أدب الرعب والعام

مذكرات الزمن

بقلم : تقي الدين – الجزائر
للتواصل : [email protected]

وقفت أحدق إليها و نسيت الغرابة التي رمت بي هنا كما ترمي الرياح بورقة الشجر الصفراء في فصل الخريف
وقفت أحدق إليها و نسيت الغرابة التي رمت بي هنا كما ترمي الرياح بورقة الشجر الصفراء في فصل الخريف

 

سيارة ماستانغ طراز 69 مموهة وسط الظلام و على بدنها يتكأ رجل مر السواد عبر عروقه حتى أصبح جزءً منه ، ينظر بجمود لمنزل قديم ذو طابقين مستسلماً لنار فتحت فمها لتلتهمه ، و بين يديه كان يحمل ” مذكرات الزمن ” .

17 أكتوبر 2017 :

بيني و بين وحدتي قصة غريبة ، فلا هي صداقة و لا هي محبة ، بل أقرب ما نكون للأخوة ، نظهر أننا لا نحتمل بعضنا لكن مشاعرنا تترجم عكس ذلك ، في أحد زوايا الغرفة و على ظهر كرسي خشبي بسيط بساطة شقتي المتواضعة جلست  و بين أناملي سيجارة تنتظر بصبر أن أوقدها و قد لبيت مطلبها بلباقة كرجل نبيل لأقطع بطرقات ولاعة بروميثيوس تلك رداء الصمت الذي انبسط على المكان ، أنفاس قليلة فقط كانت كافية لعقد غيمة صغيرة فوق رأسي حجبت عني ذلك الضوء الأصفر الكئيب للثرية التي انسدلت من السقف ، وسط كل تلك الفوضى التي زخرفت غرفة الجلوس الصغيرة برز ذلك الإطار الأبيض اللامع ، ليس بلونه و حسب بل بما يوجد داخله ، فتلك اللوحة التي قيدتها أصابعي بقلم رصاص فقط أظهرت خطيبتي ماريا أفضل من أي كاميرا في العالم ، كنت قد ركزت على عينيها الواسعتين لكن مع ذلك لم أهمل تفاصيل أخرى ، التموجات في جبهتها ، حاجبيها الكثيفين و سواد شعرها ، رفعت حملي الخفيف من على الكرسي و دلفت مطبخي الصغير ، تلك الثلاجة القابعة في نهايته كانت تحمل بين رفوفها ما حملته سفينة “انتقام الأميرة ماري من خمر ” بقدمي سحبت صندوق الخضار الأسود الذي حضرته مسبقاً و فتحت باب الثلاجة متردداً كأنني على أعتاب الجحيم لتلفحني تلك النسمة الشيطانية الباردة ، رتبت تلك الزجاجات بعناية كحانوتي يعتني بجثة وزير ، جثة ستكون آخر رحلة لها داخل صندوق سيارتي الماستانغ.

الريح تصفر بغضب معيدة لأذهاني قصة الإله بورياس ، و غطاء المحرك يرتجف بعنف ، عيناي كانتا شاخصتان في تلك الهضبة التي التفت بعتمة الليل بفخر حتى وصلت لها ، أضرمت فوقها ناراً وقودها الماضي العفن ثم رميت بتلك القوارير في فوهة الجحيم الصغير الذي صنعته و وقفت أمامها متأملا ، بالطبع لم أكن لأدع منظراً مثل هذا ينسل من بين أصابعي ، فمنعم فارع الطول واقف وسط الظلام و النار البرتقالية تنعكس على عينيه الذابلتين كوردة نسي مالكها أن يسقيها ماءً ، معطفه الجلدي الطويل يتأرجح حتى قدميه ذهاباً و إياباً معيداً للأذهان شخصية المحقق سام سبيد من رواية الصقر المالطي .

لامس الرماد شعري الطويل بعدما نفضته الرياح ، و تواضعت ألسنة النار لتلامس الأرض ، طقس الوداع ذلك كان قد انتهى و تركته خلفي لأستقر أمام منزلنا العائلي القديم ، لم يكن نفس ذلك المكان الذي ركضت فيه طفولتي و شبابي فكما يقولون لم يبق من المنزل إلا جدرانه ، فوالداتنا كانت بالنسبة له ما يكون القلب للجسد لذا فإننا هجرناه بعد وفاتها.

خيالات داعبت رأسي لحظة دخولي ، فلا هي حقيقة و لا هي مجاز بل ماض فات و لن يعود – أو هكذا اعتقدت – أرى نفسي أضايق أخي محمد غائصاً بين سطور دفاتره مشبعاً بالإلهام ليكون ما يريد أن يكونه مستقبلاً ، و أمي … أمي تسير متمايلة بيننا مبتسمة وشعرها البني ما زال منسدلاً حتى متنصف ظهرها و على محياها بسمة لا تفارقها قط ، كم كانت جميلة لولا غدر الزمان فقد خفت البريق من عينيها الخضرواين كغابة مطيرة جفت و … حسناً لنقل أنها عانت الويلات قبل أن يحملها المرض بعيداً .

ما زالت تلك الدرجات الخشبية التي تضفي للطابق الثاني صامدة وسط الخراب ، أما السقف فقد التهمه العفن و حوله سواداً قاتماً كقلب حسود ، ذكريات كثيرة وددت لو لم أستعدها لكنها كانت ليلة مشحونة بالمشاعر و قد أضفيت لتلك الصبغة لوناً أخر على ما يبدو ، استدرت مغادراً و أنا أربت بأسى على الحائط الذي وقفت بجانبه لكن ما رأيته خلف الباب فجعل قلبي يهرب من جسدي ، مجرد أرض جرداء باهتة دون سيارتي فوقها ، أقحمت يدي في جيبي بخفة لأتناول هاتفي لعلي أكون سريعاً كفاية لكنها خرجت فارغة كما دخلت .

” ماذا حصل تواً ؟ ” كان ذلك ما راود خاطري إذ يبدو أنني أرى ملامح المدينة قبل سنوات مضت فكل هذه المنازل واقفة برونقها و أضوائها التي تناثرت كالنجوم فوق سجادة السماء السوداء و أنا الذي كنت أقف وسطها قبل لحظة و قد كانت حطاماً بالياً يأبى المتشرد أن يمضي ليلة فيه ، سرت كما يسير من وجد ألدورادو و لم يصدق عيناه ، بخطوات متثاقلة و قد رمت السماء بقطرات ودق باردة على أطراف جسمي منذرة بوابل قريب

” إنها المدينة قبل سبع سنوات ، لكن كيف يُعقل ذلك ؟ ” لم يأت استنتاجي المبتذل هذا من العدم بل قد استبصرت بين براثن الظلام ملصقاً مهترئاً ، ملصقاً بعشوائية على أحد جدران المنازل لفيلم ” جزيرة شاتر “

تاريخ مألوف ، مكتنف بالحزن و الأسى ، لحظات غيرت تلك الألوان التي طليت بها أيامي ، رحت أسير منقاداً نحو ضوء المشفى الأبيض الشبيه بالكفن و الذي بدا واضحاً وسط ظلام غريب لم تكن لي الخبرة لتفسيره ، مررت بين أزقة أحياء اندثرت كحضارة غابرة و لم يبقى منها إلا الاسم و لمحت وسط ذلك الجو المكفهر منازل استوت مع التراب

” هل هذا حقيقي ؟ كل ما تراه عيناي و يخالج مشاعري ” تساءلت لعل أحداً يتلطف و يعطيني إجابة لكني كنت أهيم وحدي وسط فراغ يعلوه صمت ليلة شتوية باردة ، اقتربت من المشفى حتى بدت مصابيحه واضحة فجعلت وقع أقدامي أسرع و أنا أمر عبر تلك البوابة قاصداً الغرفة التي استلقت فيها والدتي ، أمام تلك النافذة الصغيرة وسط ذلك الرواق الأبيض الذي سكن البرد جدرانه وقفت أحدق إليها ، نسيت الغرابة التي رمت بي هنا كما ترمي الرياح بورقة الشجر الصفراء في فصل الخريف ، أجهزة طبية و إبر تخترق جلدها ، طنين خفيف صادر من أحد المعدات و منظر مطل على الوادي يخفف وحشة جثت بثقل على المكان ، لو أمكنني أن أصف شعوري تلك اللحظة لتفلسفت كعادتي و قلت أن الحياة تأخذ منا القدر الكبير ، مقابل جرعة سعادة صغيرة تحقنها بين ساعات و دقائق أيامنا ، لن أحزر كم قضيت من الوقت واقفاً هناك بجمود كشجرة غرست جذورها عميقاً داخل روح الأرض لكني آثرت الرحيل على الوقوف هناك مكتوف الأيدي حرفياً  .

بخطى خفيفة عكس تلك التي جاءت بي قررت المغادرة ، لم أجرؤ على الدخول فجدار ندم ضخم حال بيني و بينها ، ركضت للمنزل بدموع تثقل عيني كأن أيام الطفولة طرقت باب حياتي مجدداً لكني توقفت لحظة رؤية الماستانغ واقفة بخصرها الواسع مجاورة الباب ، ” هل عدت ؟ ” أجابت أكوام الخشب التي أحاطت بي السؤال نيابة عني ، سحبت الهاتف من جيبي و قد انزلق من تعرق راحة يدي ، أحسست كأن الأرض اتخذت شكل سفينة ترمي بها مياه الأطلسي في ليلة عاصفة إذ أنني تأرجحت ذهاباً و إياباً كغصن رفيع و ألم كبير استولى على رأسي قبل أن أسقط مغشياً علي .

***

24 أكتوبر 2017 : أحطت نفسي بالعزلة ، أردت هدوءً حولي شبيهاً بهدوء بريبيات بعد تشيرنوبل ، فقاعات أفكار تتراقص على باب ذكرى غريبة لم تفارق رأسي للحظة منذ أسبوع كامل ، أحب أن أسميها ” قفزة إيمان للماضي ” ، لم أتحدث مع ماريا إلا مرة واحدة و قد كان فحوى ما قلناه يتلخص ببساطة في ترتيبات حفل زفافنا بعد شهور قليلة ، نبرة صوتها الخافتة الواهنة عكست لي شكل حزنها علي و جعلتني أتيقن يقيناً صادقاً أنها تسأل أكثر من سؤال عن حالتي لكني اختبأت خلف غطاء الإلهام لرسم لوحتي القادمة ، منفضة السجائر جانبي كانت قد فاضت لترمي بالأعقاب على السطح الخشبي للطاولة حولها ، لم أدخن بهذا القدر منذ وقت طويل لكني تلقيت اتصالاً من أبي الذي لم أره منذ دهر  يطلب مني أن ألتقيه غداً في كافييه وسط المدينة ، تباً ! و قد كنت لطيفاً زيادة عن اللزوم لأوافق.

***

25 أكتوبر 2019 : كنت قد صقلت جليد اللامبالاة داخل روحي نحو ذلك الشخص منذ وقت طويل ، بل و اعتبرته ميتاً لكن ! ها هو ذا يجلس مقابلاً يرفع فنجان قهوته نحو رأسه دون أن ينزله بطريقة أرستقراطية غريبة عنه ، فزوجته الثانية من عائلة غنية ، أنفه الضخم ، الصلع الذي اكتسى فروة رأسه و عيناه الضيقتان تنظران في الأرجاء منذرتان بإحساسه بعدم أمان واضح هاه ! لم يتغير في جوهره شيء و لا في شكله لأكون صريحاً ، كانت لي جلسات في هذا الكافييه ” الفرنسي ” من قبل و قد استمتعت بذوق الديكور أكثر من الشاي فاللمسة البيضاء عند كل طاولة تعطي شعوراً مغايراً و وردة الياسمين التي استلقت براحة جنب الفنجان خاصتي استطاعت رائحتها الطيبة أن تجد طريقاً لأنفي.

” منعم كيف حالك بني ؟ ” قالها بقلق افترضت أنه حقيقي ، فأجبت :

” بأفضل حال ! “.

” هل تحدثت مع محمد مؤخراً ؟ “.

” لا ، فهو لا يريد أن تربطه أي علاقة بهذا المكان و أنا أتفق معه “.

كيف حال ماريا ؟ “.

” آآه إذاً أنت تعرف اسمها ، أنا متعجب من ذلك !”.

رد علي قائلا : ” بني أنا أعرف كل شيء عنك … أعرفك أفضل مما تعرف نفسك ، ما يغضبك ، ما يسعدك ، ما تحب أن تشربه ” نظر للفنجان أمامي ثم أعقب ” لقد طلبت الشاي الأخضر “.

” نعم ، نعم أتعرف لم فعلت ذلك ؟ “.

بادر مسرعاً للإجابة و قد فتح فمه لكني أكملت غير مبال :

” أترى ، يقولون أن الغجر من الإنجليز كانوا بارعين في قراءة الكف و كؤوس الشاي الفارغة ليبصروا المستقبل في اعتقادهم ، أنا سبقتهم بخطوة لأقرأه فقط من تلك الاهتزازات التي تصنعها يدي المرتعشة من كلماتك اللعينة التي لعبت على أعصابي “.

ارتفع حاجباه حتى اخترقا حاجز جبهته فأشبع ذلك المنظر لذة غريبة داخلي و واصلت :

” حسناً ، أنا أستطيع أن أراك تعتذر بحزن و أسى بالغ – أفترض أنه بالغ – على ما بدر منك قبل سنوات دفنت بين حطام ذكريات أخرى ، ستخبرني أنك كنت تحت ضغط كبير و أن ما قمت به حدث بسرعة كبيرة ، لكن ما لا أفهمه هو لم ذلك ؟ “.

” إنه واجبي يا … ” حاول أن يشرح موقفه لكني رميت عليه فصلاً آخر من مسرحيتي :

” لا … لا … لا تقاطعني فقد وجدتها … جنون العظمة لديك قد بلغ من العلا حداً يفوق كبرياء دوقة جلست بين رعايا من عامة الشعب ، أترى الفرق بيننا رغم صلة الدم التي لا مفر منها هو النسيان ، بعد خروجي من ذلك الباب سأنسى أنك جلبت أمي فقط لتكون لك مثلما تكون الجارية للسلطان و مثلما تكون العبدة لمالكها ، و سأنسى أنك خنتها مع إمرأة أخرى لحظة سقطت مريضة و بالتأكيد سأنسى أنك لم تظهر وجهك اللعين لمدة سبع سنوات “.

افترضت أن القطة أكلت لسانه لكنه مع ذلك تحدث شارحاً موقفه :

” منعم ، لا داعي لإهانتي فقد دعوتك لأعتذر “.

مررت بصعوبة بعض الشاي عبر حلقي و قد طبعت على وجهي ملامح تقزز ساخرة ثم أجبته:

” تبا لأسفك ، اذهب و قله عند شاهد قبرها ، فمن هم فوق التراب ربما سيسامحونك يوماً ما أما من هم تحته فقد رفعوا كل ما في قلبهم هاه ! “.

سحبت من جيب معطفي بطاقة بيضاء مزخرفة بحواف ذهبية و جعلتها بين أصابعي ثم بسطتها أمامه قائلاً :

” إنها لحفل الزفاف ” .

هممت بالنهوض فقد أحسست أني جالس على كرسي من المسامير لكنه أوقفني قائلاً : ” أرجوك أحتاج أن أبوح لك بأمر “

” ما زلت هنا ! “.

” قبل وفاة والدتك بأيام قليلة صادفت رجلاً أو ملاكاً حارساً إذ أنني لم أبصر وجهه و لم أره مجدداً ، لكنه أخبرني أن أكون رجلاً أفضل لعائلتي أو أتركهم يكونون رجالاً أفضل لأنفسهم … “.

صدرت مني ضحكة خافتة تبعتها كلمات : ” هاه ، عندما كنت صغيراً رفست بيدي نملة ، لكني شعرت بالأسى فقررت أن أرمي الخبز فوق الدرب الذي يتبعونه ، مثلك تماماً ، تخون أمي ثم تقدم أفضل نسخة منك لعلنا نرضى عما فعلت “.

” إنه ليس كذلك يا بني “.

” كنت مخموراً يا أبي ، أو ربما هي قصة من نسج خيالك ، لكن ما أنا متأكد منه هو أن ذلك لم يكن ذلك ملاكاً حارساً ، بل أحد أصدقاء جمعتكم الليلية على أقصى تقدير ، أحرص على الحضور و تذكر أن البطاقة لشخص واحد فقط “.

رفعت سترتي من فوق الكرسي مغادراً ، لكن ما إن وطأت قدماي عتبة المقهى حتى استبصرها موجهة نظرها صوبي ، زاوية حاجبيها الكثيفين و على وجهها المستدير ملامح تغني عن كتاب عنوانه غضب إمرأة ، كانت تستند على نفس السيارة التي حثتني بشغف على بيعها أكثر من مرة.

هل تتعقبينني ؟ ” سألتها و على محياي مزيج من الحيرة و السخرية ، لاح شبح ابتسامة على وجهها ثم ردت : ” لا تغتر بنفسك كثيراً ، فقد أرادني أبوك أن أقنعك بالمجيئ إن رفضت ذلك “.

” حقاً ؟ تفاجئني ثقة ذلك الرجل أحياناً ، فهي متقلبة كالموج في ليلة عاصفة ، اركبي في السيارة ” قلت و أنا أتقدم نحوها ، فصعدت ” ماذا يحدث معك يا منعم ؟  قل لي ” سألت بنوع من الشفقة.

لم تعجبني ملامحها فقد كانت جامدة بشكل غريب لذا فإني قررت أن آخذ رهاناً خاسراً و أفضي لها بكل ما حدث معي بنسخة معدلة.

” حسناً ، أتتذكرين يوم لقائنا ؟ ” سألها بتركيز فأومأت برأسها موافقة.

” جئت لعزاء أمي بعد أسبوع من الجنازة و قلت أنك ابنة صديقة لها من الشمال ، عرضت عليك توصيلة إذ تأخر الوقت و جلسنا في السيارة نحدق ببلاهة للطريق … “

ضحكت بصوت عال ثم قالت ” لقد كان ذلك مربكاً “.

تبسمت لها ثم أدلفت : ” لكن مع ذلك عرضت عليك جولة في المعرض الذي أقمته و قد كانت أحد أهم لوحاتي إعادة تصوير لآخر لحظات والدتي قبل وفاتها ، و هكذا تخاصمت مع محمد بعدما اتهمني بأنني أبيع معاناة أمي مقابل المال و … “

استوقفتني متسائلة : ” حسناً … إذا أنت نادم على كل ذلك ؟ “.

فأجبت : ” لا … حسناً نوعاً ما ، لكن ماذا لو لم يحدث ذلك أبداً ؟ ماذا لو استطعت بطريقة ما أن أخذ أمي للعلاج في أحد المستشفيات الخاصة كما طلبوا ، ماذا لو لم أتخاصم مع أخي ، و ماذا لو … لم ألتقك قط ؟ “.

استمرت بالنظر لي كأنها تطلب مني المزيد ، فقلت : ” حسناً ، لو كان لكِ أن تختاري بين شخص عزيز رحل عنك و بيني ،  شخص واحد فقط ماذا ستختارين ؟ “.

ردت بارتباك : ” أهذا ما تملأ رأسك به ، من أين تأتيك هذه الأفكار يا منعم ؟ “.

أجبت بنبرة حادة أفزعتها ” فقط اجيبي يا ماريا ” ، فصرخت في وجهي : ” لا … الواضح أنك تعاني من آثار ما بعد الثمالة “.

قسمت قلبي بهذه العبارة ، لم أكن لأتهرب من الحديث معها لكنها رمت بالثقة التي بيننا بعيداً جداً ، تبسمت ببرودة ، نظرت لها مطولاً ثم سألت : ” أتلك الساعة جديدة ، ما أراه على يدك ؟ “.

بخفة رمت بغطاء يدها اليسرى على رسغ يدها اليمنى و قد طبع الخجل على وجهها فجعل قسماته حمراء كحبة تفاح.

” منعم … فقط قل لي ما الذي يحصل معك ؟ “.

” ألم تعجبك الساعة التي اقتنيتها لك ، أم أن شخصاً آخر له ذوق أفضل من ذوقي ؟ “.

” منعم ماذا دهاك ؟ ” سألت و قد تغيرت نبرتها من شفقة إلى غضب.

بدأت يداي تطرقان على المقود لا إرادياً – أو هكذا أردت أن أظهر لها – ثم قلت :

” حسناً ماريا ، أنتِ لا تثقين بي بالرغم من وعدي الصادق لك أنني سأقلع عن الخمر ، لكن يبدو أنك وجدت رجلاً أكثر كمالاً “.

توقفت أنفاسها و انقطع حبل كلماتها ، بغل جم انتزعت الساعة من يدها حتى تناثرت حبات اللؤلؤ البيضاء التي زينتها و قالت :

” كانت هدية من أبي أيها الحقير ، لا تظن أنك وحدك من تتمرغ في وحل العزاء فأنا فقدت سندي أيضاً “.

صفعت الباب بقوة هزت أركان مشاعري ، كرهت رؤيتها تغادر مشحونة بالغضب ، لكن حتى حبها لي ليس قوياً كفاية ليجعلها تصدق ما حصل ، استدرت بجمود و انطلقت دون أن أنظر خلفي ، راسماً في رأسي خارطة لمنزلنا القديم .

وقفة غريبة ، أمام باب خشبي مهترئ ، كنت أتأمل جوانبه كرجل فقير ، فقير محب للفن دخل معرضاً باهضاً ، واقفاً بين تقاطع طرق الحياة ، لو أمكنني حقاً أن أعيد أمي فهل سأسمح بحب ماريا ؟ دخلت مرة أخرى عازماً على العودة بالزمن لعلي أجد إجابة في الماضي .

18 نوفمبر 2017 : من شق الباب انسل ضوء أبيض كجناح ملاك جعلني أندفع ليسطع على وجهي ضوء رواق الطابق الثاني للمشفى حيث قضت أيامها الأخيرة ، سرت بغرابة للداخل و قد وضعت خطوة فوق البلاط و أخرى فوق الخشب و بقيت على تلك الشاكلة للحظة ، بدا لي و كأن غرفتها برزت وحيدة وسط ذلك المكان مما زاد حدة صدمتي ، و مع ذلك فإني اخترقت موجه التردد و الخوف و اندفعت نحو غرفتها دون تفكير ، للحظة ظننت أن الجدران ستشقق و تسقط فوقي لكن الهدوء لم يبارح المكان قط ، اقتربت منها حاملاً ذكريات بين أوصال قلبي جعلت عيناي تفيضان من الدمع كينبوع أبى أن ينضب ، لمست يدها و شعرت بروحها ، لم أعرف إن كانت تستمع لي لكني سألت بسذاجة :

” أمي كيف حالك ، هل أنت بخير ؟ “.

لو كان بإمكانها أن تجيب لقالت أنها بأفضل حال

، ضحكت من بين دموعي حين أيقنت هذه الحقيقة ، لكن قهقهة الضحك تحولت بكاءً ، رحت أذرع الغرفة ذهاباً و إياباً موصوماً بالحزن على ملامحي ثم خرجت ، لم أقوى على البقاء هناك دقيقة أخرى ، تلك الطريق التي جئت منها كانت طريق عودتي ، أرض صلبة ترتفع مع كل خطوة حتى ترتقي بك لمنازل الضاحية الفقيرة ، لم أكن لأتردد في الدخول عائداً للحاضر ، تاركاً كل هذا خلفي ، لكن تناهى لأذني صوت بكاء خافت قادم من الخلف راحت قدماي تسيران تجاهه.

” محمد ، هل هذا أنت ؟ ” سألت بعفوية ، لكن محمد لم يجب لأنه كان بالداخل ، أما من كان يذرف الدموع كطفل رضيع فهو أبي ، كدت أضحك من غرابة المشهد و اقتربت نحوه كغريب قائلاً : ” ليلة صعبة أليس كذلك ؟ “.

مسح الدموع من على عينيه بإبهامه ثم رد ” إنها كذلك بالتأكيد “.

وضعت السيجارة بين شفتي و قدمت له سيجارة تناولها من يدي ثم قلت : ” أين هي الأيام الجيدة هذا الوقت هاه ؟ ، عليك أن تكون قوياً “.

” لا يمكنني حتى أن أواجه ولدي بالحقيقة “.

” أها … الحقيقة عن ماذا ؟ “.

لوّح بيده عالياً ثم قال بحزن محدثا نفسه : ” ستفصح عن حياتك الشخصية لشخص غريب يا ربيع “.

رديت متبسماً : ” لا تقلق أنت بين الأصدقاء ، فأنا رفيق منعم “.

” أنا لم أخنها قط ، لقد كانت إشاعة بائسة ، هذا كل ما في الأمر “.

أمعنت النظر إليه ثم قلت ” لديك زجاجة خمر بجانبك “.

فأجاب ” و لم أفتحها قط ، إنها نفس الزجاجة التي أحملها كل يوم ، حتى أنني لا أجيد إخفائها عند خروجي “.

” حسناً ، لقد انتشرت الإشاعة بخفة لتطال مسامع الجميع ، لكن لا أحد يعلم سبب انتشارها “.

” أنا لست قديساً ، أردت فقط ترقية في العمل لأوفر لزوجتي علاجاً أفضل ، لذا فإنني أخبرت رئيستي أن أبني رسام ذاع صيته ليخرج عن نطاق هذه القرية الصغيرة ، فافترضت أن لي من الجاه ما يكفي لأشبع رغبتها بالمال  “.

أكملت جملته : ” لكنها انصدمت بالحقيقة “.

رفع رأسه نحوي قائلاً : ” نعم … ذلك ما حدث “

رفست عقب السيجارة بقدمي ثم قلت ” حسناً ، نحن لا ندرك قذارة أنفسنا إلا بعد فوات الأوان ، لذا نصيحة لك إرمِ تلك الزجاجة و اجعل نفسك رجلاً أفضل لعائلتك أو ابتعد و دعهم يكونون رجالاً أفضل لأنفسهم “.

لقد بكيت بحرقة بعد ذلك ،  و صحت داخل المنزل قبل أن أسقط مغشياً علي ، نهضت و  ركبت السيارة و غادرت مباشرةً لأنزوي داخل شقتي ، غيمة غبار ضخمة ترتفع خلفي و أغنية صاخبة تصم أذني ، كبحت جماح تلك الوحش بقوة فخفضت مقدمتها كرعية بين يدي ملك و صعدت الدرجات نحو الباب لأصطدم برسالة أسفله ، سطور سوداء داخل ورقة بيضاء ، كم سيكون الأمر سيئاً ؟ إنه محطم .

” منعم ،  سامحني فأنا لم أستطع أن أخبرك ، لقد قطع لساني لحظة قابلتك وجهاً لوجه و أدركت أنك علمت بمرضي ، تضحكني محاولتك الآن حين أفكر فيها لكنك محق ! فمن يريد أن يختبر نفس الألم مرتين ، الأطباء يقولون أن فرصة العلاج خارج البلاد ضئيلة لكن على الأقل سأُدفن بجوار والدي ، أنظر إلي داخل لوحتك و ستعرف أني دوماً معك

ماريا “

” كش الملك يا منعم ، كش الملك ” رددت بيني و بين نفسي و حتى تلك اللحظة لم أدرك أن القفزة أخذت من حياتي ما يفوق العشرين يوماً .

ليلة رأس السنة 2018 : لقد كان أنا ،  ذلك الرجل الذي تحدث عنه والدي ، أخذ بمشورتي أنا و قرر الرحيل ، دائماً متأخر في إدراكي لحقيقة الأمور هذه نقطة ضعفي على ما يبدو ، لقد كنت موريارتي هذه القصة و اعتقدت أنني شرلوك ،  مضحك كيف أننا نحن البشر نحب أن نسيء فهم كل شيء حولنا ، أبي أساء فهم الحياة معتقداً أنني أنا محور مستقبله و قد كنت مجرد متعجرف لعين ، ماريا أساءت فهمي معتقدة أني أتجاهلها لأني علمت بمرضها و الحقيقة هي أنني لم أدرك أني علقت في ذلك المكان طوال تلك المدة ، و حتى لو أدركت فإني لن أستطيع أن أفسر لها لأني شخصياً لم أجد تفسيراً لذلك ، و أنا … حسناً لقد أسأت فهم كل شيء ، حاولت بكل جهدي أن أكون أفضل نسخة ممكنة عن نفسي و أن أرضي الجميع ، لكن الخطأ أحياناً يكمن في أننا نحاول أكثر من اللازم ، لم أسمع خبراً من عائلة ماريا لذا سأفترض الأسوء بطبيعة ما أمر به و أمضي قدماً .

غريب هو الزمن فيمكنك أن تجعله مفهوماً و يمكنك أن تجعله واقع ، لكن الحقيقة التي لا يختلف عنها اثنان هي أنه يمضي كقطار دون أن يرى ما ترك خلفه ، حاضر اليوم هو ماضي الغد لذا بدلاً من أن نحلم بتغيير الماضي سنحاول أن نتغير نحن في الحاضر لعلنا نجد مخرجا من بوابة الندم .

النهاية …

 

تاريخ النشر : 2020-01-01

تقي الدين

الجزائر
guest
48 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى