ألغاز علمية

مأزق الطب النفسي – الرقص على أنغام الوهم

بقلم : وليد الشهري – المملكة العربية السعودية
للتواصل : [email protected]

الطبيب ومريضه وجهان لعملة واحدة، فكلاهما إنسان
الطبيب ومريضه وجهان لعملة واحدة، فكلاهما إنسان

من السهولة بمكان تشخيص الأمراض العضويّة ، ومتابعة الحالة الفيسيولوجيّة للمريض ، وهي مهمّة كل الأجهزة الإلكترونيّة المتطوّرة التي تشاهدها في المستشفيات ، لكن الأمر ليس بتلك السهولة بالنسبة إلى الأمراض النفسيّة ، خصوصًا وأنها تتسم بالتعقيد والتداخل ، فلا يمكن الكشف عنها بسهولة ، ولا تقدّم المعامل والمختبرات خدمات مفيدة في هذا الشأن ، وما يزيد الأمور تعقيدًا هو صعوبة التحقّق من صحة توصيف المريض لمشكلته للمساعدة على التشخيص الصحيح ،

blank
مع تقدم العلم في المجال الطبي لكنه
عجز عن حل لغز الأمراض النفسية 

وحتى لو غضضنا الطرف عن هذه الإشكاليّة ، فسوف تكون بانتظارنا عقبة أخرى تتمثل في صعوبة التحقق من صحّة تشخيص الطبيب لمريضه في المقابل ، لا سيما وأن الأمر كله يعتمد على تشخيصه ، بل يمكن أن يصل الأمر إلى مزيدٍ من التأزّم حين يتعمّد أحد الطرفين (الطبيب / المريض) خداع الآخر ومحاولة تضليله لتحقيق مقاصد معيّنة ، كما سيتبيّن لنا في الأسطر التالية.

 
تجربة روزنهان :

باستبعاد الحالات الرتيبة التي يدّعي فيها الشخص إصابته بمرض نفسي للتنصّل من تحمّل مسؤولياته ، أو التخفيف من وطأة الحكم القضائي الصادر ضده، أو تحقيق مصالح شخصية من أي نوع ، فقد وقع حدث ضمن الأحداث الاستثنائية الملفتة التي كانت بمثابة طلقة نارية كادت تصيب مؤسسات الطب النفسي في مقتل ، وعلى الرغم من أنها لم تفعل ، إلا أنها نجحت على الأقل في تهديد مصداقية الأطباء النفسيّين، تحقيقًا للمثل القائل: “الرصاصة اللي ما تصيب تدوش” ، بمعنى أنّ الرصاصة وإن لم تنجح في إصابة الهدف ، فهي تتسبب في إثارة الذعر والاضطراب !.

blank
ديفيد روزنهان هو عالم نفس أمريكي شهير
 
ديفيد روزنهان ، هو عالم نفس أمريكي شهير، وأستاذ في جامعة ستانفورد، عُرِف بخوضه تجربةً جريئة حملت اسمه “تجربة روزنهان”، أراد من خلالها اختبار كفاءة التشخيص الطبي النفسي، وقد نشر تجربته لاحقًا في مجلّة (Science) عام 1973م تحت عنوان: “أن تكون عاقلًا في أماكن مجنونة “، وخرج باستنتاج مفاده أن المصحّات النفسية عاجزةٌ عن التمييز بين الإنسان الصحيح والإنسان المريض ، ولكن ما فحوى تلك التجربة ؟ وما سبب خروجه بتلك النتيجة المحبطة ؟.
 
بدأت التجربة بإعداد ثمانية متطوّعين أصحاء للعب دور المريض النفسي ، كان من بينهم “روزنهان” نفسه ، ثم أخذوا يبحثون عن قبول للإيواء لدى 12 مستشفى في نطاق خمس ولايات أمريكية ، وحين عُرضوا على الفحص الطبي كشرط للموافقة على إيوائهم ، زعموا أنهم يعانون من هلوسات سمعية غير مفهومة باستثناء بعض الكلمات التي تم اختيارها بعناية للإيحاء بأنهم يعانون من أزمة وجوديّة مستعصية ، وانتهى الحال بقبولهم جميعًا كمرضى مصابين بالفصام ، عدا أحدهم الذي شُخّصت حالته باضطراب ثنائي القطب.

blank
زعموا أنهم يعانون من هلوسات سمعية غير مفهومة
 
بعد مدة، زعم المرضى المزيفون أنهم تماثلوا للشفاء ، ولم تعد تلك الهلوسات تراودهم ، لكن قرار خروجهم لم يكن ليصدر بتلك السهولة ، فقد أصر الأطباء على بقائهم في المصحة ، والاستمرار في تناول العقاقير الدوائية التي كانوا يرمونها في المراحيض ، وبينما كان “روزنهان” يعتقد أن بقاءه في المستشفى لن يتجاوز بضعة أيام ، فقد بقي هناك لمدة شهرين ، ومن حسن الحظ أن احتاط مسبقًا لهذا الأمر بتعيين محامٍ للحالات الطارئة.
 
من المفارقات العجيبة في هذه التجربة ، إدراك بعض المرضى الحقيقيين من خلال تصرّفات “روزنهان” وشركاؤه في التجربة أنهم مخادعون يتصنّعون المرض ، في حين أن الطاقم الطبي لم يلحظ ذلك ، خصوصًا وأن المرضى المزيفين كانوا يدونون ملاحظاتهم باستمرار، إلا أن منسوبي المستشفى قد فسروا ذلك السلوك على أنه نوع من الاختلالات العقلية !.

blank
 أصر الأطباء على بقائهم في المصحة و منعهم من المغادرة 
 
لم يلبث “روزنهان” أن خرج من المصحة النفسية ، حتى نشر تفاصيل تجربته كما أشرت لذلك آنفًا ، فاستنفرت لهذا الأمر منشآت الطب النفسي بقضّها وقضيضها تكذيبًا وتحقيرًا وانتقادًا ، وقد كان من بينها تلك المصحة النفسيّة التي كان “روزنهان” نزيلًا فيها، والتي قررت أن تتحدّاه بأنّها تستطيع التمييز بين المريض الحقيقي والمريض المزيف ، فقرر “روزنهان” الدخول في هذا التحدي بأن يرسل عددًا من المرضى المزيفين إلى تلك المصحّة خلال الأسابيع القادمة ، وعليها أن تثبت مقدرتها على الفوز في ذلك التحدي وتكذيب مزاعم خصمها !.

blank
شكل الفشل في تشخيص الحالات ضغط قوي على الأطباء النفسيين
 
خلال الأسابيع التالية للتحدي كان قد زار تلك المصحّة النفسية 250 مريضًا ، تم تشخيص 41 منهم كمرضى زائفين ، وقد كان ذلك مدعاة فخر و تباهٍ لتلك المنشأة التي استطاعت كشف المرضى الكاذبين المبعوثين من قبل “روزنهان” ، لكن سرعان ما تلاشت نشوة النصر لتستحيل إلى مزيج من مشاعر الإحباط والغضب والخزي ، وذلك حين أتاهم الرد الصاعق من “روزنهان” بأنه لم يرسل أحدًا إليهم طوال تلك الفترة !.

blank
اقترح العمل على توعية الكوادر الطبية بأهمية
البعد الإنساني في التعامل مع المرضى
 
شكّل الفشل في هذا التحدي مزيدًا من الضغوط على مؤسسات الطب النفسي بعد أن تكبدت المزيد من الخسائر المتمثلة في فقدان رصيد إضافي من المصداقية التي كانت تحظى بها ، وعمومًا يبدو أن التجربة تركت أثرًا مدويًّا على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد استعراض تجربته ، تطرّق “روزنهان” إلى خطورة المبالغة في الأخذ بالمصطلحات النفسيّة على حساب الحالة الخاصة لكل مريض ، واقترح العمل على توعية الكوادر الطبية بأهمية البعد الإنساني في التعامل مع المرضى ، لا سيما وقد لاحظ معاناتهم مع الإهمال والتعامل بطريقة سيئة ومهينة !.
 
حلفاء الجشع:

من البديهيات الاقتصادية أن استمرار شركةٍ تجاريّةٍ ما في السوق مرهون بتحقيق الأرباح المستمر، واستمرار تحقيق الأرباح مرهونٌ – بدوره – باستمرار حاجتك كمستهلك إلى السلع أو الخدمات التي تقدّمها هذه الشركة أو تلك ، وهذا يأخذنا إلى بدهية أخرى تقول أنّ شركات الأدوية هي شركات تجاريّة تعمل وفق الحقيقة الاقتصاديّة السابقة ، لذلك فمن السذاجة الاعتقاد بأنّ شركات الأدوية لا تبتغي شيئًا أكثر من رؤية العافية تشرق على محيّا المريض ، وأنها ستكون مستعدّة لإعلان إفلاسها والانهيار بكل سعادة ما إن ترى الجميع بخير.
 إليك الحقيقة: صحتك عبارة عن تهديد مباشر وخطير لسوق الأدوية !.

blank
كثير من الأطباء يعقد صفقاتٍ تجارية مع شركات الأدوية 
 
من المؤسف أن المجال الطبي النفسي – خصوصًا – لم يكن بمعزل عن الهيمنة التجاريّة التي بسطت نزعتها النفعيّة الأنانيّة على كل شيء ، فقد بات كثير من الأطباء يعقد صفقاتٍ تجارية مع شركات الأدوية بأن يعتمد منتجاتها كوصفة طبّيّة لمرضاه ، مقابل أن ينال نصيبًا من الأرباح ، حتى أصبحت الحالة النفسيّة العابرة التي يمكن أن يمرّ بها كلّ أحد ، نوعًا من الأمراض المزمنة التي تستوجب كتابة وصفةٍ طبية بصورةٍ عاجلة تُستخدَم على مدى طويل ، وذلك لترويج نوع معيّن من الأدوية.

ومما يؤكّد ذلك ما ذكرته إحدى الدراسات من أنّ 54% من منقّحي النسخة الرابعة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية – الذي يُعدّ مرجعًا عالميًّا – (DSM-4) كانت تربطهم علاقات ماليّة بشركات الأدوية ، الأمر الذي يثير التساؤلات حول مدى موثوقيّة المرجع بحد ذاته ، فضلًا عن منقّحيه – فيما لو صحّت الدراسة – !.
 
 
في الختام :

لا يقل الطب النفسي أهمية عن سائر المجالات الطبية الأخرى ، ومن الخطأ – بطبيعة الحال – تعميم السوء على جميع الأطباء النفسيّين ، ولكن يجب أن يُؤخذ في الحسبان دائمًا أنّ الطبيب ومريضه وجهان لعملة واحدة، فكلاهما إنسان.
دمتم بخير.
 

تاريخ النشر : 2020-06-22

وليد الشهري

السعودية
guest
21 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى