والتر مرتبكاً .
إبتسم فينسنت ثم قال :
– إذاً أنت لست من هنا ؟.
رد المحقق :
– نقلوني من الشمال ، لم يريدوا محققاً محلياً .
بسرعة سحب فينسنت من جيبه ولاعة ثم حمل السيجارة من فوق الطاولة و أشعلها قائلاً :
– نعم ، الملخص هو أن انتخابات المجلس المحلي التي عقدت في العام 1991 اُعتبرت مزورة لكن لم يتم إعادتها ، فانتفض المعارضون بمظاهرات عنيفة و قد وجد مجموعة مسلحين أطلقوا على نفسهم المتمردون ذلك بيئة ممتازة للعمل .
تنحنح فينسنت ثم واصل حديثه و ملامح اشمئزاز على وجهه :
– فاتخذوا من الجبال مركزاً لهم ، و بنوا كهوفاً بدائية و مخابئ و تفننوا في الجرائم بهدف إبقاء نار الاحتجاجات مشتعلة ، لكن مجازرهم فترت بعد حوالي 9 أعوام خاصة بعد تدخل الفرقة التكتيكية هنا .
– حسناً ، قال والتر : و ما دخل ذلك ؟.
– الفتاة وجدت مقتولة برصاصتين اخترقتا بطنها في الباحة الخلفية لملكية العائلة الصيفية قرب الجبال في العام 98 على غرار الجرائم العديدة الأخرى التي حدثت هناك ، لذا اعتبرت الشرطة الأمر في ذلك الوقت عملية إرهابية .
مد فينسنت عينيه للأوراق الموضوعة أمام والتر ثم سأل :
– هل لديك الصورة هناك ؟.
فدفع والتر بصورة ماري و على وجهها بضع بقع دم و طين ، كانت مستلقية بهدوء فوق أرضية بدت معشوشبة مرتدية رداءً أسود كهنتوتياً غريباً .
حدّق فينسنت في الصورة للحظة ثم أكمل حديثه :
– و بعد 8 سنوات أي في العام 2006 قرر وزير العدل إعادة فتح بضع قضايا لأنه أعتقد أن الشرطة لم تقم بعملها كما يجب في تلك الفترة .
أستمر والتر بالنظر للأوراق أمامه ثم سأل :
– و لماذا تم تعيينكم لهذه القضية بالذات ؟ .
أجاب فينسنت :
– تم تعييننا نحن لقضية ماري و محققين آخرين لقضايا أخرى فقد كانت هذه التحقيقات جزءاً من مشروع كبير لوزارة العدل .
– حسناً إذا لنبدأ بشريكك ، كيف كان ؟.
أبتسم فينسنت و قال :
– مارتي كان ساذجاً نوعاً ما و متفائلاً جداً ، رأى النار كمصدر للضوء رغم أنها تحرق الغابة .
***
فوق طريق فرعي اجتاحت الأحراش الصلبة أطرافه قاد فينسنت سيارة الهيونداي الرمادية التابعة للشرطة القضائية و بجانبه جلس مارتن الذي حاول أن يبدأ محادثة يكسر بها صمت شريكه الذي أبقى على كتاب أسراره مغلقاً منذ أن ألتقيا قبل شهرين .
– لم تقل لي قط ، هل لديك عائلة ؟ ، سأل مارتن .
لم يرد فينسنت بأي كلمة و بدا كأنه سيتجاهل سؤال شريكه و في اللحظة التي بدا فيها أن مارتن قد فقد أي اهتمام للتواصل معه رد على سؤاله قائلاً باختصار :
– لا ، ليست لدي عائلة .
كلمات أعادت ملامح الرضا على مونغولد فسأل مجدداً :
– هل فكرت قط في إنشاء عائلة ؟.
أدار فينسنت رأسه يساراً و حدق عبر النافذة محاولاً التخلص من شعور الغرابة الذي خلقته أسئلة شريكه ، و لمح في تلك النظرة القصيرة غلاماً لا يتجاوز العشر أعوام يقف أمام طاولة خشبية صغيرة وضع فوقها بضع أرغفة خبز و كتب على لافتة كرتونية صغيرة : ” أمي تحتضر ، أرجوكم ساعدوا بما استطعتم “.
خلق فيه ذلك المنظر شعوراً آخر جعله يحس بتفاهة موقفه فأجاب شريكه مرة أخرى باقتضاب :
– لا ، ليس حقاً .
شعر مارتن بنوع من اللامبالاة في أسلوب فينستت و حاول أن يغير نبرته مخمناً أن صلابة شريكه ما هي إلا قناع ليفرض سطوته كونه المحقق الرئيسي ، فقال بنوع من الغضب :
– أنا أحاول فقط أن أبدأ محادثة بسيطة هنا مثل أي محقق و شريكه ، ثق بي لا توجد أي معاني مبطنة أو خدع خلف أسئلتي .
– حسناً ، قال فينسنت بامتعاض : لا أملك عائلة لأنني أعتقد أن نواتها أي الحب بين طرفين هو رهان وسخ .
أومأ مارتن برأسه كأنه يستوعب ما يقول شريكه لكن الفكرة مرت فوق رأسه و قال :
– و كيف ذلك ؟.
رد شريكه و قد أراح يده فوق المقود بعفوية :
– إعطاء قلبك لشخص غريب أبتسم لك مرة في محل تجاري هو أمر فيه مخاطرة كبيرة بالنسبة لي و لا يمكنني القيام به .
– إذاً لديك مشاكل ثقة ؟ سأل مارتن فرد جانسن و هو يدير المقود يسارا باتجاه مدخل مزرعة خشبي بدائي :
– ربما .
صارعت عجلات السيارة الصخور الصلبة قبل أن يوقفها فينسنت أخيراً عند مدخل منزل خشبي ضخم اسودت معظم ألواحه و اهترأت حتى أصبح أشبه بكوخ في فيلم رعب ، صعد الأثنان ثلاثة أدراج صغيرة أصدرت صريراً خفيفاً ، و بلطف ضرب فينسنت على الباب بثلاث طرقات بدت قوية وسط الهدوء الذي اكتسح المكان ، مر صفير الريح المحمل بالتراب عبر آذانهم في لحظة الانتظار القصيرة تلك قبل أن تفتح إمرأة سبعينية قصيرة القامة الباب ، كانت تبتسم بطريقة بدت مزيفة و تفرك يديها على منشفة حمراء صغيرة ، رفع فينسنت شارته الحديدية اللامعة وقال :
– سيدة لوندون ، أنا المحقق جانسن و هذا شريكي مونغولد ، نحن هنا بشأن قضية أبنتك ماري .
قادتهما المرأة لغرفة ضيوف ضيقة و دعتهما بلباقة للجلوس فوق أريكة سوداء عفى عنها الزمن ، امتثل فينست لأمرها و جلس حاملاً بين يديه دفتر ملاحظاته الصغير غير آبه للحالة الكارثية التي كانت عليها غرفة الاستقبال تلك عكس مارتن الذي كان يتجول كسائح وسط متحف عريق ، إلا أن الفن في تلك الغرفة كان مجموعة كراسي محطمة جمعت بطريقة عشوائية عند الزاوية و حائط باهت متسخ مغطى بإطارات عليها صور قديمة بالأبيض و الأسود .
– كيف كانت ماري ، هل تتذكرينها جيدا ؟ ، سأل جانسن السيدة لوندون التي وقفت أمامه مسندة جسمها على منضدة صغيرة .
– كانت مميزة ، ردت بحزن ، عقلها حمل الكثير من الأفكار اللامعة ، لكنها لم تكن مستعدة لمشاركتها مع أي شخص فقد كانت منعزلة بعض الشيء .
نظر فينسنت لمارتن بنوع من القلق فرفعت السيدة لوندون نبرتها .
– لا تفهمني بالخطأ ، فقد كانت تختلط بالعائلة و تمزح ، لكن في حدود ضيقة جداً ، فقد عانت من مشكلة توحد عندما كانت أصغر سناً .
أسند مونغولد يده على الأريكة المغبرة بعد أن أنهى جولته الصغيرة داخل الغرفة و سأل بقلق:
– هل هذا منزل العائلة ؟.
– نعم ، لدينا ثلاث منازل و هذه المزرعة .
– ثلاث منازل ؟ سأل مارتن بفضول ، و لم لا تنتقلين ؟
– حسناً … الشقة في المجمع الشمالي يقطن فيها ابني جايمس ، و المنزل الآخر تسكن فيه ابنتي سيسيليا ، أما البيت الصيفي في الجبال فلا أحد يزوره .
حك مارتن جبهته مرتبكاً فأدلفت :
– لقد توقف كل من جيمس و أخته الكبرى عن كونهما جزءاً من هذه العائلة منذ وقت طويل ، فجيمس غيّر لقبه لتريكر و سيسيليا أخذت لقب زوجها شاير .
– و ما عمل جيمس ؟ سأل كاي ، فردت :
– موظف في مكتب البريد .
– و ماذا عن ماري ؟ هل كانت تملك عملاً ؟.
– ليس حقاً ، بحثت كثيراً بعد تخرجها من الجامعة و تنقلت بين عدة وظائف ، لكنها لم تستقر في أي منها .
– و أين كنتِ يوم اختفائها ؟.
بدت السيدة لوندون على وشك البكاء و هي تجيب :
– هنا ! مثل كل يوم ، كنت قد شاهدت حوادث قتل قام بها المتمردون في الأخبار ، لكني لم أظن أن أبنتي ستكون ضحية …
قاطعها فينسنت :
– لسنا متأكدين من أنها قتلت من قبل المتمردين ، هل تعرفين رقم شقة جيمس ؟.
– أظن أنها العمارة الرابعة الشقة 14 .
كتب فينسنت رقم الشقة سريعاً ثم قال :
– هل تعرفين إن كان لديها أي أصدقاء ؟.
– لقد تحدثت عن حبيب مرة واحدة ، لكنها لم تخبرني بالتفاصيل .
– تباً ! قال مارتن بغضب و قد فلتت أعصابه من حالتها الكارثية لا من قلة المعلومات ، ثم سأل مجدداً :
– لا زلت لا أفهم ، لم لا تنتقلين للعيش مع أحد أبنائك ؟ أنت ما زلت أمهم .
ببطء رفعت السيدة كف قميصها لتكشف ندوب إبر غطت معظم ذراعيها و قالت بحزن :
– لم يرى أولادي والدهم كثيراً فقد عمل في شركة في الجنوب و بعد موته لم أكن أفضل أم لذا لم يكن خطأهم قط ، بل أنا من دمرت عائلتي بالإدمان .
أعاد فينسنت الدفتر لجيبه و شكر السيدة لوندون ثم خرج مع شريكه ، و في طريقهما للسيارة سأل مارتن :
– لقد عاشوا معها مدة طويلة كفاية ليتعلقوا بها ، فكيف يطيقون تركها ؟.
بسرعة فتح جانسن باب السيارة و أجاب :
– الكره بعد الحب ليس بالأمر الهين .
نظر مارتن للمنزل بشفقة و قال :
– هل يمكن أن نفعل شيئا لمساعدتها ؟ ، فرد فينسنت بغضب :
– هاي ، ركز … نحن لسنا هنا لنشفق على أي شخص نحن فقط نحقق و الآن لنذهب و نرى ما سيقول أخوها .
***
– ليديا لوندون ماتت ، قال والتر . وجدت تسبح في بركة من بولها و دمائها .
ضغط فينسنت غاضبا بإبهامه و سبابته على عينيه بقوة و سأل :
– انتحار ؟ ، فرد والتر :
– نعم ، قطعت وريدها .
– الناس لم يكونوا أحياء حقا في آينجل سيتي حتى يخافوا الموت.
– حقاً ؟ ، قال لينارد ، مدينتكم تبدو لطيفة ، مستشفى كبير ، جبال ، بضع غابات ، مدارس ، مكتبة ….
بسرعة قاطعه فينسنت :
– أنا أعرف ماذا يوجد في المدينة لكن رغم كبر المدن الجنوبية فإنها أكثر فراغاً و أكثر قسوة .
***
كان تصميم مجمع شقق آينجل سيتي غريبا ، إذ تراصفت عماراته المهترئة الشاهقة لتشكل مربعاً ضخماً توسطه موقف سيارات صغير ركن فيه فينسنت السيارة و للحظة و هو يترجل أحس أنه داخل سجن صغير و هو محاصر بتلك الأبنية الضخمة .
– أين قالت أنه يقطن ؟ ، سأل مارتن شريكه فرد عليه بسرعة و بصوت خافت كاد أن لا يسمعه :
– العمارة 4 الشقة 14 .
شكل العمارة من الداخل كان تماماً كما توقعه فينسنت ، و رغم أنه لم يزر هذه الجهة من المدينة من قبل إلا أنه سمع روايات الضباط الذين اعتقلوا عشرات المدمنين الذين جعلوا من هذه الشقق مرتعاً لهم ، كانت أكوام القاذورات تستقبلهما عند كل طابق ، و ألوان الجدران اختفت تماماً خلف الجداريات البذيئة ، حتى أن الجدارية التي كانت بجانب منزل جيمس خطفت ، أهتمام فينسنت فشرد فيها لوهلة و هو يهم بالطرق على باب الشقة .
” لم نكن لنختر طريق الأشواك لو أن طريق الورد ضمن لنا حياة ” .
ضربت تلك العبارة على وتر حساس لديه و جعلته يسترجع ذكرى كسرت شوكة التفاؤل لديه ، فقد نزل خبر مقتل أخيه روي من قبل الشرطة كالصاعقة عليه ، إذ كان فتى متفوقاً تخرج الأول من دفعته في الجامعة ، لكنه مع ذلك قرر أن يسرق محل خمور صغير ليوفر بضع دولارات بعد أن تعبت قدماه من الركض خلف عمل لمدة عام كامل لكن دون جدوى .
– فينسنت ، الباب مفتوح ، أعادت تلك الكلمات جانسن للعمارة فأستل مسدسه من القراب بخفة و همس لمارتن بحذر :
– حسناً ، تقدم .
دفع مونغولد الباب بقدمه و عينه على المنظار ، و خلفه دخل فينسنت لشقة فارغة فرشت أرضيتها بزجاجات بيرة فارغة و أعقاب سجائر ، أعاد جانسن المسدس لمكانه و أخذ نفساً عميقاً ، قال بعده :
– أظن أن الفتى ضاق ذرعاً بالحياة هنا .
– تباً ! قال مارتن بنرفزة ثم أعقب :
– سأتصل بمركز البريد .
– مركز البريد يغلق بعد الواحدة زوالاً ، قال فينسنت ثم سار عشر خطوات نحو الباب المقابل و طرقه بقوة صارخاً : ” الشرطة ” .
فتحت فتاة ثلاثينية شقراء الشعر و زرقاء المقلتين الباب مرتدية ملابس نومها و سألت :
– نعم ، ماذا هناك ؟.
أجاب جانسن :
– الرجل الذي كان يسكن في الشقة المقابلة ، ماذا حصل له ؟.
بدا في عينيها نوع من الارتياح و قالت :
– أوه ! هل أنتما صديقان لجيمس ؟ .
– نعم ، نوعاً ما .
بسرعة تقدم مارتن باتجاه الباب و قال :
– أنت من الفرقة التكتيكية أيضاً ؟.
نظرت الفتاة لوشم سيف أسود كان رأسه عند أعلى ذراعها و قبضته عند رسغها ثم قالت :
– كنت ! ، لقد توقفت منذ وقت طويل .
نظر جانسن مرة أخرى لكاي بغضب منذراً إياه بأنه انحرف عن القضية مجدداً ، ثم سأل :
– هل كنت تعرفين جيمس ؟.
ببطء حكت مؤخرة رأسها ثم أجابت بنوع من الحرج :
– نعم ، لقد كان يأتي للشقة أحياناً حين يشعر بالملل .
فهم جانسن من كلامها أن شعوره بالملل كان يعني شيئاً آخر تماماً ، فسأل :
– هل تحدث قط عن أخته ؟.
– لا ، لم يتحدث معي عن عائلته قط ، ظننت أنه يتيم .
أخذ فينسنت نفساً عميقاً ثم رد :
– نعم ، أمه ستخالفك الرأي … هل تعرفين أين ذهب ؟.
– وجد عملاً في أقصى الجنوب ، حارس أمن في شركة خاصة .
– هل ترك رقم هاتف مثلاً ؟ سأل كاي ، فأجابت الفتاة بنوع من السخرية :
– لا ، لم تكن علاقتنا وطيدة لتلك الدرجة .
شكر فينسنت الفتاة التي أغلقت الباب ثم أستدار لمارتن :
– لنحاول أن نركز أكثر عن القضية و أقل عن الناس ، سيكون ذلك أفضل .
رد مارتن بنبرة عالية قليلاً تعكس غضبه :
– هل يمكنك التقليل من حدة سلوكك ؟ فأنا لست أحمقاً .
– لا ، أجاب فينسنت ، أنت فقط لست خبيراً ، سأقودك للمنزل و نواصل غداً مع أختها .
تعجب مارتن من كلماته و قال :
– إنها فقط الخامسة مساءً .
فأستدار له جانسن الذي بدأ بنزول الأدراج :
– لهذا أنت لست خبيراً ، أنا لست مستعجلاً في قضية كهذه ، فالفتاة ميتة منذ وقت طويل و لأكون صريحاً و مما رأيته لحد الآن لا أحد يأبه بإيجاد قاتلها باستثنائنا .
***
قلب فينسنت علبة السجائر التي كانت بين يديه و قال للمحقق لينارد الذي كان منهمكا وسط كومة أوراقه :
– كانت لديه عائلة لطيفة .
رفع والتر رأسه و سأل :
هل ألتقيت بهم ؟ فرد جانسن :
– لا ، لقد رأيتهم واقفين بانتظاره عند مدخل منزله عندما أوصلته ، زوجة و أبنة صغيرة ، كان منظراً لم أره قط من قبل ، كأنهم كانوا يعيشون في عالمهم الخاص ، سكت فينسنت للحظة و شرد في العلبة التي كانت بين يديه ثم أدلف :
– دعاني للعشاء رغم سوء فهمنا الصغير لكنني رفضت فقد أردت دوما أن أبقي علاقاتي محدودة قدر الإمكان .
***
خلف مكتب صغير في زاوية المخفر جلس مارتن و في عينيه مزيج من الشرود و الترقب ، كان المكان هادئا لدرجة أن صوت الريح في الخارج بدا واضحاً كأنه صادر من الجدران و ما إن رفع مونغولد رأسه حتى لمح رجلا أسمر البشرة و ضخم البنية يتقدم نحوه ، كانت ملامحه حادة و كلماته أكثر حدة و هي تصدر من خلف شاربه الأسود الكثيف :
– هل أنت شريك فيني ؟.
– نعم ، رد مارتن باختصار .
– لم تفكر قط في القدوم و التعريف عن نفسك ؟ .
– أنا أفترض أنك تعرف أنني هنا ، فقد سرت نحوي مباشرة .
– تلقيت رسالة بأن شخصاً ما سيعمل في مخفري ، لم أرى قط من هو ذلك الشخص .
شعر مارتن كأنه مجبر على تقديم نفسه فمد يده قائلا :
– مارتن مونغولد .
فصافحه النقيب و رد باسمه هو كذلك :
– بيتر براوسكي .
حك مارتن مؤخر رأسه مفكراً في جعل المحادثة أقل غرابة ثم قال :
– أي نصيحة عن العمل هنا ؟.
– عن العمل مع فيني ، ليس لدي شيء أما عن العمل كمحقق فأحظى ببعض القسوة .
هز كاي برأسه موافقاً و على وجهه ابتسامة صغيرة بينما غادر النقيب مبتعداً ، غاص مارتن شارداً في سطح مكتبه بضع لحظات قبل أن بجفله فينسنت :
– هل قمت حقاً بالسير إلى هنا من المنزل ؟.
رفع مونغولد رأسه و أجاب بهدوء :
– نعم ، و تحدثت مع النقيب أيضاً ، أعطاني نصيحة صغيرة حول العمل هنا .
– إنه النقيب ، عليه أن يجعلك تشعر أنك تحت قدميه ، حدق فيه فينسنت لوهلة منتظراً إجابة ثم قال :
– هل نذهب و نزور شقيقتها ؟.
– نعم … نعم بالطبع .
سار الرجلان للخارج لكن فينسنت سمع نداء اسمه من النقيب بنفسه فهمس لمارتن بسرعة و هو يستدير :
– أنتظر في السيارة .
ثم رسم شبه ابتسامة على وجهه و قال :
– سيدي ، نحن مستعجلون فعلاً .
– أنا أعلم ، رد النقيب مطمئناً ثم أضاف ، لكن هل تريد حقاً العمل على هذه القضية ؟.
بدا فينسنت متفاجئاً من سؤاله فالنقيب هو الذي وظفه في المرة الأولى لكنه أجاب :
– بالطبع .
ربت براوسكي على كتفه و قال بصوت خافت :
– أنا أحتاجك هنا للعمل على قضايا أخرى يا فيني ، ما تعمل عليه الآن هو قضية خاسرة من مشروع أطلقه وزير العدل للحفاظ على منصبه ، فقط قل الكلمة و سأسحبك فوراً .
صمت فينسنت لوهلة و قد فكر جدياً في الأمر ثم رد :
– أعطني 20 يوماً ، إن لم أصل لشيء سأتوقف .
***
نفث فينسنت بدخان سيجارته فعقد خيمة صغيرة أزعجت والتر الذي قال بنبرة هادئة :
– و نصل للأخت … توقيت زيارتنا كان سيئاً فقد كانت تقوم ببعض أعمال التجديد في منزلها . صمت لوهلة و أظهر ابتسامة خفيفة ثم أردف :
– هاه ! لم أرى كاي بذلك الارتباك قط ، فهو لم يرى أي شخص في آينجل سيتي على استعداد لصرف قليل من المال .
انحرف والتر عن موضوع القضية مجدداً و سأل :
– و هل أثارت هذه القضية اهتمامك حقاً لدرجة أنك أردت إكمالها .
رد فينسنت :
– حين تحدث معي النقيب ؟ لا ، لكن حين وصلت لغابة كليف و رأيت ما رأيت كان يجب علي إنهائها.
***
ركن فينسنت السيارة بضع أمتار بعيداً عن المنزل كي يتفادى الغبار الذي تصاعد بعدما ألقت به شاحنة ضخمة كتب على بدنها بلون أسود ” كلينتن ” و بينما سار الرجلان ناحيتها قال مونغولد بنبرة هادئة :
– إذا كانت تملك المال الكافي لهذا ، لما لا تغادر و حسب ؟ .
رد فينسنت و هو يحدق في الطابق الثاني الذي انتهى تقريباً بناءه :
– لم تكون خادماً في الغابة ، إذا أمكنك أن تكون ملكاً في حديقة الحيوانات .
أخذ مارتن لحظة ليستوعب تلك الكلمات ثم نظر بنوع من الاشمئزاز لسائق الشاحنة الذي ركن عشوائياً قاطعاً الطريق و همس :
– من يركن شاحنة هكذا ، ثم صاح :
– هاي ، هل تعرف أين يمكن أن نجد مالك المنزل ؟.
لم تترك سيسيليا المجال للسائق حتى للإجابة و صاحت من نافذة غير مكتملة في الطابق الثاني :
– أنا هنا ، سأنزل لكما بعد لحظة .
بعد بضع دقائق نزلت سيسيليا و قد اتضحت ملامحها التي لم تختلف كثيراً عن أختها باستثناء الشعر الأحمر و العينين الكبيرتين الحادتين ، كانت ترتدي قميصاً أزرقاً أظهر القلادة السوداء التي ربط في نهايتها ما بدا كأنه سن حيوان مفترس و أرفقت ذلك القميص بسروال جينز .
– بما يمكنني مساعدتكما ؟ سألت ببشاشة فرد جانسن :
– الشرطة ، نحن هنا للتحدث عن أختك ماري .
طالت وجهها مسحة من الحزن و ردت :
– ماذا تريدان أن تعرفا ؟.
– يوم قتلت ، أين كنت ؟.
– هنا في المنزل ، تلقيت اتصالاً من المدرسة يقولون فيه أن ماري قد قتلت في منزلنا القديم في الجبال .
أومأ فينسنت برأسه ثم سأل ؟
– و لماذا يريد أي شخص الذهاب لتلك المنطقة ؟
– أنا لا أعرف ، ردت سيسيليا ، فهي لم تكن متفتحة قط .
صمت فينسنت و بدا كأنه استسلم من سخافة ما سمعه ، فسألها مارتن :
– هل يمكنك التفكير في سبب يجعل أي شخص يريد إيذائها ؟.
ببطء وضعت يدها على القلادة و نظرت لها لوهلة ثم أجابت :
– عدا المتمردين الجبناء الذين كانوا يختطفون و يقتلون النساء ، لا … لقد كنا نساعد الناس هنا ، يجدر بهم شكرنا لا إيذائنا ، أنا أبني هذا المنزل و أتمنى في كل ثانية أن يحصل كل فرد في المدينة على مكان مشابه للسكن .
شعر فينسنت بأن هناك غروراً في كلامها أكثر من الشفقة لكنه انتبه مع ذلك لحركتها العفوية و سأل :
– هل كانت القلادة ملكها ؟ ، فأجابت :
– نعم ، كل ما تبقى لي منها .
– و ماذا قالت الشرطة ؟ سأل مارتن
– فقط ضحية أخرى للحرب الأهلية ، ثم أنها لم تكن وحدها فالسيد كلينتن والد صديقتها كارمن كان هناك هو بدوره و رغم كل معارفه إلا أننا لم نصل لشيء .
– ومضت عينا مارتن و سأل مجدداً :
– و هل تعرفين أين يقطن ؟.
– مدينة نورثن ، على بعد ساعتين شمالاً ، لكني لا أعرف المنزل تحديداً .
– حسناً … شكراً ، قال فينسنت باقتضاب و على وجهه علامات غضب ثم أستدار مغادراً فلحق به شريكه متسائلاً و قد لاحظ ملامحه :
هل أنت جدي ؟ أبهذه الطريقة تظهر تعاطفك ؟.
أجاب جانسن مواصلاً سيره :
– تلك المرأة يمكنها رؤية المستقبل من على قمة غرورها ، تتحدث عن اكتفائهم اللعين .
أخذ مارتن نفسا عميقاً ثم أوقفه من كتفه و قال بحدة :
– هذا كل ما في الأمر .. ، بخفة مسح بيده على فمه ثم أعقب :
– هل تظن أنه يمكنك التوقف عن الحكم على الناس من الخمس دقائق الأولى .
حملق فيه فينسنت ثم رد و قد عاود السير :
– لا يمكنك أن تكون محققاً إن لم تستطع الحكم على الناس يا مارتي .
– هل فكرت قط أنك ربما حساس أكثر من اللازم .
فتح فينسنت باب السيارة ثم أنهى الحديث :
– هيا ، توقف عن التظاهر … إننا جميعا في نفس المستنقع القذر ، لكن تلك المرأة وضعت قدماً واحدة خارجه و هي فجأة أفضل من الجميع ؟.
لمس مارتن في كلماته نوعاً من الحقيقة و إن كان غير موافق على ذلك فغير الموضوع قائلاً:
– إلى أين الآن ؟.
– سنعود للمقر ، و نبحث عن ملف صديقتها لعلنا نجد شيئاً جيداً .
***
ضغط فينسنت بعقب السيجارة على المنفضة فألتوى و انطفأت الجمرة تاركة خيط دخان صغير ، و بخفة أستل سيجارة أخرى من العلبة لكن والتر أوقفه قائلاً :
– إذاً ماذا وجدتما عن صديقتها ؟.
– لا شيء ، أجاب جانسن ، مثل ماري تماماً ، مجرد صورة و عنوان مقر سكنها الحالي .
أستل والتر من ملفه صورة أخرى و وضعها أمام فينسنت ، كانت تظهر شابة سوداء الشعر و جميلة الملامح تستلقي بهدوء و عينيها البنيتان مرتقيتان للسماء .
– هل هذه هي الصورة ، سأل والتر فأومأ فينسنت برأسه موافقاً .
– حسناً ، إذاً ذهبتما لمنزلها مباشرة ؟.
– نعم ، و كاي ظن أنها فكرة جيدة أن ينقل الحوار من أمام بيت المرأة للسيارة …
قاطعه والتر :
– عن غرور الأخت ؟.
– نعم ، بدا أن الأمر لم يعجبه بتاتاً و قرر إعطائي خطاباً صغيراً .
***
قطعت سيارة الهيونداي الطريق الرئيسي نحو مدخل مدينة نورثن و من بعيد بدى مبنى المركز التجاري الشهير و الذي قرأ عنه فينسنت مرات عديدة واضحاً و هو يرتقي فوق باقي المباني و كان ذلك أقرب منظر للمبنى يمكن أن تراه عيناهما اليوم إذ أستدار فينسنت يميناً و أخذ طريقاً أحادي الاتجاه ، انتشرت على حافتيه بضع منازل متباعدة .
– أنا فقط لا أفهم ، قال مارتن ، فرد جانسن :
– لا تفهم ماذا ؟.
– لماذا قد تفترض أنها كانت تهين أي شخص .
أبتسم فينسنت و قد وضع يده أعلى المقود ثم قال :
– لأنني أعرف الأناس مثلها … تتحدث عن مساعدة الناس بينما تستثمر في بناء قصر ضخم وسط الأكواخ .
أومأ مارتن برأسه رافضا و قد بدا على وجهه الاحتقان :
– و من قال لك أنها لم تفعل الأمرين ، أنت لا ترى الخير في الناس أبداً ، نظر مونغولد عبر النافذة و قد صمت للحظة ثم أعقب :
– أنت ما يسمى في الفلسفة المتشائم … ، فقاطعه فينسنت بحدة :
– لا ، لا كاي ، أنا فقط واقعي فأنت تقطع الطريق للجهة الأخرى في خط مستقيم بدون تفكير و أنا … غير فينسنت التروس ثم أكمل :
– أرى كل احتمال ممكن و خاصة عندما يتعلق الأمر بالبشر فستفاجئ أو بالأحرى تتحطم حين تعرف أن تلك الفكرة الوحيدة التي أخذتها عن ذلك الشخص الذي وثقت فيه و غصت فيه بمشاعرك كانت خاطئة ، و ربما كانت نيته خبيثة طوال الوقت .
– هذا ما يقوله عالمك الرمادي الصغير يا فينسنت ، لكن لا يجب عليك أن تنثر ذلك الهراء علينا فبعضنا يرى العالم أكثر من زاويتك الضيقة .
– لا توجد زاوية هنا ، فقط أنظر حولك … الأمر كله يتمحور حول المال و الجنس فقط ، كما لو أننا وصلنا مرحلة تجعلنا نقاد بالغريزة أكثر من العقل .
– و من أنت يا رجل ، منقذنا الموعود ؟.
– سيرجمون المنقذ ، و يتبعون الدجال لأن مبادئهم الخبيثة تتماشى مع مبادئه .
صمت مارتن و أوقف جانسن السيارة بجانب منزل ضخم أنيق بطابقين ثم قال و هو ينظر باتجاه الباب.
” 23 ، هذا هو المكان “
خرج مونغولد أولاً و أتجه ناحية المدخل و سار خلفه فينسنت ببطء تاركاً المجال لعينيه لتتفحصا المحيط حوله ، كان الشارع واسعاً بشكل غريب عكس ما إعتاد عليه في آينجل سيتي و بدت المنازل منظمة بشكل دقيق لا يتماشى مع العشوائية التي رآها دوماً .
” هل أنت قادم ؟ ” قال مارتن فألتفت له فينسنت ليجده واقفاً بجانب كهل هزيل أشيب الشعر ، على وجهه ملامح تعيسة ، ببطء سار فينسنت تجاههما و عرف عن نفسه قبل أن يدخل ثلاثتهم المنزل ، جلس الرجل على كرسي صغير في المطبخ أين قادهما بينما وقف مارتن بجانب فينسنت و همس له قائلاً :
– هذا السيد كلينتن والد كارمن ربما تعرفه من …
قاطعه جانسن قائلاً :
– أرى أسمه على حافلات و شاحنات المدينة كل يوم .
ثم سأل الرجل متوقعا إجابته :
– سيد كلينتن ماذا قالت الشرطة عن وفاة أبنتك ؟.
تحرك السيد كلينتن في كرسيه ثم أجاب :
– قالوا أنها ضحية أخرى من ضحايا الحرب الأهلية .
فينسنت نظر له مطولاً و قد أعطاه قميص البولو مع البنطال القصير إيحاءً أن هذا الرجل يمضى وقتاً في النادي الفخم الذي هو عضو فيه أكثر من منزله فسأل :
– هل عرفت أبنتك جيداً ؟.
رد الرجل :
– لا يوجد والد يعرف أبنته جيداً ، لكن أعرف أنها عملت في المدرسة لفترة و أنها كانت ترى هذا الفتى جاستن .
سأل مارتن بسرعة و قد كسر ذلك الاسم جليد الشرود الذي أرتقى داخله :
– هذا الفتى ، هل رأيته ؟
– لا ، رد الرجل ، لم يأت هنا قط ، لكني سمعتها تتحدث معه من هاتف غرفتها .
أضاف مارتن سؤالاً آخر :
– هل كانت لديها أي علاقات سيئة ؟ مع فتية آخرين ربما ؟
– لا ، لا أظن أن أبنتي كانت من ذلك النوع لأكون صريحاً .
أنتهى فينسنت من الكتابة فأعاد الدفتر الصغير لجيبه ثم قال :
– لقد وجدت جثتها قرب غابة كليف ، صحيح ؟.
رد الوالد بصعوبة :
– نعم … نعم هناك .
– شكراً ، قال فينسنت باختصار ثم أعقب بسرعة متذكراً :
– آآه ، هل لديك صورة لأبنتك ؟.
– نعم ، رد الرجل ثم نهض من مكانه بسرعة و قال:
– سأعود حالاً .
أختفى الرجل للحظات تاركاً فينسنت و مارتن لوحدهما ، فقال مونغولد محاولاً إيجاد تحليل منطقي :
– هل تظن أن هذا الفتى كان يستدرج الشابات بسحره ثم يقتلهن .
أبتسم فينسنت ثم رد متهكماً :
– لا بد أنه يملك سحراً هائلاً ، لكن ذلك يبدو التفسير المنطقي الوحيد ، فالمتمردون تمركزوا في الجبال و كانوا بعيدين تماماً عن غابة كليف .
– قد يكون غادر المدينة تماماً .
– لنركز فقط على إيجاده أولاً ، لقد ذكرت كل من أختها و هذا الرجل المدرسة لذا ربما سنجد شيئاً …
قاطع حديثهما صوت الأب و هو يدلف المطبخ و بين يديه صورة صغيرة لأبنته قدمها لفينسنت فأخذها منه و شكره قبل أن يغادر .
***
أوقف فينسنت السيارة بمحاذاة رصيف المدرسة و بخفة مد يده للمقعد الخلفي و سحب سترة زرقاء عليها كلمة ” شرطة ” بلون أصفر فاقع و رماها فوق حضن مارتن الذي أنتفض بعدما كان شارداً يحدق في ثلاثة متسكعين واقفين بمحاذاة باب المدخل الصغير ، فأوضح له فينسنت قائلاً :
– إنها مؤسسة واحدة تجمع بين مدرسة ابتدائية و متوسطة ، لذا سأفترض أنهم هنا من أجل الفتيات الأكبر سناً .
حمل مونغولد السترة و قال باشمئزاز :
– هل علي ارتداء هذا ؟.
أجاب فينسنت :
– نعم ، هذا الحي سيكون مكتظاً بعد فترة … أدخل يدك في الجيب الأيسر و أسحب الشارة التي بالداخل .
ببطء مد مارتن يده لداخل الجيب و سحب شريط ذراع برتقالي فاقع عليه كلمة ” شرطة ” بلون أسود و قدمه لفينسنت الذي وضعه بخفة حتى أعلى ذراعه ثم ترجل من السيارة و سار بضع خطوات نحو الباب ، بلطف طرق ثلاث مرات و وقف منتظراً وسط هدوء أوصل له همسات الفتية الذين لم يكونوا بعيدين عنهم كثيراً :
– ماذا يفعل هؤلاء السفلة هنا ؟ سأل أحدهم فرد آخر :
– ربما حدث شجار في الداخل ، هؤلاء السفلة يحبون ضرب الناس .
أنفعل ثلاثتهم بعد ذلك التصريح و اختلطت الكلمات التي صدرت من أفواههم ، ثم قال أحدهم بنبرة عالية :
– لقد أعتدوا على أبن عمي منذ فترة و كسروا ساقه ، أضطر للسير بعكاز لمدة ثلاثة أسابيع .
طرق فينسنت الباب مرة أخرى ثم ألتفت بخفة بعدما لاحظ أن مارتن يتحرك نحوهم ، كان سيأمره بالتوقف لكنه صمت و وقف مبتسماً يشاهده يصفعهم على رؤوسهم و هو يقول بغضب:
– هيا أرحلوا أيها الحمقى ، أليس لديكم شيء آخر لتفعلوه غير معاكسة الفتيات .
***
– لقد سمعت قصصاً ، قال والتر ، عن وحشية الشرطة في آينجل سيتي ، لكن لا يوجد أي شكاوى ضدهم أو محاضر … .
قاطعه فينسنت بضحكة ساخرة ثم قال :
– شكاوى ؟ القسم بأكمله كان فاسداً ، الشكوى ستكون كإضافة الماء للمحيط .. بلا فائدة .
أحس والتر كأنه أنحرف مرة أخرى فسأل بسرعة :
– إذاً ، المدرسة ؟ مع من تحدثتما ؟.
– نعم ، أستقبلتنا نائبة المدير كلاريس دوما و على ما يبدو فقد كانت صديقة قديمة لكاي ، درسا معاً على ما أظن … على كل لقد كانت سيدة لطيفة بحق.
***
داخل مكتب ضيق مكتظ بصور قديمة و جوائز صغيرة حققتها المدرسة ، جلس كل من مارتن و فينسنت بنوع من الارتياح الذي خلقته دماثة النائبة فقد كانت على وجهها الصغير بشاشة غريبة و عكست عيناها العسليتين أملاً لم يراه الرجلان كثيراً ، و بعد محادثة قصيرة مع مارتن حول الأيام الخوالي سألت :
– إذاً أنتما هنا من أجل ماري ؟.
فرد فينسنت :
– نعم ، إذاً عملت هنا ؟.
أعتلت وجهها ملامح أرتباك و ردت :
– عملت ؟ لا ، لم تعمل هنا كانت فقط تجلب مجموعة فتية قالت : أنها تعتني بهم لعدم وجود وصي عليهم .
– يتامى ! ، رد مارتن بفضول ، لكن لا يوجد ميتم هنا .
رفعت كلاريس يديها وقالت :
– أنا لا أعرف ، افترضت أنها وجدت لهم مكاناً في مزرعتهم .
– هل تعرفين ماذا كانت تفعل في منزلهم في الجبال ؟.
– نعم ، كانت تحضره من أجل أستقبال الفتية فقد نظمنا لهم رحلة بمناسبة نهاية السنة .
جحظت عينا فينسنت و قال بنوع من السخط :
– فكرتم جدياً في رحلة للجبال ، و تركتم ماري تذهب وحدها هناك ، الأمر الذي كان خطئكم في المقام الأول و مع ذلك لم تفكروا في الضغط على الشرطة قليلاً ليفتحوا تحقيقاً ؟.
تلثمت كلاريس بالصمت لوهلة ثم قالت :
– لقد حاولنا بجد و كذلك صديق عائلتهم السيد كلينتن الذي حاول استعمال معارفه لكن دون جدوى.
أخذ فينسنت نفساً عميقاً ثم قال :
– أختها قالت أمراً عن حبيب ، هل رافقها هنا ؟.
صمتت كلاريس للحظة محاولة التذكر ثم ردت :
– نعم ، أظن أنها جاءت هنا مع شاب لطيف مرة .
– و هل يمكنك وصفه ؟.
– كان متوسط الطول … أقصر منها قليلاً ، شعره أسود قصير ، لم أرى عينيه فقد كان يرتدي نظارات شمسية ، لكنه كان لطيفاً حقاً .
لم يقل فينسنت كلمة أخرى لمدة دقائق و عم الصمت ذلك المكتب الصغير ، مارتن كان يحدق في الصور و الجوائز التي علقت على الجدار الشرفي بابتسامة عفوية اختفت حالما نادى شريكه بنبرة هامسة :
– فيني ، تعال هنا ، بسرعة .
انتفض فينسنت من كرسيه و توجه نحوه فأشار مارتن بيده لصورة جماعية لفريق كرة القدم و قال :
– هذا الرجل على اليمين .
بسرعة تحركت حدقتا فنينست لليمين فلاحظ كهلاً أسود الشعر و قصير القامة يرتدي بدلة رمادية ، لكن ما جذب أنتباهه كانت القلادة نفسها التي رآها على رقبة سيسيليا أختها ، فقال بحدة :
– من هو هذا الرجل ؟.
لم تتعب كلاريس نفسها بالنهوض و قالت بثقة :
– ذلك السيد مويسي ، إنه يظهر في كل صورة .
– و هل هناك سبب لذلك ؟ سأل مارتن .
– لقد درس في جامعة مرموقة و رفض عروضاً كبيرة ليعود لمدينته الأم لذا فهو مقدس هنا نوعاً ما.
استدار فينسنت و قال :
– و أين يمكننا أن نجده ؟.
أجابت كلاريس :
– هذه الأيام ، لن تجده … إنه يحضر كل عام مؤتمراً في الشمال و لن يعود على الأرجح حتى نهاية الأسبوع .
– هل يمكنني أخذ الصورة ؟ ، سأل فينسنت .
– نعم ، بالتأكيد .
نزع جانسن الغطاء الخلفي للإطار و سحب الصورة ثم سأل :
– حسناً ، هل لديك عنوانه ؟.
– نعم ، قالت كلاريس ، و هي تكتب عنوانه على ورقة صغيرة و همست :
– إنه يعيش في المنطقة الجنوبية ، ثم قدمت الورقة لفينسنت و أضافت :
– إن لم تجداه في المنزل فهو على الأرجح في المكتبة ، إنه يقضي معظم وقته هناك يساعد في التنظيم .
***
– شرد فينسنت للحظة في انعكاسه الذي ظهر على زجاج غرفة الاستجواب ، و بدت له كلمات المحقق والتر بعيدة و هي تصل لأذنه :
– و متى عاد السيد مويسي ؟.
بخفة أستدار فينسنت للمحقق و سأل :
– ماذا قلت ؟.
فأعاد المحقق سؤاله :
– السيد مويسي … الأستاذ ؟.
– نعم ، قال فينسنت . لقد عاد بعد أربعة أيام من زيارتنا للمدرسة .
***
كانت المنطقة الجنوبية من المدينة عبارة عن مجموعة حقول معظمها هجرها ملاكها ، فأضحى المكان أقرب ما يكون لمدينة أشباح صغيرة بمنازل ريفية مهجورة أكلها العشب ، رأى فينسنت أن السيارة لن تستطيع المرور عبر الطريق الطيني الذي أنبسط أمامهما بعدما أنتهى الطريق المعبد مباشرةً عند مدخل تلك المزارع ، فركن السيارة على قارعة الطريق و قال لمارتن ممازحاً :
– لنأمل أنك لا ترتدي حذائك المفضل .
ببطء سار كلاهما فوق تلك الكتلة الطينية و عيناهما تتحركان بحثاً عن شخص يمكن أن يريهما منزل السيد مويسي ، و بعد بضع خطوات إضافية سمعا نباح كلب قريب فاهتديا نحوه لينقادا لمنزل صغير جلس فوق شرفته رجل خمسيني ألتهب رأسه بالشيب و جعله نباح كلبه الذي أستلقى بجنبه يرفع بندقيته في وجه الرجلين قائلاً :
– يقولون أن الحيوانات يمكنها أن تشعر بالشر .
– هذا الرجل يبدو لطيفاً ، همس فينسنت ثم سأله :
– نحن نبحث عن منزل السيد مويسي ، هل تعرف أين ذلك ؟.
حوّل العجوز بندقيته يساراً و قال :
– المنزل الأخير على اليمين ، و الآن أبعدا قدميكما القذرتين عن ملكيتي .
– شكراً ، قال مارتن ثم لحق بفينسنت الذي بدأ بالسير ، لم يختلف منزل الأستاذ كثيراً عن المنازل الأخرى و الشيء الوحيد الذي بدا مميزاً فيه الوحيد هو طلاءه الأبيض الذي بدا حديثاً ، طرق فينسنت مرتين ثم صاح :
– سيد مويسي ، هل أنت في المنزل .
– أنا قادم ، جاءه الرد من الداخل و بعد ثوان فتح الأستاذ الباب و قال بلطافة :
– ماذا يمكنني أن أفعل لأجلكما .
عرف فينسنت بنفسه و بشريكه ثم قال :
– لا نريد أن نأخذ كثيراً من وقتك ، نريد فقط سؤالك عن القلادة التي تضعها في هذه الصورة .
و بخفة سحب فينسنت الصورة و أراه إياها ، حملق فيها الرجل لوهلة بعدما تناولها منه ثم قال :
– أوه ! إنها فقط تذكار جميل حصلت عليه من متجر الهدايا ، و أعاد الصورة لفينسنت .
– يا لها من صدفة ، قال جانسن ، فنفس العقد كانت ترتديه الفتاة المفقودة في قضيتنا .
تلعثم الرجل و رد بصعوبة :
– نعم … صدفة جامحة ، و الآن أعذراني …
ضحك فينسنت بقوة فقاطع كلمات الأستاذ و بهدوء خلع سترته و أسندها على مرفقه كمنشفة في يد نادل و كما توقع زادت تلك الحركة من توتر السيد مويسي و عرف أن أفكاره تشتت فقال :
– لا تكذب يا سيد مويسي ، الآن أنا هنا و قد قطعت شوطاً طويلاً ، و إن كنت تعرفني و لحسن الحظ أننا لا نعرف بعضنا ستدرك أني لن أغادر إلا إذا حصلت على إجابة صريحة منك .
ببطء تقدم فينسنت خطوة أخرى ثم همس :
– بأي طريقة .
كانت النظرة في عيني الأستاذ تترجم الموقف بشكل واضح ” هذا الرجل لا يتلاعب معي ” ، و أيقن أن فينسنت قد أستنتج أن لديه شيئاً ليخفيه ، فقال بنبرة خافتة و على وجهه ملامح ازدراء :
– غابة كليف ، و من فضلك لا تقل لهم أني أنا من أخبرك فقد غادرت منذ وقت طويل بسمعة حسنة .
تراجع فينسنت للخلف و قال :
– و ما الذي نحن سائرون له تحديداً ؟.
رد الأستاذ :
– إنها جمعية تدعى الإنسان الحر و تعتنق مبدأ ينص على أن الإنسان هو الشيطان في هذه الأرض و الواعظ هو … حسناً هو الرجل الذي يجيد خداع جميع الضعفاء و المنكسرين بخطاباته .
– و ماذا عن اليتامى ؟.
– يترعرعون على تعاليمنا ، نعطيهم حياة و نستخدمهم كوسيلة لجعل أعمالنا أكثر قانونية و قبولاً إن سأل أحدهم .
تحدث مارتن من خلف فينسنت قائلاً :
– هذه ليست جمعية ، بل طائفة لعينة .
***
بسرعة فتش والتر في مجموعة أوراقه ثم قال :
و هل وجدتم المكان الذي تحدث عنه الأستاذ ؟ .
أخذ فينسنت نفساً عميقاً و بدا كأنه عاد لتلك الأيام مرة أخرى ثم قال :
– لا ، وجدنا مجموعة مقطورات خالية ، كان هناك آثار على وجود أناس بالتأكيد و افترضت أنداك أن العجوز مويسي غاب لفترة طويلة فلم يعلم أنهم غيروا مقرهم ، و هناك فقط أدركت أنه لا يمكنني التراجع عن القضية .
***
خليط من الحسرة و الصدمة أعتلى وجه فينسنت و هو ينظر لتلك المقطورات الفارغة التي تراصفت مشكلة حلقة ، كان يمكنه أن يتخيل المشهد و كأنه يعيشه ، بعض قطع حطب توسطت المكان مشيرة إلا أنهم كانوا يجلسون كل ليلة حولها يستمعون لقصص عن هذه الديانة ، أصلبة بدت أقرب للعلامة الرياضية زائد و نجوم غريبة رسمت على تلك المقطورات ، لكن ما لفت نظر فينسنت كان مقطورة أخرى تقف وحيدة بعيداً عليها صورة قلب وردي ، فتحرك بسرعة نحوها و مرر عينيه عبرها ثم دلفها فوجد أنها كانت منظمة بشكل غريب ، سرير أبيض بوسائد بيضاء ما زالت نظيفة ، و أضواء نيون إلكترونية صغيرة شغلها فينسنت من قابس صغير تدلى أمامه فكشفت عن رسمة ضخمة فوق السرير عرفها مارتن مباشرة لحظة دخوله خلف شريكه فقال :
– بافوميت ، يقولون أنه واحد من الشياطين .
– لا ، رد فينسنت ثم أضاف :
– أقرأ ما كتب تحتها .
” أحصل على موافقتك من الواعظ “.
حدّق فينسنت لذلك الشكل الغريب برأس عنزة و جسم إنسان ثم قال :
– لقد عُرف هذا الشكل عند القدماء برمز الخصوبة و الإنجاب ، قبل أن يتم تحريف معناه .
– يا إلهي ! همس مارتن الذي كان وافقاً عند المدخل و سأل :
– هل هذا يعني أنهم … ؟.
فأكمل عنه شريكه :
– كان يتم قبولهم عن طريق ممارسات جنسية .
لطم مارتن باب المقطورة بقوة و قال بغضب :
– هؤلاء السفلة ، كنا قريبين جداً .
أستدار له فينسنت و على وجهه أبتسامة ساخرة :
– هل نحن حقاً قريبون يا مارتي ؟.
– و ماذا تعني بذلك ، سأل مونغولد بحدة فأجابه فينسنت بنفس نبرته :
– أنا أعني أنه ربما كنا مخطئين و أن لهذه القضية أبعاد أخرى أعمق مما ظننا .
أنفجر كاي صارخاً :
– تباً لك يا فيني ، لقد ظننت أنك ستكون متفائلاً لمرة واحدة في حياتك البائسة .
ألتزم فينسنت بهدوئه المعتاد و رد :
– و أنظر إلى أين أوصلنا تفاؤلك ؟ لكن نبرته ازدادت فجأة :
– أنت تصبح ساذجاً لا متفائلاً و لا أعرف لما تستمر بالتظاهر كأن كل شيء بخير في حين أنه …
– لأنني أحتضر ، رد كاي بنبرة عالية ثم خفض صوته ، لأنني أحتضر و أريد أن آخذ و لو ذكرى سعيدة واحدة معي ، الابتسامة على وجه أمها أو أختها حين تعرفان أي شيء عنها ، خبر موتها سيكون أفضل مما هم فيه .
بدا أن فينسنت قد هدأ مباشرة و همس :
– تباً ! .
لكن مارتن واصل حديثه :
– هناك نهاية واحدة لهذا يا فينسنت بدون احتمال آخر و أريد أن أستغل هذه الفرصة … لذا أظن أن نظرتك للحياة خاطئة بعد كل شيء ، أخذ مارتن نفسا عميقاً ثم أردف :
– أو ربما أنت تتظاهر بدورك .
– ما هذا ؟ ، قال فينسنت ، هل هي جلسة لدى طبيب نفسي ؟.
أبتسم كاي بسخرية و رد :
– يا إلهي أنت وغد .
ببطء سار فينسنت تجاهه و قال بنبرة خافتة و هو يشير لنفسه بسبابته :
– لقد فقدت آخر ما تبقى لي من عائلتي ، أطلقوا النار على أخي و تركوه يموت فوق الرصيف ككلب لعين ، صمت لوهلة ثم أضاف :
– أنت تحتضر ، ذلك مخزي ، لكن على الأقل ستكون لديك فرصة لتودع عائلتك لكن بالنسبة لي ، آخر مرة رأيته فيها كان موضوعاً في صندوق لعين و أنا واقف بجانب ذلك الصندوق أعتذر عن أخطاء يستحيل إصلاحها .
***
نصب فينسنت علبة السجائر فوق الطاولة ثم لمسها بإصبعه فسقطت ببطء و قال :
– و بكل بساطة يتلاشى كل شيء ، كل كرهك و حبك و حقدك و تفكر في أمر واحد فقط ، أنا .
– لم تظن أن كاي لم يخبرك بمرضه ؟ ، سأل والتر.
فينسنت أجاب :
– الكبرياء على ما أظن أو ربما لم يثق بي كفاية لكني سأقول أنه الكبرياء لأنه لم يحدثني لمدة أربعة أيام .
– و ماذا حدث بعد ذلك ؟.
– قررنا أن ننهي القضية .
***
بدا صوت محرك السيارة قوياً و هي تصعد طريق الجبال الملتوي ، في الداخل حمل فينسنت من المقعد المجاور علبة دواء صغيرة فتحها بصعوبة بيده اليمنى و مرر السائل الذي كان بداخلها عبر حلقه حتى فرغت ثم رماها بعشوائية للخلف ، بسرعة نظر للمرآة الجانبية فكان الطريق خلفه خالياً ، ثم أعاد النظر للأمام فبدا كأن المشهد يتكرر ، فقط صخور ضخمة و أشجار سدر صغيرة على قارعتي الطريق و مساحات فارغة أخذ منها المنزل الريفي الذي قتلت فيه ماري جزءاً صغيراً جداً ، فقد كان واقفاً وحده كرجل على جزيرة بتصميم عصري لم يره جانسن حتى في المدينة ، ركن جانسن على حافة الطريق و سار حوالي عشرة أمتار فوق طريق ترابي صغير بدا كأن الأقدام التي سارت عليه كثيراً هي من نحتته ،
ببطء أدار المقبض لكن الباب كان مغلقاً فقرفص بهدوء و رفع نهاية بنطاله ثم سحب من حامل جلدي مثبت على كاحله سكين جيب حاد صغير أقحمه في حافة الباب بجانب المقبض ثم دفع بقوة فأنكسر القفل و أستقبله ظلام مخيف جعله يشهر ضوئه في وجهه ، ببطء دخل المكان و وضع يده يساراً على الحائط محاولاً إيجاد القابس الذي كان عالياً قليلاً عما إعتاد عليه في شقته الصغيرة ، و لما تمكن منه أخيراً كشفت له تلك الثريا التي انسدلت من السقف فوقه منظراً لم يرى مثله من قبل ، كان المكان فارغاً تماماً ، مجرد ثلاث جدران علق على أثنان منها قرني أيل ضخمين ، أما الجدار الثالث الذي كان مقابلاً له فنصب عليه إطار ضخم مزخرف داخله صورة وقف وسطها ستة رجال بملابس سوداء رسمية عرف منهم فينسنت وجها مألوفاً و هو وجه الأستاذ مويسي و أسفلها كتب :
” الستة المؤسسون “
لم يستطع فينسنت أن يتأكد مما كان هذا الرقم تحديداً عشوائياً أم أنه أختاروه ليطابق رقم الشيطان 666 ، ببطء أقترب للصورة وسط ذلك الفراغ محاولاً معرفة وجه آخر ، لكن نغمة هاتفه القوية أجفلته فأجاب بسرعة :
– نعم ، المحقق جانسن .
فتحدث شريكه من الجانب الآخر :
– هاي فيني …
عرف فينسنت من نبرة شريكه الخافتة أنه يريد الاعتذار ، فقاطعه :
– مارتي ، لا تهتم لذلك … أظن أنني وجدت طريقة لإنهاء القضية .
– حقاً ، و كيف ذلك ؟ سأل مونغولد بحماس فأجابه فينسنت و عيناه لم تفارقا تلك الصورة :
– أظن أن السيد مويسي كان أكثر من مجرد عامل في تلك الطائفة و شيء ما يخبرني أنه ما زال على أتصال برئيسها ، فإيجادنا لذلك المكان فارغاً في غابة كليف لم يكن صدفة ، لقد أعلمهم بذلك .
– حسناً ، قال مارتن ، و بماذا تفكر ؟.
أجاب فينسنت :
– سنقوم بزيارة له في المكتبة ، سآتي لأقلك .
***
داخل السيارة ، نظر فينسنت مطولاً لمدخل المكتبة بنوع من الشرود ثم حول أنتباهه لشريكه و قال بهدوء :
– أرخي ربطة عنقك .
لم يستجب له مارتن و حاول التحدث ، لكنه ما إن فتح فاهه حتى قاطعه فينسنت :
– فقط قم بالأمر .
بخفة أرخى مارتن ربطة عنقه الزرقاء الداكنة فبدى شكله أقل رسمية لكن ليس كفاية لجانسن فأمره مجدداً :
– أنزع السترة .
مرة أخرى تردد لكن فينسنت أصر فخلع مارتن سترته ليضيف شريكه أمراً آخر :
– بعثر شعرك قليلاً .
مرر مونغولد يده عبر شعره ثم قال متسائلاً :
– هل تنوي إخباري ما الذي نقوم به ؟.
نظر فينسنت للمدخل بسرعة ثم قال :
– بسيطة ، ستدخل هناك و تقول لمويسي أنك تريد الانضمام لجمعيتهم الصغيرة .
أومأ كاي برأسه و علامة استفهام كبيرة على وجهه ، فأضاف فونتانا :
– أختلق قصة خيالية صغيرة … شريكك السابق توفي ربما و أنت تعاني مع إدمانك للكحول و تود لقاء الرئيس حالاً لأنك تظن أن مساعدة هؤلاء الفتية ستجلب لك السلام ، كن ملحاً في طلبك و إذا كنت محقاً سيضطر على الأرجح لأخذك للقاء رئيسه حالاً ، سأكون أنا خلفكما و ما إن نرى هذا الوغد حتى ننقض عليه .
أخذ مارتن أنفاساً عميقة كتلميذ متوتر من الامتحان النهائي ثم قال :
– و لم لا أخبره فقط عن صراعي مع المرض ؟ فرد جانسن بسرعة :
– الترهات تعود لك فقط تأكد أنه سيقتنع ، مفهوم ؟.
– مفهوم ، قال مارتن ثم ترجل من السيارة و أختفى داخل جداران المكتبة ، بينما جلس فينسنت داخل السيارة متربصاً لمدة خمسة و أربعين دقيقة قبل أن يرى وجه شريكه مجدداً و خلفه وجه السيد مويسي الذي دلف سيارته بحماس و على وجهه ابتسامة سخيفة ، بخفة نظر مونغولد لفينسنت ليتأكد أنه خلف المقود ثم ركب السيارة بدوره و انطلقت ببطء ليتحرك جانسن خلفها ، قاد مويسي على الطريق الرئيسي لمدة نصف ساعة قبل أن يأخذ بحدة منعطفاً لليمين كاد يخادع به فينسنت الذي تيقظ في آخر لحظة و أنعطف خلفهما ليأخذ طريقا ترابياً ضيقاً في نهايته وقف مبنى صغير أشبه ما يكون لحانة ، ركن فينسنت خلفهما بحوالي عشرة أمتار و أنتظر حتى يدخل كاي و مويسي قبل أن يلحق بهما ، كانت الحروف التي طُبعت فوق اللافتة المهترئة لذلك المبنى الصغير غير واضحة ، لكن ما إن أقترب فينسنت حتى شل جسده للحظة و قال بقلق بينه و بين نفسه :
– من بين كل الأماكن في المدينة ، أختار نادي تعري لعين ! .
ببطء دخل جانسن فلفحته رائحة بخور قوية كادت تجعله ينتشي و جعلت الرؤية ضبابية بعض الشيء ، لكنه تمكن من رؤية شريكه وسط أجساد نصف عارية لرجال و نساء يرقصون بجنون على أنغام موسيقى إلكترونية غريبة و بدا كأنه يسير نحو مجموعة غرف خلفية ، لم يكن المكان مكتظاً كثيراً لكن فينسنت أضطر لدفع بعض الأجساد من على طريقه قبل أن يصل للغرفة التي دخل لها الرجلان و للحظة وقف أمام ذلك الباب الأحمر الصغير قبل أن يدفع الباب بقوة بدت طبيعية وسط تلك الفوضى ليجد مارتن جالساً بهدوء جنباً إلى جنب مع السيد مويسي فقال بحدة :
– أين هو ؟.
جحظت عينا مويسي و قال متفاجئاً :
– أنت مجدداً ؟.
لم يعره فينسنت أي أهتمام و كرر السؤال على مسامع شريكه :
– مارتن ، أين هو هذا السافل ؟.
سحب مونغولد مويسي من ياقة قميصه كمدير يؤنب متنمراً و قال :
– لقد قال أنه سيكون هنا بعد بضع لحظات .
حسناً ، لنخرج و نستقبله .
فسح جانسن المجال لشريكه ليخرج أولاً ثم سار خلفه و في الطريق للباب حدق فينسنت في الفتاتين اللتين كانتا ترقصان على يساره و قال لمارتن :
– هل تلاحظ ما الأحظ ؟ فرد كاي :
– نعم ، إنهن قاصرات .
بقوة دفع فينسنت مويسي للخارج حتى كاد يسقط ثم قال :
– هل هذا ما تفعلون بالأطفال في طائفتكم الصغيرة ؟ إن لم يكونوا في الغابة هناك فهم هنا يرقصون مقابل المال .
أكتفى مويسي بالصمت مذهولاً ، و وقف الثلاثة أمام المدخل لدقائق و صوت الموسيقى المكبوت خلفهم يكسر زجاج الصمت الذي أزعج فينسنت فأستدار لمويسي و صاح :
– لقد تأخر صديقك .
لم يقل الأستاذ أي كلمة و بعد ثوان قليلة صاح :
– ها هو ذا ، في سيارة الكاديلاك السوداء .
لمح فينسنت السيارة تقترب من بعيد فسار باتجاهها بهدوء متظاهراً أنه متجه لسيارته تاركاً مويسي لشريكه و ما أن أصبحت في مرماه حتى سحب سلاحه بخفة و صاح بكل ما أوتي من قوة :
أخرج من السيارة أيها السافل ، حالاً .
و تقدم بسرعة حتى صار عند الباب فبدت ملامح ذلك الرجل الذي رفع يديه عالياً بعيداً عن المقود واضحة ، عجوز أشيب الشعر و أسود العينين ، يضع وشم ثعبان ضخم يحيط برقبته كحبل مشنقة . فتح فينسنت الباب بيده اليمنى مبقياً اليسرى على السلاح ثم قال مجدداً :
– على ركبتيك أيها الحقير .
كان فينسنت يعلم جيداً من خلال خبرته الطويلة أن الاقتراب بلين و الاستجواب بلطف مع رجل كهذا لن يجدي نفعاً ، مما أضطره لارتداء قناع الشرطي السيئ المبتذل لعله يستخرج شيئا منه .
– ليس لدي شيء ، قال الرجل بنبرة هادئة بدت كتهديد بفعل صوته الخشن .
فتشه فينسنت بسرعة و قال :
– أغلق فمك اللعين و لا تفتحه إلا إذا سألتك ، لديك أجوبة ، و بخفة تناول الأغلال و أستدار لمارتن قائلاً :
– كبل ذلك الأحمق و ضعه في سيارته .
نظر له الرجل و هو جاث على ركبتيه و قال كفيلسوف :
– أنت غاضب و أعمى … فقاطعه جانسن :
– ألم أخبرك أن لا تفتح فمك إلا إذا سألتك ؟ .
واصل الرجل حديثه غير مبال :
– هذه القوة بداخلك ، يمكنها أن تكون خطرة .
صفعه فينسنت بظهر يده و قال بنوع من التهكم :
ثق بي ستكتشف ذلك .
بادله الرجل بالسخرية :
– أنا أعرف ذلك ، لكنني أخترت طريق الشوك قبل طريق الورد أيها المحقق ، و طريق الشوك يضمن لك أصدقاء يبقونك خارج السجن .
تباطء الزمن في رأس فينسنت و عاد بذاكرته لتلك الكلمات التي قرأها في مجمع الشقق ثم رفع رأسه للسماء و ابتسامة رضا على وجهه و في تلك اللحظة أتضح له كل شيء فقال :
– فتاة شقراء ، عملت في الفرقة التكتيكية ، ما صلتك بها ؟.
– نعم ، قال الرجل برحابة صدر : نينا كانت الفالكيري الخاصة بي ، جمال و قوة .
– كانت قاتلتك المأجورة ؟ .
صمت الرجل للحظة و بدا كأنه شرد ، فصرخ فيه فينسنت :
– هاي ، هل هي من قتلت ماري ؟ فرد بسرعة :
– ماري ليست ميتة ، إنها حرة .
أستدار فينسنت بسرعة لزميله فرآه يسير نحوه بعدما وضع مويسي في المقعد الخلفي للسيارة فقال له :
– خذ ذلك الأحمق للمركز و بلغ عن هذا المكان .
و إلى أين أنت ذاهب ، سأل مونغولد متحيراً فردد فينسنت :
– كاي ، فقط خذه .
رمى فينسنت بالواعظ في المقعد الأمامي لسيارته الكاديلاك ثم ركب خلفه في المقعد الخلفي و وضع المسدس على رأسه ثم قال آمراً :
– قد أيها الوغد .
***
أشعل فينسنت أخيراً السيجارة التي كانت بين أصابعه و قال لوالتر الذي بدا مركزاً معه أكثر من قبل :
– استجوبتها ، تلك الجارة … لقد كانت أمامنا .
– و كيف استنتجت أنها هي ، سأل والتر .
زفر فينسنت بدخان سيجارته مع النفس القوي الذي أخرجه ثم رد : ظننت أن الجدارية كانت عشوائية ، لكن في الحقيقة …
– آآه نعم ، قال والتر مستدركاً خطأه ثم أردف :
– لقد كان الأعضاء يكتبونها أمام منازلهم ليعرفوا بعضهم .
صمت للحظة ثم أضاف ساخراً :
– و ليسهلوا علينا مهمة القبض عليهم .
جاراه جانسن في مزحته :
– و ينقلب السحر على الساحر .
و ماذا حدث بعد ذلك ؟
– أخذت الواعظ معي للمنزل في محاولة يائسة لإقناعها فأنا أعرف أنها ستنكر فعلتها ، و هو … رأته كنبي لكني كنت مخطئاً فقد استدرجتنا للمنزل و ما إن دخلنا غرفتها حتى وضعت رصاصتين في صدره قبل أن تصوب مسدسها نحوي في محاولة يائسة لقتلي لكنها لم تفلح .
***
طرق فينسنت باب شقة نينا مستخدما الرئيس كدرع بشري و للحظة بدا كأنه هو المجرم ، و ما إن فتحت ناديا الباب حتى قال بدون تردد :
– أنا أعرف أنه أنت … من قتل ليندا .
لم تبد أي ردة فعل تجاه كلمات فينسنت كأنها كانت تتوقع ذلك و قالت بهدوء :
– و هل أنت هنا لاعتقالي ؟ ، فرد فينسنت :
– أفتحي الباب اللعين و تراجعي للخلف .
نفذت الفتاة أمره و بدأت بالتراجع ببطء وسط رواق شقتها الضيق حتى وصلت لنهايته ، فسألها جانسن بحدة :
– غرفة نومك ، أين هي ؟.
أشارت بيدها يمينا فأمرها فينسنت بالدخول مشيراً بالمسدس الذي كان يضعه على رقبة الرئيس ثم دفعه للداخل ، كانت الغرفة فوضوية لحد غير معقول و تفوح منها رائحة عفن غريبة ، أفترض فينسنت أنها صادرة من الفرش القديم الذي غطى سريرها ، بعنف ضغط على كتف الرئيس فجثى على ركبتيه ثم قال :
– أطلقي النار عليه .
نظرت له مطولاً غير مستوعبة ، فردد طلبه :
– هناك درج بجانب سريرك و أنا متأكد أنه يحوي مسدساً ، ماذا تنتظرين ؟
بسرعة أخرجت المسدس و صوبت نحو الرئيس مستعدة لقتله ، لكنها توقفت في آخر لحظة و نظرت له مطولاً ، فألح فينسنت :
– هل أستيقظ ضميرك الآن ؟.
ببطء أغلقت عينيها و أطلقت رصاصتين اخترقتا صدره فسقط بجانب قدمي جانسن و بالمسدس في يدها المرتعشة قالت :
– هل أنت راض الآن ؟.
فأجاب فينسنت بسؤال آخر :
– تقتلين فتاة بريئة من أجل حثالة كهذا ؟.
ابتسمت نينا بسخرية و ردت :
– ماري لم تكن بريئة .
– حقاً ، ماذا فعلت ؟.
– و لماذا يجب علي أن أخبرك بأي شيء ؟.
حدق لها فينسنت مطولاً ثم قال :
– سأعقد معك صفقة … أنت لا تريدين أن تُعتقلي ، أعطني ما أريد و سأدعك تضعين رصاصة في رأسك .
– و إذا رفضت ؟.
– ثقب في قدمك لن يمنعك من الكلام ، ستغادرين معي مصفّدة و تعترفين على كل حال .
– اللعنة ، همست نينا ثم قالت :
– كانت تهدد بأخذ الأولاد بعيداً و فضحنا .
أستمر فينسنت بصمته فواصلت نينا الحديث :
– لم تكن هناك رحلة للجبال ، هذا ما قالته لتخدع المدرسة ، لقد كانت تنتظر صديقتها هناك لتأخذ الأولاد للشمال .
تمسك فينينت بالمسدس بقوة بعدما كانت يده مرتخية قليلاً و سأل :
– و ما ذنب صديقتها في كل هذا ؟.
– كانت ستوفر حافلة من حافلات أبيها ، لكني علمت بخطتهم الصغيرة …
أصدر فينسنت ضحكة صغيرة قطعت حديثها و قال:
– عن طريق أخيها ، كنت تنامين معه للحصول على المعلومات ، أنت تعرفين كل شيء عنه و عن عائلته .
– نعم ، يمكن للحب أن يكون قوياً .
– إذاً قتلت كارمن التي كانت تحاول أخذ الأولاد من الغابة و من ثم ذهبت لماري ، لما لم تخبروهم أن خطتهم فشلت و حسب ؟.
– لا تعمل الجماعة هكذا ، عقوبة الخيانة هي القتل ، كما أنها دنست المنزل الريفي الذي اعتبرناه موقعا مقدساً .
تحرك جانسن خطوتين يمينا ثم قال ساخراً :
– حتى أنكم وضعت قوانيناً و مواقع مقدسة لطائفتكم الصغيرة.
بدا كأن صبر نينا قد نفذ فقالت :
– هل هذا كل شيء ؟
رد فينسنت :
– هذا يعتمد على مدى تقبلك لفكرة الجلوس في غرفة استجواب .
نظرت له نينا لبضع ثوان ثم قالت :
– لست معجبة بها .
و بخفة وجهت مسدسها نحوه ، لكن جانسن كان يتوقع ذلك فسبقها بإطلاق ثلاث رصاصات اخترقت خدها حتى كادت تشطر وجهها نصفين و هوى جسدها فوق السرير جثة بلا حراك ، ببطء تراجع فينسنت للخلف غير مصدوم مما قام به رغم أن هذه كانت ثاني مرة فقط يردي فيها شخصاً ما ، و للحظة وقف ينظر لما صنعت يديه ، ثم توجه ناحية سيارته بخطوات متثاقلة و بهدوء محام متمرس أغلق الباب على نفسه ثم قال عبر الراديو :
هنا الوحدة 1811 ، أحتاج لسيارة إسعاف في مجمع الشقق .
***
أصدر لينارد ضحكة صغيرة ثم قال :
– و هكذا أنتهت القضية ، قتلت رئيسها بنفسها و لم تقل شيئاً عن الدافع الذي جعلها تقوم بذلك .
هز فينسنت رأسه قائلاً :
– نعم ، لا شيء ، ثم أضاف :
– لقد وجدت القاتل و أثبت أنه لم يكن عملاً إرهابياً ، و هذا ما طلبوا مني فعله .
– حسناً ، قال والتر ، هذا سيكون كل شيء أيها المحقق ، شكراً لك .
صافحه فينسنت بقوة ثم غادر المخفر دون أن يرفع رأسه حتى ليرى الضباط و هم ينظرون له متفاجئين ، بخفة ركب سيارته و أنطلق مبتعداً بشرود صارخ في عينيه أستمر طيلة طريقه للمستشفى حيث ركن بعشوائية في الفسحة عند المدخل و دلف المكان متجها مباشرة للمصعد ، بسرعة ضغط على زر الطابق الثامن و وقف منتظراً ذلك الصندوق المعدني الذي لم يحبه قط ليتحرك ، بضع ثوان و أنزلق الباب فخرج جانسن و سار عبر رواق واسع بأضواء ساطعة حتى وصل لغرفة مارتن ، كان الباب معرجاً قليلاً فطرق بلطف ثم دفعه و دخل ليجد شريكه يجلس على كرسي متحرك يحدق عبر النافذة و قد نحل جسده ، ببطء سار جانسن نحوه و قال :
– لقد كانت جلسة ممتعة في المخفر .
لم يرفع مارتن عينيه و رد :
– هل أخبرتهم بحقيقة ما حصل في منزل ليندا ؟.
فينسنت أجاب :
– لا ، لم أفعل ذلك .
– تباً ، همس مارتن ثم قال :
– لماذا ؟ لم تخربني قط ، لماذا كان عليه أن يموت ؟.
أخذ فينسنت بدوره نظرة على المنظر عبر النافذة و ركز لوهلة على الشارع و العمارات التي أرتقت فوق كل مبنى آخر ثم رد :
– رجال مثل ذلك هم طاعون يستمر بالتفشي و لوقف الفيروس قبل أن ينتشر حتى عليك قتل أول مريض .
وضع مارتن يديه على عجلات الكرسي و سأل :
– و ما الذي تفعله هنا ؟.
– جئت لوداعك يا مارتي ، لا أظن أنه يمكنني رؤيتك هكذا بعد اليوم .
– أنا أتفهم ذلك ، رغم أنك لم تكن بهذه العاطفية حين عملنا معاً .
– ربما أنا أكذب .
ضحك مارتن بصعوبة و قال :
– لا تجعلني أضحك .
حل الصمت لوهلة ثم قال مونغولد :
– فقد تأكد أنك ستزورني في الشمال .
طغى على وجه ملامح فينسنت الارتباك فأوضح له مارتن :
– لقد تعبت من الريح و الرمل يا رجل ، تعبت من الوجوه التعيسة ، أريد أن أشعر بالثلج حتى و إن كان على قبري ، ميليسا كانت هنا و وافقت على دفني بجنب والدي .
أكتفى فينسنت بمد يده ناحية شريكه فصافحه بقوة و قال :
– لقد كان شرفاً لي العمل معك فيني .
رد فينسنت :
– الشرف كله لي يا رجل ، وداعاً .
كانت تلك آخر كلة يقولها فينسنت لشريكه قبل يخرج من المشفى و يقود منطلقاً خارج أسوار المدينة .
النهاية ……..
تاريخ النشر : 2020-09-03