أدب الرعب والعام

لا مكان … لا وطن

بقلم : كوثر الحماني – المغرب
للتواصل : [email protected]

نظر إليه الصبي في لا مبالاة ، ثم عاد يلملم أجزاء الطوب مرة أخرى
نظر إليه الصبي في لا مبالاة ، ثم عاد يلملم أجزاء الطوب مرة أخرى

شد ورقته البيضاء بين أنامله يتفحصها ، لقد كانت خاوية على غير العادة ، تملكته الرجفة للحظة و تقلبت خواطره ، فجأة أضحى قلمه جافاً ، وعالمه حافيا من الأحرف غارقاً في الفراغ.

 أخذ تنهداً طويلاً ، مالت عيناه إلى مكتبه الخشبي، تحديداً إلى لفافة التبغ التي كانت تتخذ مكاناً موقراً بين كومة الملفات و الصور المكدسة هنا و هناك.
 
نظر إليها مليا فكر في وعد كان قد قطعه منذ زمن، لكنه يتناسى تفاصيله بين الفينة و الأخرى ، لم يتمالك نفسه كما العادة، و أخد يشعلها بلهفة كأنها الترياق الشافي لعجزه.

امتزجت أفكاره المشوشة و دخان السيجارة ليصنعوا تركيبة لبدت إضاءة الغرفة… تمالكه الإحباط قرر الاستسلام، لكنه انصاع لقلمه مجدداً، كتب بضعة سطور متفاوتة عقيمة لا تشبع ما يرنو إليه، مزق المقال للمرة التاسعة أو العاشرة لم يكن يريد العد، نهض من كرسيه بتبرم ملحوظ، و اتجه نحو نافذته الضيقة ليستنشق عبق الليل ،عله يصفي ذهنه، نظر إلى الأفق متأملا، فنقشت على شفتيه ابتسامة باهتة، عندها نطق بخفت ” أتمنى أن تكون بأمان أيها الفتى الصنديد”، ثم أنه عاد متخذاً مجلسه من جديد …

لطالما ظن أن طلته البهية ستضمن له تلك المنزلة التي كان يحلم بها، سيصبح مذيعاً بارزاً يُشار إليه بالبنان، تتهافت عليه المحطات الإخبارية، كان يعلم من البداية أنها مجرد أحلام ساذجة، غير أنه أبى الرضوخ حتى نال ما ناله من خيبات الأمل، فسلم نفسه للواقع مطأطأ الرأس منكسر النفس، لكنه في النهاية وجد نفسه يعمل كصحفي، في إحدى الجرائد المطمورة الصيت بالبلاد، صحيح أنه دائماً ما يجزم أن هذه الوظيفة لا تناسبه مقاماً ، هي حتى لا تكاد تلمس سفح تطلعاته، لكنه لا ينكر البتة أنها كانت الوسيلة ليفجر هوسه الطاغي بالكتابة، لقد جعلت منه شخصاً له كيان على الأقل. بدأ كل شيء من ذلك اليوم، لم يدرك حينها أن رحلة هدفها كتابة مقال مبتذل عن الحروب، ستغير مجرى تفكيره و أولوياته، كان يظنها مجرد مغامرة غير هادفة ليحصل على سبق صحفي، لم يعد يثير اهتمام القراء منذ زمن.

أطلقت ذاكرته العنان لجماحها، و جعلت تعرض على مشارفه ، ما عاشه في رحلته الأخيرة بسلالة، لوهلة تحسبها مشاهد من فلم قديم بالأبيض و الأسود، مشاهد وسمت بطابع ضنك و بائس، تتخللها نفحات أمل أبدية… لم يكن يعرف المبتغى من الذهاب إلى بلد نالت منها الحرب حتى هج أصحابها جزعاً ،فعادت مقفرة موحشة، تترنح ذات اليمين و ذات الشمال من ذوي القذائف، و قد زاد تيقنا عندما حط الرحال بها، كانت الشمس حينها قوية تلهب أعتى الرجال، و أكثرهم تحملاً ، الأتربة و الشظايا تتراقص في الأفق، و تحجب الرؤية، ناهيك عن أصوات الطائرات الحربية التي تحوم في السماء، فتنافس بذلك صرير أفكاره المتذبذبة،

للحظة ظنها سيمفونية ركيكة، تخرم دماغه الهش و تجبره على التنحي، كان يقف وحيدا شاردا، يحمل حقيبة المثقلة و كامرته حديثة الطراز، يخفف خطواته آنا و يثقلها آنا آخر… إلى أن رمقه هناك بين الركام، صبي في عقده الأول ، مغبر الشعر، مرقع الثياب، يقف بين أنقاض المنازل ،بريق عيونه الكحلية كان لينير دجنة الليل إن غاب عنه ضوء القمر، كان تارة يكفكف وجهه الملطخ بالدمع و الطين، و تارة يجمع أشلاء الطوب و الحجارة المتناثرة هنا و هناك، ثم يرصصها جنباً إلى جنب… استوقفه منظر الطفل، و أثار فيه الفضول، نظر إليه بتمعن ثم ابتسم بنصر .

– ستكون خبايا حكاية هذا الفتى الغر عملة نفيسة تثري مقالي، و تزيح عني حمل هذه المهمة السمجة.

هذا ما قاله و هو يتقدم نحوه بثبات موثوق، حتى صار أمام ناظريه، ربت على كتفه ليلفت انتباه، ثم أردف :

– بسام أحمد صحفي من جريدة “عيون الحقيقة”.

نظر إليه الصبي في لا مبالاة ، ثم عاد يلملم أجزاء الطوب مرة أخرى ، لم تمر لحظات حتى خارت قواه و سقط أرضاً ، عندها نظر إلى بسام بعيون متألمة، ثم قال :
– ابتعد خمسة عشر خطوة من هنا.
– (في دهشة) لماذا ؟.

– (باختناق) ألم تقل أنك صحفي ، ألا تريد أن تلتقط صورة مميزة تزين بها مقالك ؟ أظنها ستكون لقطة رائعة و أنا أجثو هنا ، لا قوة لي و لا حيلة ، انتظر لحظة… حسناً يمكنك الآن تصويري يا سيدي أنا جاهز… لما لا تزال متسمراً مكانك ؟ سنصبح مشهورين ، أجزم أن مديرك سيقوم بترقيتك عما قريب ، أما صورتي فستحصد ملايين الإعجابات على مواقع التواصل الاجتماعي ، الكل سيتذكرني لأسبوعين على الأقل ، ستعلو الهتافات، سيطالبون بوضع حد للحروب التي أنهكت البشرية، سيخرجون في مظاهرات لمناصرة حقوق الطفل، ثم أتعلم ماذا سيحصل ؟.

– ستحصل على حقوقك بالتأكيد، سيكون لك مستقبل مشرق و واعد أضمن لك هذا .

– (في سخرية) أنت تعلم يا سيدي أنك كلامك مغشوش بالكامل ، دعني أخبرك ماذا سيحل بي، يبدو أنك لا تملك الشجاعة لتطلعني… ستعود الأمور إلى سابق عهدها، سينشغل الناس بأعمالهم حتى يأتي صحفي آخر بصورة أكثر بشاعة و دموية، عندها سيتذكرونني مرة أخرى، ربما حينها أكون نلت نصيبي من القذائف، التي أسقطتني جثة هامدة ذائبة الملامح .

نظر إليه بتفحص، كان يحاول أن يستوعب تلك المصاعب التي عاشها هذا البائس، حتى تفوهت شفتاه بتلك العبارات، لم ينفك قلبه يرأف لحاله حتى تذكر مهمته، استعاد رباطة جأشه ثم أنه عدل حقيبته مجدداً  و أحكم عليها حتى لا تنزلق من على كتفه المرتعش من هول ما رأى، ثم استطرد :

– لن أقول أنك مخطئ أيها الفتى، لكني في حيرة من أمري ، إن لسانك الضليع و كلماتك الموزونة تنافي سلوكك الطائش، فبدل أن تفر بجلدك إلى المنطقة الآمنة أواخر البلدة، أنت تلهو هنا دون اكتراث.

– (بحدة) من قال أني ألهو يا سيدي ؟ أنا فقط أنفذ وصية أمي، لقد وعدتها أن أعيد بناء منزلنا الدافئ مجدداً…(دامعاً) منزلنا الذي حاصرته القنابل من الجانبين، فاستسلم منهاراً و هو يحتضنها بداخله، لقد كانت كاذبة، قالت أن بيتنا هو خلنا الوفي، جسده صلد لا الرصاصات تخترقه و لا القذائف تهزه، لكنها كانت مخطئة، جثتها المتكومة لا تفارق مخيلتي، كنت أتأمل يدها المقطوعة ببلاهة،

بعد أن أُخرجت من تحت الأنقاض، حاولت تثبيتها باستخدام الغراء علها تستفيق، لكن بلا هوادة، كنت أظنها فكرة سديدة، إذ لطالما كللت بالنجاح في أفلام الكارتون، لكن صديقي أخبرني أنني أحتاج نوعاً مميزاً من الغراء، لسوء الحظ نفذ من بلدتنا بسبب ارتفاع الطلب عليه مع ازدياد عدد ضحايا الحرب… قل لي يا سيدي، إن عدت مرة أخرى إلى هنا، هل يمكن أن تحضر لي هذا النوع من اللزاق؟؟ إني أخاف أن تُبتر أحد أعضائي جراء قذيفة فأموت قبل أن أتم وصية والدتي…

لم يستطع بسام أن يصمد أكثر، أجهشت عيناه بالبكاء ، ناح و استعبر ، ضم الصبي إلى صدره، و بقي على حاله مدة من الزمن، ثم أنه نهض و نفض الغبار عن ملابسه، و جعل يجمع أشلاء الطوب و الحجارة ليكمل ما بدأه ذلك الصبي، كان هذا الأخير ينظر إليه بعيون ممتنة، كأنه أخيراً عثر على ظل يؤنسه و يجبر بخاطره ، شمر هو الأخر عن ساعديه و باشر العمل من جديد… كلاهما كان يعلم أن يقومان به هو ضرب من الجنون، كانا موقنين أن بقايا الطوب هذه، لن تعدل من بيته المدمر شيئاً ، لكنهما كان يصنعان الأمل، ربما هو مجرد أمل زائف، لكنه و مع ذلك يجعلك متماسك من عالم ظالم، عالم أتخذ من الحرب كسوة، حتى أضحى عاطلاً عن السلام .

انتهت ذاكرته من إفراغ جعبتها، و أنهت معها آخر كلمات مقاله، تنفس الصعداء، و فرح بذلك أشد الفرح، لقد عاهده أن تصل كلماته للجميع ، هو لا يعلم إن كان سيغير شيئاً ، لكن شرف المحاولة بات يغنيه… اتجه إلى مديره بخطى واثقة قصد تسليم المقال، كان هذا الأخير يشاهد التلفاز بتركيز مطلق…

– (ساخطاً ) متى ستنتهي الحرب اللعينة؟ يا حسرتي عليك يا ولدي! لا تزال في ريعان طفولتك.

قالها المدير وهو يشير إلى التلفاز بتصميم، ما جعل بسام يلقى نظرة خاطفة عليه هو الأخر، لكنه صُعق مما رأى، فجأة تشنجت أعضائه، و اجتاح الضيق صدره، لقد كان هو، ذلك الفتى ممدداً على الأرض مبتور الساق، في حال يرثى لها، تلطخ الدماء جسده الضئيل ،هو حتماً مخطئ، يتمنى أن يكون كذلك، لكنه يتذكر ملامحه الملائكية جيداً، هي نفسها التي ترقد أمام ناظريه الآن، لقد نالت منه الحرب، يستحيل هو لا يستحق هذا، لم ينهار قط، لم يذرف دمعة واحدة حتى، هو يعرف ماذا سيفعل، سينقذه حتماً ، أخد الحاسوب من مكتبه مديره بارتعاد، دخل إلى المتصفح و كتب “غراء للصق الأعضاء المبتورة” ثم استرسل بانكسار:

– لا بد أن يكون هذا الغراء موجوداً ، عندها ستفك هذه المعضلة حتماً ، سيستفيق مرة أخرى، لقد قالها ذلك الصغير بنفسه، حتى أنه أجزم أن هذا الحل دائماً ما كُلل بالنجاح في أفلام الكارتون.

النهاية …….

تاريخ النشر : 2021-07-03

كوثر الحماني

ـــ المغرب ـــ للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
11 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى