أدب الرعب والعام

مثلث برمودا اليابسة

بقلم : ميرنا أشرف – مصر

كان جسده شاحبًا جدًا وكأن لا وجود للحياة فيه، كأن شيئًا امتص كل دمائه
كان جسده شاحبًا جدًا وكأن لا وجود للحياة فيه، كأن شيئًا امتص كل دمائه

 
سماءٌ مظلمة مُلبّدة بالغيوم ، جوٌ كئيبٌ مقبض ، أشجارٌ عالية تضفي ظلالًا تحجب أي لمحة نور . هكذا كان الجو عندما جلسنا حول النار ملتحفين بثياب الشتاء الثقيلة ، كنا في معسكر للتخييم، أربعة شباب وأنا الخامس، نحن أصدقاء من الطفولة، إياس وأوّاب توأمٌ متماثل اللهم لون العينين، فإياس عيناه تماثلان زرقة السماء على عكس أوّاب الذي يشبه لون عيناه العسل المُصفى ، آذان وآسر أبناء عم، وأنا آدم.

جميعنا نسكن في حيٍّ واحد، درسنا في نفس المدرسة والآن الجامعة، كانت إجازة آخر العام، ولهذا قررنا الذهاب في رحلة تخييم إلى تلك الغابة المجاورة لبلدتنا، غابة الموت أو الذعر كما يطلقون عليها ، سمعنا أقاويل كثيرة عن تلك الغابة الغريبة، كأنها متاهة مرعبة، مظلمة، حيث يُقال أن الداخل فيها مفقود، تتجول في أرجائها كائنات خفية، وتحت ظلال أشجارها الباسقة تسرح أشباحٌ وكيانات هائمة لتعزف لكم مقطوعة لحنية عنوانها الرعب ، بمجرد دخولنا لتلك الغابة شعرنا بانقباض غريب في صدورنا، و كأن دواخلنا شعرت بما لم نشعر به نحن.

 اخترنا بقعة معينة في بداية الغابة و قررنا نصب مخيمنا الصغير هناك، وعندما انتهينا كان الظلام قد بدأ في الانتشار و رافقه ضبابٌ كثيف ملأ الأرجاء.

في هذه الأثناء وبينما نحن جالسون حول النار نتحدث إذ بي ألاحظ أن صديقي آذان ينظر لي بتركيز.

آدم: ماذا هناك يا آذان؟ لِم تنظر لي هكذا!

آذان: ها آدم! لا لا لم أكن أنظر إليك، لفت نظري وكأن هناك خيال شخص يقف خلفك.
قام إياس فورًا و وقف خلفي وقال: عن أي خيالٍ تتحدث يا آذان؟ أنا لا أرى أحدًا وليس هناك آثار لأي شخص.

فقلت: ربما كنت تتخيل يا آذان، فالنيران تضفي خيالات على الموجودات.
أردف أوّاب بمرح: وربما كان خيالًا فعلًا، لا تنسوا أننا في غابة الموت يا رفاق.
قام آسر بإصدار بعض الأصوات المخيفة والتي على إثرها ضحك الجميع، أشرتُ له بالصمت قائلًا : يكفي لهذه الليلة يا رفاق، هيا إلى النوم وغدًا نستكشف الغابة؛ فقد برد الجو كثيرًا.

أومأ الجميع متفقين على كلامي واتجه كلٌ منا إلى خيمته، الوقت كان منتصف الليل عندما سمعتُ ذلك الصوت ، صراخ امرأة عالٍ جدًا يأتي من مكانٍ ما، كنتُ لا زلتُ مستيقظًا وعندما انطلق ذلك الصوت قام آذان النائم جواري بفزع، نظر لي فأشرتُ له بـ لا أعرف ، خرجنا من خيمتنا ولاحظنا أن إياس وأوّاب وآسر قد استيقظوا أيضًا، نظرنا لبعضنا في صمت حتى تشجع أحدنا على الحديث..

إياس: والآن ماذا؟ هل ابتدأ الرعب والغابة قررت التلاعب بنا!.
تمتم آسر: هل يُعقل أن يكون ذلك الصوت ما هو إلا وهم؟.
قلتُ: كفاك سخافةً آسر، أي وهمٍ هذا الذي يسمعه خمسة شبابٍ في نفس الوقت وبصوتٍ واضح؟.

فتح آذان فاهُ ليتحدث ولكن انبعث فجأة صوت ضحكات أطفال من اللا مكان، نظرنا حولنا في اضطراب ولكن بدا الصوت وكأنه صادر من كل مكان، هنا لم يحتمل أوّاب أكثر وقال: هيا نخرج من هنا، يعلم الله ما قد يحدث لنا إن بقينا أكثر من هذا.

أومأ آذان: أنا أيضًا أتفق مع أوّاب، يكفينا هذا يا رفاق ودعونا نخرج من هنا.
قلتُ: حسنًا ، ولكن على الأقل دعونا ننتظر مطلع الشمس، الظلام منتشر والضباب كثيفٌ جدًا، لن نرى أمامنا هكذا.

وبينما نحن نتحدث أشار لنا آسر بالصمت: ششششش أمعنوا السماع، كأن هناك صوت خطوات..

التفتنا للجهة الصادر منها الصوت وإذ بفتاة صغيرة تبلغ من العمر حوالي عشر سنوات تخرج من بين الأشجار، ثيابها ممزقة وبشرتها شاحبة، اتجهَت من فورها إلى إياس وأمسكَت يده لتجذبه مرددة: تعال معي، تعال معي.

حاول إياس الفكاك من قبضتها ولكنها كانت ممسكة به بقوة تفوق سنوات عمرها العشر، لم يستطع الابتعاد عنها فآثر الاستسلام والذهاب معها ونحن خلفه، يرافقنا الذعر الذي بدأ بفرد أجنحته فوقنا، مشينا فترة ليست بالطويلة ولا القصيرة، حتى وصلنا إلى بقعة داخل الغابة على شكل دائرة، دائرة خالية من مظاهر الحياة، على عكس باقي الغابة فهذه البقعة قاحلة، أشجارٌ وحشائش يابسة، تربةٌ تغلغل الجفاف في ثناياها، الهواء نفسه مقبض ثقيل على نفوسنا، راودتنا مشاعر كثيرة وكلها مقلقة، وكان هناك إحساس أننا مراقَبون، وكأن هناك مئات العيون تنظر إلينا من كل مكان حولنا، تركَت الفتاة إياس واتجهت إلى تلك الدائرة حتى وقفت في منتصفها ،

وهنا تغير شكلها و تغضن وجهها حتى صار كوجه قردٍ عجوز، عيناها صارتا مجوفتين وبدأت تبكي دموعًا سوداء، ثم صرخَت صرخة أحسسناها هزت أرجاء الغابة، وفجأة اختفت الفتاة بلا إنذار تاركة إيانا ننظر إلى بعضنا في ذعر، وقد أدركنا هول ما قادنا إليه اندفاعنا وسعينا المتهور إلى مغامرة لم نحسب لها حساباً ، قررنا محاولة الخروج من الغابة كما قال آذان وأوّاب قبلًا، و لكن كان الوضع و كأننا داخل متاهة ، مهما مشينا فإننا نعود لذات النقطة التي بدأنا منها عند تلك الدائرة، سيطر الرعب داخلنا وحاولنا حثيثًا السيطرة على ما بقيَ من رشدنا ، كان الضباب يزداد كثافة ومعه تزداد رجفة قلوبنا، انبعثت من العدم أصوات مختلفة لأطفالٍ يلعبون ونساء يتضاحكن في مرح، مع صوت صرخات واستغاثات مجهولة المصدر وكأنها قادمة من الجحيم ، أيقنّا أننا سنقضي نحبنا لا محالة ، فلم نسمع عن أحدٍ دخل إلى هذه الغابة وخرج منها حيًا أو حتى ميتًا، إنها مثلث برمودا اليابسة كما يقولون.

 ولكن رغم هذا لم نستسلم، حاولنا وحاولنا و لكن كان الفشل هو حليفنا في النهاية، في الأخير جلسنا على الأرض بإنهاك ونحن ننظر حولنا في يأس، حتى تحدث أحدنا.
آسر: ماذا الآن يا آدم؟ ماذا نفعل؟ هل سنظل هكذا ندور في دائرةٍ مُفرغة!.
هززت رأسي بيأس وأجبت: وماذا تُرانا فاعلين يا آسر! أنت تعرف مهما حاولنا فإننا نعود لنقطة البداية وكأن لم نتحرك أبدًا.

قال إياس: ولكن ربما…. آاااااااااااااااه ، صرخ عاليًا فنظرنا إليه بسرعة، وهنا كادت قلوبنا تقفز من شدة الفزع، كان إياس ينظر فوقه برعب، عيناه جاحظتان وكأنهما ستخرجان من محجريهما، وعلى وجهه أعتى علامات الرعب والفزع ، ثيابه مُغطاة بالدماء، وهناك شيء بارز من جهة قلبه وكأنها يد، يدٌ شيطانية طويلة الأظافر خضراء الجلد، وقفنا مذعورين مما نشاهد وقبل أن ينطق أحدنا بكلمة إذ بنا نلمح كائن مرعب شيطاني يظهر من خلف إياس الذي سقط أرضًا غارقًا في دمائه،

كان يشبه الشيطان كما تصوره قصص و حكايا الأجداد، عينان حمراوتان وكأنهما جمرتا نار، شعرٌ كثيف وأقدام ماعز، قرنان مخيفان وأنيابٌ قاتلة، رفع هذا الكائن يده وأشار إليّ قائلًا بصوت جمد الدماء في عروقنا: آاااااادم.. آااااادم أنتم مَن جئتم بأقدامكم إلينا، فإياكم أن تحلموا في العودة، هنا سيكون مماتكم، هنا سيكون فناؤكم.

 أنهى كلماته بضحكةٍ اهتزت على إثرها أشجار الغابة واختفى، هُرعنا جميعًا إلى إياس الساقط أرضًا ولكن للأسف كان قد مات، اقتربتُ من أوّاب محتضنًا إياه بقوةٍ قائلًا: إياك والانهيار، رحل إياس ولكن إن انهار أحدنا فسوف نلحق به بالتأكيد.

صرخ آذان في هيستريا: ولكننا ميتون، مهما فعلنا سنموت في النهاية كمَن سبقونا، لا يوجد أي طريقٍ للنجاة.

أمسكه آسر من ذراعه قائلًا: عد إلى رشدك يا رجل! إننا معًا هنا، سننجو بإذن الله.
ألقى أوّاب بنظره على جثة أخيه وقال: هيا يا شباب، ذهب واحد ولكن بقيَ أربعة، ثم سار إلى الأمام وتركنا، نظرنا لبعضنا في حيرة من أمره وخوف عليه وقلتُ: لا وقت، عيناه باردتان وكأن داخلهما صقيع، علينا أن نلحق به.

جرينا مسرعين إلى حيث اتجه أوّاب ولكن لم نعثر له على أثر، وكأنه تبخر، نظرنا في كافة الأرجاء وصرخنا باسمه ولكن لا فائدة أيضًا.

تحدث آذان: أين اختفى أوّاب؟ هل انشقت الأرض وابتلعته! أنا لا أفهم.. وقبل أن ينهي جملته إذ بشيء يقع فوق آسر، أسرعنا إليه لتتخشب أقدامنا، إنه أوّاب، بل للدقة إنها جثة أوّاب، كان جسده شاحبًا جدًا وكأن لا وجود للحياة فيه، كأن شيئًا امتص كل دمائه، قام آسر ونظر حوله صارخًا: ماذا تريدون منا؟ مَن أنتم؟.

جريتُ نحوه ممسكًا إياه: أرجوك أن تهدأ يا آسر، لن تُفلح شيء بانهيارك هذا.
جلس أرضًا ووضع رأسه بين يديه مهمهمًا: لا فرق آدم، فعلنا أم لم نفعل، نحن في كلتا الحالتين سنكون في عداد الموتى.

آذان: ولكن لا يجب أن نستسلم أيضًا، هيا قم معنا آسر، أرجوك أن نحاول مجددًا.
قمنا ولكن قبل أن نتحرك من مكاننا إذ بفجوة سوداء عملاقة تظهر من العدم وتجذب بداخلها آذان وآسر، ثم اختفت كأن لم تكن..

أنا فقدتُ وعيي وعندما استيقظتُ لم أجد أحدًا من رفاقي بجانبي، فقط وجدتني وحدي نائمًا أمام الخيام التي نصبناها ومن حولي بدأت الأشجار بالاهتزاز وإخراج جذورها وكأن الحياة دبّت فيها، أنا حاليًا أكتب هذه المذكرات لعل أحدًا يجدها ويعرف ماذا حلّ بنا في هذه الغابة الملعونة، أنا آدم.. دخلتُ بقدمي إلى غابةٍ كأنها مثلث برمودا على اليابسة، كل مَن يدخلها لا يخرج، دخلتُ مع أربعةٍ من أصدقائي، إياس وأوّاب وآذان وآسر.. مَن يجد هذه المذكرات عليه أن يعرف شيئًا مهمًا، وهو…..

عند هذا الحد انتهت المذكرات، ففي الصفحة التالية لم يُكتب شيء، وإنما كان هناك بضع قطرات من الدماء، من المُرجح أنه دم آدم الذي قتلته تلك الأشجار الحية، أما كيف وصلَت المذكرات إلى يدي؛ فقد عثرتُ عليها مُلقاةً خارج أسوار الغابة الملعونة، لا أعرف مَن وضعَها هناك، ولكني أعرف بالتأكيد أنّ كل مَن تُسوّل له نفسه دخول الغابة؛ فسوف يلقى مصير أولئك الشباب إن لم يكن أسوأ.

النهاية …

 

تاريخ النشر : 2021-09-10

guest
7 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى