أدب الرعب والعام

ليلتي الأخيرة بالفندق

بقلم : أحمد محمد زويل – مصر/ الإسكندرية

ليلتي الأخيرة بالفندق
توجهت ندى ناحيتها ، وأمسكت بذراع الدمية وقالت لي : هذه ! أريدها !

 
– القطار سيتحرك يا أمي !

انتفض العملاق الحديدي وصاح بالواقفين على الرصيف، إنها فرصتهم الأخيرة للركوب..

– أمي.. هيا بنا..

شدت على يدي، ثم انتقلت أصابعها لطرف قميصي، تنهدت وأنحنيت تجاهها، قلت بأسف :
–  ندى، لن نركب القطار..
– لماذا؟

تلعثمت في محاولة لالتقاط كلمات مناسبة : أبوكِ قد سافر لبيروت بالأمس.. وقد أرسل لي بعض المال وطلب منا إكمال إجازتنا في مطروح.. إنه.. حسنًا.. أمر طارئ!

حدقت الصغيرة بعيني لحظات، تتحرى الكذب، تُفتش عن ثغرة ما، ثم قالت باستسلام: ماشي ! ولكن لماذا لا نعود لمنزلنا ؟

– ألم تستمتعي بالشواطئ هنا؟

– بلى، ولكنني مللت..

– يومان فقط بعدها يمكننا العودة.. أود ان أستمتع بأكبر قدر من الإجازة قبل العودة للعمل في القاهرة..

***

غادرنا المحطة، وكمكافأة لموافقة ندى ترجلنا لمحل يبيع الدمى، كان صاحب المحل رجلًا في عقده السادس، أصلع الرأس إلا من بعض الشعيرات البيضاء الفوضوية المتناثرة هنا وهناك، وشارب أبيض خفيف فوق شفتيه ، كانت عيناه ثقبان كثقب الإبرة ، حدقة كبيرة ترمق المشهد بكامله ، فلا تفوتها ثانية من الحدث .
ساورني القلق ، مِلت على ندى وهمست بأذنها : فلنذهب لمحل آخر ، هناك محلات ألعاب متخصصة وكبيرة أفضل من محل الهدايا هـ..

بترت حديثي بصياح تعجب ، رمقت ما ترمقه.. دمية فتاة عملاقة ذات شعر كثيف آدمي أكثر من اللازم ، وبشرة بيضاء لم تتسخ بعد رغم أتربة المحل . توجهت ندى ناحيتها ، وأمسكت بذراع الدمية وقالت لي : هذه ! أريدها !

– حسنًا ولكنها.. أليست كبيرة بعض الشيء

– لا أريد سواها.. أرجوكِ يا أمي!

– يا صغيرتي إنهـ…

رن هاتفي، إنه محمد، زوجي، أشرت بإصبعي للصغيرة وأمرتها بالانتظار، أدرت ظهري وأجبت على المكالمة:

– عُلا.. هل ركبتِ القطار؟

– نعم.. نحن في الطريق..

– كل شيء بخير؟

– على أفضل حال.. ندى بخير

التفت تجاه الصغيرة، كانت تتحدث مع البائع، ظهرها لي، تحمل الدمية في أحضانها، الدمية التي رأيتها تغمز لي بعينها اليسرى !

– أنا بانتظاركم.
قال محمد.

تجاهلت ما حدث للتو وأجبته : لن نتأخر !

***

يُقال بأن النبوءات تتحقق، فقط عليك ان تؤمن بها..

الليلة الماضية، رأيت أثناء منامي انقلاب القطار الذي لابد لنا أن نسافر به، صدّقت النبوءة، وكذبت على الصغيرة وارتجفت أصابعي أثناء قراءة الخبر بنشرة أخبار المسائية، نسبة الناجين من الحادث ٢٪ فقط.. كنت أعرف.. لم أكذب نفسي لحظة واحدة، فقط لأن هذا ما أردته أن يحدث ! احتفظت برقم فريد على قصاصة ورقية ثم كسرت شريحة الهاتف البلاستيكية إلى قطعتين.. أنا وندى الآن في تعداد الموتى !

اشتريت شريحة هاتف جديدة ، و أول ما فعلته هو مهاتفة فريد ، قال لي بانفعال فور أن عرفته بنفسي : عُلا.. هل أنتِ بخير ! لقد شاهدت الأخبار و…

– اطمئن لم أستقل القطار أصلًا..

– مازلتِ في مطروح ؟

– أجل ، بطريقة ما كنت أعرف أن هذا سيحدث..

– هل يعرف زوجك بهذا ؟

ابتسمت : لا.. ولن يعرف مطلقًا..

لم يقل شيئًا، فتابعت: الآن أنا حرة كليًا، يمكنني أن أظل معك للأبد ، زوجي يظن أنني ميتة، وربما يقيم العزاء الآن.. لقد كنت محظوظة للغاية..

– عُلا.. هذا جنون !

– فليكن.. من حقي أن أنعم ببعض السنوات الهنيئة.. لقد قضيت أعوامًا بالجحيم يا فريد !

قال بعد برهة صمت : ماذا ستفعلين الآن إذن؟

– سنقضي الليلة في فندق رخيص، وفي الصباح يمكننا ترحيل الصغيرة ثم العيش سويًا..

– كيف ؟ لو عادت الصغيرة لزوجك سيعلم أنكِ على قيد الحياة !

– سأكون وقتها في مكان ما معك.. ما رأيك بالإسكندرية؟

– في الصباح يمكننا التفكير.. في الصباح يا عُلا..

***

غرفة الفندق، الغرفة ٦٠٩ لم تكن سيئة، حمام خاص، سريران منفصلان، دولاب صغير، مرآة كبيرة تتوسط الغرفة، تلفاز أرضي البث، وشرفة صغيرة تطل على شارع عمومي ومن خلفه خط البحر الأزرق المتصل بالسماء السوداء.. جلست ندى على سريرها وأجلست الدمية بجوارها ولكنها سرعان ما غطت في النوم، كان نومها مريحًا بالنسبة لي، فالآن يمكنني التفكير مليًا فيما يمكنني ان أفعله بالصباح.

خلعت ملابسي واتجهت للاستحمام، كانت المياة دافئة تغمر جسدي، وتعيد فتح مسام جلدي، حين سمعت طرقات على باب الحمام.

– ندى انا أستحم هل هناك شيء؟

لم أتلقَ إجابة، فقط ظل الطرق مستمرًا..

– ندى.. لنتظري لحظة!

لففت جسدي بالمنشفة، وفتحت الباب.. لا أحد ! ندى نائمة كما كانت على سريرها بجوار الوسادة.. أين الدمية ؟

عدت للحمام ولكنني قفزت في مكاني حينما رأيت الدمية جالسة بحوض الاستحمام، نظرت حولي لا أراديًا ، ثم التقطتها وألقيت بها خارج الحمام، ولكنني لم أستطع استكمال استحمامي، لذا تنشفت سريعًا وأرتديت ملابسي الداخلية وخرجت مسرعة..

التلفاز.. انه يعمل الآن، يذيع فيلمًا امريكي قديم، بالأبيض والأسود تلفت الممثلة للمشاهدين وتفتح عيناها على مصرعيهما وتمسك بأطراف وجهها وتقول بعض الكلمات الختامية، اقرأ الترجمة المكتوبة بالأبيض: «لم يكن لدي خيار آخر !» ثم يبدأ التتر الختامي بالهبوط من الأعلى للأسفل.

التلفاز يعمل وحده، الريموت بعيدًا تمامًا عن ندى وعني، ترجلت للريموت وأغلقته. من طرق على باب الحمام؟ من شغل التلفاز؟ كيف جاءت الدمية؟ الصداع سيفتك بي!

أشعلت سيجارة ودخنتها بالشُرفة، وعند عودتي وجدت بالمنفضة سيجارة مشتعلة، الدخان يتصاعد منها في خيوط زرقاء متموجة.. لم أعد أستطيع التحمل.. هاتفت إدارة الفندق، على الجانب الآخر أجابتني فتاة: تحت أمرك يا فندم؟

– أخبريني بصراحة.. هل الغرفة مسكونة؟

ضحكت ثم أردفت: بالطبع لا يا سيدتي، لقد شغلت الغرفة مئات الزبائن لسنوات ولم يقل أحدهم شكوى واحدة عنها سوى انقطاع المياة أحيانًا ، ولكنها مشكلة عامة في فنادق مطروح.

– ليست المشكلة بالماء، التلفاز يعمل وحده و…

بترت حديثي لشعوري بسخافته وأردفت : لا تهتمي شكرًا لكِ..

– الفطور سيكون بالثامنة صباحًا أرجو أن تسيقظي مبكرًا له.. ليلة سعيدة.

سعيدة للغاية، إنها ليلتي الأخيرة في حياتي كسجينة لدى مُحمد، وبدأ حياة جديدة، إنها ليلتي الأخيرة، ثمان ساعات من النوم داخل فندق وينتهي الأمر..

تنهدت وأمسكت برأسي، استلقيت على السرير، ثم سمعت صوت الهاتف يرن..

أجبته، فجاء صوت فتاة مختلفة عن فتاة إدارة الفندق تقول بصوت هادئ : هل تستمتعين بليلتك الأخيرة ؟

ابتلعت ريقي وهرعت أضغط زر الضوء بالغرفة: من أنتِ؟ سألتها.

– لا يهم من أنا، المهم أنتِ.. أنتِ شجاعة بالفعل لاتخاذ قرار كهذا.. ولكنها كارثة..

التلفاز مرة أخرى يعمل وحده.. نفس المشهد، الممثلة تنظر للمشاهدين، عيناها كفجوتين، شعرها القصير يتطاير: «لم يكن لدي خيار آخر» تتر النهاية..

صرخت عبر الهاتف: من أنتِ؟!

– هل فكرتِ بابنتك أم بنفسك؟

لم أستطع تحمل كل هذا، التقطت مقصًا من حقيبتي وقطعت سلك الهاتف وسلك التلفاز.. هدأت الغرفة.. هدأت كثيرًا..

– ابنتكِ أم أنتِ؟

يتردد الصوت من ركن ما بالغرفة، أمضي تجاهه خائفة، بدأت أصابعي ترتجف وفي المرآة رأيت شحوب وجهي.. أدور بالغرفة.. من أين يأتي الصوت؟

– ماما.. ماما.. ماما..

الدمية على الأرض.. تومض عيناها باللون الأحمر وتردد كلماتها الباردة..

– ماما.. ماما.. ماما..

أمسكت بالدمية، حملتها.. كم هي ثقيلة، هرعت للشرفة وألقيت بها..

– ماما.. ماما.. ماما..

ثم سمعت صراخًا صادرًا منها.. صراخ أدمي.. ثم ارتطام عنيف بالأسفلت.. الدم الأحمر يفترش الأسفلت أسفل الدميـ… أسفل ندى !

قلبي يتصارع، أنفاسي تنقطع، على سرير ندى تنام الدمية، صراخ كل نساء الشارع وهيستريا المارين، طرق على باب الغرفة.. التلفاز يعمل مجددًا بعد قطع أسلاكه..

لم يكن لدي خيار آخر.. تتر النهاية..

ملاحظة : القصة منشورة سابقاً للكاتب في موقع آخر

تاريخ النشر : 2018-08-04

guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى