أدب الرعب والعام

كسرة الخبز القاتلة

بقلم : Seema – سوريا

انا جائع يا ابي

في صباحٍ شتوي بارد حجَبَت غيومه أشعه الشمس , فأضحى كئيباً حزيناً يُنذر بهطول دموع السماء في أيّةِ لحظة .. تجمّعت عائلة أبو الحسن خلف نافذة منزلهم المتهالك يتأمّلون غضب السماء , و عندها بدأت الأمطار تعزف ألحانها بموسيقى صاخبة , يتخلّلها صوت الرعد وهو يزمجر , خلف كل وميض بارقة تُنير منزل أبا الحسن , و عيون أفرادها الناعسة تكاد لا تختلف عن الأجواء في الخارج من حيث الحزن و الأسى ..

ثم سقطت دمعة تراقصت بعيون الصبي حسن .. الولد الوحيد للعائلة الفقيرة , حيث قال لأبيه بتردّد :
-أبي .. أنا جائع !

فتحوّلت أنظار الأب المُشفقة نحو ابنه , الذي أخفض رأسه خجلاً و كأنه يطلب المستحيل .. فهو يعلم ما قد تكلّف تلك الكلمة في ظلّ الحصار الذي اُطبق عليهم ..

فأغمض الأب عيناه و جال بنظره مرة أخرى نحو زوجته التي ضمّت صغيرها بدفء , لعلّها تواسي بحنانها دموع طفلها الصغير ..

ثم نهض الأب عازماً و صارماً , بعد ان اتخذ قراراً في نفسه ..

أم الحسن بقلق : لا لن تفعل بما افكّر به !! لن اسمح لك بأن تخرج من المنزل , و الرصاص و القذائف بحدّتها لا تختلف عن الأمطار المتساقطة في الخارج !

الوالد و قد ترقّرقت عيناه بالدموع : و هل تريدين مني , أن أترك ابني الوحيد يموت جوعاً ؟!
ثم يُخفي وجهه عن العائلة الصغيرة , كيّ لا يشعروا بضعف معيلها الوحيد ..

فقالت زوجته :
-إن الله لا ينسى عباده , يا رجل ..

ثم هبّت قائمة .. و هي تكمل كلامها :
-ثم أين ستجد الطعام في بلدةٍ , جميع أهلها يشكون الجوع ؟ فنحن لسنا بحالةٍ فريدة عنهم !

-اسمعي ..سأذهب إلى الشارع المقابل , لعند أبي العبد .. هو خبّاز , و أرجو أن أجد لديه ما يُسند معدة طفلي ..

ثم جثى على ركبتيه مواجهاً ولده .. و مسح دموع الحسن بكفّيه , ثم قال :
-ألم أعلمك ان الرجال لا يبكون ؟ .. سأذهب لآتيك بمطلبك .. فلتكن ولداً مطيعاً لحين عودتي 

-حسناً يا أبي .. سأنتظرك .. أرجوك لا تتأخّر !!
-لن اتأخر بنيّ .. كنّ رجل البيت في غيابي ..

ثم يضع كفّه بكفّ ابنه , و يبتسما سوياً ..

الأم بترجّي و قلق : أبو الحسن .. أرجوك !! لا تخرج .. ليس في هذا الوضع السيء !

يبتسم الأب ابتسامةً محتها تعابير وجهه .. ثم يخرج مُغلقاً الباب خلفه ..

فضمّت أم حسن ابنها بحسرة , و دعت الله أن يحمي لها زوجها من شرور من أصبح لهم شهرين و ايام يحاصرون البلدة الصغيرة المكلومة , لأجل مصالحٍ دنيئة مع أناسٍ من شرّهم “واسعي النفوذ” دون ان يسألوا انفسهم : ما ذنب الأطفال في كل هذه المعمعة ؟!

في تلك الأثناء .. كان أبو الحسن يعبر الطريق مُحتمياً بمظلاّت المنازل من شدّة الأمطار , مُتمنيّاً ان تحميه ايضاً من رصاص القنّاصة .. داعياً الله أن لا يروه الجنود المنتشرين هنا , و خلف المدفعية هناك .. مُتجهاً بحذر نحو خبّاز البلدة , طالباً ما يسدّ به رمق ابنه الوحيد ..

و عند وصوله إلى الجهة المقصودة .. تشبّث بحائط منزل الخبّاز , حامداً ربه على سلامة الوصول .. ثم تنهّد كثيراً و تنفّس بعمق و هو يطرق باب جاره , داعياً الله ان لا يردّه خائباً ..

أبو العبد بصوتٍ مرتجف : من .. من هناك ؟!
ابو الحسن بصوتٍ حذر : لا تخف يا أبا عبد العزيز .. أنا جارك أبو حسن .. افتح حفظك الله 

ففتح ابو عبد العزيز الباب لجاره , قائلاً بدهشة : ما الذي أتى بك الى هنا ؟! حقاً لا أصدق أنك لا تزال على قيد الحياة !

يردّ مازحاً : صدقني و انا كذلك .. قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا , يا رجل ..

ثم يطأطأ رأسه دون ان يلفظ الكلام , الذي وقف على رأس لسانه..

ينظر إليه أبو عبد العزيز باستغراب ! ثم يهمّ بإدخاله لفناء داره بعد ان إغلق الباب خلفه , كيّ لا يراهما احد من ميليشيا الأعداء .. و قد اعتذر منه لعدم امكانه إدخاله المنزل , بعد ان تجمّعت عائلته بأكملها لتحتمي بقريبهم الخبّاز الطيب ..

-لا عليك يا أبو العبد .. انا لم آتي لأجلس .. اتيتك قاصداً ولوّ رغيف خبزٍ واحد , و أنا خجلٌ منك .. لكن إبني الحسن ……

-رجاءً لا تكمل .. فالناس لبعضها , ايها الجار الطيب .. و إن خليَت خرِبَت (مثلٌ مشهور) .. انتظرني دقيقة هنا , ريثما أعود لك بالقليل ممّا تبقى لديّ .. و أرجو أن تعذرني , فأنت أدرى بالحال ..

-أيّ شيء !! أيّ شيء يا أبو العبد , و سأكون مُمتناً لك .. لا أريد سوى ما يُبقي ابني على قيد الحياة ..

يبتسم الخبّاز واضعاً يده على كتف جاره , و يستأذنه لدقيقة ..

نظر أبو الحسن للسماء مُبتهلاً مُتضرّعاً , و قد اختلطت دموعه بقطرات المطر المتساقطة فوق فناء المنزل العربي ..
-شكراً لك , يارب !! شكراً لأنك لم تخذلني أمام ولدي ..

و بعد قليل يعود الخبّاز برغيفين يابسين , و يقول و هو يعطيه إيّاهم :
-استميحني عذراً , أيها الجار العزيز .. لكن صدّقني , هذا آخر ما تبقى لديّ .. فقد نفذ جميع الطحين من منزلي و الدكان

فشكر أبو الحسن جاره , بعد ان فرح بالرغيفين كفرحته بقدوم مولوده الوحيد .. ثم دعى له بالسلامة ..

و خرج مُحترساً , ضامّاً الرغيفين لصدره , و عازماً الرجوع لوحيده “حسن” ..

في طريقه الحذر و أثناء تلفّته يُمنةً و يُسرى , و هو يستعد لقطع الشارع إلى الرصيف المجاور .. و ما ان ابتعد عن جدار إحدى المنازل , حتى تفاجأ بفوهة بندقية مُلتصقة برأسه !

فحاول على الفور ان يخبئ الرغيفين بين قبضة يديه المرتجفتين , قبل أن يأتيه الصوت من جانبه 

-يا للمفاجأة !! ماذا لدينا هنا ؟
ثم ضحك ضحكةً مُستهزئة ….

فالتفت أبو حسن لمصدر الصوت بحذر , فكان لإحدى أفراد تلك العصابة الهمجية .. و بعد أن بلع ريقه بصعوبة , ردّ أبو الحسن :

-س .. سيد ..سيدي .. لقد كنت عائداً لمنزلي .. انه هناك ..خلفك بقليل .. صدّقني !! انا لم أبتعد كثيراً عن المكان ..

-الله الله !! و هل تحسب دخول الحمام مثل خروجه , أيها الصعلوك ؟!!

فانحدرت دمعة شقّت طريقها بصعوبة على وجّنة أبي الحسن .. ليس على نفسه .. فكل ما كان يشغل تفكيره في تلك اللحظة , هو ابنه الذي كان في انتظاره ..

فقد أدرك أنه على بعد خطوات : من الموت حسّرة , أو الإعتقال قهراً , أو الإستعباد ذلاً ..و رجى ربّه يائساً : أن يكون مصيره هو الخيار الأول !

و هنا تقدّم نحوهما , شخص بدا و كأنه رئيس العصابة , و كان يحمل بيده عنقوداً من العنب , و يدحرج حبّاته داخل فمه القذر بكل برود ..

نظر أبو الحسن للعنقود الذي يحمله القائد بحقدٍ مُبّكم .. فقد أدرك إلى من تذهب خيرات بلدته , التي حُرِمَ منها طفله ..

و يقطع ذاك الصوت الأجشّ المُكره حبل أفكار أبو حسن , مخاطباَ إيّاه بعد أن اتكأ على طرف بندقيته :

-هل انت مجنون يا ولد ؟! أتخرج من بيتك كطعمٍ لنا , لأجل رغيفين يابسين ؟! تعال إلينا وخذّ ما تريد , فنحن كالأهل هنا ..اليس كذلك يا رجال ؟

ثم ضحك بهستيرية , مُتزامناً مع صدى ضحكات جنوده من خلفه , الذين خلوا من ايّةِ مشاعر انسانية !

يردّ ابو الحسن بتوتّر : إن كان رغيفا الخبز لا يعنيان لك شيء , فهما الآن بالنسبة لي كل شيء .. لذا أرجوك .. دعني اوصلهما لإبني اولاً , ثم افعل بي ما تريد .. رجاءً سيدي !!

-حسناً حسناً .. أنا موافق .. لكن بشرط !! تذهب انت لإبنك , و تذهب أمه معنا .. أليس هذا عدلاً , يا رجال ؟!!

فيصيح الأنذال من خلفه , ككلابٍ مسعورة مُشجّعين الفكرة !

فيبصق أبو الحسن في وجه القائد , و يردّ بغضب : خسئتمّ أيها الأوغاد !!

فيُسقط القائد عنقود العنب من يده بغضب , و يمسح البصقة من على وجهه و الشررّ يتطاير من عينيه .. ثم يمسك بأبي الحسن بقوة و يهزّه بعنف , حتى أسقط الرغيفين من يديه , و تلطّخا بمياه الأمطار .. بينما عينا ابا الحسن تقابلان عينا ذلك المجرم , و توازيهما غضباً و حقداً , بعد أن أخفى خوفه ..

القائد بغضب : كيف تجرؤ أيها الجرذ الحقير ؟!! .. كيف تجرؤ ؟!!

فاكتفى ابو الحسن بإبتسامةٍ ساخرة , و التي بالرغم من انها لم تتجاوز الثانية الواحدة , الا انها بيّنت للقائد حجمه الوضيع

فصفعه القائد بقوة .. لكن ابو الحسن حاول ألاّ يركع أمامه , حيث اسرع بإسناد ظهره على الجدار كيّ لا يسقط ..

ثم ادار القائد ظهره , بعد ان اعطى الإشارة لرجاله بأن يجهزوا عليه ..

فأغمض أبو حسن عيناه , و هو يلفظ آخر كلماته بحزن : “سامحني بنيّ” ..

ثم تعالت أصوات الرصاص و صياح الذئاب البشرية في الخارج ..
فهرعت أم حسن بضمّ طفلها بقوة , بعد أن نخزها قلبها لأمرٍ سيءٍ قد حصل .. و بدأت بذرف الدموع على إثر هذا الإحساس القويّ و المرعب ..

الصغير حسن : أمي .. أين ذهب أبي ؟ ألم يتأخّر؟
-ذهب ليأتي برغيف الخبز الذي طلبته منه , يا حبيبي .

-لكني لم أعد أريده , يا امي .. أريد فقط ان يعود ابي الينا !!
الأم بحسرة : سيعود يا بنيّ …. سيعود ….

أمّا الرغيفان , فقد صُبِغا باللون الأحمر القاني .. و أصبحا غضّان , كجسد بطل ” كسرة الخبز القاتلة ” !

تاريخ النشر : 2016-03-01

Seema

سوريا
guest
44 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى