أدب الرعب والعام

كن شجاعاً

بقلم : منار عبدالهادي – العراق
للتواصل : [email protected]

كن شجاعاً
وراح يسرح بخياله نحو الحياة الجديدة التي سيعيشها مع حبيبته

وقف عند الحافة العليا للسلم وهو يحدق إلى الأسفل ! السلم الذي كان يعبر منه كل مرة جيئة وذهاباً لنقل المخاطبات الرسمية بين قسم الاستثمار الذي يعمل فيه والواقع في الطابق الثالث من المبنى الذي تشغله إحدى شركات التأمين الحكومية والتي يعمل فيها موظفاً وبين باقي أقسام الشركة التي تقع في الطوابق الأخرى ، يتردد هذه المرة في اجتيازه على الرغم من احتواء المبنى على مجموعة من المصاعد الكهربائية إلا انه يفضل دائماً استخدام السلالم .

– لا أحب أن أقف منتظراً أمام المصعد كما أن في ذلك رياضة.

هكذا كان يجيب حسام سائليه في الغالب على الرغم من أن الوقت الذي يستغرقه انتظار المصعد لا يتجاوز ثواني معدودات .

أمسك بالدرابزين و نزل الدرجة الأولى من السلم ، لكنه توقف من جديد ، فكر بالفعل الذي يروم القيام به , بالكلام الذي سيقوله , فكر باحمرار وجنتيه وبالعرق الذي سيتصبب من جبهته رغم بردة الجو وبالرد الذي سيجابه به في المقابل ، نزل الدرجة الثانية ليقف مجدداً ، فكر هنيهة بالكلام الذي سيقوله الموظفين عنه ، ثم نزل درجة أخرى ، تأمل إلى الأسفل من جديد متذكراً انه وقف على نفس الدرجة في اليوم السابق عندما قرر تأجيل الأمر إلى اليوم التالي وان يعود من حيث أتى .. 
وقف لبرهة من الوقت قابضاً بيده اليسرى على الدرابزين , اخذ نفساً عميقاً , شعر بثقل قدميه فقرر أن يؤجل الأمر مرة أخرى وعاد من حيث أتى .

في الساعة الثانية والنصف من ظهيرة اليوم , وعند نهاية وقت الدوام الرسمي في الشركة ، خرج مسرعاً كما هو معتاد متحاشياً النظر في وجوه الخارجين  كي لا يلتقي وجهه مصادفة بوجه تلك المرأة التي يروم محادثتها دون أن يستطيع ، قبل أن يركب في الحافلة الصغيرة التي أوقفها في الشارع المحاذي للشركة ، سمع احد الأشخاص يخاطب أخر بنبرة شديدة : كن شجاعا ، ما بك ؟ كان لهذه العبارة وقع بالغ على مسمعه واخذ يقول لنفسه : أنا لست شجاع ، يجب أن أكون شجاعاً

 ما إن تحركت الحافلة واخذ يسير ماضياً لوجهته , حتى اخذ يتخيل بأنه يقوم بمفاتحة سمر , تلك المرأة اليافعة الجميلة ذات القوام المتناسق والطباع المرح والوجه الطفولي الذي لا تفارقه الابتسامة في اغلب الأحيان ، إذ كان يصطدم بصره بها في فترات عدة أثناء ما كان يدخل إلى القسم القانوني الذي تعمل فيه لغرض جاء من اجله ، كان يحاول جاهداً أن يتلافى النظر إليها كما يفعل ذلك مع النساء الأخريات ، لكن رغبته الشديدة بها والشعور الذي يخالجه نحوها يمنعه من ذلك , فيقوم باستراق النظر كلما سنحت له الفرصة ، على الرغم من تحديقها المستمر نحوه كلما اقبل أمام عينيها بنظرات تحمل معاني عدة أهمها عبارة ” كن شجاعا ” .

يوماً ما اخبره فؤاد صديقه المقرب والذي يعمل في المكان ذاته التي تعمل فيه سمر , بأن الأخيرة شديدة الإعجاب به وعليه وبما انه يبحث عن امرأة أحلامه يجب أن لا يفوت فرصة كهذه وان يفاتحها بما يكن لها من حب ويتزوجها ليبتدئ معها مشواراً أخر من مشاوير الحياة ، كان فؤاد يلح عليه بأن يتجرأ ويفعل ما يجب عليه أن يفعله دون تردد أو تأخر ، فيما هو كان يلح بالتهرب وتقديم الأعذار لتأجيل الأمر إلى أمد مجهول حتى يأس منه صديقه وصار لا يعيد عليه الأمر بعد أن رأى أن لا جدوى من ذلك ، قبل بضعة أيام تقابلت سمر معه وجهاً لوجه في إحدى ممرات الشركة التي تتوسط أقسامها لوحدهما ، كانت هي المبادرة في تحيته التي بالغت بها عسى أن ينكسر حاجز الجمود لديه ويقول ما تنتظره منه ، لكن دون جدوى , فقد اكتفى برد مقتضب وابتسامة خجولة موجهه نحو الأسفل وكأن الأرض هي من قامت بتحيته لا تلك الجميلة التي عبس وجهها وصارت تطلق اللعنات على حظها العاثر .

عندما اقترب حسام من منزله ردد مع نفسه تلك العبارة التي سمعها حين استقل الحافلة ” كن شجاعا .. ما بك ” ، و أخذ يكلم نفسه بطريقة توحي بأنه يكلم شخصاً أخر بحاجة إلى نصح , ويمنَي نفسه بأن يعمل ذلك الشخص بنصيحته ، لكن دون أن يسمعه احد من الجالسين .

حين دخل المنزل , اخبر والدته بعد أن مدت له سفرة الغداء بأنه وجد امرأة أحلامه , وسيفاتحها غداً بموضوع الزواج لتتخلص والدته بعدها من تحمل متطلباته التي لا طاقة لها بها بعد أن تجاوزت الخمسين من العمر , وتزوجن بناتها الأربع , ولم يتبقى لها غير ولدها الوحيد وزوجها المتقاعد المقعد على كرسيه المتحرك ، كان جازماً بموافقة سمر , وما كان ينقصه غير بضع كلمات يحدثها بها لا أكثر لتكون الأخيرة زوجة له , تشاركه أفراحه وآلامه .

صعد حسام إلى غرفته وأكمل الفصل الأخير من كتاب كان قد بدأ بقراءته سابقاً يتحدث عن قوة الإرادة وتعزيز الثقة بالنفس ، وحينما اقترب وقت النوم أغلق كتابه الذي أنهاه وهو على يقين بأنه امتلك القوة التي أراد الكتاب أن يبعث بها إلى قراءه ، استلقى على سريره متوسداً ذراعيه اللتان قاطعهما خلف رأسه , وراح يسرح بخياله نحو الحياة الجديدة التي سيعيشها بعد اجتيازه لعقبة الغد ..

تخيل بأنه أب يلاعب أطفاله كل مساء , يقوم بمساعدتهم في إكمال واجباتهم المدرسية , يتراقصون ويتلاعبون من حوله , ويوماً بعد يوم يغدون شباباً يافعين يبحثون كما كان أبيهم عن فتيات أحلامهم ، فكر بالمسؤوليات التي ستقع عليه وبالوضع الجديد لحياته وهو يودع عالم العزوبية مستقبلاً عالم الأسرة ، وبينما هو غارق بأحلام اليقظة , غاص في نوم عميق لم يستيقظ منه إلا في الساعة الخامسة والنصف من صباح اليوم التالي ، إذ قام بحلاقة ذقنه وغير ملابسه بأفضل ما لديه وتعطر بقارورة عطر كان قد اشترها في الأسبوع الفائت ولم يستخدمها منذ ذلك الحين ، ثم خرج ذاهباً إلى الشركة .

وكما هو معتاد وقف عند الحافة العليا للسلم وحدق إلى الأسفل ، ولكن بوقت اقل من المرات السابقة ، اخذ نفساً طويل , مسك الدرابزين ونزل الدرجة الأولى ، ما يميز هذه المرة عن المرات السابقة هو انه لم يفكر بالأشياء نفسها التي كانت تخطر على باله في كل مرة حينما يكرر ذات الموقف ، بل راح يسترجع أحلام اليقظة التي سرح ذهنه بها في اليوم الماضي ، عائلة , أطفال , أب ، نزل الدرجة الثانية و استرجع الكلام الذي يروم قوله إلى سمر والذي نظمه وحفظه حينما استقل الحافلة هذا الصباح ، نزل الدرجة الثالثة و لم يتردد كما في المرات السابقة بل استمر بالنزول حتى بلوغه الطابق الثاني .

دخل إلى القسم القانوني حيث كانت تجلس سمر في البداية برفقة عدد من الموظفين هناك ، أدى التحية ليرد عليها الكل إلا هي فلم ترد , بل وأكثر من ذلك تصرفت بجفاء غير معهود حينما أدارت وجهها عنه وأخذت تتكلم مع إحدى الموظفات إلى جنبها متجاهلتاً إياه بالكامل ، سأل الجالسين عن أحوالهم وقال بأنه جاء ليحييهم لا أكثر, تلافيا للخيبة التي أُصيب بها , تمازح مع فؤاد لعلها تلتفت إليه لكن دون جدوى ، ثم سادت فترة صمت رهيب استمرت لفترة قصيرة اكتنفته خلالها موجة من الإحباط واليأس مما جرى فانسحب باتجاه الباب لينصرف ..

وبينما هو ماضٍ نحو السلم ناداه صوت من الخلف ، انه صديقه الذي خمن الغرض الحقيقي من الزيارة ، وبصوت شجن قال له : أنسى يا صديقي فقد تمت خطبتها بالأمس .

ملاحظة : القصة منشـورة سابقاً في موقع آخر لنفس الكاتب 

تاريخ النشر : 2017-09-05

guest
10 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى