أدب الرعب والعام

مداح القمر

بقلم : آدم بن فتحي – الجزائر


للتواصل : [email protected]

مقتبسة عن: قصيدة ” مداح القمر ” للشاعر أحمد خلف الله.
فكرة روحية: الكاتب التونسي وسام دادة.
فكرة: آدم بن فتحي – صابر حمبلي.
تأليف: آدم بن فتحي.

بعد شجار عنيف مع من كان يعتبرهم زملاءً و مُتنفسا له من الضيق الذي يسببه الجاهلون من حوله كما كان يقول دائمًا، تبين أن الزملاء المزعومون ليسوا أقل جهلًا، كان غاضبا جدا و هو يمشي في الطريق المظلم، حتى إن وقع حذائه كان يسمع من بعيد، و بدأ في سبّهم بصوت خافت:

-اللعنة عليهم جميعا.. هؤلاء التافهون يعتقدون أنهم بلقاءاتهم و أمسياتهم السخيفة قد أمسوا أدباءً فعلًا، لو سمع عن روايتي و قرأها الأوروبيون لجعلوا مني قديسا في الأدب، وأسفاه على إبداعٍ يضيع بسبب.. بسبب…
تنهد تنهدا عميقا، أحجم عن التوجه إلى المنزل، سيبدي والده بالتأكيد الغضب و يطالبه بالسعي في إيجاد عملٍ، و ستحثه أمه على الزواج لأن الوقت قد حان، و سيرفض أخوه كذلك إعارته بعض المال، فلماذا سيذهب هناك؟ و ليس من اللائق كذلك الذهاب إلى أخته و إزعاجها في وقت متأخر من الليل، فكَّر في أصدقائه، أعرض أيضا عن فكرة اللجوء إلى واحد منهم، سيتبجحون أكيد بوظائفهم و خطيباتهم و مشاريعهم المستقبلية و لن يهتموا لثرثرته عن الأدب و المسائل الإنسانية الكبرى، بقيت حبيبته، صحيح أنها لا تحبه و لم يتحدث معها منذ تعرّفه عليها إلا مرة أو مرتين فقط، و كانت حوارات قصيرة و عادية كأي حوار عادي مع أي شخص عادي آخر، لكنه مع هذا كان يرى في لمحها و التمعن فيها و هي تتصرف بعفوية عزاءً لنفسه، لكن الوقت ليل و لا سبيل إلى ذلك، دبَّ اليأس فيه و فجأة أحس بدوار و استند بيده إلى جدار قريب، ثم جلس على الرصيف متمالكا نفسه، بعدها، سحب روايته من حقيبته اليدوية الصغيرة و بدأ بتفحص غلاف الرواية مستكشفا التفاصيل الموجودة فيه التي لها إسقاطات داخل الرواية نفسها و كذلك نوع الخط المستعمل و رمزيته، قرأ العنوان:

-بنفسجية الصراع.. ما الذي لم يعجب أولئك الحمقى؟ تناولي القضايا السياسية؟ لماذا هم خائفون؟ إن هذا الخوف و هذه الاستكانة هي ما صنعت و ما تزال تصنع المستبدين و الفاسدين، و يا للعجب! الهدف الذي كتبت من أجله الرواية هو ما دفعهم لازدرائها، لماذا أنا بائس هكذا؟ لا، بل لماذا نحن بائسون إلى هذه الدرجة المهينة؟ أشعر بالاضطراب، لمن سألجأ و بمن سأستنجد؟ ألا يوجد في هذه المدينة اللعينة، في هذا الوطن المنكوب، بل في هذا العالم الحقير من يفهمني!
نكَّس رأسه خائبًا ثم رفعه ليلتقط بصره القمر مشّعا و قد أمسى الليلة بدرًا، قال:

-إنه وقت مناسب للتأمل، لكنه ليس بالمكان المناسب.
أعاد الرواية إلى الحقيبة، و قصد حديقة عمومية، عند وصوله، وجد بعض المخمورين و المغيَّبة عقولهم متناثرين في أرجائها، لم يهتم، و بدأ في البحث عن مقعد يكون مقابلا للبدر، فلم يجد، فاختار الجلوس على العشب مسندا ظهره إلى شجرة باسقة مواجهة للبدر تماما، و أخذ يتأمل السماء و ما تحويه من قمر مضيئ مكتمل و نجم متألق مشتعل، تذكّر أثناء تأمله هذا كتابًا يحبه كثيرا و يحفظ منه الكثير من الفقرات، و لطالما آمن فعلا أن كاتبه معجزة الأدب العربي، و أقصد هنا كتاب ” حديث القمر ” و كاتبه المصري مصطفى صادق الرافعي، و بدأ باستذكار بعض المقاطع الجميلة منه:

-فلا يزال دأبُ العاشق الحكيم أن يذوب في شعاعك لكيلا يُبقي من نفسه غير المادة التي تذوب في شعاع الجمال، فيكون بجملته نفسًا روحية تتلقى الحكمة العالية عن النظرات و الابتسامات كما تتلقاها عن الآداب و الشرائع.
كانت هذه أكثر فقرة يحفظها من الكتاب و كان يراها تلخيصا غير مباشر للعلاقة الروحية السامية بين الحكيم المبصر و القمر، فحاول تجميع طاقة روحية في نفسه و الهدوء و إفراغ ما في قلبه للقمر، فقال يتخاطر مع القمر بعقله:

-أ يا قمرُ، أ تسمعني؟ أنا البشري الذي تراه أناديك!

-بل أسمع الإنسان الحقيقي يناجيني.
حاول المحافظة على هدوئه، تصور في البداية أن صوت التخاطر الذي سمعه من صنع خياله، لكنه حاول تجاهل الفكرة لما شعر به من راحة في هذا التخاطر، و راح يواصل إنصاته إذ سمع البدر يقول:

-فلتفضفض، افرغ ما يختلج شعورك و وجدانك فأنت مرهق كثيرا.

-هذا صحيح، لا أحد يفهمني و لا أحد يدعمني، لا أحد يحبني و لا أحد يرحّب بي مطلقا.

-لطالما كانت هذه حال كل فذّ، لم و لن يكن المبدعون الحقيقيون ذوي حظٍ غالبا، و إنك على ما أظن لقارئٌ جيد و تعرف الكثير من الأمثلة على ذلك.

-طبعا، و لعل المثال الأقرب إليَّ و الذي أستحضره دائما هو الفنان الهولندي المسكين فان غوخ.

-أخبرني، لماذا ينهرونك؟

-حسنًا، والداي لا ينهراني بالمعنى الحرفي، لكنهما يزعجاني بطلباتهما التي تتعارض و مبادئي، أبي.. أبي يريد مني أن أترك الأدب و أبحث عن مهنة حقيقية، أوَ يستطيع واحدنا ترك الأدب؟ أوَ يعتقد هو أن الأدب مهنةً؟ و أمي، أمي تريد لي الانصياع إلى التقاليد المجتمعية الساذجة، لا أريد الزواج و لن أتزوج أبدا!

-أنت غاضبٌ جدا! مشكلتك أن عقلك الذي نهل من أنهار المعرفة ما نهل، أصبح لا يتعايش مع ما حوله من عقول، لماذا لا تحاول الاحتكاك بمثقفين أمثالك؟ لقد قلت أنك أديب.

-ضحك ثم قال: أجزم أن أخي الذي يفتعل المشاكل كي لا يعيرني المال أكثر ثقافة منهم، لقد تهكموا على أدبي و سخروا منه، بل و وصل بعض السفلة منهم إلى هجائي بقصائد لا روح فيها من الشعر الحر، إنهم مجرد عملاء للديمقراطية المزيفة، و هم لا يعرفون سوى إقامة الأمسيات و قراءة نصوصهم العرجاء، التي لا تجد فيها سوى سيول مشاعرهم الكاذبة غالبا، ماذا سنفعل بالعواطف؟ أ هي ما ستصلح حال الأمة؟؟ لقد قالها لي، قالها ذات مرة و تيقنت الآن من مدى صحتها.

-مَن هذا؟ و ماذا قال؟

-أديب عجوز عظيم، اسمه عثمان، فهم اللعبة الاجتماعية كما لم يفهمها إلا القلة النادرة، لقد قال: يأتون هنا ليقدموا أشعارهم و قصائدهم التافهة و يحسبون أن حال البلد ستتحسن ببضع كلمات من مثقفين، و الله ما طمعت الذئاب في هذا البلد إلا بسذاجتهم و غبائهم.

-كلامه سليم و في الصميم، إن ما قاله يمثل تمردا حقيقيا بالنسبة لهم.

-نعم تماما، أنت تفهمني، التمرد، يجب أن نتمرد على كل شيء في الوقت الراهن، قال عبارة أخرى لن أنساها ما حَييت: الشعر و الأدب هناك، على الطريق جنبا إلى جنب مع الثورة لا بين الجدران المزخرفة.

-لقد فهمتك جيدا و فهمت أسلوب تفكيرك كذلك، ألا تملكُ حبيبةً؟

-بلى، لكنها لا تحبني، أو لا تريد أن تحبني، تخشى تضييع دراستها و مستقبلها معي، تخشى خدش سمعتها و سمعة عائلتها، إنها تفكر في الحب بالطريقة التقليدية، تخالني وغدا عبدا لغرائزي الحيوانية، أصلا لم أطلب منها أن تحبني، فقط بعض الاحترام لمشاعري، إنَّها لا تدري أن في رؤيتها و تأملها لمواساة عظيمة لنفسي المتعبة، إنها تجسّد قول الرافعي الذي فيه” فمن أحبَّ و رأى حبيبته من فرط إجلاله إياها كأنها خيال ملك يتمثل له في حلم من أحلام الجنة، و رأى في عينيها صفاء الشريعة السماوية و في خديها توقد الفكر الإلهي العظيم، و على شفتيها احمرار الشفق، الذي يخيل للعاشق دائمًا أن شمس روحه تكاد تمسي: و رآها في جملة الجمال تمثال الفن الإلهي الخالد الذي يدرَس بالفكر و التأمل لا بالحس و التلمس، فأطاعها كأنها إرادته و استند إليها كأنها قوته، و عاش بها كأنها روحه، فذلك هو الذي يشعر بحقيقة الحب و يفهم معناه السماوي، و هو الذي يقول لك صادقا مصدوقًا، إن كل لفظة من لغة الطبيعة في تفسير معنى الحب كأنها صلصلة الملك الذي يفجأ بالأنبياء بالوحي في أول العهد بالرسالة.

-يعجبني أنك تحفظ جملا رصينة كهذه.

-لحظة، أشعر بشيء.. إنه الإلهام… نعم.. الإلهام!

-هل ترتجل الشعر؟

-لا، أنا لا أكتب الشعر مطلقا لكنني أشعر الآن بشعور رهيب، نعم هذه هي..
ثم انطلق يشدو بصوت قائلا:
وقت السحر
وأنا أحدق للقمر
أتراه يسمع ما يجول بخاطري
أم أنني أهذي ككل من طالت بهم
سبل السهر
يجتاحني نور فأسقط مثل مغشي
و تلتقط العبارة بعض بعضي:
أطبق جفونك كي ترى
بعد المدى… ما لا يراه بنو البشر
أبصر بقلبك ما تكتمت الشفاه
و ما تجلّى في الظلام
و اكتم رؤاك عن الورى
لن يكذب الوهج الخبر
الق الذي بالروح يلقف سحرهم
و كلامهم و جميع ما كتبوه من غزل
إلى تلك الصور
الرب أقسم بالقمر
أسلِم له مد الحروف و لا تخف
فالجزر للأمواج يدفعها
لتلقي فوق صدر البحر
أنواع الدرر
لتلامس الجيد الذي تهفو له
كل العقود و كل أحلام الشفاه
و لا تخف فالنار لم تحرق نبيا سابقا
فكيف تحرق عاشقا ركب الخطر
أنطق شهادتك الأخيرة و ارتمي بشفاهها
فالخمر يعرف مدمنيه
و لا يهمه من عصر
عطش الصحارى في جحيمك فارتوي
قَدْرَ الجوى
قدر النوى
قد تنتهي فيك المواجع…. تنتهي
فيها الذي تخفيه في نور القمر.


-كم ستلبث هنا؟

-قال القاضي سنتين.

-ما هي جنحتك؟

-جنحتي أنني قلت الحقيقة!!

تمت

ملاحظة : القصيدة التي اُقتبست منها القصة هي نفسها القصيدة الموجودة في النص أعلاه.

guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى