أدب الرعب والعام

قيد الانتظار

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر
قيد الانتظار
اعتقدت حينها أنني استطعت أن أطرد سحب الكآبة العائمة على حياته، وفلحت في إذابة جدران الجليد الفاصلة بيننا

هي ..

فِي أمسية باردة.. وفي غرفةٍ تلفها العتمة، جلست أرضا أمام المدفأة بعد أن تلحفت بوشاحها الصوفيّ، وراحت تصغِي إلى صوت هطولِ الأمطار وهي تصطدم بالأرض ، يتخلَّلها دويّ الرعد المزلزل وومضات البرق التي تشع بالغرفة عبر زجاج النافذة بين الفينة والأخرى.. إنها إحدى ليالي ديسمبر الباردة، الكئيبة، والموحشة ، حدّقت باللّهبِ المنبعثِ من المدفأة..كانت ألوانه الممزوجة بين الأصفر والأزرق والبرتقالي تعيدُ إليها سيلاً من الذكريات التي لا تنتهي..
قامت وأشعلت شمعة ، تناولت كتاباً من حقيبتها كانت قد اشترته يومها بعد أن نصحتها به صديقة لها ، ثم عادت لمكانها وفتحته..

نـِســيــان *

“أحبيه كما لم تحب امرأة وانسيه كما ينسى الرجال”

..كانت تتشبث بأملِ أن تكون كلماته ترياقاً لمرضٍ مزمنٍ عجِزت أن تبرأ منه.

**

هو ..

ذات ليلة من ليالي شهر ديسمبر الماطرة ، وعلى رصيف محطةِ المترو ، شق رجلٌ طريقه بهدوء وسط زحام وضوضاء قطراتِ المطر التي كانت تهطل تباعاً وكأنها في سباقٍ محموم إلى الأرض ، اتخذ أحد المقاعد المظلَّلَة مجلسا له، بعد أن ابتاع كوب شاي ساخن من كشك صغير، راح يرتشف منه ببطء ومع كل رشفةٍ تجول عيناه المتعبتين بين زوايا المحطة مترامية الأطراف بحثاً عن شيء ما كان يدرك في قرارة نفسه أنه غير موجود.. وضع الكوب بجانبه ثم أسند ظهره على المقعد وأدخل يديه داخل جيبي معطفه طلبا للدفء، ثم أغمض عينيه وراح يستعيد ذكريات و أحداثِ عشر سنوات مضت لم تبرح مخيلته لحظة واحدة.

**

هي ..

عرفتُه منذ عشرِ سنوات ، كنتُ بمنتصف العشرينات من العمر ، لا أحلام.. لا آمال ولا تطلعات ، فقط خيبات وانكسارات ،أرهق نفسي نهارا بالعمل في محل الحلوياتِ الخاص بوالدة صديقتي، وأقضي ليالي الوحدةِ بالقراءة.. لأجول في عوالمَ أخرى تنسيني واقعي الأليم ،البائس والقاسي.

على محطة المترو كنت ألحظه واقفا كل يوم ، بطوله الفارع.. معطفه الجلدي الأسود، وشاله الأخضر الملتف حول عنقه.. لم أهتم به بداية الأمر، بل إني لم أرَ تقاسيم وجهه حتى.. ولكن وجوده المتكرر في كل مرّة أكون بها في المحطة صار يربكني.. يصعد للمترو بنفس وقت صعودي وينزل  في نفسِ المحطة، شككت به، لدرجةٍ كنت فيها مرتاعة من كونه يلاحقني.. ولكن سرعان ما
بددت من ذهني كل تلكَ الأفكار الواهية..

– دوستويفسكي إذن ؟
رفعت ناظري إليه وأجبت بغباء :
– ها !!
جلس على مقربة مني وسحب الكتاب الذي بيدي وأخذه ثم قلبه على الغلاف و قرأ بصوت عال :
– الجريمة والعقاب..ثم سأل بمكر :
هل تنوين ارتكاب جريمة ؟!

امتلأت غيظا منه.. ما أوقحه، خطفت الكتاب من يده ودسسته في حقيبتي، وأجبته ساخرة بعد أن حدجته بنظرة قاتلة:
– و في القريب العاجل.

أدركَ ما كنت أرمي إليه.. فصار يضحك ملء فمه ،احترت لأمر هذا الغريب ، فما كان مني إلا أن ابتسمت رغم أنفي..

– ابتسامتك جميلة..

قالها على حين غرّة.. ما إن سمعتها حتى أحسست وكأن أحدهم سكب عليّ دلو ماء بارد.. ازدادت دقات قلبي عنفا ، ارتبكت.. تلعثمت.. ولحسن حظي توقف المترو بالمحطة فركضت هاربة من قدرٍ كان قد بدأ ينسج شباكه حولي..

**

هو ..

لم تكن عادتي أن أستقل المترو، فمنذ صغري جبِلت على مقتِ كل مكان يضج بالناس ، أو بالمعنى الأصح بالحياة ، كنت لا أراها سوى وحش أنجبنا ليستلذ بتعذيبنا، كرهتها بالقدر الذي تمسكت بها فيه ، كان يدفعني إلى التشبث بها تمرد داخلي، أرى نفسي بمعركة لا هوادة فيها معها، فإما أن تهزمني قسوتها أو أرفع أنا رايةَ النصر.

كان ينبغي أن أستغل دخلِي أحسن استغلال ، فبعد الانفصال عن أهلي بات لزاما عليّ أن أتقشف حتى أستطيع تسديد أجرة كِراء الغرفةِ التي انتقلت إليها ، إضافة للكثير من الواجبات والالتزامات ، لذلك قررت اتخاذ المترو كوسيلة نقل سريعة ورخيصة في ذات الوقت.

شدّتني منذ أول وهلةٍ وقع فيها نظرِي عليها ، كانت فتاة مختلفة تماماً عن قريناتها ، والأعجبُ من ذلك أنها تشبه تلكَ التي أرّقت ذِكراها لياليَ، وأدمع عيني فراقها ، استبد بي الحنين لها ، ولوهلة كنت سأسعى راكضا إليها ، لكن غشاوة الغضب التي أعمتني تجاهها لم تترك لي المجالَ لذلك ، نبذت الفكرة وصرتُ أراقب بحذر الأخرى التي أمامي.

مع مرور الأيام أصبحت أترقب حضورها بشوق ، وأتعمد صعود المترو وقت صعودها حتى أحظى بوقت أطول معها ، ورغم أن شيئا بداخلي كان ينهرني.. لكنّي قاومته ، كنت ألمح الريبة والشك بعينيها المتواريتين خلف زجاجتي نظارتها كلّما لمحتني ، أظنها خالتني مطارِدا ما أو مجرما لعينا ، لكنها لم تكن تكترث ، تفتح كتابا ككل مرة وتسرح فيه طويلا وهذا ما كان يزعجني.

“الجريمة والعقاب”، كان ذلك الكتاب الذي قرأته منذ زمن طويل أيام مراهقتي يقف حائلا بيني وبينها ، لذا خطوت باتجاهها وفعلت ما حلمت به منذ أيام ، خطفته من يدها وقمت باستفزازها علانية.. ردّها كان حاميا ولاذعا، ولكنّي بطريقةٍ أو بأخرى ظفرت بفوزين في نهاية الأمر ، رؤية ابتسامتها المشرقة ، و.. معرفة اسمها.

**

هي ..

بعد ليلة قضيتها أفكر بموقفي الغبي من مجرد كلمة ألقاها شاب ما ، قررت أن أتصرف وكأن شيئا لم يكن ، نهضت صباحا وارتديت ما كنت أرتديه بالعادة سرحت شعري.. ارتديت نظارتي ، حملت حقيبتي ثم هممت بالمغادرة.. ولكنّ إحساسا غريبا انتابني , عدت أدراجي أمام المرآة فأدركت أني ولأول مرة أترك شعري مسدلاً منذ سنين طويلة ، تساءلت.. أهو إعلان للتمردِ على قوانين سبق وأن وضعتها بنفسي ؟! جمعته برِباط.. ثم مضيت إلى حيث بدأت حياتي تأخذ منعطفا آخر..

**

هو ..

تبعت “صبا” مرّة خلسة ، رغم أن محطة وقوفها كانت تسبقُ محطّتي ، غير أنّي لم أتوانى عن انتحال صفة محقق في ذلك اليوم ، علمت أنها تعمل بمحل راقٍ للحلويات الشرقية ، تقضي فيه معظم أوقات النهار ثم تعود مباشرة لشقتها.. ازددت فضولاً لمعرفة أشياء أخرى ، سألتُ أحد الجيران عنها فأجابني بلهجة حادة :

– الفتاة تعيش هنا لوحدها منذ سنواتٍ ، ولم يبدر منها ما يعيب مطلقاً.. من تكون أنت لتسأل؟.

تركت المكان فرحا بما سمعته منه، مفكرا بطريقة ما لأتقرب منها، ومتجاهلاً أصواتا ونداءات كثيرة تنبعث من أعماقِي .. توقف يا “وائل” توقف..

**

هي ..

توالت عدّة أيام بعد ذلك صار ذلك الغريب روتينا يوميا.. يتعمد ركوب المترو في الوقت الذي أركبه ثم يحجز أقرب مقعد لي، يلقِي التحية أحاول تجاهله.. لكن وكأن قوة خفية تشدني لأجاريه.. أبادله التحية بأدب..ثم أتظاهر وكأني شاردة، أجري مكالمة.. أو أقرأ كتابا في أغلب الأحيان.. لكنه لم يكن يمل.. كان يحاول اختلاق حوار من اللاّشيء..

– مانوع هاتفك؟
– ماذا تعملين؟
-أسمعتِ بآخر تطورات الحرب في البلدِ المجاور ؟
-من هو كاتبكِ المفضل؟

وابل من الأسئلة التي لا تنتهي.. كنت أستمع له بدايةً كنوع من المجاملة ، ولكنني شيئا فشيئا ضقت ذرعا بتطفله اليومي على خلوتي ، فقررت أن أضع حدّا له..

ذات يوم وفور أن جلست على مقعدي ، استجمعت قواي والتفت إليه ثم أطلقت العنان لنفسي قائلة :

– اسمع يا سيّد.. لا أعلم ماذا تريد مني بالضبط ولكن بصراحة.. أنت تزعجني ، رجاءً اختر مقعدا آخر أو سأغيّر أنا…..

لم أكمل كلامي حتى.. وإذا بي ألمح آثار كآبة بادية عليه.. شعره الأصهب أشعث على غير العادة ، عيناه الصغيرتان تحيط بهما هالات سوداء وعلامات الإعياء تعلو محياه.. رمقني بنظرة انكسار ثم ترك مكانه وجلس بعيدا عني ،لجمني الصمت.. أكنت قاسية معه إلى هذا الحد ؟!.فكرت أن أذهب وأعتذر، لكن كبريائي منعني من ذلك فجمدت مكاني .

**

هو ..

قررت التصرف معها خلافا لطبيعتي علني ألفت انتباهها، أجلس قربها وأُظهر دور الشاب المرِح اللّطيف ، الثرثار الذي لا يترك شيئا إلا ويسأل عنه، كانت تتجاهلني وفي أحسن الأحوال ترد بردود مقتضبة ، لكني لم أيأس ، فرفعت تحديا أمام نفسي أني سأجعلها تتجاوب معي يوما.

في صباح أحد الأيام فاجأني اتصال من شخص كان يقال له فيما مضى “والدي”، يقول فيه أن والدتي توفيت تحت وطأة مرضٍ ، ما كنت أعرف عنه شيئا.. هزني الخبر وتضاربت أحاسيسي ومشاعري ، لم أرد عليه ، بقيت لبرهة صامتا، هادئا تحت تأثير الصدمة ، في حين كان صوته يدوي مكررا اسمي في الجهة الأخرى من الهاتف الذي أغلقته و دون أن أشعر حتى ، لبست ثيابي على عجل ، وكان كل ما يجول بخلدي أن ألقاها ، سرت بخطى متسارعة ناحية المحطة، خفت أن أفقدها يومها كما فقدت شبيهتها ، لم أنتبه لشعري المجعد ولا لوجهي الذي لم أغسله بعد ، المهم أن ألمح طيفها ، خيالها ، وأتأكد أنها بخير.

فور أن رأيتها ، هدأ بركان الخوف الذي كان يغلي في داخلي، وفاضت كل أنهار الحزن والأسى ، الندم والعذاب ، لتغرق روحي البائسة معها ، جلست جانبها بهدوء ، أردت شخصا أحادثه، أبوح له بم ينغص عليّ ويحرقني، ويمسح دمعات تنساب من عيني.. لكنها صاحت فيّ بحدة، رفعت رأسي لأبصرَ تعابير الغضب بادية عليها.
صمتَت فجأة ، ثم حدّقت في وجهِي بتمعن لأول مرّة.. في ذات الوقت صدح صوت قوي وتكرر داخل رأسي “أمي غاضبة مني”، “أمي غاضبة مني”، لم أستطع التحمل، فاتخذت مقعدا آخر للهروب منها.

**

هي ..

بعد ذلك اليوم الذي نهرته فيه اختفى و لم يظهر.. حاولت البحث عنه بعيني في المحطة وداخل المترو دون جدوى، أصبح يشغل جل تفكيري ، لم تغب صورته البائسة تلك عن مخيلتي مطلقا.. لعنت غبائي وحماقتي وكبريائي الزائف.. ليتني أراه ثانية فقط لأعتذر.. أو لأكون صادقة أكثر.. ليس لمجرد الاعتذار.. بتّ أحس بشعور غريب يتنامى داخلي نحوه .

**

هو ..

بعد جنازة والدتي جعلتُ من غرفتي معتزلاً لي قرابة الشهر ، ممسكا برسالة تركتها لي لم أفضها بعد, هائما أغلب الأوقات شاردا ، يتآكلني ندمٌ فظيع لم تشاركني فيه إلا أكوام أعقاب السجائر البائسة وأكواب القهوة الفارغة.. أخيرا قررت فتح الرسالة ، وقرأت سطورها التي تنبض رحمة وتسامحاً بدهشة، وما كان يجب أن يخفف عنّي ويواسيني زادني غصّة فوق غصّة.. ولكني ما كنت لأرفع راية الاستسلام ضد الحياة، مادام قلب “صبا” لايزال نابضا فيها.

**

هي ..

كان أحد أيام السبت المقيتة.. اعتدت فيه على ملازمة البيت والقيام بأشغاله التي لا يتسنى لي الوقت لها أيام العمل.. لكن يومها ضاق بي وأطبق على أنفاسي و ما عدت أطيق المكوث فيه ، ارتديت بنطال جينز ، كنزة قطنية و حذاءً رياضيا خفيفا.. التقطت محفظة نقودي و كتابي الذي لم أكمله ثم قررت القيام بجولةٍ في الحي..

كان الجو غائماً والسماء ملبدة بالسحب الرمادية التي زادتني غما فوق غمي.. الحيّ شبه خالٍ إلا من بعض الأولاد الذين يتخذون من الساحة ملعباً، كنت سأهم بالعودة للبيت ، ولكني تذكرت أن صديقتي أخبرتني منذ أسابيع عن مقهى جديدٍ فُتح على بعد شارعين و نصحتني أن نجربه سويا.. كنت لا أحب المقاهي والتجمعات لذا لم أهتم به كثيرا وقتها..

فكرت أن أتصل بها لنلتقي هناك.. لكن ما منعني علمي بأنها تقضي يوم العطلة مع خطيبها ،تراجعت عن الفكرة وذهبت للبحث عنه وحدي ، لم أحتج للكثير من العناء حتى أجده.. فواجهته الجديدة والمميزة كانت تنطِق بأنني أقف أمامه..

ولجت إليه واتخذت مقعدا في الزاوية كمجلس لي ، ألقيت نظرة من حولي ، كان مقهى عصريا ولكن جوّه يبعث على الحميمية والدفء، وجود القليل من الأشخاص, بشاشة الندل.. شعرتُ بالقليل من الراحة ،طلبت فنجانا من القهوة ثم فتحت كتابي ورحت أقرأ.. جاءني بعد لحظات نادل ووضع طلبي أمامي، رفعت رأسي لشكره، ولكن..لمحت عيناي من خلفه ظل شخص يقف بمحاذاة الباب تكلّم مع أحد النّدل قليلا ثم غادر، معطفه الجلدي.. شاله الأخضر.. إنه هو !!

تركت مجلسي بسرعة وانطلقت للخارج خلفه ، تلفتت يمينا ويسارا لكنه كان قد تبخر.. بحثت بالأماكنِ المحيطة فلم أعثر له على أثر.. عدت أجرّ أذيال الخيبة إلى الداخل.. شربتُ رشفاتٍ من فنجان القهوة قبل أن يأتي ذلك النادلُ ويسأل:

– عفوا يا آنسة..هل يمكن أن أساعدك بشيء؟
سألته دون وعي:
-كان هناك شخص يغادر الباب منذ قليل، أظنه كان يحادثك، يرتدي معطفا جلديا أسود، وشالاً أخضر..هل تعرفه؟
فكّر قليلا بعد أن حدّق بالجالسين وهتف :
-آه..تقصدين السيّد وائل ؟! إنه زبون دائم عندنا.
– اسمه وائل إذا..
كذلك همست ثم شكرته .

لدى انصرافي من هناك، كانت آمالي قد تعززت بلقياه من جديد.

**

هو ..

كان يوم عطلة غائم ، رغبت في أن أخرج من المعتزل الذي فرضته على نفسي ، وأستنشق بعض الهواء النقي ، رحت أسير دون هدف بين الشوارع والأزقة التي تراصت البنايات والمتاجر والمقاهي على جانبيها.. وجدت رجلاي تدفعانني دون إرادة مني إلى الشارع الذي فيه البناية التي تسكنها “صبا”، حدقت عن بعد بنافذة شقتها المفتوحة لدقائق معدودة دون أن أجرؤ على التقدم نحوها ، كانت رغباتي متناقضة ومشاعري مشتتة ، رؤيتها والبعدُ عنها في آن واحد ، خانتني شجاعتي وعدتُ أدراجي لأتجه للمقهى ، تلبية لحاجة مزاجي المتوتر لفنجان قهوة مع سيجارة ، وما كدت أصل إليه حتى وجدتها منتصبة أمامه.

مصادفةٌ أم قدر ، لا أعرف تحديداً ما الذي حدث ، كل ما فهمته أن العديد من الإشارات تقودني إليها ، بملابسها البسيطة ووقفتها الواثقة ، بدَت لي حينها أجمل بكثير من صاحبات الكعوب العالية والشعور المسدلة ، دخلَت هي إلى المقهى.. فيما انتظرتُ أنا لدقائق قبل أن أتبعها، ألقيت نظرةً من الباب الزجاجي لأعرف مكانها ،كانت تجلس بالزاوية غارقة في القراءة ، اتخذت قراري لحظتها..سأرمِي الطعم وأنتظر النتيجة.

دلفتُ إلى الداخل، وفي انتظار فرصة لجعلها تراني حادثت إحدى الندل والذي كان من معارفي..

سألته:
– أرأيت تلك الفتاة التي في الزاوية؟!
نظر إليها نظرة خاطفة ثم قال:
– ما قصتها؟
– لا توجد قصة، سأغادر بعد قليل، إذا سألت عني أخبرها أني زبون دائم هنا، وأدعى “وائل”.
أجاب ضاحكاً:
– كل هذا ولا توجد قصة !!

تجاهلته لمّا تطلعت لتعابير الدهشة وهي تجتاح وجهها عندما لمحتني ، سارعت أنا بالرحيل واختبأت خلف باب البناية المقابلة ، وبعد لحظات أحسست بسعادة لا مثيل لها تغمرني وأنا أراها قد لحِقت بي وأخذت تبحث عني في الأرجاء.

**

هي ..

في اليوم الموالي وصلت إلى المقهى عقِب الظهيرة بعد أن أخذت نصفه التالي كإجازة ، كنت أتمنى أن أجده هناك، ولكن آمالي كانت قد تلاشت ، جررت رجلاي بتثاقل وجلست بمكاني بالأمس ، كنت سأطلب كأس ماء وأغادر ، عدلت عن ذلك وجثمت هناك أترصد كل زبون قادم من الباب علّه يأتي ، بقيت لأكثر من ساعتين على هذه الحال ، تسلل السأم إلي ، وعقدت العزم على الرحيل.. فطلبت النادل لأسدد الفاتورة وأمضي..

طأطأت رأسي لأبحث عن فكّة نقود داخل حقيبتي ، وأخيرا عثرت عليها.. وما إن رفعت رأسي حتى وجدته جالسا أمامي..

بذهول تام حدقت به طويلاً قبل أن أستيقظ على صوته يقول:
-يبدو أنك انتظرتِ طويلا..
لم أنبس ببنت شفة.
ابتسم ابتسامة صافية ثم أردف:
-بالنظر لمعلوماتي عنك ، ينبغي أن تكوني في العمل الآن.
فقدتُ القدرة على النطق.

صرف النادل ، ثم ربع يديه وظلّ يتأملني، بعد دقائق من الصمت كنت قد وثبت إلى رشدي ، فقلت معتذرة:
-أنا آسفة..
– بشأن ماذا؟!.
-لصراخي عليك يومها، من حينها وضميري يعذبني، خاصة أنك اختفيت بعدها…

مقاطعاً بثقة :
– فبحثتِ عني كثيرا لتعتذري، وأخيرا وجدتني بمحض الصدفة !!.

ضحِك قليلا وقال:
-لم تكن صدفة في الحقيقة، رأيتك تدخلين المقهى فتبعتك وتعمدت أن أجعلكِ تلاحظينني، ثم تكفَّل صديقي”النادل” بالباقي.
لم أستطع كتم دهشتي وغضبي في نفس الوقت ،فصحت به وقد امتلأت حنقاً:
-هل تتلاعب بي؟!.
-ليس تماما يا آنسة..”صِبا”، أليس هذا اسمك؟!.
-كيف عرفته !!
أجاب ضاحكاً :
– من دليل الإجرام الذي كان بحوزتك ذلك اليوم..

جعلتني تهكماته أندم على كل ثانية قضيتها أفكر فيه و أبحث عنه ، فتمالكت أعصابي وحملت حقيبتي لأغادر…
– تشبهينها كثيرا..وكأنكِ نسخةٌ صغرى عنها.
جذبتني حروف كلماته.. لمست الألم بين ثناياها..شدّتني بقوة نحوها ، و ما كان منّي إلا أن انصعت لها وجلست.

**

هو ..

كنت على يقينٍ تام أنها ستعود إلى ذات المقهى ، لذا مع منتصف نهار اليوم التالي وقفت أنتظرها على رأس الشارع لأكثر من ساعتين , مع علمي أنه يوم عمل لها ، لكنّها الثقة بإحساسي الذي لم يخذلني يوما.

ظهرت أخيراً .. اختبأتُ كي لا تبصرني، ثم تبعتها إلى المقهى، كنت سأدخل وأقابلها.. لكن أردت التأكد ما إن كانت ستنتظرني أم لا ، فانتظرتني..وكأني كَتبت عليها الانتظار منذ عرفتها ، بقيتُ لفترةٍ طويلة أراقبها وهي ترقَب المدخل والقلق بادٍ على محياها ، وحين يئِست و همّت بالرحيل.. خفت أن أفقدها فدخلت .

مازالت ملامح ذهولها وهي تراني أمامها راسخة في ذهني لحد الآن ، ابتلعت بعدها دهشتها واعتذرت عمّا حدث سابقا ، استفززتها كالعادة.. لا أعلم لمَا كنت أحب رؤيتها غاضبة ، كانت ستترك المكان وترحل لولا أنّي أوقفتها قائلاً والألم يعتصرني :
– تشبهينها تماما، وكأنك نسخة صغرى عنها..
– أشبه من؟!.
قالتها بتعجب بعد أن عاودت الجلوس من جديد.
– والدتي، عندما صادفتك لأول مرة، ظننتك لوهلة أنها هي.
– أها..هكذا إذن ، وأين هِي الآن؟!
أجبتها مؤنباً :
– توفيت منذ شهر..صباح اليوم الذي صرخت فيه في وجهي.
ردّت بأسف:
– أنا أعتذر حقاً، لم أكن أعلم.
قلتُ بثقة وجرأة :
– لا بأس..والآن هلاّ تعارفنا من جديد.

**

هي ..

“وائل” كان شاباً هادئاً نوعاً ما، مرحاً أحيانا.. وما كانت ثرثرته الطويلة سابقاً إلا كنوع من لفت الإنتباه ، كان يعلم أن هدوءه لن يجذبني إليه ، فكأنه قرر صنع شخصية أخرى مناقضة لشخصه..

أخبرني أننّي أشبه والدته ، وهذا ما جعله يهتم بي، وفي ذلك اليوم البائسِ كان قد سمِع خبر وفاتها بمرض السّرطان ، أسِفت لحاله خاصة عندما قال أنه لم يرها منذ أشهر طويلة، خِلاف عائلي.. ولم يزد أكثر من ذلك ، يعمل كصُحفي حر، ويسكن غرفة مستأجرة..

مرّت بضعة أشهر كنا نلتقي بزاويتنا الخاصة مرات كثيرة بالأسبوع ، نتبادل الأحاديث.. نشرب القهوة ،ثم أستغرق في القراءة فيما يعكف هو على تجهيز مقالته لليوم الموالي، وَرغم توطد علاقتنا مع الأيَّام والتي لم تكن تندرج تحت أيّ مسمى، يبقى الحاضر هو المسيطر فيم يتجاهل كلانا أن يسألَ عن ماضِي الآخر أو حتى يلمح إليه .

**

هو ..

مرّت الأيام تتلوها الشهور، وعلاقتي بصبا تتوطد أكثر فأكثر ، تجنبتُ الحديث فيها عن ماضيّ وعائلتي ، ولم أسألها بدوري عن ماضيها شيئا.. فوِلادتها بنظري كانت باللّحظة التي رأيتها بها في المحطة لأول مرة.

غرقتُ في “صبا” لغاية آذاني ، أحببتها بكل كياني.. أنا الذي لم يحب قبلها فتاة قط ، باستثناء بعض المغامرات العاطفية البسيطة أيّام الجامعة ، كانت تشبهني قليلاً ، وتفهمني كثيرا.. أحسستُ بمشاعرها الصادقة تجاهي ، قرأتها من لمعةِ عينيها وابتسامةِ ثغرها حين تراني.
لطالما كنت ماهرا بالتلاعب بالألفاظ لكتابة مقالة أو عمود ما بالصحيفة ، لكن غدرت بي كلُّ كلماتي ولم أجسُر على قول جملة من ثلاث كلمات..”أحبكِ يا صبا”..

**

هي ..

“سيرين” ابنة مالكة المحل وأقرب صديقة لي أو بالأحرى الصديقة الوحيدة ،عرفتها وقت كنت أدرس بالمرحلة الثانوية ، كنا نلتقي كل فترة إما لشرب القهوة أو تناول العشاء خارجاً، فبصفتها تعمل كموظفة بشركة خاصة لا تملك الكثير من الوقت..

كنت راضية عن الهدوء الذي يلف علاقتي بوائل ،شاب محترم ويعجبني، أرتاح إليه وأستمتع برفقته، ولنا الكثير من القواسم المشتركة، لا أنكر أنني أكنّ له المشاعر ،لكنّني لم أكتشف ماهيتها بعد..أهي صداقة أم…
– حب..
هتفت “سيرين” ضاحكة.
– ماذا ؟!
-أنتِ مغرمة يا “صبا” لا تنكري ذلك ، إنني أرى ذلك في عينيك..إنهما تلمعان عند ذكرِه.

بحركة عفوية نزعت نظارتي ثم دلكت عيني..

-ومجنونة أيضا ! اسمعي..هل بدر منه أي شيء يوحي بعواطفه تجاهك ؟!.

شربت رشفة من كأس العصير الذي كان أمامي ثم أجبتها دون حماس:
– يقول أنني أشبه والدته..وأنه معجب بشخصيتي.
-بالطبع.. ولن يعتبركِ إلاّ صديقا ورفيقا لا أكثر.

نظرت إليها متعجبة فأكملت ساخرة:
إذا كنت تملكين مرآة فانظري إلى نفسك، هل هذا منظر فتاة ؟! تخفين أنوثة وجمالاً خلف ملابس كملابس الرجال ونظاراتٍ من أيَّام جدتي…

قاطعتها:
– عرفنِي هكذا، وهذه أنا ، ولن أتغير من أجل أيّ كان، إذا كان يهمه الجوهر فهو يعرفني أما إذا كان يهتم بالقشور فهذا شأنه..
– وهل تعاملك مع ذاتكِ على أنك فتاة سيسيء إلى كبريائك ؟! أنتِ حمقاء.

تجاهلتها و شردت بطعامي ، إلى أن باغتتني بسؤال مفاجئ:
– هل يعلَم عن ماضيكِ شيئاً ؟.
– كلا..

أحسست بالكدَر لسؤالها سيما وأني أحاول تناسي الموضوع قدر المستطاع، فأدركت رفيقتي ذلك ، وحاولت تغيير الموضوع بسرد حكايا وقصص طريفة ،كنت أسايرها وأتصنع الإبتسامة ولكنّ دواخلي..كانت تتمزق.

**

هو ..

كانت تلكَ اللّيلة حين عدتُ إلى غرفتي من سهرة ممتعة قضيتها مع “صِبا”، قررتُ بعدها أن أعترف لها بمشاعري وأجيب عن السؤال الذي تطرحه عيناها كلما التقيتها..”ماذا أكون بالنسبةِ إليكَ يا وائل” وفي أقرب فرصة.

دقّ بابي على غير العادة، وفور أن فتحته تمثل لي الشيطان واقفا بصورة شخصٍ يسمى بوالدي، فتبخرت كل السّعادة التي كانت تعتريني.

نظر إلي بنظرته الساخرة والتي تجعلني أستشيط غضبا وقال:
– أراك أنيقاً هذه الليلة،هل تزوجت دون علمي؟!.

ولج إلى الداخل دون دعوة مني، وراح يجوب الغرفة ويقلب الكؤوس والزجاجات الفارغة ثم استرسل قائلا:
-ألا يوجد شيء صالح للشرب هنا؟
تمالكتُ أعصابي قدر المستطاع، ثم جلستُ وأجبته بكلام مبطّن وهادئ:
– غرفتي ليست ببارٍ ولا خمّارة..
جلس قبالتي وقال:
– ألن تغفر لِي يوماً ؟،والدتك سامحتني منذ زمن.
– ذلك شأنها، أما بالنسبة لي ستظل عدوي وللأبد..

مد يده إلى علبة السجائر خاصتي وأشعل سيجارة راح ينفث دخانها ببطء ويحدق بي بصمت، شعرتُ بالاختناق من رائحة السجائر الممزوجة برائحته العفِنة التي لم أطِقها يوما ، أسرعت لفتح النافذة رغم برودة الجو..حين سمعته يقول بثقة:
-هل تعلم أنك تشبهني؟!.
تنهدت بأسفٍ قائلاً:
-قدرٌ لا مفر منه..
أجاب جازماً بصواب رأيه :
-لا.. لم أقصد الشكل الخارجي فحسب، أنت لا تعلم أنّي عشت طفولة سيئة ومريرة مثلكَ.. أصبحتُ أنا كوالدي وستكون أنت مثلي، الغضب المكبوتُ داخلك سينعكس عنفا في المستقبل، عليكَ أن تعِي هذا تماما يا بني.

قبضتُ يداي اللّتان كانتا ترتعشان من الغيظ والغضب حتى لا أقوم بفعل طائش، ثم صحتُ فيه:
– لست ابنك.. هذا أولا ، وثانيا..من أنت لتقرر مصير حياتي؟ ،وأخيرا.. أخرج من هنا وإياك أن ألمح ظلّك مرة أخرى، لن أتقاعس ساعتها عن فعلِ أي شيء .

قام وسار بخطوات متثاقلة نحو الباب، وقبل أن يغادر همس بخبث:
– هذا بالضبطِ ما كنتُ أقصده.

أيقظَ فِيَ ذلك الشيطان بركان غضبي الذي أخمدته منذ سنين حتى أقدر على العيش بهدوء، انفجرت.. وأطلقت العنان لغضبي وثرتُ على كل ما هو ماديٌ بالغرفة ليستحيل حطاماً وخراباً..

بعد أن هدأت لملمتُ ثيابي وبعضاً من أغراضي وتركت الغرفة والمدينة و”صبا” و سافرتُ إلى حيث تقودني قدماي.

**

هي ..

اختفى..

أجل إختفى ، أسبوعان كاملان لم أسمع عنه شيئاً ، هاتفه مغلق.. لم يعد يأتي للمقهى، لم أكن أعرف له ولا صديقا، غير النادل الذي أخبرني أنه لم يره..

طوال سنوات عمري الماضية طوقت حول قلبي درع حماية أتقي به سكاكين الحب ونِشابه.. فأنا لا أملك تلك القوة التي تؤهلني للوقوف بوجه أزماته ، مصاعبه وعثراته.. وها هو الدِّرع يسقط ويسدد “وائل” سهماً غُرِز بعمق قلبي و ببراعة.

بُعده جعلني أكتشف أن الحياة خاوية من دونه ، شعرت بوحدة رهيبة تتغلغل لأعماقي ، سيطرت عليّ حالة فظيعة من اليأس والإحباط ، و باتت المخاوف والهواجس والشكوك تنهشني.. “أيعقل أنه علِم بشيء ما؟!” ، لا يمكن..كنت أراجع كل لحظة بآخر لقاء بيننا كل دقيقة.. كل حركة.. كل تفصيل.. هل فعلت ما أغضبه ؟!.
كان طبيعيًّا يومها ، بل إنّه دعاني للعشاء، تحدثنا كثيرا وضحكنا واستمتعنا بسهرة رائعة.

**

هو ..

أدركت بعد خمسة عشر يوما قضيتها منعزلاً جانب البحر ، وبعد سيلٍ من الأفكارِ المتضاربة أن لا قوةَ لي على المضي بالحياة دون “صبا”، رغم خوفِي عليها مني إلا أنّي سأناضل حتى لا أدع حياتي تسير وفق أهواءِ ذلك الوحش، أنا من أتحكم في زمامها وأسيّرها وفق ما أريد, ولن أكون مثله ولو بعد ألفِ سنة.

عدت إليها ، صدّتني بالبداية ، أغلقت بابها في وجهي ورفضت أن تكلمني ، لكن إلحاحي عليها جعلها تخرج عن صمتها ، سرنا معا لغاية المحطة وجلسنا ، كنت أرى الكثير من التساؤلات على وجهها ، تبعثرت كلماتي هنا وهناك ولم أجد سوى أن أقول” أنا آسف على غيابي يا حبيبتي”.

وكأني أعيش ذكريات تلك الليلة مرتين ، كلّما استرجعت أحداثها ذُهلت لقوة تأثير “صبا” علي ، جعلتني بضع اعترافاتٍ منها أذرف دموع ماضٍ كامل أمامها ، وأضرب بكل مبادئ الرجولة المصطنعة عرض الحائط، بكيتُ بحرقةٍ بين أحضانها التي وضعتُ فيها أوزارِي ، فوسِعَت كل آلامي الخفيّة وأحزاني الدفينة.

**

هي ..

في اليوم السادسِ عشر وعلى الساعة العاشرة ليلاً، دُق باب شقتي على غير العادة ، فلا أحد يزورني غير “سيرين” التي تخبرني بقدومها قبلاً، فتحته غير آبهة بمن وراءه..

كان “وائل”..واقفا منتصبا أمامي و ينظر إليّ بابتسامة خرقاء..
أغلقت الباب في وجهه…ببساطة.
-“صبا”..افتحي رجاءً .
لم أكترث له..
-“صبا” افتحي الباب وسأشرح لك.
لم أعبأ به..سأرد له الصّاع صاعين..
-“صبا”، إن لم تفتحي ، أقسم أنني سأكسر الباب..

تملكني الذعر أن يفعلها ، عندها سأكون علكة بأفواه الجيران وفاكهة مجالسهم.. فسارعت لفتحه ثم رشقته بنظرات اتهام وقلت :
– انتظرني أسفل البناية ، دقائق قليلة وسأوافيك إلى هناك.

سرنا لأكثر من نصف ساعة ، لم نتخاطب إلاّ بلغة الصمت ، رحت أتأمل وجهه من خلال سحابة الدخان التي لا تفارقه، ذلك أنه كان مدخنا شرِها، بدا شاردا.. مشوشا وحائرا.

لاحظت أننا وصلنا إلى محطة المترو.. كان المكان هادئا.. جلس على أحد مقاعد الانتظار ، جلست بقربه ثم نطقت بعد أن ارتديت قناع الغيظِ الذي أخفيت خلفه شوقي وحنيني إليه:
– ماذا تريد الآن ؟.
– أنا آسف.
– علامَ الأسف؟.
– أنت تعلمين.
– إذا كنت تقصِد اختفاءك المفاجئ، فذلك شأنك ولا حقّ لِي بمساءلتك.
– أنتِ الوحيدة التي تملك هذا الحق..
– هه..ولماذا ؟ ألأنني أشبه والدتك؟
صمت للحظة، ثم أجاب وكأنه يزيل ثقلا كبيرا عن كاهله:
– لأنكِ حبيبتي..

رغم برودة الجو هبّ نسيم دافئ لفح وجهي ، فأحسست بالدفء يغمرني، راقبت عيناه اللّتين كانتا تشيان بالصدق، فما كان مني إلاّ أن اتخذت قرارا حاسما وفي ذلك الجزء من الثانية أن أكون صادقة أنا الأخرى ، ولا أبقى رهينة لسرٍّ سيكشف عاجلاً أم آجلاً..
– لكنك لا تعلم عن ماضيّ شيئا.
– أنتِ”صبا”حبيبتي وهذا يكفيني.
– الحقيقة مرّة..
– لا تعنيني..
– أنا لقيطة، ابنة غير شرعية.. عُثر عليّ ملقاة في العراء، وترعرعت بإحدى دور الأيتام.

بهت قليلاً ثم أطلق ضحكة طويلة مزقت سكون الهواء من حولنا.. ضحك وضحك وضحك وأنا أراقبه بذهول حتّى ظننت أنه قد جنّ نتيجة الصدمة..
– أهذا ما يخيفك؟! أن لا أتقبلك فقط لأنك نتيجة علاقة آثمة لا ذنب لكِ فيها ؟!
كذلك صاحَ بعد أن داس عقب سيجارته الأخيرة..
– أنت مخطئة يا عزيزتي، يبدو أنك لا تعرفين “وائل” جيّدا.. ثم ما قيمةُ العائلة إذا كان ما يجمعهم فقط نسَبٌ وورقة مختومة تثبت شرعيتهم ؟!

ماذا جنيتُ مِن والدٍ سكير عربيد كان يقضى أيامه بين الحانات والمواخير ، ويترك خلفه امرأة بائسة تموت كل يوم ألفَ ميتة كي توفر مصاريف ولديها.. وبالأخير يأخذها ليصرفها على ملذاته !
ماذا جَنيتُ من أخٍ ما إن اشتدّ عوده حتى رمى وراءه كل شيء وسَافر دون رجعة.

أدركتُ أن هذا هو سبب مسحةِ الحزن التي كانت تكسو وجهه كلّما التقيته، بقيت محدّقة به كالبلهاء ولم تسعفني أي كلمةٍ لمواساته ، فيمَ أسند هوَ راحتي يديه على جبينه وقال بكلمات هادئة تسقيها دموع حارقة لأول مرة يذرفها أمامي:

– رجوتها كثيراً.. توسلت إليها أن تأتي معي ونتركه وحيداً ليتحمل جزَاء أفعاله ، رفضت رفضا قاطعا قائلةً أنها لن تدَع شريك عمرها وترحل، أي حب ساذج وأي وفاءٍ أحمق هذا؟ شريكُ عمرها !! لقد حكَم علينا بالبؤس المؤبد، كان القاضِي والسَّجان والجلاد، تحملنا منه ألوانا من العذاب وخاصّة هي..

اشتعلتُ غضبا منها وحزمتُ حقائبي ورحلت ، تركتها مع شريكِ حياتها لتهنأ معه باقِي عمرها الذي بتره المرض، لم أكن أعلم أنه فتكَ بها.. وستودِّع الحياة قريبا.

النّدم يقتلني يا “صبا” ، ليتني لم أتركها، ليتني فهمتها، ليتني ساندتها آخر أيامها، عاشت معذبة وماتت كذلك…

ازدادت حدّة نشيجه، وظلّ يردد الجملة الأخيرة بيأس، حزنه وألمه جعلاَ كل أحزاني تفيض لتملأني قهرا، تراءت لي كل ليالِي الشقاء والتعاسة.. الجوع والوحدة، التي لازمتني لأكثر من عشرين سنة قبل أنهض على قدمِي وأقاتل لأعِيش.

انخرطتُ بنحيب مرير.. تمزق قناعي وتعرّت عواطفي أمامه، فلم أملك إلا أن أرتمي بين أحضانه لأبكي ألم فراقه وبعاده، أشدّ من أزرِه وأواسيه، وأحاول أن أخفف أوجاعه وأبث الأمل فيه ما استطعت.

كانت ليلةً قاسية.. وبالمقابل بدايةً لأيام سعيدةٍ لا تُنسى.

**

هو ..

ارتاحت نفسي مع “صبا” ونبذتُ تقوقعي على ذاتِي ، رغم المخاوف والهواجس التي تعكر علي بين الفينة والأخرى ، لم أشأ تعكير الصفاء الذي كان يلف علاقتنا ، فلأنها كانت تسعى جاهدةً لتعيد ترميم الصّدع الموجود بحياتي ، قمعتها بكل ما أوتيت من قوة.

**

هي ..

حلّ الرّبيع.. وجلب معه الأمل مرافقا لتفتح براعم الأزهار، بدأت الأشجار تستعيد حلتها الخضراء الزاهية، واستعدت أنا أحلاما دفنتها منذ أمد بعيد ، كنت أستمع إلى تغريد الطيور كمعزوفة يطرب لها قلبي ويتراقص فرحا على أنغامها..

اكتشفت جمال الحياة وروعة العيش برفقة “وائل”، وذقت طعم سعادةٍ حرِمت منها طويلا، قضينا أوقاتا رائعة، حافلة.. صاخبة ومميزة ، شاركتنا فيها الطبيعة الخلاّبة و قاعات السينما وحتّى مدن الألعابِ و الملاهِي ، استرجعنا طفولتنا الضائعة وأحلامنا المسروقة.. وآمالنا الموءودة.

اعتقدت حينها أنني استطعت أن أطرد سحب الكآبة العائمة على حياته ، وفلحت في إذابة جدران الجليد الفاصلة بيننا، وأننا بتنا أقرب من أي وقت مضى.

ولكن..

**

هو ..

بعد فترة كنا عائدين بأحد أيام العطلة من قاعة السينما ، بعد دعوتي لها لمشاهدة فيلمِ خيال علمي ، لعلمي أنها تعشق هذا النوع من الأفلام ، تأبّطت ذراعي ونحن نسير وقالت بفرحةٍ طفولية:

– زواج “سيرين” نهاية الشهر ،كم أنا متحمسة لها.

جفلت للحظات وانتابني شعور بالقلق، لا أعلم لماذا، هل بسبب ذكرها لصديقتها التي لا أطيقها لسبب لا أعلمه، ربما يكون كرها متأصلاً بنفس كل رجل تجاه صديقة حبيبته ، أم لِلفظها كلمة “الزواج” تحديدا.

قلت:
-أبلغيها تحياتي وتهاني الحارة.
-ماذا؟! ألن تحضر الزفاف معي؟!
-أكره حفلات الزفاف، فهي عبارة عن مظاهر كاذبة وبهرجة زائفة.
أجابت بامتعاض:
– وأنا أيضا لا أحبها يا”وائل”، ولكنه زواج “سيرين”، وأنت تعلم ماذا تكون بالنسبة لي.
– حسنا.. سأفكر بالأمر ولكنّي لا أعدك.

في مساء اليوم التالي، جعلتني أقابل “سيرين” التي دعتني شخصيا ولم أجد مفرا من قبول الدعوة.

**

هي ..

قَرب موعد زفاف “سيرين” وكثرت انشغالاتي معها، لدرجة أني صرت لا أراه إلاّ لماماً.. ساءه الوضع كثيرا، فعلى حد قوله صديقتي خربت كل مخططات العطلةِ.. كنت منزعجة لأجله.. ولكن “سيرين” تستحق كل تعبي ووقتي ، فهي الفتاة التي انتشلتني من وحدةٍ قاتلة وساندتني عندما أغلقت كل أبواب الحياة في وجهي.

لم يكن راضيا عن حضور الزفاف، رغم أنها طلبت إليه ذلك شخصيا وأرسلت إليه بطاقة دعوة، قال أنه يكره حفلات الزفاف وضجيجها ، في الحقيقة لم أكن بأفضل منه و”سيرين” تعلم ذلك، ولكنني كنت مضطرة لأجلها.. فوافق نزولا عند إلحاحي ووعدني بحضوره.

**

هو ..

في ذلك الشّهر كثُر غياب “صبا” وبسبب انشغالها مع صديقتها، ممّ جعل الوساوس تستفرد بي من جديد ، وتدب الذعر في نفسي..

ماذا بعد علاقتنا هذه؟ هل أنا قادر على الزواج؟ هل سأكون زوجا صالحا؟ والأهم.. هل سأسعدها؟

ألف سؤال وسؤال كان ينغص عليّ عيشي ، ولم تكفِ السجائر التي كنت أزدردها خلسة لطردها ، و رؤية “صبا” ليلة الزفاف كانت بالتأكيد النّقطة التي أفاضت الكأس.

**

هي ..

مساء يوم الزفاف وفي غرفة “سيرين” الخاصّة بالفندق الذي سيقام به الحفل، ارتميت على أقرب مقعد وجدته، فرجلاي كانتا قد تورمتا من وقوفي الطويل داخل المحل لأهيأ لها كعكة زفافها الأسطورية على حدّ تعبيرها.

– آسفة حقا يا عزيزتي، تعبتِ كثيرا بسببي.
قالتها “سيرين” وهي جالسة أمام المرآة لتنهي الحلاّقة زينتها.
– لا داعي للأسف، تعبك راحة يا رفيقتي، من يستحق تعبي غيرك؟.
أجابت وهي تغمز ضاحكة:
-“وائل” مثلا !!
ارتسمت ابتسامة على محياي عند سماعي لإسمه.
– هل طلبك للزواج ؟!
– ليس بعد.
– إلى متى يا “صبا”؟ أنتما متفقان، ولا يوجد أي موانع تحول دون ارتباطكما.. بدأت أشكك بـ” وائل”هذا.
-لست مستعجلة على الزواج يا صديقتي.. لازال الوقت أمامنا.
-نحن بمجتمع شرقي، النهاية الطبيعية لأيةِ علاقة حبٍ بين رجل وامرأة هي الزواج..

هاجمتها:
-ما رأيك أن أخبره أن هناك طوابير من العرسان تنتظر إشارة مني !! عندما يكون جاهزا للزواج سيخبرني.. فأنا لن أطير.

ردّت ناصحة :
-قد يطير هو.. ينبغي أن تتذكري أن الكثير من الرجال لا يحبون المرأة المطواعة التي تسايرهم في كل شيء ، لأنّهم يعتبرونها ضعيفة الشخصية.
-أنا صادقة وأكره الخداع والألاعيب ، ولست غبية ولا بلهاء يا “سيرين”، لم يبدر من “وائل” ما يزعجني أو يناقض مشيئتي، إذا لم يعجبني شيء سأوضح له ذلك بكل بساطة.
-كما تريدين..المهم أنك مرتاحة يا عزيزتي.

ثم أردفت بمرح بعد أن قامت من جلستها:
والآن حان دورك لتتزيني.. ودون اعتراض، أنا العروس هنا وأوامري ستنفذ .

بعد ساعة هاتفني”وائل” قائلاً أنه أمام مدخل الفندق ، يريد منّي أن أنزل إليه لندخل القاعة سويّا، فهو لا يعرف أحدا هناك.. هرعت مسرعة إليه رغم ضيقي من الحذاء ذا الكَعب العالي الذي أرغمتني”سيرين”على انتعاله، كنت قد صففت شعري البنيّ وسدلته، وضعت القليل من مساحيق التجميل والإكسسوارات الخفيفة، ثم ارتديت فستانا أسود أنيقا أعجبني أيّام التّسوق للزفاف فقررت شراءه والاحتفاظ به..

وصلت إلى حيث يقف “وائل” بانتظاري مرتديا بذلة رسمية جعلته يبدو كالأمير داخلها، لمحتني عيناه ولكن سرعان ما أشاحَ ببصره عني، وبقي يراقب المدخل متململاً.. ضحكت في سرِّي، واضح أنه لم يتعرف إلي،فتوجهت نحوه باسمة:
-هل أساعدكَ بشيء يا سيدي؟!

تطلع إليّ للحظات بنظرات ثابتة، بدا وكأنه غير مصدق،ثم هتف قائلا:
-“صبا”!!.

عرفنِي من نبرة صوتِي.. أشرت إلى شكلي بفرح عارِم وقلت:
– ما رأيك؟!.

تجهمت ملامح وجهه، ضاقت عيناه ثم…رحل!

لم أفهم شيئا ممّ حصل، ولكنّي تبعته وناديته كثيرا، بُحّ صوتي و آلمتني قدماي ولم يستجب، ظلّ يسير طويلاً، أدركت أنه لن يتوقف، نزعت حذائي وحملته بيدي ثم أسرعت ألاحقه كظلّه..

توقف أخيرا وجلس، وكالعادة..بإحدى محطات المترو..

وضعت يدي على كتفه وتحدثت بهدوء:
-“وائل” مالأمر؟،ما الذي حصل؟
صمت.. وأخرج سيجارة من علبة كانت بحوزته، أشعلها وراح يدخّن..
-ألم نتفق على أن تترك هذا السّم، أفلته من يدك الآن..
مددت يدي لأنزعها من يده فقاومني بخشونة ،أسررتها في نفسِي وجلست قربه وقلت:
-أخبرني فقط ما بِك؟.
– لا أستطيع..
-لا تستطيع ماذا؟.
-الزواج بكِ.

وكأنّ صاعقةً نزلت لتشطر كياني إلى نصفين، تشتتت أفكاري، اضطربت مشاعري، و شعرت بدمعاتٍ تنفلت رغما عني..

لاحظَ صدمتي فاستطرد قائلا:
أتذكرين وقت اختفائي ذاك ؟ كنت ساعتها بصراع داخلي بين حبّي لكِ وخوفي عليكِ ، أتعلمين ممّن؟ من نفسِي يا “صبا” من نفسي..

أنظر للمرآة أحيانا فأرى انعكاس صورتي فيها، ذلك الشبه الكبير بيني وبين ذلك الرجل ،تلك الملامح، وذلك الشرّ القابع خلفها، أخشى أنه انتقل لي، يتحين الوقتَ المناسب ليهجم.. وعليكِ تحديدا..

التّاريخ يكرّر نفسه، سأكون الجلاّد وأنتِ الضحية، لن تُسعدي معي، ستتعذبين وينتهي بكِ المآل كوالدتي..

أنتِ حرّة الآن، الحياة أمامك.. اختاري طريقاً غيري، لن أكون زوجاً ولا أباً صالحاً.. فلا تعقِدي أيّ آمال علي.. فقط سامحيني لأني خذلتِك.

سمعتُه بهدوء للنّهاية، فكرت قليلا ثم وقفت بعد أن استجمعت ربَاطة جأشي، وقلتُ بحزمٍ وجرأة :

-ابتداءً من الغد، سنعكف على زيارة طبيب نفسي، فأنتَ بحاجة ماسّة للعلاجِ يا”وائل”.

**

هو ..

كانت جميلة ، رائعة ، وفاتنة.. للحظات وقفت غير مصدق أنها هي المرأة التي أحببتها ، تساءلت : هل سأعذب هذا الملاك ؟ فتركتها خاذلاً إياها ورحلت.. لحقت بي راكضة ، لم تدعني وشأني ولم تترك لي المجال للهرب ، صارحتها بما يخيفني، الغضب الذي يشتعل بداخلي كل فترة وأخرى ولا أستطيع كبح جماحه, شبهي لذلك الرجل الذي دمّر سعادتي ، باختصار.. أخافُ عليها مني.

كعادتها الهادئة والحكيمة وجدت لي حلاً..العلاج النفسي.

**

هي ..

توالتِ الشهور وبعدها السنوات، لم تنفع معه الجلسات العلاجيّة التي لم يكن يحضر نصفها، يطردني تارة من حياته، ثم يعود ليجدَني بانتظاره تارة أخرى ،حبه كان كالدّم الذي يسري بشرياني فإن أنا حاولت قطعه انتهيت، طلّقت حلم الارتباط به وصرت أعيش على أمل أن أراه مرتاحاً فقط، إن “وائل” إنسان هش ومنكسِر من الدّاخل، من السهل عليه أن ينكفأ على ذاتِه، ويعتزِل العالم بأسره ليستسلم بيأس لثقل ذكرياته التعيسة.

**

هو ..

أصبح جليا أنني بحاجة لأدوية مهدئة ، فقد كانت تنتابني الكثير من نوبات التوتر ، ولكن “صبا” هي من كانت دائي ودوائي.. لم أكن على استعداد لخسارتها أو أن أفرط فيها تحت أي ظرف ولو جعلتها تنتظر العمر بأكمله، لتعتبرها أنانية إن شاءتِ، فأنا في حبي لها كنت أنانيا لأقصى الحدود.

يتملكني اليأس من نفسي أحيانا فأصب جام غضبي عليها، وأدعوها للرحيل.. وحين تهيج أمواج الشوق بداخلي، وأحس بالوحدة والفراغ أعود إليها فأجدها تنتظرني.

رهَنت سنين حياتها لأجلي ، لستُ غبيا حتى لا أدرك ذلك أو لا أرى عينيها وهما تدمعان خفية ، وكل دمعة تحمل معها من الأسى والقهر والعتب ما يجعلني أود لو أقتلع قلبي من مكانه لأقدمه قرباناً تحت قدميها..

ما كنتُ راهبا, ولم أكن لأكذب وأمجد نفسي بأني لم أردها كامرأة طوال العشرِ سنوات الماضية ، بل أردتها كثيرا لا عن رغبة ، بل عن حاجةٍ إليها بقربي.. كنت لأسهل الأمر على نفسي كثيرا، وبيوم واحد كنا سنصبح زوجين شرعيين ببساطة، لكن جُبني المعشش بداخلي كان أكبر من كل أمنياتِي.. أنا جبان، لا أمتلك الإرادة ولا القوة، صرت أرى صورة ذلك الشيطان حولي بكل مكان ،يضحك ساخرا مستهزئا بي ، ولم تكن الأدوية التي يصفها لي الطبيب تجدي شيئا ، فصِرت أمقتُ جلسات العلاج بشدّة.

وفي النهاية..

كنت على دراية تامة أن تصرفاتي وتناقضاتي ستخسرني إياها ذات يوم ، و ستنساب من يدي كما الماء ، وسأبحث عنها ولا أجدها ، فأستسلم لمرارة الهزيمة..وألوح براية الخسران.

جاءتني بعد كل هذه السنوات قائلة أن صبرها وطاقتها نفدا ولم تعد تقوى على المواصلة معي ، رشقتني بكيلٍ من الاتهامات التي كانت مع الأسف حقيقية ، ثم حكمت عليّ بالإعدام ، قائلة أنها ستنسى شخصا عرفته اسمه “وائل”.

والآن.. انقلبت الأدوار وصرت أنا سجين هذه المحطة ، منذ ذلك اليوم الذي تركتني فيه و أشهرت أسلحة النسيان في وجهي.. وكل ليلة أجثم هنا على أحد المقاعد بانتظارها، كنت أعلم أنها محقة، لذا لم أملك الجرأة على الاتصال بها سابقا ،أما في هذه اللّحظة وأنا صادق مع نفسي كما لم أكن في حياتي.. لا أحتاج لإطلاق جملة من الوعود والعهود الفارغة، فخسارتي إياها جعلتني أدرك فداحة ما اقترفته أنانيتي.

**

هي ..

رهِنت زهرة شبابِي على كلمات قاسية و وعود منسيّة..

“دعيني وشأني”، “لا تنتظري مني شيئا ،”ارحلي”..
أو..
“سيتغير الوضع”، “سأتماثل للشفاء”، “سنتزوج قريبا”..

وأخيرا.. طفح الكيل، واستفقت على حقيقة مفجعة ،أنا أنتظر..”سرابا”!! ،سأتركه، لن أتحمّل أكثر.. نفد صبري و خارت قواي، استنزف “وائل” كل طاقتي وصنع مني دون أن يدري نسخة من والدته كان يخاف أن أكونها ، فيما لايزال هو قابعا بمكانه، لم يتحرك قيد أنملة إلى الأمام، وكأنه لا يرى أن السنين تمضي وأيّام حياتنا تضمحل تدريجيّا وتتلاشى، قررت مواجهته ووضعت النّقاط على الحروف..

– كفى..لن أستمر في تجفيف بقايا الدموع ،فيما ملوحة عبراتِي حفرت أخاديداً على وجنتاي..

– سأرتدي من الآن عباءة النّسيان، فالوداع يا “وائل”، الوداع.

**

هو ..

استجمعَ شجاعته ، وكتب بضع عبارات نابعة من أعماق قلبه على صفحة الرسائل بالهاتف ، و لم يتردد لحظة واحدة قبل أن يضغط زر الإرسال..

“على مقعدِ الإنتظارِ الذي لزمتُه..أشم ِريحكِ مع كل قطرةِ مطر”.

**

هي ..

كسَر هدوء الغرفة زخات المطر الغزيرِ وهي ترتطم بزجاج النافذة مرافقة لرنة هاتفها النّقال،التقطته لتجد رسالة واردة، ما إن قرأتها حتى انتفضت واقفة وبحركة عشوائية قذفت الكتاب من يدِها، لينتهي حطَباً لنيران المدفأة، ويُصبح النسيان طيَّ النسيان، فيمَا سارعت هي إلى هناك..

حيث محطَّة الانتظار .

* نسيان : أحد أعمال الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي.

تاريخ النشر : 2018-10-10

وفاء

الجزائر
52 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى