أدب الرعب والعام

لا اريد الموت – 2 –

بقلم : نوار – سوريا

تنويه : أرجو العودة لأحداث الجزء الأول وقراءته حتى يتسنّى لكم فهم مجريات الجزء الثاني

**

ذات صباحٍ خريفيٍّ كئيب، سماؤه مغبرّة وريحه عاصفة، فُتِحَت بوابة السجن الرئيسية ليخرج منها شابٌّ نحيل الجسد، هزيل البنية، عيناه غائرتان تحت حاجبين ضُرِب أحدهما من المنتصف نتيجة جرحٍ قديمٍ خلفته مشاجرة مع أحد النزلاء. حاملًا في يده حقيبةً صغيرة، تضم متاعه القليلة. جال بنظره في الأرجاء باحثًا عن أمه وشقيقيه، توقّع أن يكونوا في استقباله، لكن لم يجد أحدًا. وضع الحقيبة على ظهره وعلامات الخيبة باديةٌ على وجهه، لكن سرعان ما التمس لهم الأعذار وقرر الاستمتاع بأولى نسائم الحرية، بعد خمس سنين قضاها في سجن الأحداث.

أخذ يمشي على مهلٍ يتأمّل ما حوله. لكم سار في هذه الطرقات يجوب الشوارع من أجل بيع علب الدخان أو المناديل، يستجدي المارّة شراء بضاعته خوفًا من غضب والده إن هو عاد دون أن يبيع شيئًا. وكم من ليالٍ قضاها بمعدةٍ فارغةٍ عقابًا له على فشله في عمله. وصل إلى الحي الذي يقطن فيه، وكان حيًّا فقيرًا بيوته متداعية وشوارعه مليئة بالحفر والأخاديد. توقّف أمام بيته بأنفاس متلاحقة بعد أن اجتاز متاهةً من الدهاليز المقفرة، وخاض مستنقعاتٍ من الطين خلّفتها أمطار الأسبوع الفائت. دفع باب البيت بقدمه ودلف إلى الداخل، فوقعت عيناه على عربة والده في الفناء مستندةً إلى جدار المطبخ، وقد حوّلتها أمه إلى عربةٍ لبيع الخضار بعد أن كان أبوه المتوفى يبيع عليها أغراضًا تهم النساء، من أدواتٍ للزينة ومستحضراتٍ للتجميل..

راعه السكون المخيّم على المكان، فتوجّس خيفةً من أن يكون مكروهًا قد وقع لأسرته، لكن سرعان ما تبدّدت مخاوفه عندما أطلّت شقيقته برأسها من باب الغرفة. اتسعت عيناها دهشةً انقلبت سريعًا لفرحة عندما رأت شقيقها سامر واقفًا في الفناء. صاحت بانفعال:

– أمي إنه سامر قد خرج من السجن

اندفع سامر إلى الغرفة لملاقاة أمه بعد أن عانق شقيقته، فوجدها مستلقيةً في الفراش، وقد اشتدت عليها الحمى. قالت بعد أن انتهت من نوبة سعالٍ شديدة:

– اغفر لنا بني عدم مجيئنا لاستقبالك عند خروجك من السجن، فأنا كما ترى مريضة وشقيقتك سهى تداريني، أما شقيقك سليم فهو يعمل كما تعرف عند الميكانيكي محمود ولا يستطيع التغيّب عن عمله، رب عمله رجل شديد.

شعر سامر أن صوت أمه تغيّرت نبرته عندما تكلمت عن سليم، لكنه كتم إحساسه وقال:

– لا بأس عليك أمي، قدرت أن هنالك أسبابًا قاهرة منعتكم من المجيء.

سارعت سهى في دخول المطبخ تعد الطعام لأخيها، أما سامر فجلس عند رأس أمه يمسح على شعرها بحنان ويشبع عينيه من النظر إلى وجهها المغضّن البشوش، لقد أضاف الشقاء إلى عمرها عشر سنين وربما أكثر. فمن يراها لا يصدّق أنها في مطلع الأربعين، بل سيظنّها قد تجاوزت الخمسين بكثير.

غادرت نظراته وجهها لتركّز على الأريكة، ركن والده المفضّل للجلوس والاستلقاء وتحتها الطبلة، مازالت هناك على حالها، لم يتخلّصوا منها

– هل تفتقدينه؟ سأل أمه فجأة

– من؟

– والدي

– ولماذا تسأل!

تجاهل سامر كلامها مسترسلًا:

– هل تحقدين علي لأني حرمتكِ منه وأضفت عبئًا على أعباءكِ الكثيرة؟

رفعت الأم جذعها لتجلس في الفراش، أمسكت بيد سامر وقالت:

– أنتَ ولدي كيف أحقد عليك؟! أنا متأكّدة أن هنالك سببًا ما دفعك لقتله. والدك كان رجلًا قاسيًا وشرسًا لا أنكر، لكن القسوة ليست سببًا كافيًا للقتل. فقط لو تخبرني الحقيقة، لا أعرف لمَ آثرت الصمت أمام الجميع ولم تخبر أحدًا بها!

– الحقيقة لن تفيدكم بشيء، ولن تزيل عنّي صفة قاتل

– لكنها تريحني. لطالما كنت طفلًا هادئًا مسالمًا ومطيعًا، ما الذي دفعك لتصبح عدوانيًّا في تلك اللحظة المشؤومة وتفعل ما فعلت

– أنا سعيد بخروجي من السجن ويجب أن تكوني كذلك، أما الماضي فدعينا لا نتطرّق إليه. هل يوجد ماءٌ ساخن لأستحم؟

– اذهب إلى سهى واطلب منها أن تسخّن لك بعض الماء.

نهض لينفّذ كلامها وعيناها تشيّعانه بنظرةِ شفقةٍ مريرة.

***

دخل سليم المنزل عائدًا من العمل ودلف مباشرةً إلى غرفة المعيشة، لكنّه تسمّر عند الباب لمّا رأى سامر جالسًا إلى سفرة الطعام بين شقيقته وأمه يأكل. أما سامر فقد تأمّل لبرهةٍ منظر أخيه، وجده قد ورِث عن أبيه خشونة المظهر، سنونه الخمسة عشر لا تكفي لضخامة جثّته التي بات عليها. لم يرَه مذ دخل السجن، ودائما كانت والدته تضع الأعذار الواهية لتغيّبه عن رؤية أخيه. نفض سامر الملعقة عن يده ونهض قائلًا بفرح:

– سليم! قد غدوت رجلًا يا أخي

– وأنت مازلت صعلوكًا، قال سليم مكشّرًا عن ابتسامةٍ باردة

أخذ سامر كلام شقيقه على محمل المزاح واندفع نحوه يضمّه

– إليكَ عني، فملابسي متّسخة بزيوت السيارات

ابتعد سامر عن شقيقه مكسور الخاطر، نادته أمه ليكمل طعامه فادّعى بأنّه قد شبع، وذهب ليجلس في زاوية الغرفة. أما سليم فقد نزع ملابس العمل واستبدلها بملابس أخرى ثم جلس يأكل، وبعد انتهائه من الطعام التفت إلى سهى:

– هل أعددتِ الشاي؟

– دقائق وسأجلبه.

نهضت تلملم بقايا الطعام وتحمل السفرة إلى المطبخ بينما اتّجه سليم نحو الأريكة وألقى بنفسه عليها تمامًا كما كان يفعل والده. أخرج من جيبه علبة تبغٍ وأخذ ينفث منها سحب الدخان أمام استغراب سامر وصدمته. لقد شعر بنفسه يعود طفلًا، وذاك المضطجع على الأريكة والده المتوفّى وليس شقيقه. جاءت سهى تهرول حاملةً الشاي إليه، كان من الواضح أنها تخشاه. قال سامر في نفسه:

– يبدو أنك يا أبي لم تمت

– لماذا تجلس عندكَ يا بني؟ تعال واجلس إلى جانبي

أخرجه صوت أمه من شروده ونهض ليجلس عندها، سأل بصوتٍ خافت:

– منذ متى سليم يدخّن؟

– منذ سنتين، رفقاء السوء هم من جرّوه إلى ذلك

– ولماذا لم تخبريني؟

– وماذا كنتَ ستفعل وأنت بين جدران السجن

– أريد منك الآن أن تخبريني لماذا أخي لم يكن يأتي لزيارتي في السجن، ودعي عنكِ تلك الأعذار الواهية التي كنت أدّعي مرغمًا تصديقها.

نظرت الأم إلى سليم وقد غطّ في النوم حتى قبل أن يشرب الشاي، ثم تنهّدت بعمق قبل أن تقول:

– في الواقع، سليم أكثر شخصٍ تأثّر بما حدث، هو يحقد عليك ويعتبر أنّ ما فعلته غير مبرّر على الإطلاق

قال سامر بمرارة:

– لو كان يعلم، لما حقد علي

– يعلم ماذا؟ أخبرني

– لا شيء أمي، لا شيء

نهض متّجها نحو الباب..

– إلى أين؟

– أريد أن أمشي قليًلا في الحي، اشتقت لأهله وشوارعه

ارتدى سترته وحذاءه وخرج من المنزل، وكانت الرياح قد هدأت. أوّل شخصٍ صادفه هو صبحي، وصبحي رجلٌ يمتلك عربةً يبيع عليها الخردوات في السوق، تفرّس صبحي في وجهه ثم قال بصوت أقرب للصياح:

– أنت سامر ابن المرحوم تحسين، كيف أخرجوك من السجن؟!

– انتهت مدّة العقوبة

– بهذه السرعة؟ من يفعل فعلتك يجب أن يقضي بقية حياته هناك، رجلٌ صالحٌ مثل المرحوم تحسين يقتل على يد ابنه ويخرج الابن بعد بضعة سنين حرًّا طليقًا! ذاك ولا شك مهزلة

كتم سامر غيظه ومضى مبتعدًا عن هذا الرجل المتطفّل. تدحرجت عند قدميه كرةً كان يلعب بها طفلٌ أمام منزل السيدة وحيدة خيّاطة الحي، انحنى وأمسك بها ثم ناولها للطفل:

– ما اسمك يا صغيري؟

– مجد

– كم عمرك؟

وقبل أن يلقى إجابةً من الطفل أطلًت وحيدة برأسها من الباب، نظرت إلى سامر واتسعت عيناها دهشة:

– ألست سامر ابن المرحوم تحسين؟

– أجل

امتلأت نظرتها رعبًا ثم شدّت ابنها من ذراعه وأدخلته المنزل مؤنّبة:

– كم مرّة طلبت منك ألّا تكلّم الغرباء

– لكنكِ عرفته يا أماه!

– لأني أعرفه لا أريدك أن تقترب منه، هو ولد سيّئٌ شرير

ثم صفقت الباب في وجه سامر المشدوه من قسوة كلامها.

مرّ أثناء سيره من أمام رجلين جالسين على عتبة أحد المنازل، فالتقطت أذنيه هذا الحوار:

– كأني أعرف هذا الشاب

– إنه سامر ابن المرحوم تحسين

– آه، قاتل أبيه. إذًا ما سمعناه حقيقة، قد أطلقوا سراحه!

أوشكت دموعه على الانهمار فأراد الاختفاء من وجوه المارّة القاسية ملامحهم، الجارحة كلماتهم، ولم يجد ملاذًا أفضل من مسجد الحي ليأوي إليه..

***

هناك، في طرف قَصي من باحة المسجد جلس سامر مسندًا ظهره إلى الجدار، تساءل في نفسه، كيف أصبح والده بنظر الناس رجلٌ صالح لا يستحق الموت، وكيف غدا هو الابن الشرير، مضرب المثل في العقوق! ألم يكونوا شاهدين على قسوته وطغيانه؟ ألم يتدخّلوا أكثر من مرة لإبعاد يده الغليظة عن جسد أمه المسكينة عندما ينهال عليها ضربًا، ألم يروا بأمِّ أعينهم كيف كان يركله ويوبّخه ويوجّه له شتائم يندى لها الجبين. وفوق كل هذا هم لا يعلمون شيئًا عن جانبه القذر، ذاك الجانب الذي لا يظهر إلا في الظلام، ذاك الجانب الذي لا يعلم به أحدٌ سواه وكاد سليم يعرفه لولا أن.. ورحل بتفكيره إلى تلك الليلة المشؤومة قبل خمس سنوات..

كان والده يغطّ في النوم على الأريكة بعد تناوله وجبة الغداء وشخيره يملأ الأجواء، وكان هو يلعب مع شقيقيه في فناء المنزل، عندما استيقظ الوالد خرج متّجهًا إلى الحمام بعد أن نهرهم ليغربوا عن وجهه، أطلّ برأسه على المطبخ وطلب من زوجته إعداد الشاي والنارجيلة.

على الأريكة جلس يشرب الشاي وينفث دخان النارجيلة، وعلى عتبة الباب جلست والدته ترتّق بعض الجوارب، أما هو وشقيقيه فقد جلسوا في زاوية الغرفة خائفين من غضبه وثورته، هذه كانت حالهم في وجوده، لا أحد منهم يعرف متى يغضب وعلى ماذا. فجأة تعلّقت عينا الوالد بابنه سليم، أخذ يتأمّله بينما يحك ذقنه بتفكير، ثم لمعت عيناه وابتسم بسرور. ناداه بصوتٍ خبيثٍ مغلّفٍ باللطف يعرفه سامر جيدًا:

– سليم، تعال يا بني، أريد أن أخبرك بشيء

وضع سليم في حِجره وأخذ يهمس في أذنه كلامًا جعل الطفل يقفز بعد ذلك فَرِحًا بينما سامر وضع يده على قلبه، فيبدو أن دناءة والده وصلت إلى سليم.. انتحى سامر بسليم جانبًا وسأله:

– ما الذي يريده والدي منك؟

– لقد وعدته ألّا أخبر أحدًا

– وأنا أعدك ألا أخبره

حاول سليم التملّص لكن أمام إصرار شقيقه قال:

– أخبرني والدي أن صديقه لديه ولدٌ في نفس عمري سيأخذني هذه الليلة إليه لألعب معه، صديقه هذا رجلٌ غني ولدى ابنه ألعاب رائعة، بالإضافة إلى الحلوى والعصائر التي سأتذوّقها هناك، كم أنا متشوّق للذهاب. أرجو أن تبقى عند وعدك يا سامر ولا تخبر والدي أنّي أفشيت لك السر.

شعر سامر بالدم يغلي في عروقه، فوالده ولا شك يكذب، وصديقه المزعوم ليس سوى رجلٌ دنيء من روّاد الملهى الليلي يريد أن.. لكن لا لن يسمح لأبيه أن يدمّر سليم كما دمّره هو من قبل، لكن كيف، كيف!!

وجاءت الإجابة كما لم يتوقّعها سامر ولم يخطّط لها، فعندما حان وقت ذهاب الوالد للعمل في الملهى حمل الطبلة ونادى على سليم ليصطحبه معه، اعترضت الأم على ذهاب طفلها إلى الملهى لكنه دفعها عنه كالعادة ولم ينصت. فلم يجد سامر نفسه إلا وقد اعترض طريق أبيه قائلًا بحزمٍ ينافي خنوعه وضعفه الدائمين:

– لن تأخذه معك

– ماذا قلت أيها الأبله؟

– قلت أنك لن تأخذه، سأمنعك من فعل هذا

قهقه والده ناظرًا إليه باستخفاف:

– وكيف ستمنعني؟ اغرب عن وجهي وإلا حطمتك

سحبه من ذراعه وألقى به جانبًا ثم مضى خارجًا من الغرفة يتبعه سليم. خرج سامر خلفهم ونادى بتوسل:

– سليم لا تذهب، أبي أرجوك خذني أنا بدلًا عنه، أتوسّل إليك

وبلحظة يأس منحته قوّة خارقة، لمح سامر قطعة حجرٍ كبيرةٍ يضعونها خلف باب المنزل عندما تشتد الريح حتى لا يُفتَح، حملها دون تفكير وهجم بها على والده مهشّمًا رأسه من الخلف صارخًا فيه:

– لن أجعلك تدمّره كما دمّرتني

خر والده صريعًا وقد لطّخت دماءه وجه سامر ويديه

– ماذا فعلت أيها الغيور؟ قتلت أبي حتى لا يأخذني أستمتع بالألعاب والطعام اللذيذ؟! صاح سليم باكيًا، بينما جلس سامر إلى جانب جثّة أبيه يلهث، وقد تملّكه الرعب من هول ما فعل. تداعت الأحداث حوله سريعًا بعدها، صراخ والدته وشقيقته، الجيران اللذين هبّوا لمعرفة ما حدث، ثم رجال الشّرطة يقتحمون المكان، ثم تكبيل يديه واقتياده إلى القسم..

انتزعه من ذكرياته صوت المؤذّن ينادي إلى صلاة المغرب، انتبه على نفسه أنه يرتجف وقد تفصّد جبينه بالعرق، هذه الحالة تصيبه كلّما تذكّر مشهد مصرع أبيه على يديه. اقترب منه إمام المسجد وخاطبه بوجهٍ سمحٍ تحيط به لحيةٌ بيضاء مشذّبة:

– ألن تقوم إلى الصلاة يا ولدي؟

– بلى، سأفعل

دخل دورة المياه ليتوضّأ، ثم انضمّ إلى جمع المصلّين خلف الإمام وأدّى الصلاة، انتظر حتى ينتهي الإمام من تسبيحه وأذكاره ثم دنا منه مستأذنا بالجلوس، فأذن له..

– أنا قتلت والدي يا مولانا، قضيت مدّة العقوبة وخرجت اليوم من السجن

كتم الإمام دهشته وسأل:

– متى حدثت واقعة القتل؟

– منذ خمس سنين، كنت حينها في الثانية عشر من عمري

– آه، تذكرت تلك الحادثة، إذًا أنت هو من فعلها!

– أجل.. تردّد قليلًا قبل أن يردف:

– هل مازلت ترضى أن أجلس إليك أكلمك؟؟

– ولمَ لا يا ولدي؟

– لكنني قاتل..

– لا شأن لي بما كنت عليه، ما يهمّني هو تصرّفك وأفعالك الآن، أما الماضي فحسابه عند ربي وربك

– لكن الناس لم تنسَ، تصوّر، اليوم فقط خرجت من السجن ولا أعرف كيف انتشر خبر خروجي. كل من لاقيتهم في الطريق وصموني بالعار ونبذوني

– هذا دأب الناس يا ولدي، يتذكّرون الأخطاء ولا يغفرونها. وفعلتكَ بالتّحديد قلّما تحدث بين ظهرانينا، لذلك تجدهم يذكرونها جيدًا.

– لكنهم لا يعلمون حقيقة والدي، لا يدركون لماذا أقدمت على قتله. أصبح والدي بنظرهم ملاك

– لا يوجد مبرّر للقتل مهما كان السبب

– وهل فعلتي هذه ستطردني من الجنة؟

– الله يغفر الذنوب جميعًا، لا تقنط من رحمته تعالى.. استغفر يا ولدي، استغفر واعمل صالحًا، كان الله بعونك

خرج من المسجد وقد دخلت السكينة قلبه بعض الشيء..

***

دخل المنزل بهدوء، فوصل إلى سمعه صوت أمه المريضة تقول بتوسّل:

– لكنه يبقى شقيقك وأكبر منك سنًّا، لا ينبغي أن تعامله بهذه الطريقة

رد عليها سليم صائحًا:

– ليس شقيقي، لقد حلّ رابط الأخوّة بيننا عندما أقدم على قتل والدي. قلت لكِ قبل خروجه من السجن بأنني لا أريده معنا في المنزل، لن أشعر بالراحة وهناك قاتل يعيش بيننا..

– اطمئن، لن أبقى بينكم، لكن قبل أن أرحل سأخبرك لماذا قتلت والدي. قال بعد أن اقتحم الغرفة واقفًا في منتصفها، ظهره للباب ووجهه إليهم

– كلّنا يعرف لماذا قتلته، فعلت ذلك بسبب غيرتك. لم تكن تريده أن يأخذني معه لألعب مع ابن صديقه وأتذوّق هناك أطايب الطعام، طلبتَ منه في وقتها أن يأخذكَ بدلًا عني، وعندما لم ينصت لك قتلته أيها المجرم

هز سامر رأسه وقال بسخرية:

– وهل هذا باعتقادك سببٌ كافٍ للقتل؟ أنتِ يا أمي هل تصدقين هذا السبب؟

– لا يا بني، لم تعرف الغيرة طريقها إلى قلبك يومًا. أنا اعتقدت أنك لم ترد لسليم أن يرتاد الملهى الليلي وهو في سن صغيرة

– لقد اقتربتِ من الحقيقة لكنك لم تدركيها.. صمت قليلًا يخنق عبرته مانعًا دمعه من النزول، أكمل بعد أن تمالك نفسه:

– أبي يا أمي لم يكن يأخذني إلى الملهى كما كان يوهمك، أبي كان قوّادًا يا أمي، كان يبيع جسدي الصغير لإشباع رغبات زبائنه من رواد الملهى المنحرفين، أبي يا أمي وصلت به الدناءة بأن يغتصبني، أنا ابنه.

أخرستهم الصدمة عن إلقاء أي تعليق على ما قاله سامر، بينما أكمل بصوت لا يخرج من حنجرته بل من قلبه النازف:

– أبي شوّه براءتي، حطّم حياتي وجعلني أتمنى الموت في كل لحظة. كان يُرْهبني ويتوعّدني بالويل إن أنا أخبرتكِ عن أفعاله. صمتُّ عن قذارته لزمنٍ طويلٍ خشيةً منه، واعدًا نفسي بأني سأهرب من المنزل عندما أكبر. لكن لما علمت في تلك الليلة بأنه سيصطحب سليم معه هذه المرة بدلًا عني جُنّ جنوني. أوهم المسكين بكلامٍ كذِب بينما كنت أعلم تمامًا أي قذارةٍ يريد أن يلقيه بها. هل عرفتَ الآن يا أخي لماذا قتلته؟ من أجلك، حتى أحميك، لم أكن أريدك أن تعاني ما أعاني، أردتّك أن تحتفظ ببراءتك وتعيش حياتك كأي طفل طبيعي، والدنا كان وحشًا بهيئة إنسان، وحتى أنقذك من براثنه لم يكن أمامي سوى قتله.

خيّم الصمت على الجميع بعد أن أنهى سامر اعترافه، لكن سليم قطعه عندما صرخ:

– كاذب، كاذب. والدي ليس هكذا وأنت تريد أن تبرّر فعلتك وتحمّلني الذنب معك

اندفع خارجًا من المنزل وصوت أمه يلاحقه:

– سليم، إلى أين يا ولدي، عد أرجوك

– لا تقلقي يا أمي سيعود، هو يحتاج لبعض الوقت حتى يستوعب الحقيقة المرّة فقط.

قالت سهى من بين دموعها:

– كيف احتملت يا أخي كل هذا العذاب وحدك، ولماذا لم تدافع عن نفسك أمام القضاء

– وصلتني تهديداتٌ من رجل غني جدّا ممن كان يأخذني أبي إليهم، بأنني إن تكلّمت بما كان يفعل والدي وزججت باسمه في التحقيق فإنه سيدمّركم ويمحيكم عن وجه الأرض، خفت من تهديده والتزمت الصمت. لكن الآن لابد أن تعرفوا أنتم الحقيقة على الأقل حتى تلتمسوا لي العذر، لم أعد أستطيع الكتمان وأنا أرى أخي يعاملني بهذه الطريقة المؤلمة.

تكلمت والدته بحزن:

– ويحي، كيف كان يحدث لك كل هذا وأنا لا أعلم، أيُّ أمٍّ شقيّة أنا! أيُّ أمٍّ غافلة! أنا مدينة لك باعتذار يا بني، فلم أستطع حمايتك.

– وهل كان بإمكانكِ حماية نفسك حتى تحميني! لا تقومي بجلد ذاتك يا أمي فأنا غير حاقدٍ عليك

– وما هذا الذي قلته بشأن الرحيل؟ هل أنت جاد؟

– أجل، لابدّ لي من ترك هذا المكان، أريد أن أنسى الماضي، وسكان هذا الحي البغيض لن يعينوني على ذلك، لن يغفروا لي فعلتي، وسيعاملونني دائمًا على أنني قاتل

– لكن إلى أين تريد الذهاب؟

– إلى المدينة التي يقطن فيها جبران، ذلك الشاب الطيب الذي حدثتك عنه، الذي وقف إلى جانبي ووكّل لي محامٍ ساهم بتخفيف الحكم عني. لقد أعطاني عنوانه وطلب مني زيارته عندما أخرج من السجن. كان مريضًا وقتها، أرجو أن يكون قد تعافى الآن..

– أليس الوقت متأخّر على السفر؟

– بالعكس، إن وجدتُّ حافلة وانطلقت الآن سأصل مع تباشير الصباح الأولى، وذلك أفضل.

تنهدت والدته باستسلام:

– يبدو أنك اتّخذت قرارك

أخرجت من محفظةٍ تخبّئها في صدرها مبلغًا من المال ناولته إياه، أخذه منها وطبع قبلةً على يديها ورأسها، ثم عانق شقيقته، حمل حقيبته على ظهره وغادر..

***

اتّخذ سامر مقعده في الحافلة، أرسل نظره عبر النافذة مراقبًا طريق السفر، سارحًا بفكره عن الفيلم الذي وضعوه لتسلية الركّاب أثناء الرحلة. عاد بذاكرته إلى يوم لقائه الغريب بجبران..

نادى عليه حارس الزنزانة:

– سامر تحسين الريّس، زيارة

نهض سامر من مكانه يتبع الحارس ظانًّا أنه سيلاقي والدته، ففوجئ بشخصٍ لا يعرفه. تأمّله فوجده شابٌّ شوّه المرض ملامحه التي كانت يومًا ما وسيمة، وأخذ من وزنه الشيء الكثير. فعيناه فاقدةً لحاجبيهما، ووجنتيه غائرتين من شدّة نحول وجهه، وعظام رقبته بارزة وكذلك عروق يديه. يغطي رأسه بطاقيّة منسوجة من الصوف. جلس قبالته لا يعرف ماذا يقول، وما تكلّم به الزائر الغريب زاد من حيرته:

– هذا أنت، والله هو أنت، كنت واثقًا بوجودك على أرض الواقع

– عذرًا، من أنت؟ فأنا لا أعرفك

– أما أنا فأعرفك، أعرفك جيدًا. أدعى جبران، وأنا هنا لمساعدتك

– تساعدني!! لماذا؟!

– لأني ذقت جزءًا من عذاباتك، شعرت بألمك، ضعفك وقلّة حيلتك. أنا الوحيد الذي أدرك جيدًا بأن أباك يستحق الموت ألف مرة جرّاء ما كان يفعله بك

رمق سامر جبران بدهشة:

– أَوَكنتَ تعرف والدي؟

مدّ جبران يده ليمسك بيد سامر الصغيرة:

– سامر اسمعني، أنا رجل أصارع الموت ولا أدري متى سيتغلّب علي وأغادر هذه الحياة. لا وقت أضيعه في الأسئلة. سأحكي لك القصة باختصار وأرجو أن تصدّقني.

خلع قبعته ليظهر رأسه بدون شعرة واحدة ثم أعاد ارتداءها:

– كما ترى، فقدت شعري نتيجة جلسات العلاج بالكيماوي، فأنا مريض بسرطان الدم.

نظر إليه سامر ببلاهة، فلم يكن وقتها يعرف ماهية العلاج بالكيماوي، أما جبران فتابع:

– أوّل معرفتي بمرضي خفت، خفت بشدّة من الموت، أخذت أصرخ بأني لا أريد الموت لا أريده، وبطريقةٍ ما ظهر لي شخصٌ لم أسمع سوى صوته يخبرني بأن هناك طفلًا يتمتع بصحّته لكنه يتمنى الموت، سنتبادل هو وأنا بالأرواح. هو يأخذ جسدي المريض ليموت به، وأنا أسكن جسده الفتي وأعيش. هذا الطفل هو أنت سامر، صدّقني. عشت بجسدك، جبت الشوارع أبيع علب الدخان، تعرّضت للضرب والإهانة من أبيك إذا رجعت دون أن أبيع شيئًا. مرّات عديدة حرمني فيها من الطعام. وأكثر ما صدمني هو مشاوير الليل الدنيئة. أجل، أعرف أن والدك كان يستغل جسدك من أجل المال. أعرف انعدام شرفه وأخلاقه. لذلك أقول لك بأني أكثر شخصٍ يفهمك.

كان سامر يستمع إليه وقد نالت منه الدهشة كل منال..

– كيف تعرف عني كل هذه التفاصيل، قصّتك لا تصدق

– معك حق، لكن صدّقني هذا ما حدث، من خلالك أدركت أن هناك موتًا في الحياة، وبأن واقعي الذي لم أرض به أفضل بكثير من واقع غيري من البشر. سامر، حياتي في جسدك جعلتني أتقبّل مرضي وأواجهه بشجاعة، قد صمدتُّ سنتين في وجهه أقاومه بكل طاقتي ورغبتي بالحياة. سامر أنا مدين لك وكنت دائمًا أتساءل في سرّي عنك، لم أشك يومًا بوجودك، لكن لا أعرف أين.

– وكيف وجدَّتني؟

– كنت أتصفح هاتفي فرأيت خبر مصرع والدك، كان الخبر مرفقًا بالصور، ومن خلالها عرفتك، أقسمت أنه أنت، وقرّرت السفر والمجيء إليكَ حالًا

قاطع حديثهما مجيء الشرطي معلنًا انتهاء الزيارة. قاد سامر ليعيده للزنزانة، لكن جبران اقترب منه مطمئنًا:

– سأعود لزيارتك، وسأوكل لك أفضل المحامين للدفاع عنك، لا تقلق..

عاد إلى زنزانته وعقله بالكاد استوعب ما قاله جبران، قصّته غريبة ولا تصدق، لكن ما مصلحته بالكذب، ولو كان كاذبًا كيف عرف عنه كل هذه التفاصيل. تتالت بعدها زيارات جبران والمحامي، وامتنع سامر عن ذكر السبب الحقيقي وراء قتله لوالده أمام القضاء، لكن المحامي استطاع بمهارته استعطاف القاضي وإظهار سامر ضحية الظروف القاسية التي عاشها على العموم من ضربٍ وإهانةٍ وحرمان، وبأنه كان يريد ثني والده عن الذهاب بدونه ولم يكن يقصد قتله وإزهاق روحه، فهو ولد هادئ ومسالم ويحب والده. صدر الحكم عليه بالسجن خمس سنين، وفي قاعة المحكمة بعد أن رُفعَت الجلسة، اقترب جبران من سامر وكان التعب الشديد بادٍ عليه، قال له والبسمة تزيّن وجهه الشاحب:

– مباركٌ سامر، خمس سنين فقط ستقضيها في السجن، ومع ذلك لا تجعلها تمضي سدىً، اطلب منهم أن تكمل تعليمك خلالها، عدني بذلك أرجوك. وخذ هذه الورقة، كتبت لك فيها عنواني، تعال إليّ عندما تخرج من السجن، لا أظنني سأعيش لذلك الوقت لكن لا بأس، سيستقبلك والدَي، وسأدع لك عندهما أمانة. عدني أنك ستكمل دراستك وبأنك ستأتي إلي

أجابه سامر وهو يمسح دموعه بكمّه المهترئة أطرافه:

– أعدك بذلك، وأرجو أن تعيش لذلك الوقت..

ومنذ ذلك اليوم لم يرَ سامر جبران، لكن صورته بقيت محفورة في قلبه، صورة ذلك الشاب المريض، دائم الشحوب، السائر بقدمين ثابتتين نحو الموت. خرج له من العدم ليعطيه أملًا في الحياة. وعرفانًا بجميله نفّذ وعده الأول وأكمل دراسته، استطاع وهو في السجن أن ينال الشهادة الإعدادية، وبعد خروجه سيلتحق بالمدرسة الثانوية. وها هو الآن في طريقه إلى جبران منفّذا بذلك وعده الثاني الذي قطعه له.

***

وصل إلى مدينة جبران في الصباح الباكر، نزل من الحافلة ومضى يبحث عن مكانٍ يتناول فيه فطوره، فوجد أحد المطاعم. دخله وطلب لنفسه طبقًا من الفول المدمّس وجلس يتناوله على مهل، فأمامه متّسع من الوقت على إتمام مهمته. بعد أن انتهى من تناول وجبته طلب كوبًا من الشاي، ارتشفه ثم نهض مغادرًا، تسكّع قليلًا في الشوارع وعندما بلغت الساعة الحادية عشر اتّجه إلى العنوان المكتوب في الورقة مستعينًا بإلقاء الأسئلة على المارة هنا وهناك. وصل أخيرًا إلى العنوان المطلوب، طرق الباب ففتحت له سيدة يبدو عليها الوقار، سألها بتوتر جعل لسانه يتلعثم:

– هل هذا هو منزل جبران؟

– أجل

– هل جبران موجود؟

شهقت السيدة واضعةً يدها على فمها وقد تراجعت خطوتين إلى الوراء، ناداها صوتً من خلفها:

– من بالباب يا صفية؟

– شابٌّ يسأل عن جبران، ردّت بصوتٍ خنقته العبرة.

 أطلّ من خلفها رجلٌ تجاوز الخمسين من العمر، متوسّط الطول أشيب الشعر، طالع سامر متفحّصًا من خلف نظارته الطبية:

– هل حقًّا جئت تسأل عن جبران!

– أجل، هل بإمكاني رؤيته؟

– لكن ابني جبران متوفّى منذ خمس سنين تقريبًا، أَوَلا تعلم؟!

اغرورقت عينا سامر بالدموع، فقد كان يأمل أن يجد صديقه مازال على قيد الحياة، لكن ها هو يُصدم بخسارة الشخص الوحيد الذي وقف معه ولم ينظر إليه كمجرم. مسح عينيه قبل أن تهطل دموعه ثم قال:

– لم أكن أعلم، فقد كنت في السجن والبارحة فقط أطلقوا سراحي

سأل الوالد متلهّفًا:

– لحظة، لحظة. ما اسمك يا بني؟

– اسمي هو سامر

– سامر تحسين الريّس؟

– أجل، هل تعرفني

– حدّثنا جبران عنك، تفضل بالدخول يا بني

جلس مطأطئا رأسه، لا يدري ماذا يصنع، وجلست والدة جبران تبكي بصمت، فيبدو أن ظهور سامر قد نكأ جرحًا في قلبها يأبى الاندمال. لكن الوالد أمسك بزمام الموقف:

– حسنًا فعلت عندما قدمت إلينا. ولو لم تأتِ، كنت بحثت بنفسي عنك. جبران في آخر أيامه لم يكن له حديثّ سواك، لقد أوصانا وهو على فراش الموت بك. أنت تعني له الكثير يا بني، وكأنك ابنه الذي لم يمدّ الله في عمره كي يتزوّج وينجبه.

– متى فارق الحياة؟ سأل سامر متأثّرًا

– اشتد عليه المرض بعد أن شهد محاكمتك وعاد من هناك متعبًا، ظلّ مقيمًا في المشفى قرابة الشهر، وهناك توفي..

نهضت الأم راكضة نحو غرفتها، فلم تعد تستطيع سماع المزيد عن فقيدها

– أنا أعتذر، فلم أقصد أبدًا الإزعاج

– لا عليك، هذا هو حالها كلما ذكرنا جبران أمامها، وكأنه توفّي بالأمس. صمت قليلًا ثم أردف:

– هل تعرف ما الذي تركه لك ابني؟

– كلا يا سيدي، قال إن أدركه الموت قبل خروجي سيدع لي أمانة عندكم، وجعلني أعده بالقدوم إليكم. لكن أقسم بأني كنت سآتي وأسأل عنه بغضّ النظر عن موضوع الأمانة.

نظر والد جبران في عيني سامر المحمرّتان من شدّة التأثر وقال:

– صادق يا بني دون أن تقسم. على كل حال يجب أن تعلم بأن جبران جعلك وريثه الوحيد.

رفع سامر حاجبيه دهشةً فيما أكمل الوالد:

– جبران يمتلك شقّة في الحي المجاور لحينا، جهّزها ليتزوج فيها لكن المرض باغته كما تعلم. أيضًا كان قد ادّخر رصيدًا لا بأس به في البنك. الآن كل شيء باسمك، فقد أصر على جلب محام إلى المشفى وتنازل لك عنها.

– لكن لماذا؟ أنا لا أريد منه شيئًا، وقوفه إلى جانبي عندما كنت طفلًا ضعيفًا ومكسورًا في السجن يكفيني.

– هذه كانت رغبته، وجعلنا نقسم على تنفيذها. وقد ترك لك رسالة، انتظرني قليلًا لأجلبها.

غاب الوالد بضع دقائق ثم عاد مع زوجته يحمل الرسالة، ناولها لسامر الذي فتحها متلهّفًا، وقد جاء فيها:

“عزيزي سامر.. في الوقت الذي ستطلع فيه على هذه الرسالة أكون أنا نسيًا منسيًّا، بقايا عظام تحت التراب، وروحي ذهبت عند بارئها. أما أنت فستكون قد قضيت محكوميّتك في السجن ونلتَ حريّتك.

التجربة الروحيّة التي مررتُ بها والتي أخبرتك عنها سابقًا كنت أظنّها حصلت معي من أجل أن أتقبّل مرضي وأواجهه، وأقتنع بقدري الذي كتبه الله لي فقط، لكن عندما وجدَّتك، عرفت أن لها غاية أخرى أسمى وأجل، وهي مساعدتك. هنالك آلاف الأطفال حول العالم يعانون، لكني لا أعرفهم كلّهم بل أعرفك أنت، وأدرك معاناتك بكل تفاصيلها. لذلك أقسمت على نفسي أن أنتشلك من واقعك الأليم وأقدّم لك كل ما باستطاعتي أن أقدمه..

لي شقّة اشتراها والدي منذ زمن، أذكر أنه قال وقتها حتى يؤمّن مستقبلي ولا يقف السكن عائقًا أمامي عندما أرغب بالزواج. تنازلت لك عنها، ليست كبيرة لكنها جميلة، وقد جهّزتها بكل وسائل الراحة. وأيضًا ادّخرت من عملي مبلغًا من المال سيعينك على إتمام دراستك، ما حاجتي للمال وأنا في القبر. أما أنت فمازالت الحياة أمامك. هذا كل ما أملكه في الدنيا ولو ملكتُ أكثر لوهبتك إيّاه.

هناك رابطًا روحيًّا نشأ بيننا، رابطًا لا أعرف كنههُ لكنه أقوى من أي رابط على هذه الأرض! عندما رأيتك في السجن أوّل مرّة شعرت بأني ألتقي بنفسي، أردتُّ أن أقبل نحوك معانقًا، باكيًا ظلم الحياة وقسوتها.. أرجو يا سامر أن تخرج من السجن قويًّا، فالدنيا تسحق الضعفاء. أطالبك ألا تجعل ماضيك الأليم يؤثّر على مستقبلك. انسَ، انسَ يا سامر حتى تتمكن من المضي قدما في هذه الحياة. وترحّم علي كلما تذكّرتني واطلب لي الغفران.

صديقكَ جبران”

جلس سامر بعد أن انتهى من قراءة الرسالة يبكي بصوتٍ مسموع، يبكي كالأطفال، وأبكى معه والِدَي جبران..

***

بعد عدّة سنين

في مبنى كلية الحقوق، أقيم حفل تخرّج دفعةٍ جديدةٍ من الطلاب من بينهم سامر، وحضر الحفل كل من أمه وشقيقيه. وبعد أن كُرِّم وتسلَّم الشهادة، اقترب من أمّه مستأذنًا بوجوب ذهابه إلى مكان ما..

هناك، في مقبرة المدينة، وقف سامر أمام قبر جبران، قرأ على روحه الفاتحة ثم بدأ في الكلام:

جئتكَ اليوم يا جبران لأخبرك بأني أتممت دراستي ونلت شهادة الحقوق، لقد اخترت هذا الاختصاص حتى أدافع عن المظلومين وأستردَّ حقوقهم، فقد ذقت طعم الظلم ولا أريد لغيري أن يتذوّقه. أنا مدينٌ لك بكل ما أنا عليه الآن وسأبقى أترحّم عليك حتى أموت، وسأجعل أولادي يترحّمون عليك من بعدي. أنت يا جبران لم تقدّم لي كل ما تملك فحسب، أنت أعطيتني الأمل وفتحت أمامي أبواب الحياة، لولاك لكنتُ قد خرجت من السجن ذليلًا مكسورًا لا أقوى على مواجهة الناس، لكنك مددتَّ لي طوق النجاة وانتشلتني وعائلتي من الحضيض. تركنا مدينتنا وانتقلنا للعيش في الشقّة التي تركتها لي، تصالحت مع شقيقي سليم، ولم يرغب بإتمام دراسته إنما بحث عن ورشة لتصليح السيارات ليعمل بها، يبدو أنه أحب هذا المجال، وهو الآن صاحب ورشةٍ صغيرة ستتوسع مع الأيام. وشقيقتي سهى عملت في مصنع للخياطة، وهناك تعرّفت على شابٍّ خلوقٍ وتزوّجا. أما أمي جعلناها تجلس في المنزل ولا تعمل، فقد تعبت بما فيه الكفاية وآن لها أن تستريح. بالمناسبة، تعرّفت على والدتك وهما الآن أعز من أصحاب. أنت يا جبران لم تنقذني لوحدي بل أنقذتَ عائلتي معي.. سأظل مدينًا لك ما حييت.. فليرحمك الله يا عزيزي ويغفر لك.

وضع الزهور عند قبره، ثم مشى مبتعدًا، من ينظر إليه لا يصدّق بأنّ الطفل البائس الذي كان يتمنّى الموت في كل لحظة قد غدا الآن رجلًا مفعمًا بالأمل والرغبة بالحياة.

نوار

سوريا
guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى