أدب الرعب والعام

لعنة الغربان

بقلم : رنا رشاد – المغرب
للتواصل : http://117552462029991995682.sarhne.com

لم تكتفي الغربان بالنقر ، بل انحنت على الجثث المتناثرة بكل مكان تلتهمها التهاماً
لم تكتفي الغربان بالنقر ، بل انحنت على الجثث المتناثرة بكل مكان تلتهمها التهاماً

 
داخل تلك الغابة الموحشة التي اتخذت الصمت شعارها ، و بين تلك الأشجار المتشابكة التي يلعب النسيم بأوراقها الرطبة ، أخذ شبح أسود يمشي بخطوات بدت مرتجفة أكثر مما هي ثابتة ، صوت خطواته البطيئة أمتزج بصوت حفيف الأشجار فكوّن موسيقى هادئة وشت بالكثير ، أما دقات قلبه الهادرة فسُمعت من بعيد.

كان الجو هادئاً للغاية ، هادئاً إلى درجة تجعلك تعد دقات قلبك و أنفاسك خشية أن تسبقك أو ترحل بعيداً عنك ، فجأة تحركت أغصان الأشجار العالية بقوة فتجمدت خطوات الشبح أو ربما تجمد هو بالكامل ، رفع رأسه محدقاً بالمساء الحالكة السواد ثم نفث أنفاسه المحبوسة بقوة ليقع بصره على بضع نملات كن يتمشين بتؤدة و هن يسحبن قطعة صغيرة بدت كلحم مهترئ !.
جذب نفساً أخر ، و لكن قبل أن يصل إلى رئتيه تحركت الأغصان بقوة أكبر ليخرج سرب من الغربان السوداء اختلطت بالليل وامتزجت بحلكته  وهي تصدر نعيقاً متذمراً أيقظ سكان الغابة النائمة.

أطلق الشاب العنان لقدميه دون أن يفكر بالسبب الذي جعل تلك الغربان المسكينة تغادر أعشاشها الدافئة  في مثل هذه الليلة الهادئة الباردة ، بل أنه لم يسمح لعقله بالتفكير بالسؤال حتى ، فقط فكرة الهرب من المجهول سيطرت عليه والرعب أيقظ حواسه المتجمدة برداً فتدفق الأدرينالين قوياً عبر شرايينه الملتوية  ليسقي دمه الدافئ في كافة أنحاء جسده المتيبس الأطراف .

كان الشاب المسكين يركض ويركض غير عابئ بالأغصان التي تصطدم بوجهه وجسده ، و لا بالأشواك الصغيرة التي تغرس بكل قسوة في جلده الناعم ، فتلك القهقهات الشريرة التي ارتفعت في الجو حتى طغت على صوت الغربان كانت شاغله الوحيد ، و الأف الصور والأفكار المرعبة تتسابق نحوه لتأخذ مكانها برأسه المكتظ .

أشباح ، أرواح ، شر و دماء ، إنها ليلة الهالوين السوداء ، ما كان يجب عليه قبول تحدي أصدقائه الحمقى ، هم ليسوا أصدقائه بل هم أعداء له ، لكنه طمع بالحصول على صداقتهم أو بالأحرى شفقتهم .

كأي شاب صغير يعيش وحيداً أراد ضياء أن يكسب ود تلك المجموعة الشريرة بأفرادها الستة لعلهم يكونون له نعم السند و يكفون أذى الأخرين عنه.
فقلبه يشكي من كلمات زملائه الموجعة لمجرد أنه شاب فقير ، و جسده تزين بكدماتهم الزرقاء و أنزوى تحت ملابسه المهترئة صامتاً لا يقدر سوى على الارتجاف ، فقط عيناه من قدرتا على المقاومة فاستمرتا بإنتاج أطنان من الدموع الصافية التي هدأت من الأم قلبه اللانهائية .

لكنه ساذج غبي و يعترف بهذا ، و لا يعلم أي صفة من السابقتان تملكته حين تجمع أولئك الستة عليه قبل البارحة و تبسموا بوجهه بل و نادوه بصديقهم المفضل ، أم كانت الفار المفضل ؟.

بكل حب ، ذاك الحب الذي التمسه هو فقط فيما علم جميع من حوله أن كلماتهم تقطر سماً و دهاءً أسوداً ، نادوه و ربتوا على ظهره بقوة كادت تشطره نصفين ، لكنه كان أعمى بل لقد تعامى عن كل تلك المعاني و الإشارات الخفية التي تنطق بها سماهم و ابتسامتهم الصفراء .
بل كان ساذجاً حين صدق أنه بمجرد أن يقبل تحديهم السخيف سيضمونه لقلب مجموعتهم المتسلطة .

كان عليه أن يفكر جيداً ، فهل حقاً يريدون شاب فقيراً ضعيفاً مثله بينهم ؟ شاب لا يقدر على مواجهة أحد و لو بالكلمات ، شاب يختبئ خلف الرفوف دائماً و يتراجع أثناء الحروب ، أبداً.
و أيضاً إن كان أنضم فعلاً ، هل كان ليقدر وهو العطوف الرفيق أن ينضم اليهم فيؤذي ويتنمر على الأخرين بعدما ذاق مرارة التمييز و ملوحة الدموع ؟ هل كان ليقدر فعلاً ؟ إنه غبي ساذج فعلاً.

فهل قضاء ليلة الهاليون السوداء في المقبرة المهجورة  كانت لتشفع له من سوط كلماتهم السامة وضربات أيديهم المدمية ، و هل قبل فعلاً لأنه أراد ودهم ؟ أم قبل لأنه أراد ليلة أخرى يختبئ فيها عن الأنظار و يتلاشى عن الوجود فيعيش كما يحلو له ولو كان ذلك في مقبرة ؟ هل حقاً قرر بعد تفكير مطول ، أم كان قراره وليد الغفلة ؟.
تلاشت الضحكات فجأة وسكن نعيق الغربان ، فتوقف ضياء عن الركض وانحنى على ركبتيه يتلقط أنفاسه التي تجاهد للهرب منه .
جروحه المفتوحة سقت الأرض بدمائها الطرية وانتشرت رائحتها بكل الغابة فجذبت الكثير من محبيها .

رفع رأسه ببطء حين أحس بحركة قربه ، لكنه لم يرى شيئاً سوى تلك الطيور السوداء التي تراقبه بعيونها الحادة كأنما تنتظر لحظة سقوطه لتنقض على جسده الصغير .
فاجئه ذاك الطائر الأسود الذي نزل على الأرض و بدأ يمشي نحوه بتبختر وعظمة قبل أن يفتح منقاره الطويل ليطلق نعيباً قوياً في وجه ضياء الذي وقع أرضاً يتنفس برعب وعيناه جاحظتان تراقب ذاك الطائر المجنون الذي أرتفع عن الأرض محلقاً بأعالي السماء و نعيبه يبدد هدوء الغابة المخيف .

كانت الغربان الأخرى تراقب الطائر المحلق بالسماء والذي أخذ بالطيران في حلقة مُفرغة مصدراً أصواتاً قوية و كأنه يتلو صلاة أو ينادي أحداً ما ؟.
زحف ضياء بعيداً قدر الإمكان ، لكن فاجأته تلك المرأة مقطوعة الرأس التي التقطته و هي تقطر دماً مصدرة صوتاً مشابه نعيق الغراب في بؤسه.
أطلق صرخة مدوية قبل أن يتراجع بالجهة المعاكسة طالباً منها بترجي الابتعاد عنه ، لكنها أبت إلا الاقتراب ، فلم يكن أمامه سوى الهروب ، عاد يقطع المسافات جرياً متوغلاً داخل الغابة المخيفة حتى وصل إلى بقعة بدأت فيها العظام تتكسر تحت قدميه بدل الحشائش فجفت دمائه وهو ينظر حوله ، و يتفحص يجبين متعرق تلك القبور المكسورة و الأكفان الصفراء المهترئة المرمية هنا وهناك.

كانت بعض القبور مفتوحة تطل منها هياكل عظمية وجماجم و كان بعضها قد طحنت قدميه وتحولت إلى طحين أبيض ناعم تذروه الرياح
، ركض و ركض متعمقاً أكثر فأكثر داخل تلك الغابة التي بدت كالأدغال التي لا نهاية لها ، و كلما ركض ظهرت المزيد من القبور أمام ناظريه مبشرة إياه بنوبة رعب و سكته قلبية في الطريق ، و موتة ليست بالهينة أبداً.

علم أنه تجاوز الغابة و وصل إلى عمقها حيث المقبرة القديمة والتي أغلقها أهالي البلدة بسبب نشاط الساحرات و الإرهاب التي كثرت بها ، و لأنها كانت على قارعة الطريق بعيداً عن المنازل فكانت المكان الأنسب لقاطعي الطرق كي يسرقوا و ينهبوا العائلات التي أقبلت لزيارة أمواتها و أحياناً يقومون بإرسالهم للعالم الأخر ليلاقوا بعضهم بعضاً ، و رغم أنه كان خائفاً من التعمق أكثر داخل تلك الأحراش إلا أنه استمر بالهرب.

فجأة تعثر بحجر صغير فأرتفع جسمه عن الأرض محلقاً بحركة دائرية ليستقر أخيراً داخل احدى تلك القبور المفتوحة و التي امتلأت بالحشائش الصفراء وبعض النباتات الصغيرة ذات الرائحة النفاذة.

الألم الذي سببه له الوقوع جعله مشوشاً تماماً ، لكنه لمح من بين طيات الظلام تلك المرأة تتقدم نحوه و وراءها اثنان أخران لم يميز وجههما لكنهما كانا لا يقلان عنها إرعاباً.
تجلس في مكانه و حاول الزحف بعيداً بينما الثلاثة يقترون منه وهو محاصر داخل ذلك القبر الصغير الذي تحلل صاحبه من الألاف السنين أو ربما أُكل من طرف الغربان .
انحنت نحوه تلك المرأة المخيفة ومدت يدها الملطخة بالدماء نحوه فأغلق عينيه صارخاً ملئ حلقه : ابتعدوا عني.. ابتعدوا عني “ي “.

فجأة و دون سابق إنذار تعالت ضحكات ذكورية في الغابة و تلاشت تلك الموسيقى المخيفة التي لم يكن قد استطاع تميز أهي من الواقع أم من صنع خياله الخصب ؟.
فتح عينيه و حدق بدهشة عارمة إلى تلك الوجوه الثلاثة التي يعرفها حق المعرفة ، نقل بصره نحو بضع شجيرات ليرى باقي العصابة يخرج بينما أحدهم كان يحمل آلة تصوير في يده و يقول ضاحكاً : أيها الجبان ، كنت تصرخ مثل النساء .
رقق صوته مقلداً صوت ضياء بسخرية : ابتعدوا عني ، ابتعدوا عني.
وغرق في الضحك مجدداً ليشاركه الأخرون قهقهاته المختلة.

شعر ضياء بالخجل من نفسه ، لكنه سرعان ما تحول إلى غضب ساحق حين قال أحد الشبان و هو يتناول الكاميرا من يد صاحبه ويتفحصها :
عندما يرى الجميع غداً هذا التسجيل سيعرفون جبنك جيداً يا ضياء.
علق أحد بتهكم : أخبرتكم أنه ليس رجلاً ، حتى أن أسمه أسم فتاة.
قفز ضياء على ذاك الذي كان يحمل الكاميرا بين يديه وصرخ غير عابئ بسخرية الأخرين :
أيها الحقير ، سأقتلك ، سأقتلك.

تلقاه شابان أخران بسرعة و أبعداه عن الشاب الأخر قبل أن يوقعه أرضاً أو يلحق ضرراً بالكاميرا ، كبلوه بأيديهم الصلبة و دون سابق إنذار انهالوا عليه ضرباً بأيدهم و بأحذيتهم و حتى أن بعضهم قد استخدم أغصان الأشجار الشائكة لضربه ، لكن الشاب الذي يحمل الكاميرا صرخ موقفاً إياهم :

– توقفوا.
تركوا ضياء يسقط أرضاً بعدما ظن أنه نجئ و أنهم اشفقوا عليه ، لكنه كان على خطأ ، فذاك الشاب اكمل بتشفي : سيأتي نادر و مجموعته عما قريب وهم يريدونه سليماً قدر الإمكان ، و إلا كيف ستنفعهم أعضائه المتضررة ؟.
اتسعت عينا ضياء رعباً و قال برعب : أعضاء ؟  ما الذي تنوون فعله بي ؟.
ضحك الشباب بسخرية و قال أحدهم ذو قبعة حمراء بلون الدم الطري : هل تظن أننا أحضرناك للغابة فقط لنعلب لعبة القط والفار أيها الشقي ؟ نحن نريد أكثر من ذلك فقد تعبنا من اللعب .

وعلق شاب أخر كان لا يزال يرتدي لباس المرأة الدامية و أن أظهر رأسه الطويل كالبيضة قائلاً بتذاكي : نريد قتلك طبعاً ، و هل هذا يحتاج إلى ذكاء أيها الغبي ؟.
كاد ضياء يبتلع لسانه من الصدمة ، فأردف شاب أخر كان قد تخلص من تنكره المرعب للتو فظهر جسمه الممتلئ بالدهون كعملاق لا يشبع :

أنظر إلى الجانب الجيد في الأمر يا صديق ، لا أحد يريدك في هذا العالم ، أنت مجرد عبئ ، إلى متى ستظل تعاني في المدرسة و تجعل والديك يتعبان بإرسال المصاريف اليك من قريتكم البئيسة بينما هم بالكاد يجدون ما يصلح للأكل ؟ ستموت بهدوء وترتاح روحك بل ستكون السبب في إنقاذ الألاف الأبرياء حول العالم والذين يحتاجون أعضاءك التي لا تجيد استخدامها سوى في الهرب والركض ، أليس هذا منصفاً ؟.

صرخ ضياء بألم و عيناه تذرفان المزيد من الدموع : أين الإنصاف ؟ أين الإنصاف بأن أتعذب طول حياتي و أعيش فقيراً ثم بالأخير يأتي ستة أطفال يريدون سلب روحي ، أليس لي حق بأن أعيش ، أن أفرح و أن أنجح ، لما الحياة هكذا و لما أنتم هكذا ؟.
قال الشاب ذو القبعة : ولهذا سنساعدك سنخلصك من ألمك و….

قاطعه ضياء صارخاً و قد تدفقت نافورة أخرى من الدم عبر أنفه : تساعدوني بقتلي ، أي مساعدة هذه ؟ أنا أريد أن أعيش كما أنا و كما قُدر لي أن أعيش ، تعيساً ، فقيراً ، حزيناً ، فقط دعوني ، أليس بقلبكم أي شفقه ؟.

صمت قليلاً وقال وهو يهتز ببكاء صامت : لا أريد أن أموت ، لا أريد لا أريد.
بدا أن كلامه حرك في بعضهم بعض المشاعر فأخذوا يتبادلون نظرات صامتة عميقة ، لكن قبل أن يقوموا بأي حركة صدر صوت غليظ في الغابة وخرج من حيث لا يعلم أحد شاب قوي البنية غليظ وجهه ممتلئ بالوشوم ، نظر بشماتة نحو ضياء الذي أخذ جسمه يرتجف أكثر فأكثر ، ليس برداً و إنما خوفاً.

تقدم الشاب الممتلئ بالوشوم والذي بدا من هيئته أنه قائد عصابة خطيرة ربما توازي المافيا في خطورتها ،  و ربما أكثر من ذلك.
لكن ضياء علم من أول نظرة أنه يترأس عصابة أخطر مما يبدوا عليه ، وتحول اعتقاده إلى يقين بعدما رأه يخرج خنجراً من طياته و يلعب به في يده كانه لعبة من ورق !.
عصابة تسلب الأرواح  و أية عصابة هذه ؟.
أخيراً تكلم الشاب الجديد بنبرة تفيض تحمساً و تلهفاً و كأنه مقبل على سباق ليس له مثيل ، أو كأنما وقعت يديه على جبل من الذهب.

ثبتوه ، هيا ليس أمامنا الكثير من الوقت والفجر قريب.
زحف ضياء ببطء فيما الأخرون يقتربون منه مطعين أمر الشاب ، حاول أن يدافع عن نفسه بينما تلك الأيدي تمتد اليه مخترقة الظلام من حوله ، حاول أن يبكي ، أن يصرخ ، لكن جسده أبى أن يستجيب اليه ، فتسمر بمكانه كصخرة لا تنطق و لا تسمع ، فقط تنتظر و تشعر.

ود في تلك اللحظة لو تتحقق نبوءة الهالوين ، لو يتحرك أموات تلك القبور ليدافعوا عنه ، تمنى أن تأتي الأرواح الشريرة لتلتهم جسده قبل أن تصل اليه تلك الأيادي ، تمنى وتمنى ، ولكن ما نفع التمني ؟.

إن الهالوين مجرد يوم لا يختلف عن باقي الأيام ، فقط يرتدي البعض أقنعة مخيفة ليرغموا الأخرين على أعطائهم أكبر قدر من الحلوى ، هذا فقط ما يعنيه الهالوين و هو قد تعب من سماع الخرافات ، لكن ود لو يتحقق بعضها الأن ، فقط لتأتي الأرواح والباقي لا يهمه ، لتأتي ، لتأتي.

شعر بتلك الأيدي تستقر على كتفه بقسوة و تثبت أطرافه في قوة و تطرحه أرضاً كما يطرح الجزار الشاة استعداداً لذبحها ، برودة الأرض تسللت عبر عظامه فضاعفت من ارتجافه ، نظر نحو الثلاثة الذين يقفون فوقه محاولاً استثارة مشاعرهم ، و لكنهم انصرفوا ببصرهم عنه و حدقوا بكل شيء ، عداه !.

سمع صوت بدر وهو الشاب الذي كان يحمل الكاميرا سابقاً :
– أحضرت وحدك يا نادر ؟ إن هذا لأمر عجيب !.
أجابه الأخر بصوت ساخر غليظ :
– و هل تريدني أن احضر قبيلتي بأكملها لأجل طفل حجمه كالدجاجة !.
صمت لهنية وقال :
– لقد خيبتم أملي في ضحية اليوم ، فمن شباب العالم أجمع وقع اختياركم على هذا التعيس.
أجاب بدر في هدوء ولا مبالاة :
– لم يكن هناك من هو بمثل سذاجته وغباءه ، كان فريسة سهلة .
و تدثر صوته بالغضب وهو يكمل :
– وعليك شكري لأني وفيت بوعدي و أحضرت لك شاباً أخر ، فالشكوك بدأت تحيطني بكل مكان و لا أريد ان أفقد شهرتي بسبب الأعيبك القذرة يا نادر.
، قهقه نادر  ثم اردف بجفاء وهو يتقدم للأمام :
– الأعيبي هذه تدر عليك بأموال باهظة و لا يمكنك أن تنكر هذا يا عزيزي.
اشمأز بدر من كلمة عزيزي فقال :

– هلم إلى عملك و أوجز ، فأني أرى خيوطاً من البياض بدأت تخترق السماء.
همهم الأخير وتقدم نحو ضياء الجزع و وضع السكين على عنقه ، و قبل أن يحركه قال :
ستساعدونني بنقل الجثة للكوخ على طرف الغابة ، هناك سنقوم بانتزاع الأعضاء و إرسالها للمشفى و وغداً تتلقون أجركم.
همهم بدر :
– و إن يكن ، هيا أسرع.
اتسعت عينا ضياء ، جثة أ أيقولون جثة ؟ أه ما أصعبها من كلمة ، أه ما أصعب أن تعرف أن نهايتك اقتربت وتراها بعينك ! لكنه شقي ، أجل شقي ، يعاني وهو حي و سيعاني وهو ميت ، فهم سيقومون بفصل أعضاءه عن بعضها .
أرتعش جسده و ما لبث أن سكن بعدما سال خيط رقيق من الدماء على عنقه ، ليرتفع نعيب الغربان في كل مكان .
 
بعدما ظن أن روحه فارقته و بعدما يأس من خلاصه  أتاه الفرج أخيراً ، عبارة عن غربان حالكة السواد ، تلك المخلوقات السوداء التي اعتبرها الجميع نذير شؤم  كانت السبب في خلاصه.

ما إن ضغط نادر بخنجره على عنق ضياء و سالت بعض من دماءه  هاجم سرب من الغربان المجموعة ونقرتها بعنف حتى سالت دماءها و أرتفع صراخها مزلزلاً الجو.
زحف ضياء مبتعداً يراقب بعينين تبرقان تلك المجموعة التي لاقت حتفها جراء نقرات الغربان ، يراقبهم يصرخون يهربون ويدعون الله أن ينجيهم ، و هل ينجو العبد من غضب خالقه ؟ قطعاً لا.

لم تكتفي الغربان بالنقر ، لم تكتفي بالقتل ، بل انحنت على الجثث المتناثرة بكل مكان تلتهمها التهاماً و بكل عنف وقسوة تمزق جلودها غير عابئة أهي حية أم ميتة ؟.
كان بعضهم حياً بالفعل و بعضهم لاقي حتفه جراء الرعب ، لكن لم تهتم الغربان واستمرت في هجومها و أعدادها تزداد شيئاً فشيئاً حتى غطت سماء الغابة و أرضها بسواد قاتم ، و بأنهار من الدم.

ارتعش ضياء وارتعش وعلم أن دوره قادم ما إن اقترب منه غراب أسود ضخم ، أنهم غربان لن يميزوا المظلوم من الظالم ، غير أنه شاكر لهم معروفهم وسيموت هانئاً بعدما لقي الظالمون حتفهم لذا و بكل شجاعة ، تلك الشجاعة التي لم يملكها يوماً رمى نفسه وسط الغربان و أمام قدمي الطائر الذي كان يتقدم نحوه .

لكن الغربان جزعت هربت منه و اختبأت و كأنها إن حاولت مسه ستلاقي هولاً عظيماً ، صدر نعيبها بكل مكان و هرب بعضها و منقاها يقطر دماً ، فاتسعت عينا ضياء دهشة  و تساءل في حيرة مسموعة :
ماذا يحدث ، لما يهربون مني ؟.
أتاه الجواب سريعاً :
أنت شاب مظلوم عزيزي ، و نحن رغم سوادنا ، رغم تشاءم الجميع مننا ، نحن مخلوقات تعي و تفهم ، ألم تعلم قبلاً أن الغربان ذكية يا عزيزي ؟.
استدار ضياء ببطء ليقع نظره على صاحب الصوت ، شاب مليح الهيئة و حسن الصورة و إن التف كل جسمه بالسواد .
تقدم الشاب بخطوات واثقة و مد يده نحو ضياء ليمسك بيده الباردة المرتجفة ، اسنده على كتفه وقال وهو يشير لباقي الغربان التي انتفضت وتحولت لرجال ونساء بمختلف الهيئات  و حتى أطفالاً ، أكمل الشاب قائلاً :

نحن نريد العدالة ، و قد منحنا خالقنا هذا الشرف ، طول عقود وعقود توالت العصابات على هذه الغابة المسالمة ، مارسوا فيها ابشع الجرائم التي قد تخطر على بال وسفكوا فيها دماء الأبرياء دهاقاً ،
و قد كنت أنا ضحية لمثل تلك العصابات التي مارست دور ملك الموت واعتزمت سرقة الأرواح قبل أن تستوفي أجلها .
ظهرت بسمة خفيفة على مبسم الشاب وقرأ ضياء بها أوجاعاً لا تُعد وتُحصى .
– أستدرجونني كبهيمة أو كشاة مغيبة ، هتكوا عرضي و ذبحوني كالخرفان و أخذوا ما شاءوا من لحمي و أعضائي و رموا الباقي للغربان .

اتسعت عينا ضياء وارتجف و أرتجف ، تلاقت عيناهما فجأة فبرقت عينا الشاب ليكمل :
و قد أخطأوا في ذلك ، فما علموا أن كل غراب يتغذى على لحم مظلوم و تحبس روحه بداخله ، و ما همها سوى الانتقام ، حُبست طويلاً بقلب غراب صغير أطعمته أمه لحمي فُحبست داخله وعشت سنيناً كغراب مشؤوم ملعون من قبل الناس .

كان هناك يوم واحد بإمكان تلك الأرواح أن تسيطر على جسد الغراب فتدور بالعالم بحثاً عن انتقامها لتهدئ روحها الثائرة ، وكان ذلك اليوم هو الهالوين ،
مرت علي أيام عديدة عشت فيها الهالوين وتعرفت على أرواح أخرى وغربان أخرى ، بعضها أخذ انتقامه و بعضها لازال تائها مثلي ، اتخذت لي فرقة و عينت نفسي قائداً عليها و بحثت عن انتقامي ، هاجمت كل من وقعت عيناي عليه ، ولكن روحي لم تهدأ ، أما اليوم و بعدما أنقذت روحاً بريئاً وقتلت من كان السبب في تعاستي فقد ارتحت و هدأت ثائرتي.
قال ضياء بعد صمت طويل : هل كان نادر ؟ من..
لم يكمل إذ قاطعه الشاب قائلاً :

– لا ، لم يكن ذلك الشاب الغليظ من سلبني روحي ، لكنه كان يتفرع من نفس العرق الخبيث ، لذا فانتقامي لواحد من تلك العائلة كفيل بإخماد شهوة الانتقام داخلي ، و أني لأغبط نفسي فقد استطعت إلى جانب تحقيق عدالتي إنقاذك ، و أنا واثق أنك ستكمل مهمتي بعدي .
ربت الشاب على ضياء برقة و دفعه نحو المخرج قائلاً :
– أنا سأغادر هذا الغراب مع شروق الشمس ، و ما هي إلا دقائق حتى تملا العالم بنورها .
صمت لهنية و أردف :

– أعلم أنك لا تصدق الخرافات كثيراً و لا تؤمن بالأرواح إلا قليلاً ، و لكن الغابة تمتلأ بأصحاب النفوس الخبيثة ،  لذا أتبع هذا الغراب فهو سيرشدك إلى بر الأمان و يحميك ممن ينوي إيقاعك في بئر شروره ، و أنصحك و أحذرك ، إياك أن تضيعه فأنك بذلك تضيع روحك .
ربت عليه مرة أخرى بتشجيع و قال :
– في أمان الله.
ثم انتفض الغراب مرة أخرى و تبعه الأخرون ليحلقوا به إلى أعالي السماء مبتعدين عنه ،  و بقي غراب واحد مع ضياء الذي أصدر نعيباً متذمراً حينما لأحظ أن الأخير شرد في أفكاره ، و تحركت عواطفه .

ركض ضياء و ركض متوغلاً في أرجاء الغابة و مسترشداً بالغراب الصغير الذي تركه بعدما وصل إلى حدود الغابة و غادر ليلحق بجماعته .
وعلى حدود الغابة قابل ضياء بضعة أطفال أثروا السهر على النوم و أخذوا يتجولون بتنكرهم المرعب بحثاً عن فريسة أخرى تملأ سلالهم بالحلوى ، لكن ضياء ما أن وقع نظره عليهم حتى سقط مغشياً عليه ، فتبادل الثلاثة الضحك مرددين بغبطة و فخر :
– لقد أخفناه ، لقد أخفناه.
– أنه جبان !.
وسرعان ما تجتمع بعض الشباب والرجال حول ضياء ليحملوه وهم يتبادلون الأراء ، و فبعضهم رأى أنه جبان للغاية و بعضهم قرأ على صفحات وجهه المتعبة أهولاً عده جعلته لا يحتمل المزيد ، أما ضياء فقد تدثر بالصمت و نام نوماً عميقاً .

لم يندم ضياء قط على ما حصل فقد علم أن سيف العدالة لا يُخطئ و أن العقاب أتي لا محالة ، موقن الأن أن عبارة كما تدين تدان ليست للزينة وقد تيقن أن لا مفر للظالم من العقاب .
ليس نادماً على أصدقائه الذين لقوا حتفهم تحت سماء الليل المظلمة في ليلة الهالوين ، يعلم أنهم يستحقون ، فكم من شاب صغير أتصف بالبراءة أخذوه على غفلة وسرقوا روحه و هتكوا عرضه ؟ ليس نادماً و لن يندم قط ، أنه الأن يريد أن ينام ، فغداً سيكون يوماً جديداً و سيخرج للعالم شخص جديد ، سيكون ذلك الشخص …. هو.
 
النهاية …….

تاريخ النشر : 2020-11-11

رنا رشاد

المغرب
guest
11 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى