جلس على كرسيه الخشبي بتثاقل يقلب كومة الأوراق المبعثرة على مكتبه ، زفر بسخط ثم أمسك بفنجان القهوة و ارتشف بضع قطرات ، في محاولة يائسة لطرد النعاس المتشبث بأهداب عيونه المحاطة بالسواد ، أشعل سيجارته الصباحية و نفث دخانها بحرفية ليشكل غمامة لبدت إضاءة الغرفة ، استجمع فتات أفكاره المتناثر، ثم أخذ سماعة الهاتف و صاح بقوة :
– احضر فريدة عبد الحميد إلى مكتبي حالاً.
هو يريد أن ينهي هذه القضية بسرعة قبل أن يُحال للمعاش ، يريد من غروره المهني أن ينتصر حتى في أيامه الأخيرة ، تنهد ببطء و عاد إلى شروده العميق ، إلى أن تخلل إلى مسامعه صوت طرقات متراتبة ، مسح من على وجهه و استقام في جلسته ثم أطرد بجمود :
– تفضل ، يمكنك الدخول.
تتقدم بثبات بقامتها الممشوقة ، سيدة في الثلاثينات ، يبدو على محياها الوقار ، نظرت له بتفحص ثم أردفت :
– أنا فريدة عبد الحميد صديقة المجني عليه .
اطفأ سيجارته وأشار إليها بالجلوس، ثم أردف بثبات.
– دعينا من البروتوكولات الزائفة و الأسئلة التمهيدية ، ليس لدي وقت لأضيعه ، أريد أن تحكي لي كل شيء بالتفصيل ، من أول لقاء لك به إلى يوم زيارتك له في منزله قبل مقتله.
– (بابتسامة هادئة) لطالما سمعت عن دهائك و جديتك سيد أحمد منصور، دعنا لا نضيع الوقت كما قلت ، جمعتني و يوسف صبري صداقة تكونت في صفوف مادة علم الاجتماع بالجامعة ، لقد كان شخصاً مرحاً كثير الترحال ، حتى آخر يوم قابلته فيه ، ذلك اليوم المشؤوم ، اتصل بي و طلب مني القدوم إلى منزله ، ذلك أنه عاد لتوه من رحلة خارج البلاد و جلب معه تذكاراً خاصاً ، صندوقا مزركشاً بنقوش و كتابات غريبة ، يشبه نوعاً ما صندوق الموسيقى ، يحتوي على عروس ترتدي عباءة سوداء تخفي جسدها بالكامل إلا من كفيها ، إذ تحمل بالأولى آلة حادة أشبه بالمنجل و بالأخرى قدراً نحاسياً عميقاً ،
أخبرني أنه هدية من صاحب دكان لبيع التذكارات ، كونه كان أول زائر له في ذلك اليوم ، قال : أنه يُدعى صندوق الموت ، و قد أطلقوا عليه هذا الاسم كونك إن قمت بمجموعة من الطقوس ستخبرك الدمية بموعد وفاتك ، وهذا ما كان ، التقيت به في المنزل الساعة السابعة و قد كان شارداً يتفحص الصندوق بفضول ، لكن ذلك لم يمنعه من الترحيب بي بحفاوة و إخباري بتفاصيل رحلته الأخيرة ، لكنه كان يتفقد تلك اللعبة اللعينة كل فينة غير عابئ بما يدور حوله ، الشيء الذي استفزني و اقترحت عليه أن نقوم بتجربتها عله يهدأ من عبثه هذا ، و لقد كانت عبارتي هذه كافية ليركض مسرعاً و يحضر علبة تحتوي على ابر و قنينة ماء و بعض الشموع ، فقد أجزم أننا يجب أن نقوم ببعض الطقوس المبتذلة قبل بدء اللعب ، حيث كان علينا إطفاء الأنوار، و الاكتفاء بضوء الشموع ، كما كان يجب أن نجلس وجهاً لوجه ، يتوسطنا الصندوق العجيب و هذا ما قمنا به ، ثم إن يوسف فتح الصندوق وصب الماء في القدر حتى امتلأ ، ثم قام بوخز أصبعه بالإبرة و سكب بضع قطرات من الدماء فيه ، و بدأ يلقي مجموعة من العبارات المبهمة حتى بدأت العروس تدور حول نفسها ببطء ، ثم …
– (مقاطعاً ) ثم ظهرت الشياطين من اللامكان و بدأت بالعبث معكما ، أهذا ما ستقولينه ؟.
– كلا ، بل كان الأمر مريباً ، حيث أن العروس توقفت فجأة عن الدوران ، ثم قالت ” لقد عشت حياة مليحة أيها العابث ، لكنها لن تدوم ، ستلقى حتفك بعد ست ساعات من الآن ! “، ثم اُغلق الصندوق ، انفجرنا و يوسف من الضحك ، كانت تلك العبارة واجمة باردة ، لكنها زودتنا بجرعة قوية من الحماس ، الشيء الذي جعلني أقوم بالطقوس أنا الأخرى عل شحنة المتعة تزداد ، و على خلاف ما كنت أتوقع فقد أعطتني العروس فرصة ذهبية ، إذ أخبرتني أن موعد وفاتي بعد يومين كاملين (بسخرية) الشيء الذي سيسمح لي بفرصة توديع الأحباب و الأقارب بأريحية ، المهم أن جلستنا انقضت بسلام تام و انصرفت إلى منزلي غير مدركة للهلاك الذي حل علينا. انجرفت في سبات عميق ، حتى تخلل إلى مسامعي صوت الهاتف المجلل ، استيقظت فزعة ، لقد كان يوسف ،
أخبرني و هو خائر القوى أن أذهب إليه بسرعة ، قال : أن عروس الصندوق ستقتله ، اخبرني أن الأمر أكبر مما كنا نتخيل ، انتفضت واقفة وخرجت مسرعة ، أخذت سيارة أجرة ، كنت في حيرة من أمري هل علي إخبار الشرطة ؟ لكني طردت الفكرة من رأسي ، ظننت أنه يمر بهلاوس لا أكثر بسبب تأثير اللعبة ، لم أحس بنفسي إلا و أنا أقف أمام الشقة ، طرقت الباب بقوة لكنه لم يستجب ، أخذت المفتاح الاحتياطي و اندفعت بقوة ،
لقد كان المنظر مؤلماً ، كان يوسف مُلقى جثة هامدة ، غارقاً في دمائه ، اقتربت منه بحذر، صرخت بوجل عله يستفيق ، لكنه لم يجبني ، كنت ارمق جلده المنزوع بوحشية ، جمجمته المهشمة ، أثار المخالب التي نقشت على جسده ، لم أتحمل المشهد المريع ، فهرعت خارجاً ، ثم اتصلت بالشرطة من هاتف عمومي و هذا ما حدث ، أنت أخبرني أيها المحقق ، هل يمكن لبشري أن يفعل هذه الجريمة الشنيعة ؟.
– هل حقاً تريدين أن أصدق أن تلك الدمية البائسة هي من قامت بقتله ؟ هل أنا أبله لأصدق هذه الترهات ؟.
– حسناً ، لقد بدأنا اللعب في تمام الثامنة ، أجزم أن وقت الوفاة حوالي الواحدة بعد منتصف الليل ، أليس كذلك ؟.
– نعم ، لكنه ليس دليلاً ملموساً ، نحن لا نؤمن بالخوارق في تحقيقاتنا سيدة فريدة.
– لماذا ؟ لقد قالت العروس أن وقت وفاته سيكون بعد ست ساعات من بدايتنا للعبة ، و هذا ما حصل ، أنت تعلم هذا .
– (بنفاذ صبر) سيدة فريدة أظن أن موت صديقك أثر على حالتك النفسية ، سنؤجل الاستجواب إلى وقت لاحق ، يمكنك الانصراف .
– (بغضب) أنا لست مجنونة أيها المحقق ، أرجوك صدقني ، حسناً لدي دليل آخر، هذه الورقة لقد وجدت يوسف ممسكاً بها فأخذتها ، هي توضح كل شيء ، خذها .
– (بسخط) سيدة فريدة بحسب كلامك عن اللعبة كان يجب أن تكوني الآن ميتة ، لقد مر يومان على الحادثة ، لكنك الآن تقفين أمامي ها هنا ، و هذا أكبر دليل حول ادعاءاتك الكاذبة ، انصرفي الآن من فضلك.
وضعت السيدة فريدة الورقة بيأس على المكتب ثم انصرفت خارجة بلا رجعة ، لكنها استدارت فجأة و قالت :
– أرجو أن تسد لي معروفاً ، هل يمكن أن تتخلص من الصندوق ؟.
– حسناً ، سأفعل ، لكن أين هو؟ لم تجلبيه معك !.
– ستجده قريباً … وداعاً.
عاد أحمد إلى شروده المعتاد إلى أن رن الهاتف.
– ألو ، ماذا هناك ؟.
– هناك خبر سيء ، سيدي لقد وجدنا السيدة فريدة عبد الحميد منتحرة في منزلها و بجانبها صندوق غريب الشكل ، سنأتي به حالاً إلى حضرتك .
– (بدهشة) ما الذي تقوله يا هذا ؟ هناك خطأ بالتأكيد ، لقد قمت باستجوابها قبل قليل ، هل ذهبت إلى العنوان الصحيح ؟.
أغلق سماعة الهاتف بفزع ثم ركض نحو الباب بسرعة و زمجر في وجه العسكري ضئيل الجسم .
– أي اتجاه سلكت السيدة التي خرجت من مكتبي قبل قليل ؟.
– (مرتبكاً) أظن أن هناك خطأ سيدي ، لم يدخل مكتبك أحد على الإطلاق !.
عاد المحقق أحمد إلى مكتبه غير مصدق لما حدث ، هل حقاً كان يحدّث شبحاً طول هذه المدة ؟ أم هل أصيب بالخرف ؟ لقد أصبح عجوزاً ، هو يدرك هذا جيداً ، لكن لا ، هو متأكد أن حديثه كان واقعاً و ليس مجرد خيالات ، جلس بسخط و تناول الورقة الملقاة أمامه ، إنها الحل الوحيد ليعلم ما يحدث.
فريدة إن كنت تقرئين هذه الرسالة فهذا يعني أنني الآن ميت ، أنا آسف لأنني جعلتك تتوغلين في هذه الحبال الشيطانية ، سأحاول أن أزيل شبهات ما حصل في هذه السطور ، بدأ الأمر بعد ذهابك بلحظات ، فضولي الجامح لم يكتفي بتجربة الصندوق ، لذا قمت بالتقاط بعض الصور و أرسلتها لصديق قديم يلقبونه مجنون ماورائيات ، لأنه على إطلاع كبير بعالم الخوارق ، و قد أخبرني أنني أملك لعنة ستقودني للهلاك المحتم ، لم يكن الصندوق مجردة خردة ، بل هو بوابة الموت بعينها ، مجسم خارق لم يعرف صانعه ، الذي يبدو أنه استخدمه كفخ ليحصد أرواح الناس ، إذ فور تنفيذك للطقوس و قراءتك للطلسم تشغل تعويذة الموت ،
فيقوم حارس الصندوق الذي يتلبس الدمية بتحديد موعد موتك و استدراجك قبل انتهاء المهلة. أنا أحس به يا فريدة ، أنفاسه الباردة تلاحقني ، أعلم أنه موجود الآن أمامي يحاول قتلي ، و هذا ليس بالشيء الصعب عليه ، لكن لا تقلقي أنا أعرف الحل للخلاص ، و لأصدقك القول لقد فشلت في تنفيذه ، لم يتبقى لي سوى دقائق معدودة و قد قررت أن لا أضيعها و أقوم بكتابة هذه الرسالة، الحل الوحيد لإبطال لعنة الصندوق هو أن نثبت أنه مخطئ في تاريخ الموت الذي حدده ، و هناك طريقتان ، إما أن يموت الشخص قبل التاريخ المحدد أو أن يستطيع النجاة من الشيطان المُسلط عليه ، أظنك فهمتي ما أقصده ، أعلم أنها تضحية كبيرة لكنها الحل الوحيد للخلاص و إنقاذ الكثير من الأرواح البريئة ، أنا أثق بك ، لكن تذكري أنك يجب أن تتخلصي من الصندوق أولاً لكي لا يقوم بإيذاء شخص آخر، أفعلِ هذا مهما كلفك الأمر ، إلى اللقاء .
اغلق أحمد الورقة و تنهد ببطء ، لقد علم الآن تفسير كل ما يحدث ، يبدو أن روح فريدة قامت بزيارته لأنها لم تتمكن من التخلص من الصندوق ، هي تريده هو أن يقوم بهذا ، مرت الساعات و هو يفكر بما يحصل ، لكن فضوله الجائع نحو الصندوق أبى الخمود .
لقد أصبح عجوزاً و ليس لديه ما يخسره ، زوجته متوفاة و أولاده منشغلون بحياتهم ، الأمر يستحق المحاولة ، سيجربه ليعلم حقيقة الأمر ، لكنه تذكر أن فريده قامت بإبطال اللعنة بموتها قبل التاريخ المحدد من الكيان ، و هذا أمر جيد لأنه سينجو في الحالتين ، ذهب بسرعة إلى غرفة التحقيقات، و جلب الصندوق ثم قام بالطقوس المزعومة ، فبدأت اللعبة بالدوران ثم توقفت بجمود ، و قالت “أحييك على شجاعتك أيها العابث ، لكن الشجاعة وحدها لا تكفي ، ستموت بعد ساعة واحدة من الآن”، ثم اُغلق و هو مازال يحدق ببلاهة ، لقد كان الأمر يستحق حقاً ، تلك السيدة كانت محقة ، صوتها البارد يزيد من حماسة الشخص.
مر الوقت سريعاً و هو يتفحص الصندوق إلى أن قرر أن يعيده إلى غرفة التحقيقات ، و في طريقه التقى بالطبيب الجنائي منير صدقي :
– سيد أحمد ، كيف الحال ؟ لقد كنت قادماً إلى مكتبك ، هناك شيء غريب يحدث.
– ماذا هناك ؟.
– فريدة عبد الحميد..
-(مقاطعاً ) نعم ، صديقة المجني عليه ، التي ماتت منتحرة.
– لم يكن سبب الموت هو الاختناق ، بل آثار المخالب التي وجدث على ظهرها ، لن أبالغ إن قلت أنها لوحش أسطوري ، إنها ضخمة ، هي نفسها التي وُجدت على جسد يوسف صبري.
– (بدهشة) ما الذي تقوله ، هل أنت متأكد ؟ حسناً ما هي ساعة الوفاة ؟.
– الثامنة من مساء البارحة .
استدار بذعر و الصندوق يهتز بين يديه المرتعدتين ، عاد إلى مكتبه بانهزام، و هو ينظر إلى ساعته العتيقة ، لم يبقى سوى خمس دقائق و سيكون في عداد الأموات ، لقد فشلت فريدة في إبطال اللعنة ، الوقت يمر ببطء ، صرخات تتعالى من مكتبه ، هرع الجميع ليتبينوا الأمر ليجدو الغرفة فارغة تعم في السكون.
لقد بات الأمر مريباً فمنذ مقتل أحمد في هذه الغرفة و الأصوات الغريبة تضج منها كل يوم في هذه الساعة ! هذا ما قاله الطبيب منير صدقي و هو يعبث بصندوق خشبي غريب كان قد وجده في مكتب صديقه المحقق أحمد منصور.