أدب الرعب والعام

لا تنسى

بقلم : سوبي – سوريا

لا تنسى
لا أدري كيف منعت نفسي من غرز ذاك النصل في حبالك الصوتية

 

“عدني أنك لن تنسى”..
تلك كانت رغبتي الأخيرة قبل أن تخبرني أنه لم يعد بإمكاني أن أرغبك..أن المحطة الأخيرة ليست كما وصفتها لي وأن ذاك الفستان الغبي رغم كرهي له بات الآن حلماً..يا لسخريتك وسخرية القدر !
رأيت ارتعاش جسدك رغم ضغط حبال جنوني عليه..أغريب أنني لا أشعر بالشفقة عليك ؟

_أرجوكِ..لم أفعل ذلك بقصد جرحك

= أكان ذلك بقصد إضحاكي مثلا؟ فإن كان ذاك هو المقصد يؤسفني أن أخبرك أنه انحرف عن طريقه نحو قصد آخر..فلتستأجر المرة القادمة مهرجا، ما قصة تلك الدموع التي تتسابق على شحوب وجنتيك، أين كانت حينما احتجتها لتضفي اللمسة الأخيرة على مسرحية حبك لي ؟

_أقسم أنها لم تكن مسرحية !

لا أدري كيف منعت نفسي من غرز ذاك النصل في حبالك الصوتية، أعتقد أن رغبتي بإطالة معاناتك كانت أقوى من تلك الأشباح والأصوات التي تتراقص أمام عيني حاجبة عني تفاصيل فظاعة هذا القبو ورائحته

= أتريد لمعاناتك أن تكون بطيئة ؟ أعني، أنا لست شخصاً ساديّا ًولكن لا مانع لدي أن أتقمص هذه الشخصية بضع ساعات

_ عن ماذا تتحدثين ؟؟! أي تعذيب وأية ساديّة ؟؟ من أنت ومتى تحولتِ إلى هذا الشخص ؟؟

= لطالما كنت هذا الشخص أيها الأحمق، كل ما في الأمر أنني كنت أكبح نفسي، لا تتظاهر بالبراءة أمامي، كلنا مخلوقات بغريزة القتل ، كل ما في الأمر أننا وجدنا طرقاً نقتل فيها بعضنا البعض دون إراقة الدماء أو خطف الأرواح ، تلك المشاعر الساذجة من ثقة وحب واهتمام والتي تنتهي دوماً بجرح لا دم له ومرض لا شفاء منه وموت بطيء يبدأ من الداخل إلى أن يستقر في أغبى أعضائنا فيجبره على التوقف أخيراً..

تعجبني نظرات الحيرة تلك التي على وجهك، أعلم أنك مجرد غبي آخر وسمته الحياة بصفة إنسان عقوبة لنا نحن المتمردون ذوي قوارب التيار العكسي، لا أعلم سبب كره الحياة لنا ، أعني نحن أبناؤها في النهاية سواء شعرت بالعار منا أم لا
غريب أن رئتاك كانتا تملكان قوة كافية فيهما لتقطعا علي سلام أفكاري..

= توقف عن التنفس كالثور الهائج ، أعاني صعوبة في كبح رغبتي بإخراسك للأبد بالفعل فلا تصعب الأمور عليّ أكثر

_ ما الذي ستفعلينه بي ؟؟

= يا للهول أنت غبي بحق أليس كذلك ؟ ما الذي يبدو أننا سنفعله هنا ؟ عشاء رومنسي على صوت شحذ السكاكين ورائحة الجرذان المتعفنة ؟

_ إذن س..ستق..ستقت..ستتق

= أشعر وكأنني أنتظر خيبة أملي التي حملتها تسعة أشهر في أحشائي أن تنطق بأول مصائب مسؤوليتي تجاهها، تباً كم أكره كلمة أمي ! تلك المرأة التي تجاهلتني خمسة عشر عاماً ولمجرد أنها كانت أغبى من أن تفهم بضع قصص كتبتها عن ظلمة هذا العالم اتهمتني بالجنون وألقت بي في ذاك المصح بدموعها المزيفة وراء الزجاج حيث سجنوا عقلي وحاولوا انتزاع أفكاري و…
كان صمت أنفاسك هذه المرة هو ما قطع جلسة استحضاري للماضي، خشيت حقاً أن تكون قد مت، ليس لخوفي عليك طبعاً ولكن لخوفي أن تكون أكثر المراحل متعة قد انسلت من بين أناملي للتو، ولكن شكراً للسماء لازلت موجوداً، نوعاً ما..فقد وجهك بعضاً آخر من لونه وكذلك شفاهك وتبدو قزحيتاك متوسعتين إلى حد لم أعتقد أنه ممكن علمياً ، أعتقد أنك لازلت تنتظر جواباً..

= نعم عزيزي سأقتلك ،ولكن لدي شيئا لأسئله أولاً

_ س..سؤ..ا ؟؟

= ربّاه هل لك أن تتوقف عن هذا التحامق لبعض الوقت؟! لست أملك الليل بأكمله وحقّاً لست أرغب بتلويث ملابسي في محاولة إجبارك على الحديث، صدقني سيكون من الأسهل لكلينا أن تتعاون معي.

لست أدري أي نوع من الصدمات قد أصابك تواً ولكنك تحولت من مخلوق بارتجاف ضحايا الصقيع إلى قطعة أثاث ناطقة، يبدو أن اليأس قد نال منك بالفعل، أستطيع رؤية مسام جلدك تفقد الأمل وتتوقف عن إطلاق سيول العرق تلك التي بللت كامل وجهك ورقبتك وجزءاً من ملابسك، رغم أن أنفاسك لاتزال شبه عاصفة إلا أنها بتواتر منتظم على الأقل الآن، نظرات القوة المزيفة تلك التي تحاول إجبار عضلات وجهك على تبنّيها ليست تخدعني عزيزي، اقتربت بوجهي منك كفاية لأستطيع التحديق في عينيك مباشرة، لا أزال أذكر كم كنت أحب تلك الرقطة البنية التي تزين هاتين القزحيتين العسليتين

= أعتقد أنك تحاول الآن إلقاء إحدى تعويذات الكاريزما الخاصة بك عليّ كمحاولة غبية للمماطلة، أو ربما تريدني أن أتذكر وجهك على أمل أن تطاردني في أحلامي بعد موتك، مؤسف أنني لا أحلم ها ؟، يبدو أننا معشر البشر غير قادرين على تقبل الهزيمة عندما يتعلق الأمر بالتعلق بقيد الحياة، إلى أي حد ينبغي لشخص أن يكون غبياً حتى يتعلق بقيد ؟، أودّ حقاً أن أعرف السبب وراء لهث الإنسان منذ أقدم العصور خلف المحافظة على حياته مهما كانت جافية وجوفاء، لابد أنها إحدى تلك المشاعر التي خلقتُ من دونها..
بصوت على وشك الانهيار قلت لي : _ هذا صحيح، لابد أنك تفتقدين بعض المشاعر في داخلك، وإلا كيف كان ليكون بإمكانك فعل هذا بي؟!

أزعجتني تلك النبرة الحادة المتقطعة التي رافقت آخر بضع كلمات منك، ولكن ليس بشكل كافٍ لإغضابي

= أوه..هل سترجوني أن أعفو عنك الآن ؟، أعني، إن لعينيك سحرهما الخاص في النهاية، أليس كذلك؟

_ وما الفرق..ستقتليني بكل الأحوال..

= نعم ولكن موتاً عن موت يختلف

_ هه وكيف كذلك ؟

= لا تتحاذق عليّ فلازلتُ الشخص صاحب النصل كما ترى ويمكنني أن أستخدمه بطرق عديدة، كمثال على ذلك حفر رمز هذا العقد الزائف على جسدك ، أتذكره ؟ يوم عيد ميلادي اللعين حين أخبرتك أنه مجرد تذكرة لي على زيادة رقم آخر في عداد عمر لم أرغبه أصلاً، فإذا بك تخرج قطعة المعدن هذه من جيبك وتخبرني أنني من الآن فصاعداً سأرغبه كل عام أكثر من سابقه، منذ يومها وصاعداً بات رمزاً للأمل لدي..الآن هو مجرد ذكرى لي على غبائي، رمز الأبد ها ؟..غريب أنني تأثرت به حينها..أعني، الأبد وقت طويل وأنا أسأم سريعاً من الأشياء والأشخاص على حد سواء

_ قلت أنك تريدين أن تسأليني شيئا ما

= أتعلم ، إنه لنوع من الوقاحة أن تتجاهل كلام شخص ما حتى لو كنت في آخر دقائق حياتك..
تباً كم كان ارتعاش جسدك عند تلك الجملة جميلاً ، للمرة الأولى الليلة أشعر حقاً بالرضا عما أفعله بك

_ فلننت..تباً..فلننتهي من الأمر ولتسأليني ما تريدين سؤاله

= أعتقد أنك جاهز الآن، أعني لابد لك أن تكون قد فقدت الأمل عند هذه اللحظة من إمكانية خروجك حياً وبالتالي لن تحاول الكذب مقابل الحصول على فرصة للفرار، لدي سؤال واحد وحسب، ما الذي شعرته في تلك اللحظة التي التفت فيها عني بعد إخبارك لي أنك راحل عني ؟
أي جرأة تملكتك لتبتسم لي بينما تنطق بأبطئ سرعة مفهومة ممكنة : “شعرت بالانتصار”
أعتقد أنني كدت أقطع كفي إلى نصفين أثناء ضغطي على حد النصل ، وجدت نفسي بطريقة ما مقادة بقدميّ وقد خيّل إليّ أنهما تنتميان لشخص آخر في مكان ما داخلي ، كان صوت صراخك شبه مكتوم بالنسبة لأذنيّ رغم أنني أستطيع أن أرى بوضوح احتقان الدماء في وجهك وتزاحم الدموع في عينيك واتساع فاهك كمخرج لصرخة انطلقت من أعماق رئتيك تماماً تحت الجلد الذي كنت أحفر عليه خطوطاً عشوائية بضغط ليس بقوة كافية لقتلك ولا بضعف كافٍ لمنحك كبرياء الصمت، عندما بدأ سمعي يعود لطبيعته تدريجياً كنتٙ قد انتهيت من الصراخ وبدأت بالنحيب، ذاك الصوت المزعج الذي يطلقة البشر كتعبير عن الألم، أمر محزن حقاً أنّهم يعتقدون أن شيئاً كهذا قد يساعد في حلّ شيء أو تحسين شيء ما
ريثما تمكنت من تفحص معالم ضعفك وألمك بتفاصيلهم تحول نحيبك إلى أنين شبه صامت.

لسبب ما أردت أن أضع يدي على صدرك لبضع ثوان حتى أتمكن من تذوق نبضات خوفك وهلعك تلك التي تختفي وراء ارتجاف شفتيك و شبه جفاف رمشيك
ربما كانت حركة غبية نوعاً ما ولكن يمكنني أن أجد لها مبرراً فيما بعد، أهكذا حقاً هو ملمس الخوف ؟..لم أصدق أنه يمكن لجسد ينتمي إلى هكذا روح أن يكون بهذا الدفء، نظرت إليّ بعينين يائستين بينما خفف كفي المطبق على جروحك من بعض ألمك، هذه هي النظرة التي كانت لتغير كل شيء لو أنها سكنت محاجر عينيك ذاك اليوم، كانت لتمنعني أن أجرؤ حتى على تخيّل فعل ما فعلته بك للتو، كل ما أردته هو الصدق وحسب، رؤيتي الواضحة لكذب مشاعرك تلك اللحظة حين قلت “وداعاً” محاولاً بكل غرور جاذبك أن تتدعيّ التأثر هو ما أطلق من صوان كبريائي تلك الشرارة التي قضت على ما تبقى من أسوار جنوني 

بدأ شعور غريب بالإنسانية الضائعة يقتحم قسوة قراري فأمسكت النصل بأشد قبضة أملكها وزرعته عميقاً في رقبتك، طوال كل تلك الأيام التي خططت فيها لهذه اللحظة تخيلت وضعه في قلبك مباشرة ولكن..أعتقد أنني أريد له أن يبقى حتى أحس بنبضه يختفي فمازالت يدي الأخرى تتحسس الحياة فيه

بدأت أنفاسك بالاختناق ثم التخامد..شعرت بالحياة تسحب تدريجياّ منك..ثم تنطفئ
والآن وقد فارقتني حقاً ماذا ستعني لي هذه الليلة غداً، وبعد غد، وبعد ذلك..؟
أتراها ستكون دخانا إلى زوال..أم وشماً لا يمحى؟،كنت لأسأل روحك قبل اقتلاعها ولكنني أعتقد جازمة أنك قايضتها بشيء من مادية عالمك منذ زمن بعيد
مسحت النصل بعناية ورميته بجانب جثتك..ليت بإمكاني نزع هذين الكفين المطاطيين اللعينين لأشعر بحرارة يدك مرة أخيرة قبل أن توازي صقيع قلبك، ولكنها مجازفة لا تستحق احتمالاتها

وهناك في زاوية الغرفة..أعدت تمثيل ذات المشهد الذي انطلى عليّ منك ذاك اليوم..ليس الأمر بهذه الصعوبة على أيّة حال، وجهٌ بصدمة مقامر خسر آخر رهاناته، فاه فقد النطق إلا من تمتمات استعطاف يائسة، يدان مرتجفتان لو دققت في تواترهما لاستطعت رؤية الكذب يعشش في كل حركة “لا إرادية” من حركاتهما، حرصت طبعاً على تحديد الوقت التي تنتهي عنده متعتي حتى أضمن وصول الشرطة في الوقت الذي طلبت فيه من ذاك المتسّول المغفل الذي يسكن بين كومة الصناديق أمام كشك الهاتف أن يتصل بهم، لم يكن مغفلاً لأنه قٙبِل فعل ذلك بمقابل ماديّ، بل لأنّه لم يفكر حتى بالسؤال عن السبب، غريب كيف لبعض النقود أن تُذهب قدرة الإنسان على المحاكمة العقلية، أعني، شخص يخبرك أن تتصل بالشرطة في منتصف الليل؟ لابد أنّه يخطط لجريمة أو ينوي خيانة عصابة المخدرات التي يعمل معها، في الحالتين ليس من الذكاء أن تعاونه..

على أيّة حال لقد قام بالاتصال، أستطيع سماع أصوات جزماتهم المطرية تقترب، كدت أنسى أننا في فصل الشتاء، من الصعب أن تشعر بالبرد حين لم تجرب معنى الدفء من قبل ..هاهو الباب يفتح..اللعنة على تلك المصابيح اليدوية أكاد أصاب بالعمى ، يبدون قلقين عليّ حقاً، هه..أكثر حتى من قلقهم عليك ، لقد فقدت الحياة على أية حال فلم النحيب ،الآن كل ما تبقى عليّ تقديمه هو صوت مرتجف يخبرهم كيف قام أحدهم بالاعتداء علينا وأثناء محاولتنا الفرار تم قتلك عندما حاولت إبعاده عني، ما الذي تريده أكثر من ذلك ،هاقد جعلتك بطلاً في حكايتي ، هذا أكثر مما تستحقه ولكنه سيوفر عليّ اختلاق المزيد من التفاصيل ، ليس وكأن الأمر يستدعي الإطالة، لقد عشت حظك من الكذبات بمافيه الكفاية.

ذاك الغطاء الأبيض فوق وجهك أحيا في داخلي شعوراً بالخدر، يشبه الشعور الذي أحسستُه عندما رحلت عني بعد أن نلتُ نصيبي من لكمات مراحل الحزن الخمسة ، ربما خيبات الأمل ليست بتلك الأهمية كمواقف، وربما عمقها يتعلق بالشخص الذي سبّبها لا الموقف الذي جسّٙدها، إن كان الأمر كذلك فنحن إذن على اختلاف مستوى مشاعرنا مجرد مخلوقات بنكهةٍ عاطفية سواء كنا عقلانيين او تابعين لذاك العضو الضعيف المسمى بالفؤاد، أمر مثير للخيبة أليس كذلك..

لكن ذلك ليس مهماً بعد الآن ، لقد خلقنا لنموت على أيه حال، كل لحظة نعيشها منذ لحظة ولادتنا ما هي إلا خطوة أقرب نحو الموت، أشخاص مثلك يستحقون ركلة تسرع خطواتهم تجاه النهاية وهذا ما فعلتُه بالضبط ، مجرد دفعة صغيرة نحو الهاوية المحتمة..كيف للبشر أن يسموها جريمة بحق السماء ؟، لا يهم، البشر مبالغ في تقديرهم على أية حال.

تاريخ النشر : 2018-12-19

سوبي

سوريا
guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى