أدب الرعب والعام

لا تنظر للخلف

بقلم : حسين الطائي – العراق
للتواصل : [email protected]

تجمعوا حولي أرجوكم وشيعوني بأياديكم الباردة
تجمعوا حولي أرجوكم وشيعوني بأياديكم الباردة
 
مضى زمن لم أستطع خلاله الوصول إلى منطقة سكني القديمة بسبب الاقتتال الطائفي ، ولا أعلم ما حصل لمنزل العائلة بعد أن انتشرت حوله مبان عشوائية لفئة من المجتمع ينبغي أن تحسب على الفقراء أو هذا ما يبدو عليه الحال بالنظر إلى وجوه الأطفال الذين يقضون جل ٌ نهارهم في الشارع وقد انقطع اتصالي بالمستأجرين.

وردني اتصال من أحد الجيران القدماء يخبرني بأن الحكومة ستقوم بأجراء مسح للمنطقة والتأكد من عدم وجود أي حالة مشتبه بها وأن علي القدوم وتفقد حال البيت لتجنب بقائه خالياً .

لقد خرج المستأجرون من المنزل الذي استغرق شغلهم له طوال فترة الاقتتال على الهوية وكما توقعت أحالت تلك العائلة البيت إلى زريبة ، أحسست بالحزن فعلاً وأنا أتخطى عتبة الدار الذي تم تهجيري منه بعد مقتل أشقائي الثلاثة ولم يبق لي سوى أختي الكبيرة التي سافرت خارج البلد ولم تفلح محاولات زوجها في إقناعي بضرورة مغادرة البلد فقررت حينها أن أنتقل للعيش في منطقة أخرى وتأجير المنزل.

كل ما لدي من معلومات عن العائلة التي شغلت البيت هو أن رب العائلة يعمل سائق تجاوز الخمسين من العمر يتكئ على عصا طبية ويعيش مع شقيقتين تبدوان أكبر منه عمراً وفتاة شابة معاقة يحاولون إخفائها عن الأنظار قدر استطاعتهم ويحرصون على عدم خروجها من باب الدار.

-هل هي ابنتك ؟.
– لم أتزوج في حياتي.

اكتفيت بهذه الإجابة وسلمته المفتاح لأحسم بذلك أمراً لا يعنيني.
جميع الذكريات ازدحمت في رأسي وأنا أمر عبر غرف المنزل وكل شيء أشعل في الحنين إلا تلك البقعة التي اعتاد أبي أن يترك فيها حاجياتنا وما لم يعد يصلح للاستعمال ، وتلك البقعة هي مساحة فارغة خلف البيت كان من الممكن استغلالها في أمور عدة كحديقة مثلاً لكن والدي رفض كل المقترحات وأصر أن تبقى كما هي ولم يكن هناك سبب أخر لإصراره هذا سوى أن تكون تلك فسحة ليمارس فيها طقوس عزلته مع قنينة شراب أبيض يخفيها في طيات جاكته العتيقة حين يعود إلى المنزل ليلاً.

أتذكر حين قالت احدى قريباتنا لوالدتي يوماً بعد أن حكت لها عن بعض الظواهر الغريبة التي كانت تجري في المنزل بأن هناك ملاكاً صالحاً يطوف في أرجاء البيت ، في تلك البقعة بالذات وأن علينا أن لا نزعجه خصوصاً عند مغيب الشمس ، كنت أخاف هكذا حكايات تُروى على لسان العجائز اللواتي يفترض فيهن الحكمة وبالتالي لا مجال لتكذيب ما يروينه من قصص .

علي أن أحدد الترميمات الضرورية التي يجب إنجازها بأسرع وقت قبل أن أعرض المنزل للإيجار وقبل أن يحل الغروب ، فما زلت أحتفظ بخوفي رغم السنين ناهيك عن أن الكهرباء مقطوعة ولا ضوء يصل لعمق البيت ، و منظر الحديقة البائس بدأ يثير في الاشمئزاز ، كل كوابيسي القديمة بدأت تنهض صامتة كموتى طال رقادهم ، و أعلم أن هناك ما يطوف حول غرف المنزل إلا أنه لم يكن صالحاً على الإطلاق.

( أنا الأن رجل ناضج وليس علي أن أخشى شيئاً ) هكذا رددت بيني وبين نفسي.

– نعم … أنت الأن رجل ناضج !.
الماضي بتمام هيأته يقف خلفي الأن بعد أن رحل أخر ضوء للشمس عن أطراف شجرة النارنج الجاثمة عند مدخل البيت منذ كنت طفلاً
– أبي !.
– هل يريحك أن أكون كذلك أو يبعث في نفسك شيئاً من الاطمئنان ؟.

على المنطق أن يتدخل في هذه اللحظة ليجيب عني فأنا الأن في حوار مباشر مع والدي الذي توفي قبل أحد عشر عاماً يقف قبالتي في صالة الضيوف الخالية من كل شيء إلا بعض القاذورات المتجمعة في الزوايا وخرقة بالية تتدلى على الشباك.

– ربما تريد أن تعرف ما حصل في المنزل خلال فترة غيابك ؟ أطلق ضحكة صاخبة ثم أردف : لا أعتقد أن هناك عاقلاً يرغب بذلك إلا أنني أود جداً أن أتحدث اليك ، منذ كنت طفلا صغيراً تذعرك كوابيسك التي تصنعها بنفسك وتتجنب اللعب في الباحة الخلفية للمنزل ، ذلك المكان الخرافي لنسج الكوابيس ودسَها في رأسك ، كان يناديني من عمق الظلام صوت خافت وضعيف : لا ترحل أرجوك .

– ها هو شقيقك الأصغر يطلب منك أن تبقى فلا تخذله كما خذلته من قبل.
– ولكن كيف !.

لم تختلف نظرة الغضب التي عهدتها والتي لطالما أخرستني كلما حاولت أن أسترسل في النقاش معك يا أبي لتزيد قناعتي بأن من يتحدث معي الأن في هذه اللحظة هو والدي و أن من يقف بجانبه هو أخي الأصغر أحد ضحايا الصراع الدموي وليس هناك سبيل لأستيقظ من حلمي هذا سوى أن يعاودني الوعي كما هو حالي في الفترات الأخيرة التي أستغرق فيها بين خط اليقظة والحلم

– أنا أعاني مرض السكري يا أبي وأعتقد أن لوثة العقل التي تراودني الآن سببها الإرهاق وقلة النوم.

– ليس هذه المرة يا ولدي فأنا من سيحدد متى تستيقظ  ، لا تخش شيئاً فليس هناك أب يريد أن يلحق الأذى بأبنه ، وكما ترى أنا أبسط ذراعي اليك.
بدأ جمع من الأجسام يظهر من فم الظلام رويدا رويدا لتقف إلى جانبه.

– إنهم هنا … وها هو عزيز قلبك ألا تفتقده ؟.
عمي الذي فُقد في حرب الخليج ولم يعد من حينها.
– و ما زال يبحث عن طريق للعودة ، يقول أنه تعب من التجوال منذ قصفتهم طائرات التحالف بعد انسحابهم من الكويت.

أتذكر صورة الجندي ، ذلك الذي يحاول أن يهرب بروحه من جسده قبل أن يلوذ بها من ناقلة الجنود المحترقة ماداً ذراعيه الذائبتين من نافذتها ، هكذا تبدو هيأته وتتبدل كلما أزحت نظري عنه ، أما الكيان الذي يقف في الزاوية وتغطيه عباءة سوداء من رأسه حتى القدمين فلم يكن يوماً خالتي التي قالوا لي أهلي أنها كانت تصلي في الباحة الخلفية لمنزلنا في محاولة منهم لإقناعي بأن ما شاهدته جاثماً تغطيه عباءة سوداء ليس سوى خالتي التي كانت تزور والدتي في حينها .

– أحسدك يا ولدي ، أحسد ذلك القلب الذي يمتلئ بالايمان ، كيف لك أن تقف أمامنا ونحن في هكذا حال !.

ليس هو الأيمان يا أبي ، أنه أمر أخر هو ما يجعلني ثابتاً الأن ، أشعر أنني ما عدت أفتقد شيئاً وليس هناك ما أخسره فأنا الأن في أخر حالات النقاء وكل ما أحتاجه هو وعي أخر ، حالة من الهيام أعيشها مع نفسي بعيداً عن كل ألم يتموضع في عمري ، أنا بحاجة للهزيمة هذه المرة ، ما عدت أطيق مرور الأيام ، والحياة أخذت مني أكثر مما أعطتني ، كم أود أن تأخذوني معكم ، أفتقد تلك السنين التي ملأتم فيها قلبي دفئاً فأنا ميت ولا يكذب الموتى كما قلت لي يا أبي يوماً على لسان السياب ، تجمعوا حولي أرجوكم وشيعوني بأياديكم الباردة .. تجمعوا .. تجمعوا .

***

في خبر تناقلته وسائل الأعلام تشير السلطات إلى أنه تم الكشف مؤخراً عن مجموعة من الجثث لضحايا الاقتتال الطائفي في الباحة الخلفية لأحد المنازل في منطقة (……) إلا أن من بين الجثث التي تم استخراجها وجدت السلطات جثة لرجل أوضحت الفحوصات بأنها ربما تعود لحقبة ما قبل الحرب العراقية الإيرانية بقيت طوال تلك الفترة مدفونة هناك دون علم العائلة التي كانت تسكن فيه قبل إجبارهم على الخروج لأسباب طائفية
 
النهاية …….
 
ملاحظة : القصة من وحي الخيال ، والرسم كذلك وهو أحد أعمالي الفنية بالقلم الجاف الأسود
 

تاريخ النشر : 2020-04-17

guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى