أدب الرعب والعام

لعبة الموت

بقلم : ايناس عادل مهنا – من دمشق مقيمة في اسطنبول
للتواصل : [email protected]

هذه اللعبة الجميلة البريئة فتحت عيناها الجهنميتين 

 المطر يتساقط بغزارة ضارباً تلك السيارة التي تسير على الطريق الأسفلتي ، و ماسحات الزجاج تعمل كعادتها الكئيبة مصدرة ذلك الصوت الرتيب :
(ززييييق توووك… ززيييق توووك) 

في عتمة ليل هذا المساء ذي السماء الملبدة بغيوم سوداء ترعد بكل قوتها غضباً واحتجاجاً وكأنها تتوعد الخارجين في هذه الليلة الهوجاء بعقابٍ شنيع ، كانت تقود علها تجد مكاناً ما تبات فيه قبل أن تستكمل رحلتها إلى تلك القرية النائية .

بدأت تلعن حظها العاثر ومدير التحرير الغبي ذو الكرش الذي أرسلها بمهمةٍ في هذا اليوم بالذات ، ضربت المقود بعصبية وهي تصيح بغيظ:

– و ما ذنبي أنا ؟ وكأنني من قلت لذلك الأحمق أن يقتل صديقه الليلة ، سحقاً لك ولصديقك وللمدير معاً.

حسناً يبدو أنكم عرفتم إلى حد ما كيف هي فداء ، تلك الصحفية العنيدة ذات الشتائم التي لا تنتهي ، واللسان اللاذع الذي لا يرحم كبيراً ولا صغيراً ، فاستحقت وبكل جدارة استلام كتابة القضايا التي تتعلق بالقتل والانتحار والاغتصاب وما شابهها .

قضت أعوامها الثمانية منذ تخرجها إلى الآن في هذا المجال حتى أصبحت تملك تلك النظرة الثاقبة التي يمتلكها رجال التحري و الاستخبارات فتستطيع أن تشتم الخبر حتى قبل حدوثه ! هي امرأةٌ في بداية العقد الرابع من عمرها ، وجهها أبيض ذا شحوب طفيف و ملامحها صلبة جادة وجامدة اكتسبتها من عملها ، و لربما تحب أن تظهر بهيئة الصحفية الخطيرة فتبلورت ملامحها وتشكلت على هذا الأساس . عيناها خضراوان حادتان تقدحان ذكاءً وفطنة ، وطبعاً لتكتمل الصورة في أذهانكم فهي ترتدي نظارات ذات إطارٍ ضيق أحمر اللون ، شعرها أسود قصير ، وهي نحيلة جداً تكاد عظامها تخترق طبقة الجلد الرقيقة التي تغطيه ، وفوق كل شيء تدخن كقطار بخاري لا يتوقف للاستراحة بأي محطة ! صفات تتطابق تمامًا مع عمل لا يتطلب أي صفة من صفات الأنوثة ، فأنوثتها انسلخت منها انسلاخًا منذ تعمقها بهذا العمل الذي لا تريد أن تتعاطف به مع الضحية أو الجاني ، هم يريدونها أن تكتب بحيادية وبمنظور الصحافة ، هي العين الثالثة الثاقبة التي لا تفوت صغيرة ولا كبيرة،  وها هي على مدار كل تلك السنوات تفعل ذلك كالآلة وهذا ما أكسبها نجاحاً وشهرة واسعة بالرغم من سنوات عملها المهنية القليلة .

تناست ضربات المطر العنيفة التي تكاد تخترق سقف سيارتها السوداء ورفعت صوت موسيقى الهنود الحمر وكأنها تشاركهم رقصاتهم المجنونة حول جثةٍ قاموا بسلخها للتو !.

*****

حسناً  فداء ، يبدو أنها أضاعت الطريق فأخفضت سرعتها وصوت المذياع الذي كان يصيح قبل قليل ولا أعرف العلاقة بين انخفاضه والضياع و كأنه طقوس عبادة لا بد لكل ضائع من ممارستها ، وكأن الضائع بمجرد إطفائه للمذياع ستنفرج أمامه تلافيف عقله ليختار الطريق الصحيح !.

أخذت تتلفت يمنى ويسرى بعد أن تباينت لها ثلاث منعطفاتٍ ترابية ، لكن لا لوحة تشير إلى طريق تلك القرية التي تريد الذهاب إليها ، اختارت الحل الأوسط مكملة طريقها إلى الأمام ، فعندما تضيع من وجهة نظرها لن تعود أدراجك ولن تنعطف ، خيارك الصحيح هو مواصلة الخط الذي تسير عليه ، وها هي سارت عليه والمطر يشتد شيئاً فشيئا . توغلت أكثر واشتد الظلام والمطر ولم تعد قادرة على الرؤية جيداً ، حتى لاح من بعيد كوخٌ خشبي ذو طابقين سقفه من القرميد الأحمر ، انعطفت بسيارتها قاطعة الأرض الموحلة حتى أصبحت أمامه مباشرة ، ركنت سيارتها بتوجس وحذر وحدقت في ذلك الكوخ الذي تضيء نوافذه بلون أصفر باهت وتمتمت بدهشة: ومن عساه يقطن بهذه البقعة المنعزلة ! تناست ضربات قلبها المتوترة ، استجمعت رباطة جأشها وترجلت بعد أن أحكمت إغلاق معطفها الأسود الطويل حاملة حقيبتها فوق رأسها تحميها من ضربات المطر المجنونة وبدأت بطرق الباب بخفة ، لكن طال انتظارها دون أن تتلقى إجابة !.

دوى البرق وتلاه الرعد مجدداً فتعالت ضرباتها على الباب بحنق وخوف : افتحوا بحق الجحيم

تجاهلت الباب أخيراً عندما لمحت أن النافذة شبه مفتوحة ، خطت تجاهها واسترقت النظر ، لكنه يبدو مهجورًا بالفعل ! حسناً سنصدق أنه كوخ مهجور مبدئياً لكن الإضاءة الصفراء الشحيحة من أين مصدرها ؟ خاصةً وأن المصباح الوحيد المعلق في سقف الغرفة مكسور ! فداء الآن لم تنتبه لأمر ذلك المصباح . دفعت طرفي النافذة بحذر ، رفعت قدمها ثم قفزت داخل المنزل ، رائحة عفن و رطوبة شديدة ، بل وكأنها رائحة ألف شيطان يبيتون هنا ! بل ويقيمون حفلة شواء ! ذلك الشعور المقبض الذي ينتابك و الإحساس القوي بأنك مراقب ، لكن ممن ؟ أنت لا تدري حقاً ، إن الأماكن المهجورة فعلاً تتعاظم داخلها الطاقة السلبية .

خطت إلى الداخل أكثر بعد أن أغلقت النافذة بسبب برودة الجو و تأملت الموجودات من حولها بهذا المكان المهجور ، كان الأثاث قديمًا جدًا ومتهرئاً ، على الحائط معلقة صورة مصفرة ألوانها لامرأة في العقد الرابع من العمر تقريباً وعلى الجدار المقابل مكتبة صغيرة ترتص بداخلها الكتب بانتظام شديد ، وفي منتصف الغرفة تبعثرت بقايا طاولة ومقعدين من الخشب المتهالك ، ومدفئة حطب بجانب السلم المؤدي إلى الطابق العلوي ، ابتسمت بسعادة وكأنها قد وجدت صندوق كنز ثمين ، وتحركت بخطوات واثقة ناحية المدفأة فتعثرت ، تراجعت إلى الوراء بتلقائية وجزع حينما أدركت رسمة طبشور على الأرض ، نجمة سداسية الشكل يحيط بها دائرة كبيرة مليئة بحروف وأرقام عربية وبضع صفحات مهترئة متناثرة بالأرجاء ، وكأن الشيطان نفسه كان يقيم جلسة استحضار هنا.

المكان مهيب جداً ، وما زال إحساسها بأنها مراقبة من أحدهم يثير الرهبة في نفسها ، تلفتت حولها بحذر وبتلقائية وبفضولها الصحفي رفعت آلة التصوير و ” كلييك ” لم ترى ضيراً من تصوير مخلفات السحر ولربما تقوم كذلك بأخذ صورة لسيدة الدار ، ولكن عليها الآن أن تنعم ببعض الدفء فالبرد كان عظيماً ، أخرجت من الصندوق أسفل الدرج بضع حطبات وأشعلت المدفئة التي بدأت تصدر دخاناً كثيفاً قبل أن تتأجج وتشتعل النار فيها ، خلعت معطفها وجلست أمام النار ترتجف برداً لتلتمس بعض الدفء حتى تجف ملابسها ، الريح تعوي خارجاً كذئبٍ جريح وتضرب النوافذ بقوة وكأنها تود الدخول لمشاركتها النار في الداخل .

أشعلت سيجارها ونفثت الدخان والآن ، الآن فقط أدركت أن المصباح الوحيد في هذه الغرفة مكسور!.

********

نترك فداء ونعود بالزمان إلى الوراء ، في هذا المكان تحديداً ، نصعد السلالم الخشبية بخطى سريعة لنرى ما يجري بداخل هذه الغرفة السوداء المظلمة ذات الستائر التي تتطاير بفعل الريح التي تعوي خارج النافذة المفتوحة . طفلة تجلس بإحدى زوايا الغرفة بجانب سريرها وتحتضن دميتها الصغيرة ، ترتجف هلعاً وهي تسمع عراك والدها مع زوجته كما هي العادة كل يوم ، لكنها هذه المرة سمعته يصرخ عالياً :

– اتركيها يا مجنونة ، لا ، لا ابتعدي “.

ثم خمد الصوت فجأة بشكل مريب وحل سكون مرعب للحظات اختلطت فيها أصوات رياح الليل مع رفرفة الستائر وأصوات خطوات تقترب من الغرفة ببطء ، فتح الباب فجأة وأصدر صريراً مهيباً ليكتسح ضوء أصفر ظلام المكان ويسقط مباشرة على تلك الصغيرة المذعورة التي التصقت بالحائط أكثر وكأنها تحتمي فيه ، دخلت المرأة عيناها تقدحان شررًا قائلة بصوت كفحيح الأفاعي :

– الآن بعد موت والدك اللعين لن يبقى لك مكان هنا أيتها الحشرة “.

انفرجت عينا الطفلة بخوف وحاولت التملص لكن المرأة قبضت على الجسد الصغير وهبطت بها إلى الصالة ، نظرات هلع سيطرت على الطفلة ما إن رأت والدها ، دوت صرخات متلاحقة تمزق نياط القلوب لما كان ينتظرها ، بجانب جسد والدها ، مقطع الأطراف ، وقعت تلك الصغيرة بإنهاك بعد أن استنفذت مخزونها من الصراخ ، استلت زوجة أبيها السكين مجدداً وبدأت بطعن تلك الفتاة التي سمعت صوت تمزق جلدها وتنافرت الدماء وسط ضحكات ماجنة دوت من العدم وكلمات تصرخ بتعويذة سحرية

 سكون تام داخل المنزل إلا من صوت أنفاس المرأة المتثاقلة بعد أن شربت من دمائهما وخطت فيه عدة أحرف على الأرض ، الرعد يجلجل خارجاً و الذئاب تعوي من بعيد وكأنها ترى مئات الشياطين ، أخرجت المرأة كيساً من الخيش وحشرت فيه جسد الفتاة واتجهت إلى حديقة المنزل بجانب الحفرة الترابية التي جهزتها سابقاً .

– انتظري ، لم انته منك بعد “.

قالتها وشف ثغرها عن ابتسامةٍ شيطانية .

*******

وقفت فداء بتأهب تحدق بالمصباح ، الضوء لا ينبثق منه ، بل لا ينبثق من أرجاء الصالة كلها ، دارت ببصرها بالأرجاء لتتأكد ، قررت التوجه إلى الطابق العلوي لربما كان مصدره . صعدت درجات السلم بحذر شديد حتى وصلت لرواق عريض على جانبيه بابين خشبيين متآكلين تقريباً ، وفي واجهة الرواق نافذة عريضة متكسر زجاجها و مفتوحة والستائر السوداء التي أصبحت بيوتاً للعناكب تتطاير في الهواء كشبح غبار غبي و الضوء الأصفر الشحيح ما زال ينير المكان كما الأسفل تماماً و بدون مصابيح !.

تحركت يدها بتلقائية وخوف و التقطت صوراً للمكان رغم ارتعاد أوصالها ، ولماذا لم تهرب إلى الآن ؟ سؤال جيد لكن كما تعلمون فضولها دائماً يتغلب على العقل والمنطق . التفتت إلى يمينها دفعت الباب وخطت داخل الغرفة فكانت مجرد غرفة نوم تسبح بطبقات الغبار الناعم الخانق بسرير واسع ومنضدة صغيرة تتموضع عليها صورة مشوهةٌ معالمها لأبوين بينهما طفلة صغيرة تبتسم ببراءة ، فتحت الدرج تعبث فيه ولكن لم يكن هنالك سوى كراكيب متآكلة ، اتجهت إلى الخزانة التي بجانب السرير وأمسكت المقبض لتفتحها ، لكن فجأة وقع الباب المتآكل عليها فزعت وصرخت وهي تنهض نافضةً الغبار عن لباسها ، أنهت التقاط الصور وتوجهت ناحية الباب الآخر

**********

ونعود مرة أخرى بالزمن إلى الوراء ، إلى الحديقة حيث تركنا الساحرة وجسد الطفلة وعواء الذئاب التي ما زالت تصر على عمل موسيقى تصويرية للمشهد ، أخرجت المرأة من جانب الباب فأساً كبيرة متجهة إلى جثة الصغيرة و فصلت رأسها بحركة واحدة ليتدحرج على الأرض ، ازداد نباح الكلاب ، ازدادت الريح قسوة ، و أخذت المرأة الرأس معها بعد أن ألقت الجسد الصغير فوق جثة والدها و ردمت القبر بالتراب و دخلت إلى المنزل ، تناولت كتاباً من المكتبة الكبيرة وصعدت إلى الطابق العلوي و وضعته على الأرض بجانب الرأس الذي يقطر دماً و بدأت تقرأ بضع فقرتٍ منه ، صوتها يعلو تارة و ينخفض تارة أخرى ليصبح أشبه بالهمس ، والكلاب تعوي ! لا لم تعد كذلك صدقوني ، بل التجأت إلى أوكارها تتخفى من غضب الشيطان لهذه الليلة .

وضعت المرأة صندوقاً خشبياً أشعلت أربع شمعات و وضعت كل واحدة أمام رأس من رؤوس الصندوق ، أمسكت كتاب السحر وقرأت تعويذة من صفحاته فهبت ريح شديدة القسوة وتطايرت الستائر بعنف ، أظلمت الغرفة وعبقت بسكون مخيف لا يكتسحه سوى صوت لهاث تلك المرأة مع عقارب الساعة التي لم تتوانى عن عد الثواني لتضيف جواً من التوتر والخوف ، دقائق مرت والمرأة راكعة على الأرض لا تتحرك قيد أنملة وأمامها جسد أسود غريب الهيئة ، حتى تحركت تلك الدمية الصغيرة أخيرًا من داخل الصندوق ، حركت رأسها وفتحت عيناها تنظر حولها بصدمة ثم بهلع و صارت تبكي خائفة مذعورة مع تعالي صوت ضحكات تلك المرأة التي باتت تقول بابتهاج : وعند اكتمال قمر العام الدموي العاشر ستسمو روحك يا صغيرة مع أول ضحيةٍ ستقترب ، وسنلتقي حينها من جديد .

وحينها عشرات الشياطين انبثقت فجأةً من الأرض لتقبض على تلك المرأة التي تعالت ضحكاتها الشيطانية بانتصار وتسحبها لباطن الأرض .

*************

ونعود إلى فداء التي دخلت لتلك الغرفة وكانت فارغة إلا من صندوقٍ خشبي بمنتصفها خطت داخل الغرفة العابقة برائحة الموت دون أدنى شك ، لكنها توقفت فجأة لتتوسع حدقتا عينيها بفزع ، كانت بقع الدماء الداكنة تتناثر على الأرضية وعلى الحائط عبارات وأحرف وأرقام وموز شيطانية مرسومة بكل ركن وكل زاوية وكل مساحة صغيرة وكبيرة ، حروف و رسومات خطت على الحائط بالدم ، الدم هو كل ما يملأ هذا المكان الشيطاني !

لربما كل شيء مر إلى الآن ليس غريباً على الإطلاق ، لكن الغريب حقاً وجود أربع شمعات مضاءة على الأرض تقابل كل شمعة زاوية من زوايا الصندوق تتراقص نيرانها البلهاء بكل وداعة في المكان وهي سبب النور الذي يعبق بأرجاء المنزل ! توقفت الكاميرا تماماً عند صدرها ، لم تستطيع رفعها لتصوير المشهد ولا تستطيع خفضها ، رعشة اجتاحت عمودها الفقري و برودة تملكت أطرافها بل صقيع جمد أصابعها عن تصوير ما تراه ، قدميها الآن تزن أطناناً لا تستطيع دفعهما للتحرك والهرب ، اهتز الصندوق فجأة ومازالت تحدق ، زاد اهتزازه و زاد ارتعاد جسدها ، لكنها تقدمت منه على كل حال سواء بإرادتها أم بإرادة قوة سفلية شيطانية ، اقتربت منه وفتحته ، لربما فتحت أبواب الجحيم ! لربما هو صندوق بندورا الذي يحوي كوارث العالم ، و إن كان كذلك فلتفتحه فبكافة الأحوال العالم لن يؤثر فيه صندوق بندورا

  فتحته وتفاجأت بلعبة صغيرة جميلة بأسفله ! ضحكت فداء بغير وعي ، ضحكت لدرجة أنها وقعت أرضاً وصارت تبكي وتنشج كالأطفال وهي تحدق بداخل الصندوق وظنت بأن أحدهم يقوم بمزحةٍ سخيفةٍ لإرعابها وسيظهر لها الآن أحدهم ليقول لها كاميرا خفية ! ضحكت فداء لكن هذه اللعبة الجميلة البريئة فتحت عيناها الجهنميتين وابتسمت ! فقد حان موعد سمو روحها لتلتحق بعالم الشياطين السفلية .

 

النهاية 

* القصة منشورة سابقا لنفس الكاتبة في موقع آخر

تاريخ النشر : 2019-05-10

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى