أدب الرعب والعام

ما يحدث ليلاً في الحقول

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

ما يحدث ليلاً في الحقول
ظهرت الأنياب الحادة التي يسيل اللعاب بجانبها ثم العينان المتقدتان

 إهداء إلی الرائع د. أحمد خالد توفيق ، إلي الشخص الذي جعلني أدخل عالم القراءة والذي تعلمت منه الكثير، إلی الذي أعرف أن أسلوبي لا يزال يحمل شيئاً من أسلوبه حتی هذه اللحظة ، ستظل في قلبي وعقلي دائماً ، أيها العراب رحمك الله وأسكنك فسيح جناته.

” الموت علينا حق “

قالها سيد وهو يرتشف من كوب الشاي خاصته ، أومأ رفيقه الوحيد في الجلسة برأسه في تشف..

صمت كلاهما وراحا يحدقان في الأراضي الواسعة حولهما بنظرة رضا وحكمة مؤقتة انتابتهما من الجو المحيط بهما، الجو الذي يُعرف بجو ليل الأرياف.

نظر سيد نحو رفيقه ممدوح وقال بفخر:

– ما كانت لهذه الأرض أن تكون لولاي.

مرة أخری أومأ ممدوح برأسه ودفن رأسه في وشاحه ليتقي نسمة الهواء البارد التي هبت علی المكان فجأة.

فقد سيد الأمل من جعل رفيقه يتكلم معه فأرتشف أخر ما تبقی من شاي في كوبه ثم وقف قائلاً:

– إن الحاج – رحمه الله – كان يأتمنني علی هذه الأرض، عشرون عاماً ! عشرون عاماً أتصدق هذا ؟!

هنا تكلم ممدوح بعد أن رفع ذقنه من تحت وشاحه:

– أنت تعرف أن هذه الأرض كان يمكنها أن تستمر بطرح الخيرات من دونك ، لا تتحدث وكأنك من جعلتها تنبت بنباتها هذا.

كان سيد قد أنتهى من غسل كوبه فوضعه علی الأرض وعاد لمكانه بجانب ممدوح وهو يتكلم:

– ومن قال لك هذا ؟! اللصوص وقطاع الطرق كانوا يتخذون منها مهرباً ويسرقون من ثمارها يومياً، أقول لك أن المحصول كان يقل للنصف.

ضحك ممدوح بعصبية سعل بعدها ، بعدما توقف عن السعال قال والضحكة لازالت لم تفارق فمه بعد:

– للنصف ؟! أكانت القرية كلها تسرق المحصول؟!

ثم صمت قليلاً وعاد يردف:

– بل والله لو ظلت القرية كلها تسرق من المحصول لما تمكنوا من سرقته في ليلة واحدة ، سيحتاجون أياماً وليالي.

دثر سيد نفسه ببطانية كان قد أحضرها معه ، قال من تحتها بعد أن سكن:

– كانوا يسرقون من خير الأرض ويقللون من بركتها ، بالطبع حتی عينني -الحاج- حارساً عليها.

أشاح ممدوح بنظره بعيداً نحو الأراضي الزراعية وهو يرد:

– من الواضح أنك تحرسها جيداً.

غطس سيد أكثر تحت غطائه وقال بصوت ناعس:

– لم أمسك بأحدهم قط ، فقط وجودي هنا يخيفهم ويجعلهم يهربون ، لا تنس أن معي السلاح ولدي الأوامر والحق بإطلاق النار علی أي شيء أراه يتحرك وسط الحقول.

وعم الصمت علی المكان لوهلة قبل أن ينتفض ممدوح واقفاً فجأة قائلاً:

– هناك أحد في الحقول !.

أتاه صوت سيد النعسان:

– نَم يا ممدوح نَم.

– لقد ظننت أنني أتخيل طوال هذا الوقت.

قالها ممدوح ثم تقدم نحو سيد وأزاح عنه الغطاء مردفاً:

– ستُودي بنا أيها الأحمق ، قم لنرى ما الأمر.

جذب سيد الغطاء في تكاسل وغطى نفسه مجدداً بينما يقول:

– السلاح معك ، اذهب وتفقد الأمر بنفسك.

– ماذا لو كانوا جماعة؟

– جماعة ؟! هذه الأرض لم تطأها قدم بشرية منذ عشرين سنة ، إذا لم نحسب العمال الذين يهتمون بها بالطبع.

– ليس هذا وقته ، قم معي.

– لا أنصحك بالذهاب الآن صدقني.

– أيها الكسول هيا بنا.

– اذهب أنت ما دمت مصمماً ، سأنتظرك هنا كي أضحك عليك حينما ترجع خائباً ، ولا تقل بأنني لم أحذرك.

وما أن أنهی سيد جملته حتی تدثر جيداً بالغطاء وأختفى تحته ، أطلق ممدوح سبة قبض بعدها علی سلاحه ومصباحه البدائي ثم انطلق يشق طريقه قبل أن يراه سيد يختفي وسط الظلام ، غمغم سيد بعد أن رحل:

– مغفل ، غباءه هو الشيء الوحيد الذي يتحرك في الحقول.

لم تمض سوی ثوان حتی سمع سيد صوت قادم نحوه ، نظر نحو مصدر الصوت وهو يضيق عينيه في محاولة بائسة منه لتقليل تأثير الظلام ومعرفة ما القادم نحوه ، لم يلبث إلا ودخل صاحب الصوت داخل دائرة الضوء التي كانت عبارة عن الحطب المشتعل ، وصاحبه لم يكن سوی ممدوح ، قال سيد بدهشة بعد أن أعتدل في جلسته:

– لكنك للتو رحلت من هنا !

قالها وهو يشير في الاتجاه المعاكس ، ثم أردف:

– وأين السلاح والمصباح؟!

نظر له ممدوح برعب ثم أشار بيده إلی الظلام وهو يقول:

– تركتهما هناك ، أنطفأ لهب المصباح فتركت كل شيء وهربت بحثاً عن مصدر الضوء.

أنفجر سيد ضحكاً وقال من بين ضحكاته:

– أيها الجبان أنت معي منذ سنة كاملة ولم أعلم أنك بهذا الجبن سوی الآن.

غمغم ممدوح فيما معناه بأن يصمت ، قال سيد منهياً أخر ضحكاته:

– أعد لنا بعض الشاي عليك لعنة الله ، ستصيبني بالفالج يوماً ما.

انهمك ممدوح في وضع إبريق الماء على الحطب بينما كان سيد يفكر في الذي حدث للتو ، يفكر في كيفية لحاق ممدوح بالهرولة كل هذه المسافة في تسع أو عشر ثواني فقط ، قال بعد أن عاودته ضحكة قصيرة:

– إن الخوف يصنع المعجزات.

ثم نظر لممدوح مردفاً :

– لا تبدو عليك إمارات التعب ، أم أنك تحاول أن تبدو قوياً !

قالها ثم أنفجر ضاحكاً علی نكتته التي قالها لتوه ، نظر له ممدوح ولم يرد.

نظر سيد نحو الظلام وهو يتنهد مفكراً و هو يكاد يقسم أنه رأی نفس الشيء مع ممدوح ، كان هناك شيء يتحرك بين الحقول، بل إنه ظن نفس الظنون التي ظنها ممدوح أيضاً ، ظن أنه يتخيل أو يخرف ، حتی حينما قال له ممدوح هذا لم يرد أن يصدق الأمر

أشاح سيد بنظره مجدداً نحو ممدوح ليراقبه وهو يعد الشاي ، كان ممدوح يعد الشاي بحركات آلية وغريبة ، وهنا ظل سيد يراقبه قبل أن يوجه نظره نحو النيران وبالتحديد نحو يد ممدوح ، قطعة القماش التي يمسك بها القدح انزاحت قليلاً والآن إثنين من أصابعه تلامسان القدح ، باختصار إن ممدوح يلمس القدح بيده العارية ولا يبدو أنه يتأثر بهذا قط ولا يبدو أيضاً أنه يلاحظ أن يده تلامس القدح، ممدوح نفسه كان شارداً وينظر نحو الظلام ، أخذ سيد يسأل نفسه : ما الشيء الذي ينظر له ممدوح في الظلام؟!  ولماذا يطيل التحديق هكذا؟!

حدق سيد في المكان الذي ينظر له ممدوح ، لكنه لم يتمكن من رؤية شيء سوی الظلام الدامس ، وفجأة نظر له ممدوح وكأن هناك من أخبر ممدوح بأن سيد يحدق في الظلام ، أنتبه له سيد فابتلع ريقه وغير اتجاه نظره بصمت ، قال ممدوح بهدوء:

– ما بك ؟! تبدو مرتاباً  ، منذ قليل كنت تقول أنني جبان.

رد عليه سيد بصوت خافت:

– ربما… ربما رأيت نفس الشيء يتحرك في الحقول كما كنت تقول لي.

أنعقد حاجبا ممدوح وقال بشيء من الغضب المصطنع:

– كنت تعرف ولم تتحرك معي؟!

– قلت ربما ، ثم ماذا سيحدث لو أتضح أن هناك لص أو اثنين ، خير الأرض كثير ولن يضر ضياع بضع أكواز من الذرة أو من البطاطس ،لا تجعل الأمر يشغل تفكيرك كثيراً.

قال ممدوح وقد زاد تعجبه:

– كيف يمكنك أن تقول هذا ؟! لقد ائتمنك الرجل علی أرضه ، كيف يمكنك أن تكون بهذا الهدوء؟

تنهد سيد وقال:

– اسمع يا أبن الناس من رأيتهم منذ قليل ربما يكونوا هم وأنا لا أريد التورط معهم أبداً.

رد ممدوح متسائلاً:

– هم؟!

لم يرد عليه سيد وظل يعبث في أظافر قدمه كعادته كلما أقلقه شيئاً ما ، أردف ممدوح حينما وجده صامتاً:

– من هم؟!

نظر له سيد لوهلة ثم حرك يده حركة دائرية فيما يعني المكان كله وقال:

– “هم ، عُمّْار المكان.

مرة أخری قال ممدوح متسائلاً:

– عُمّار؟!

ثم صمت قليلاً وعاد يردف:

– لكن العُمّار يكونون في البيوت المهجورة فقط!

– العُمار موجودون في كل مكان لا يتواجد فيه البشر.

– وما أدراك أنت؟!

تنهد سيد قائلاً:

– أدراني ما يدريك يا ممدوح.

ثم صمت الاثنان وكلاً منهما يفكر في شيء مختلف تماماً، إلی أن قطع ممدوح الصمت ومد يده يكوب الشاي نحو سيد الذي تلقفه شاكراً، رشف منه سيد رشفة صغيرة ثم وضع الكوب أمامه علی الأرض، ولم تمض ثانية حتی بدأ عقله يميز طعم الشاي، كان طعمه غريباً وكأنه يحوي عبق الحديد الصدأ ، نظر لكوب الشاي وأخذ يتفحصه بصمت ، هل هو ضوء النار أم أن لون الشاي يبدو وكأنه أكثر احمراراً من اللازم، بلع سيد ريقه وهو يحاول أن ينفض عن رأسه فكرة أن الشاي مذاقه مثل مذاق الدم ، ظلا لعدة ثوان يرتشفان الشاي منصتين لصوت الهدوء، حاول سيد طرد أفكاره عن مذاق الشاي مجدداً عن طريق حديثه مع ممدوح ، قال:

– قل لي يا ممدوح ماذا رأيت في الظلام؟

ظهر بريق في عيني ممدوح وبدا وكأنه سيبادل سيد سؤال بدوره ، لكنه عاد وقال بهدوء:

– الظلام ، رأيت الظلام.

– أعلم أنك رأيت الظلام ، ولكن ألم تلاحظ شيئاً غريبا ؟!

– لا أظن هذا.

أصدر سيد همهمة تدل علی خيبة أمل ، قال بعدها:

-لا يهم، سأخلد للنوم، لا توقظني.

أومأ ممدوح برأسه بدون أن يتكلم، ألقى بجسده علی حصيرة القش وتدثر جيداً بغطائه معطياً ظهره لممدوح الذي كان ينظر نحو كوب الشاي ، سيد شربه كله.

أما سيد نفسه فقد شعر بأن تصرفات ممدوح تبدو غريبة للغاية حتی علی شخص مثله، لم يزد الأمر غرابة سوی أنه أخذ يدندن بكلمات ما يبدو وأنها أغنية شعبية قديمة، أصغى سيد لما يقوله ممدوح باهتمام :

– تسعة خراف يتربص بهم الذئب ، تسعة خراف يحميهم الكلب.

نهض سيد ثم أوقفه وهو يسأله متعجباً:

– ماذا تغني؟!

نظر ممدوح نحو سيد وقال بصوت خفيض:

– أغنية كانوا يغنونها لي وأنا صغير.

– نعم فقط توقف ، أنت تثير ريبتي.

أنهی سيد جملته ثم عاد لينام وظل صامتاً يفكر في كلمات الأغنية.

 

حول ممدوح نظره مرة أخری نحو الظلام وظل يحدق هناك مستمعاً لأنفاس سيد الثقيلة وسط صوت الهواء الذي يصدر حفيفاً هادئاً ،  وظل الحال هكذا لوهلة من الوقت ، سيد نائماً وصوت أنفاسه يعلو، ممدوح مستيقظاً ينقل بصره بين الظلام وبين جسد سيد النائم.

وفجأة ظهر صوت غير مألوف ، صوت شيء يقترب ، شيء لديه أنفاس ثقيلة هو الآخر، نظر ممدوح لمصدر الصوت بهدوء وإذا به شيء قادم من ناحية الظلام، ظل ممدوح ينظر مترقباً لظهور ذاك الشيء حتی بدأت تتضح المعالم وبدأ الشيء يدخل دائرة النور التي لم يكن لها مصدر سوی النيران، ومع كل خطوة كانت ملامحه تتضح أكثر، في البداية ظهرت الأنياب الحادة التي يسيل اللعاب بجانبها ثم العينان المتقدتان ، ثم العنق الطويل والأقدام الأربعة ، ذئب! ذئب جائع يتصيد بعض الفرائس.

عض ممدوح علی شفتيه وأخذ ينظر للذئب بهدوء، إن الذئاب تخاف من النار، لكن هذا الذئب كان ينظر للنيران مباشرةً، بدأ الذئب يقترب أكثر من ممدوح الذي ظل هادئاً، مر الذئب بجانب الحطب المشتعل وتوقف ناظراً للنيران مرة أخری وكأنه يقول لممدوح أنه لا يخاف النيران، ثم سرعان ما عاد يتقدم نحو ممدوح ، كل هذا بينما ممدوح جالس ضاماً ساقيه إلی صدره ولا يحرك ساكنا، يقترب الذئب أكثر نحو ممدوح حتی صار علی مسافة قريبة للغاية ، لدرجة أن ممدوح شعر بأنفاس الذئب تداعب قدمه

كشر الذئب عن أنيابه وأطلق حشرجة مخيفة من حنجرته ، حشرجة لو سمعها أي شخص لظن أن الذئب يستعد للانقضاض علی فريسته المسكينة ، هنا أتسعت عينا ممدوح ونظر في عيني الذئب برعب ، بعدها هبطت عزيمة الذئب فجأة وبدأ يتراجع للخلف بهدوء.

وهذه المرة توجه الذئب نحو الفريسة الأخرى ، سيد المتخلف ذاك الذي ينام في أي وقت وتحت أي ظرف ، لابد من أن هذا هو ما فكر به ممدوح ، لو كان يفكر آنذاك ، تحرك الذئب بسرعة نحو سيد وأخذ يشتم ظهره بشغف، وفجأة توقف ثم توجه بنظره نحو ممدوح الذي لاقاه بعينيه مرة أخری ، وفي حينها فر هارباً من المكان وهو يصدر أنين الحيوان الخائف ، أما سيد فأنتفض من مكانه:

– أعوذ بالله من الشيطان الرچيم ، ما كان هذا؟!

نظر له ممدوح بنفس الهدوء ثم نطق:

– ذئب.

تبدلت ملامح سيد:

– ذئب ! في أرض -الحاج-؟!

رد ممدوح ساخراً:

– وهل هي خطيئة لا سمح الله ، لو كنت قد نسيت ؟ دعني أذكرك أننا في الخلاء.

قال سيد بصوت آمر:

– اذهب وأحضر السلاح الذي تركته في الظلام.

قهقه ممدوح:

– اذهب وحدك ، أتذكر؟

– ليس هذا وقته ماذا لو عاد؟

تلاشت الابتسامة من علی وجه ممدوح و اضيقّت عيناه و قال بصوت أشبه بالفحيح:

– اذهب وسأنتظرك هنا.

بلع سيد ريقه:

– لا يمكنني الذهاب هناك بدون مصدر ضوء.

– ليست مشكلتي.

– حسناً لا يهم ، إنس الأمر ، سأكمل نومي.

قالها ثم اندس تحت غطاءه ونام علی جانبه معطياً ظهره لممدوح مرة أخری ، كيف يمكنه أن ينام في أي وقت هكذا؟!

مرت ثوان ثقيلة قبل أن يقف سيد فجأة وهو يقول:

– لكن ألا تعلم أنا قلق و سأذهب لتفقد الأمر، يا لك من وغد لتتركني أذهب هكذا.

أجفل ممدوح واتسعت عيناه عن أخرهما ، لقد كان يحدق في الظلام ولكنه لمح سيد وهو يقف بطرف عينه ، هل هو يتخيل أم أن سيد وقف من وضعية النائم بدون أن يستند بيده علی الأرض، كان لتوه نائماً علی جنبه لكنه وقف مثل الدودة بدون أن يستند بأي شيء علی الأرض أهذا معقول؟!

كان سيد قد اختفى في الظلام بالفعل أثناء انشغال ممدوح بالتفكير فيم رآه، تنبه ممدوح إلی أن سيد ذهب بالفعل فوقف بحذر يتأكد من أن سيد قد رحل بالفعل، وقف عدة ثوان متصلباً قبل أن يستدير ويطلق ساقيه للريح وهو يفكر في الذي رآه حينما خرج ليتفقد الحقول ، إن ما رآه منافٍ لأي منطق وأي عقل، وعليه أن يخرج من هذا المكان بأي وسيلة.

– قُل لي يا ممدوح ماذا رأيت في الظلام؟!

كان ممدوح يمشي بمصباحه وسلاحه حينما تعثر بشيء ما و وقع ، طار المصباح من يده و وقع على الأرض بدوره ، انطفأ لهيبه وأنكسر الزجاج ،  والأدهى أن الزجاج جرح معصمه جرح صغير، لا شعورياً أطلق سبة ثم أخذ يتحسس المكان كي يعرف الشيء الذي تعثر به ، شيء قاس ودائري ،

رفع ممدوح يده بالشيء نحو السماء وبالتحديد نحو ضوء القمر كي يراه جيداً، هو شيء ثقيل كذلك ، لكن أهذا أنف ، أهذا وجه ، أهذه رأس؟!

يستدير ممدوح بتلقائية كي يواجه القمر، يريد أن يری أكثر.

هذا الشارب ، لماذا يشبه تماماً الشارب الخاص بسيد؟

حسناً لا مجال للشك هذه رأس سيد ، هذا هو سيد ، لكن لماذا توجد رأس سيد بدون جسده هنا؟!

عند هذه النقطة لا تهم الأسئلة كثيراً خصوصاً عندما تحاول أن تتأكد من أن ما تمسكه لهو رأس إنسان بالفعل ، فتحاول أن تفتح عينه لتجد أنها تستجيب معك بسهولة وتجد أنها حمراء تماماً مثل الدم ، عند هذه النقطة عليك فقط أن تهرب ، عليك أن ترمي أي شيء يعيقك عن الركض بسرعة مثل بندقيتك ، عليك أن تركض لأقرب بقعة ضوء تعرفها ، وأقرب بقعة ضوء هي المكان الذي جئت منه.

يرجع ممدوح ليجد سيد مندهشاً من أنه أتی بهذه السرعة، لا أحد يجزم ولكن يقولون أن الصدمة العصبية تقلل من الألم بشكل كبير، إن ممدوح لم يشعر بشيء قط حينما لامست أصابعه ذاك القدح الساخن ، إن ذلك لم يؤثر به قط.

عقلك يا ممدوح الآن يعمل مثل المحرك بينما جسدك هادئ للغاية ، لا يمكنك أن تفعل شيء سوی أن تفكر فيما رأيته منذ قليل، والآن فقط تتذكر الحكاية التي لطالما حكتها جدتك لك أثناء طفولتك، عن الذئب والكلب والتسعة خراف ، عن الراعي الذي كان يرعی في هذه الأرض قبل أن يشتريها الحاج ويقرر زرعها.

القصة تحكي عن التسعة خراف الذين سار بهم الراعي يأكلون من خشاش الأرض قبل أن تُزرع ، القطيع كان عبارة عن التسعة خراف والكلب حارسهم والعضو الأغرب ، ذئب التقاه الراعي وبدا واضحاً أنه لا يضمر أي شر نحو الخراف ، فضمه الراعي للقطيع وأصبح يُطعمه مثلما يُطعم الكلب، لكن يُقال أن الذئب في الأساس كان يتربص بالقطيع ولكنه كان خائفاً من الكلب ، حتی أتی اليوم الذي انزلق فيه الكلب نحو ساقية قريبة فمات ولم يبق منه سوی رأسه ، بعدها وجدها الذئب فرصة مثالية للانقضاض علی الخراف ، وبالفعل أثناء غياب الراعي توجه الذئب نحو الخراف وهو ينوي أن يتصيد خروفاً أو اثنين ثم يهرب من الراعي، لكن ما حدث كان غريباً ، ما حدث أن الخراف تجمعت علی الذئب وانهالت عليه بحوافرها حتی قتلته ، في إشارة لأن الخراف كانت تعرف نية الذئب منذ البداية.

والأن بعد أن تذكرت الحكاية لا يمكنك التوقف عن التفكير بأن الأرض المزروعة هي الخراف وأنت هو الذئب وسيد هو الكلب الأمين حتی ولو لم يبد ذلك ، لا يمكنك التوقف عن التفكير بأنك لو حاولت أن تسرق الأرض كما خططت منذ البداية فإن العمار سيفعلون بك شر فعلة ، تماما مثلما فعلت الخراف بالذئب ، لكنك تسأل نفسك : ما الذي اختلف ؟ إذا مات سيد فلماذا لم تسرق محصول الأرض كما خططت دوماً لأن تفعل، هذا لأن الكلب بدا وأنه حي لأن سيد بدا وأنه حي ، لماذا كان سيد حياً؟!

هذا بديهي فالجميع في الريف يعلم أن الأرواح لا تترك أجسادها حينما تموت ميتة مفاجأة لأنها لم تكن مستعدة ، لهذا إن ما كان أمامك لم يكن سوی شبح سيد الذي مات الفعل..

حينها تتذكر جدتك وهي تقول أنك إذا ما أردت أن تعرف إن ما أمامك هو الشخص نفسه أم لا فعليك أن تجعله يشرب أي مشروب به دم ، إذا شرب المشروب كله فهذا يعني أنه ليس هو وإذا تقزز منه فهذا يعني أنه النسخة البشرية ، وتؤكد عليك بأن النسخ الغير بشرية ستحب أن تشرب الدم جداً ، تتذكرها أيضاً وهي تقول : أن هذه القصة مرتبطة بالأرض علی مر السنين وأنه لابد من تكرارها كل فترة معينة ، قالت : إذا أردت أن تتأكد أذهب هناك ليلاً وغن الأغنية : إذا جاءك الذئب فأنت هو الذئب ، وإذا جاءك الكلب فأنت هو الكلب ، لكن تذكر عليك أن تكون إما الذئب أو الكلب كي يظهر أحدهما ، وهنا تظهر خطتك و ستتأكد من كل شيء بنفسك.

لابد من أنك عرفت أنك الذئب في الحكاية حينما أتاك الذئب الذي لا يخاف النيران ، غنيت الأغنية لكن لا تنكر أنت كنت تعرف هذا سلفاً ، لكنك أحببت أن تتأكد من أنك لا تهذي وتتأكد من أن القصة حقيقية وأنك إن حاولت أن تسرق الأرض ستلقی حتفك.

لم يلاحظ سيد أن طرف كُم جلبابك به بقعة صغيرة من الدماء ، لم يلاحظك وأنت تقاوم ألمك كي تستنزف بضعة نقاط من جرح معصمك في كوب شايه ، كل هذا لأنه كان يحاول أن يعرف فيم كنتَ تحدق في الظلام ، ولأنك حينها كنت تجلس معطيه ظهرك ، سيد شرب الشاي كله مما يعني إما أنه كان في حاجة ماسة للشاي فعلاً لدرجة أنه لم يعلق علی مذاقه الفظيع وإما أنه أحب مذاق الشاي بالدم

 ويمكنك أن تنسى الاحتمال الأول تماماً لما رأيته منذ قليل ، مما يعني أن من تجلس معه حالياً ليس سيد البشري الذي تعرفه ، لكنك الأن حينما تفكر بالأمر تجد أن هذه ليست هي المشكلة حقاً ، المشكلة أنه حينما يموت شخص في مكان مقفر لا يوجد به بشر فإنه لا يريد أن يبقی وحيداً بل أنه يريد الرفقة ، والرفقة لا تعني سوی أنه سيقتل رفيقه كي يظلا هما أو – شبحهما – معاً للأبد ، ألا زال الأمر غير كافي بعد ؟! سيقتله بنفس الطريقة التي مات بها.

لكنك لا تدرك هذا الجزء الأخير بالذات إلا حينما تجد من يدفعك دفعة مفاجأة لليمين ، لا تدرك أنك كنت تجري كالأحمق نحو حتفك ، لا تدرك أي شيء إلا حينما تجد نفسك تهوي في الظلام قبل أن ترتطم بشيء معدني وتشعر بألم شديد في أصابع قدمك ، وتتذكر حينها بأن العملية أحياناً تكون بطيئة للغاية وأنك سوف تتألم كثيراً وأن سيد كان محظوظاً لأنه مات بسرعة ولم يشعر بكل هذا الألم ، أما أنت فعلی ما يبدو سوف تتألم كثيراً قبل أن تموت ، والأن فقط تداهمك الخواطر، لابد من أن من رأيته في الحقول آنذاك كانوا العمار وهم يحاولون أن يستدرجوك ، لقد استعجلوا وأرادوا قتلك إكمالاً للحكاية ، لكن سيد لم يكن ليسمح لهذا أن يحدث ، إن كان لزاماً علی رفيقي أن يموت فسيموت معي وكل ما عليّ فعله أن أخيفه وألا أجعله يذهب للحقول.

تحاول المقاومة والخروج من المأزق لكنك تعلم جيداً أن الساقية لن تتوقف أبداً وأن فرصة نجاتك معدومة تماماً ، لكنك علی الأقل تنظر للجانب المشرق ، سيكون لديك رفيق ولن تكون وحيداً ، فقط عليك أن تتحمل هذا الألم الرهيب الذي يصعد باتجاه ركبتك ، أن تتحمل سماع صوت تحطم عظامك وتتحمل نظرات العيون الستة التي ترمقك بتعاطف ، الكلب والذئب وسيد ، ينبح الكلب فيعوي الذئب بطريقته المعهودة فيضحك سيد وبعدها تصرخ أنت.

النهاية……

تاريخ النشر : 2018-05-14

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
44 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى