أدب الرعب والعام

معزوفة الانتقام

بقلم : دامسة في الظلام – العراق

معزوفة الانتقام
ثم بدأت تعزف بجنون !

دخلت سيدة نبيلة و جميلة في الثلاثينات من عمرها القاعة ، تجر بفستانها الراقي الطويل أزرق اللون و عاري الظهر الذي أسدلت عليه شعرها الأسود الطويل الحريري ، و صعدت على المسرح ..

فتحت علبة الكمان الفاخرة لتخرج منها كماناً يفاجئ الجمهور .. كيف لفتاةٍ ثريةٍ و من أغنى عائلات البلدة أن تحمل في جعبتها هذا الكمان القديم و العتيق و الذي تملأه الخدوش !! لا يمكن لفقير حتى إن وجده على الأرض أن يلتقطه !!

قاطع أسئلة الجمهور عزفها العذب الذي يأسر النفوس ، هذا اللحن الرائع الذي لم تسمعه الآذان منذ زمن طويل , مميز جداً ، يجمع بين النقاء و الجمال و الهدوء ، يأخذ بك إلى عالم آخر فور سماعك له .. 

سحرالجمهور هذا اللحن و كأنه يدخل مستمعيه إلى السعادة ، يتمنون ألا ينتهي العزف .. 

فجأة تقدمت من مكانها و خلعت كعبها العالي ربما لأنه يضايقها ، بقت على المسرح حافية القدمين و تغير عزفها من جميل إلى حزين ، و اختفت ابتسامتها و أصبح صوت الكمان يملأ المكان كآبة .
بدأت دموع الجمهور تنزل رغماً عنهم ، فلم يسمعوا معزوفةً أكثر حزنٍ منها ، و كانها تحاكي قصة .. بعدها بقليل تدرج عزفها شيئاً فشيئاً ليصبح صاخباً و مزعجاً يمزق طبلة الأذن !

عم الإزعاج المكان ، لم يحتمله أحد ، لكنها أوقفت عزفها لتعيده منغم .. 

غادرت المسرح و صفق لها الجمهور بحرارة ، كانوا كأنهم نسوا الجزء المزعج من عزفها .. غادرت المكان و لايزال صوت الموسيقى يعاد صداه في آذان من سمعوه 

******

بعد أسبوعٍ بدأ بعض الناس يزعمون أنهم يعانون من هلوسة لأن صوت العزف الذي أدته ميليسيا في المسرح لايزالون يسمعونه ! الأمر يزعجهم لأقصى حد ، حيث أنهم لم يذوقوا طعم الراحة بعدها و لم ينعموا بالنوم الهنيء .. الأعداد تتزايد ، كل من خرج من المسرح و كان يحضر عزف ميليسا بالذات و يقال أنها تعزف نفس اللحن المتدرج !

******

بعد شهر ..

كنت في سوق المدينة عندما لفتت نظري مجموعة من الناس يمشون بلا وعي نحو كومة من الحطب المشتعل ، تجمعوا حولها على شكل دائرة و بدأوا يدخلون إليها واحداً تلو الآخر ، هذا المنظر تعجب له كل من كان واقفاً ، مستحيل أن ينتحر الناس برغبتهم و معاً !! و كيف ؟ بالحرق !

غلبتني الشكوك حول الأمر و بدأت تلعب برأسي ، يا إلهي أتمنى لو أجد أحد الاحتمالات التي تقودني للأمر ، بعدها بلحظات جاء الرجل العجوز المعتاد الذي له تفسير غريب للأمور ..
– يا إلهي ، إلا هو ، سيبدأ بالتخاريف حول الجن و الشياطين ..
حينها بدأ الرجل العجوز ينادي :
– لقد حذرتكم ، لقد حذرتكم ، ها هو أنطونيو سيثأر له أحد ، ما كان عليكم أن تؤذوه، روح الشيطان البريء عاد لينتقم من سكان بلدة أفوست ، أفوست حلت عليها اللعنة ، ستذوقون جزاء عملكم … أنطونيو لم يكن يريد إلا أن يعزف .

لقد أثارني هذا العجوز ، صحيح أن تفسيراته غريبة لكن لو لاحظت فإنه أغلب الأحيان يكون محق .

قاطعه أحد المارة قائلاً :
– أيها العجوز الخرف ، هل عدت لجنونك ؟ البلدة ستكون بخير ، متى تموت ؟ لقد كان أبي طفلاً و أنت كنت وقتها عجوز ، مات أبي ، أما أنت لاتزال حياً و تزعجنا بتخاريفك .. ساحرات ، جنيات ، لعنات !! متى ستكبر ؟!

نظر إليه العجوز بغضب قائلاً :
– أبوك مات لأنه أذى جنية صغيرة

غادر الرجل و هو يتمتم بكلمات الغضب و يقول 
– ياله من عجوز لعين ، متى أرتاح منه ؟ ربما سأموت قبله و يموت أولادي قبله و هو لن يموت

تقدمت نحو الرجل العجوز و قلت له :
– عمي .. أيمكنك أن تخبرني عن أنطونيو ؟
– لم أخبرك , تعال معي إلى منزلي و سأريكِ 

تبعت الرجل العجوز حتى وصلنا إلى منزله ، كان يقع بعيداً عن البيوت ، و هو منزل قديم و صغير ، دخلت المنزل و بدأ الرجل بوضع مواد غريبة و أعشاب متنوعة و محاليل في قدر أسود خرج منه دخان أزرق انعكست فيه صورة لرجل يعزف نفس اللحن الذي تعزفه ميليسيا ، بعدها ظهر نفس الرجل و هو يلاطف أطفالاً صغاراً ، لكن أتت مجموعة من الناس و هم يسحبوه و قالوا :
– شيطان لعين لا نريده في قريتنا 

عاد نفس الرجل لكنه حافي القدمين و هو يعزف لحن حزين كالجزء الثاني من اللحن الذي عزفته ميليسيا ، حينها أحسست أن ميليسيا قصدت تدرج المعزوفة ، أمسكه أحد الرجال و هو يقول :
– ألم نخبرك ألا تعود كي لا تلعن قريتنا الشياطين ؟

لا يتغيرون كلهم نفس الشيء ، سحبوه إلى كومة نار و يقولون له بعد أن رموه 
– هذا هو مكانك .. 
رمى الكمان على الأرض بعد أن عزف بصخب كبير ذكرني بما فعلته ميليسيا حين عزفت .

التقطته فتاة صغيرة بشعر أسود و الدموع تملأ عينيها ، لا أعلم لكن جمالها كان مألوفاً لي ، كانت تشبه إلى حدٍّ كبير ميليسا 

– عمي .. ما حدث مع أنطونيو قاسي ، ألا يحق له الانتقام ؟
– كان أنطونيو الشيطان الوحيد الذي له مثل هذا القلب ، لقد كان يحب الأطفال و بالأخص ميليسيا ، حيث أنها تغيرت بعد ذلك و كرهت جميع سكان البلدة بالأخص أهلها

******

بدأت الأمور تتحسن و لم يعد الانتحار كما كان ، استغربت  الأمر ..

في أحد الأيام وجدت ميليسيا على غير عادتها ، إذ كانت كلما أراها تكون منغمسة بالعزف و شرارة الانتقام في عينها ، الآن تجلس بكل هدوء في الحديقة و تنظر للأرض ..

– سيدتي ، لقد علمت كل شيء عن هذا الكمان ، و عن الشيطان أنطونيو
نظرت إلي و قالت :
– أياً يكن
– إذاً لمً لا تزاولين انتقامك ؟
– أنطونيو لم يعد موجوداً ، و الانتقام بلافائدة ، كله بسبب والداي ..

قامت من مكانها و بدأت تمشي بخطوات متثاقلة نحو الغابة ..

من يومها لم نعد نراها و لا أحد يعلم ما حدث معها !

 

تاريخ النشر : 2017-04-18

guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى