أدب الرعب والعام

مقابلة مع محقق

بقلم : تقي الدين – الجزائر
للتواصل : [email protected]

نحن أكثر خوفاً من أن نواجه الحقيقة أو أكثر جهلاً من رؤيتها

 

كل الأحداث و الشخصيات و الأماكن في هذه القصة من وحي خيال الكاتب.

توهجت أصابع تقي و هي تطرق على الآلة الكاتبة و قد ازدادت الضربات على أزرارها الحديدية حدة و قوة ، تلك الابتسامة الصغيرة على شفتيه و التي لا تكاد تظهر من خلف لحيته الكثيفة توحي دوماً أنه قد تقمص أخيراً ذهنية الشخصية و إن كان يقتبس بعضاً مما يكتبه من ماضيه ، توقفت الطرقات فجأة و خيم الصمت على المكان ، استدار تقي للباب الخشبي بعدما تناهى لأذنه صوت وقع حذاء ذا كعب عال يقترب ، فسحب الورقة من الآلة و عدل قميصه الرمادي ثم مرر يده على شعره الأسود الطويل قليلاً بانسيابية و وقف منتظراً تلك الطرقات اللطيفة التي لم تخيبه ، عرج الباب قليلاً فظهرت من خلفه إمرأة ثلاثينية جميلة ذات شعر بني يطابق عينيها مرتدية ملابس سوداء متناسقة و على شفتيها الرقيقتين أحمر شفاه فاقع ، فتح الباب على مصراعيه ثم قال بلطف يمكن استشعاره على أنه تهديد بسبب هدوء نبرته و بحة صوته

" سيدة مونا ، كيف حالك ".

بدت السيدة مونا كإمرأة متحكمة و واثقة من نفسها و هي تدخل إلى مكتب تقي رافعةً رأسها لأعلى ثم قدمت يدها لتقي بطريقة أرستقراطية و قالت بتعال

" تشرفت بلقاء أسطورة مثلك سيد زينا لقد سمعت عنك الكثير ".

بدا تقي من الملامح على وجهه المستدير كأنه يحبذ لو تفادى كل هذا ، جلست على الكرسي أمام مكتبه و راحت تمرر عينيها عبر قصاصات الجرائد القديمة المعلقة و المحفوظة خلف مكتبه من أيام عمله كمحقق خاص ، جلس هو بهدوء على كرسيه الأسود المبطن ثم قال :

" قلتِ أنك تعملين للسيد حسن ؟ "؟.

فردت و هي تحرك رأسها في كل اتجاه " نعم ، إنه رجل لطيف و يدفع جيداً ".

" أنا متأكد أنه يفعل " رد تقي بفتور و بصوت خافت ، وضعت حقيبتها الجلدية ببطء و لطف فوق المكتب ثم أخرجت منها آلة مسجلة وضعتها بينهما و قالت " لقد قال أنك لن تمانع مناقشة آخر قضية لك ، خدمة كما وصفها ".

سحب تقي كرسيه حتى ألتصق بالمكتب ثم قال :

" لماذا القضية الأخيرة ؟ لقد كانت من أسهل القضايا لدي ".

عاودت مونا التحديق للجدار خلفه ثم ردت " ذلك الجدار يتحدث بنفسه ، ثم إن القراء يعشقون القصص الأخيرة ، كما يقولون العبرة في الخواتيم ".

قال تقي " إنها ليست بتلك الخاتمة الأخاذة  ".

ابتسمت حتى ظهرت أسنانها ثم قالت بسخرية محاكيه صوت الرضيع " هذا مؤسف " و ضغطت على زر التشغيل ، تراجع تقي للخلف مسترخياً ثم سأل " هل تريدين معرفة كيفية إيجادي للجثة باختصار أم القصة كلها ؟ ".

" القصة كلها من جنابك " ردت مونا باحترام .

أسند تقي رأسه على الكرسي ثم أخذ يسترسل في الكلام ، كنت جالساً خلف تلك الطاولة تماماً أرسم فصول روايتي الجديدة عندما قاطع تسلسل أفكاري صوت الهاتف الأرضي ، أجبت عنه مباشرة فإذا به النقيب الراحل غريب " أهلا تقي… إنه النقيب ، هل يمكنك الحضور للضواحي ؟ " كنت مستعداً بسعادة لتقديم أي خدمة له ، لكن اتصاله فاجأني فهو لا يتصل إلا إذا أقام غداء كبيراً في منزله ، و ما فاجأني أكثر هو طلبه ، على كلاً ارتديت معطفي الأسود و وضعت قبعة فيدورا السوداء المُهداة لي من طرف زوجتي على رأسي بعناية ثم غادرت ، كنت أقود سيارة رينو قديمة لكنها قوية و صلبة مثلك ، و بطريقة ما لم أستطع منع نفسي من التحديق في منازل الضواحي فأنا لم أزر تلك المنطقة كثيراً فقبل 2012 م لم تكن سوى مجموعة منازل طينية قديمة متناثرة هنا و هناك كقطيع صغير من الخرفان ، و بقوة الهندسة حولوها لتحف بيضاء مبنية على الطريقة الفرنسية ، من… أحم ! معذرة ، من بعيد استبصرت النقيب متكئ على مؤخر سيارة الشرطة و قد مالت للجانب قليلاً ، يلوح بيديه و يخاطب أحد الضباط بقلق ، ركنت بعيداً للخلف قليلاً و ما إن ترجلت و صفعت الباب حتى استدار لي و صاح بعفويته المعتادة :

" القبعة مجدداً ! ".

رديت بسخرية " إنها كل الحظ أيها النقيب ، ماذا لديك لي ؟ ".

وضع يديه على خصريه بطريقة هوليوودية فقد كان يتحمس دوماً للقضايا الجديدة خاصةً إذا كنت أنا منخرطاً فيها ، ثم قال :

" أم مذعورة ، قُتل فتاها الوحيد باعتراف صديقه المقرب الذي كان حارساً معه في محطة الطاقة " و وجه نظره لأعلى ثم أعقب " سلم نفسه في الصباح الباكر بجسد مطلي بدماء رفيقه و سكين مطبخ ، لقد أرسلت الرجال هناك " بالطبع صدمتني تلك الكلمات حتى تموج حاجبي لكنني جاريته " يبدو أنك تناولني قضية منتهية أيها النقيب ! " نظر لي و قد أحسست أنه لا يريد التحدث لكنني شجعته " هيا ابصقها أيها النقيب ".

فقال " حسناً ،  لم نجد الجثة و الجاني يرفض الاعتراف ، إنه مصدوم و يردد عبارة أن الأرواح هي من أمرته بفعل ذلك ".

ضحكت ملئ شدقي على الكلمات تلك ، لكنه أردف : " لقد سمعت أموراً عن محطات الطاقة تلك ، أنهم يسمعون أشياء تقشر لها الأبدان و يرون أشياء غريبة " " و أنت لم تتفق معه ؟ " سألت مونا بفضول ، بالطبع لم أتفق معه بل و قاطعته موضحاً ، " إن العقل البشري يميل لتفسير كل ما لا يمكنه أن يفسره بسبب محدودية مكتسبه بطريقة روحية فقط ليوفر عنه الجهد " لم يفهم أو يقتنع بذلك طبعاً فقد كان من المدرسة القديمة ، أرواح و سحر … إلى غير ذلك.

ناولني ملفي الفتيان ، " صهيب موسى " هذا كان أسم القاتل و الغريب أن سجله القانوني كان نظيفاً ، الفتى الآخر بالطبع كان " فارس حسن " كانا مقربين ، تخرجا من ثانوية المدينة في نفس العام و توجها للعمل ، الملفات كانت دقيقة لن أكذب حين أقول ذلك ، لكنها دقيقة في أمور ثانوية ، بالطبع ساعدتني علاماته لاحقاً على كشف الدافع لكن كمحقق أريد أن أغوص أكثر في شخصية الجاني.

، سألته عن البصمات فأجاب : " بصمات في كل مكان للفتيان و السمكري و حتى رئيس الوحدة لكن ما الفائدة ؟ ذلك مقر عملهم "

سألت النقيب مرة أخرى إن تحدث للأم لكنه قال أنها ترفض التحدث مع أي شخص و تطالب بإيجاد جثة أبنها ، و هنا فاجأني بكلماته ، فأنا لم أتولى قضية كهذه من قبل ، و قد رفض جميع المحققين لديه أن يتولوا القضية بل و رفع رسالة للولاية يفسر فيها لماذا يجب أن أكون أنا ؟ و فحواها باختصار هو أنني لا أصدق كثيراً بالأمور الماورائية عكس معظم المحققين الآخرين ، لقد كلف نفسه عناء الأعمال الورقية لذا فأنني قبلت و صعدت معه لمحطة الطاقة لأستكشف أكثر.

قاطعته مونا مرة أخرى " و ماذا عن الأم ، هل استسلمتم ببساطة ؟ " فرد " كانت في حالة هستيرية ، و قد أقنعها بعض أقربائها أنه رفع من قِبل " ذي الجناحين " و هو مخلوق شيطاني يُقال أنه يأمر بقتل الآثمين و يحمل جثثهم للجحيم.

*******

فرقع تقي حبة دواء كانت داخل جيبه و مررها برشفة ماء من الكأس الزجاجي المزخرف الموضوع أمامه ثم أكمل " محطات الطاقة الصغيرة تلك كانت إعادة بناء و ترميم حديثة لمراكز مراقبة قديمة كان يستعملها الجيش في التسعينيات كنقطة أفضلية ضد المتمردين و الإرهاب و قد انطلق المشروع قبل أعوام قليلة فقط في إطار التخفيف من الانقطاعات المتكررة ، لذا فإنها لم تكن أفضل مكان لقضاء عطلة إن تعرفين ما أعني ".

" يا الله ما هذا ! " كانت هذه كلمات النقيب بعدما رأى الحالة الكارثية التي كانت عليها مضاجعهم.

سألت مونا بفضول " إنه سؤال غير متصل بسياق القصة ، لكن هل كانت بذلك السوء ؟ ".

أومأ تقي برأسه ثم عاد لحديثه : كانت لديهم ثلاث أسرة حديدية صدئة مكدسة فوق بعضها البعض و آخر سرير كان إلى حد ما ملتصقاً بالسقف ، الغرفة كانت ضيقة جداً لتحمل سريراً على الجانب و الجدران مطلية بطلاء أساس قديم تقشر منذ وقت طويل ، ربما لم يعاد طلائها منذ أن افتتحت و الشيء الوحيد الذي كان يصرخ بالحداثة هو ضوء نيون ضخم مثبت على الحائط ، آه على كلاً النقيب كان قد أمر رجاله بتمشيط المنطقة بمساعدة بعض المحليين بالطبع ، أناس أغنياء من سكان الضواحي معظمهم كان ليلعب الغولف في هذا الوقت من اليوم ، لكنهم لم يجدو شيئاً ، لم تكن المنطقة المحيطة بذلك الكبر ، خاصة و أنها جريمته الأولى فإنه سيحاول طمس الجثة في أقرب مكان تفادياً لأي مفاجآت ، حدد لهم الوادي في الأسفل كنقطة نهاية و البعض ذهب ليفترض أن الجثة قد جُرفت من قبل التيار لكن الوادي كان جافاً كراحة اليد ، نعم ، المدينة لم تذق طعم الغيث حتى العام 2015م ، شطبنا الفكرة مؤقتاً حتى ترسل الولاية المزيد من الرجال ، وبدى لوهلة كأنه اختار الوقت المثالي لقتل صديقه المقرب فإعادة تعيين الأفراد تحدث كل خمس سنوات و قد كانت تلك الفترة التي يقومون فيها بذلك ، لذا فإننا لم نمتلك الكثير كوننا بلدة صغيرة ، أظن بضع ضباط و رجلي شرطة بدون كاميرات مما دفعنا جميعا لالتقاط الصور بهواتفنا المحمولة ، بدونا مضحكين و نحن نقوم بذلك.

بعد تفتيشنا للمحطة الصغيرة لم نجد شيئاً على الإطلاق و لا حتى ملابس الضحية ، لذا توجهنا بعد الغداء لمنزل الجاني في مجمع العمارات المتمركز في الجهة الجنوبية للمدينة ، لكننا عرجنا قبل ذلك على مكتب المسؤول للتحدث عن أي مشاكل أو طلبات غريبة أو غير اعتيادية يمكن أن يكون قد أودعها ، و قد لاحظت أن ذلك المكتب النقي ذا الواجهة الزجاجية الضخمة مختلف تماماً عن تلك المحطة القذرة.

تقي : " هل تقدم السيد موسى بأي طلب غير اعتيادي خلال فترة عمله ".

المسؤول : " لا ، على الإطلاق ، فقط تصليح للمصباح و بعض الخيوط الكهربائية ".

تقي : " لا شيء آخر ، لم يطلب معدات إضافية ".

المسؤول : " لا ، السمكري تكفل بكل شيء ".

تقي : " و أين يمكنني أن أجد السمكري ".

المسؤول : " إنهم يرسلونه من المكتب الجهوي في الشمال ".

بعد أن اكتشفنا لاحقاً أن هذه الإصلاحات كانت جزءً من لعبته الصغيرة القذرة ، فكرت مع نفسي أن أغبى شخص يمكن أن تقابله أحياناً هو نفسك.

سألته سؤالاً أخيراً قبل المغادرة : " هل تظن أن هناك شيئاً شيطانياً في الأعلى هناك ".

توتر لكنه رد : عملي يفرض علي أن لا أؤمن بذلك ، لكن من يعلم ربما أكون مخطئاً.

مرر تقي يده عبر وجهه بعنف و صاح : " و كأن كل المدينة فقدت البوصلة الإيمانية في ذلك الشهر من التحقيق " ثم واصل " بعد ذلك أخذنا الطريق مباشرة نحو مجمع العمارات… أووف ! أعني لقد سمعت بعض القصص عن الأحوال الاجتماعية هناك لكنها كانت أسوء مما توقعت و النقيب المسكين ظل يدعي لله أن يتخلصوا من الحالة الكارثية ، نعم الأسقف كانت تسرب المياه حتى اخضرت حواف العمارة و الشارع كان قذراً حتى اعتادوا عليه ، لن ألقي بكل اللوم على عاتق الولاية ذلك لأنني أعرف أن بعض الناس يميلون لتمثيل دور الضحية فقط ليتخلصوا من الذنب ، لكن لن تعرفي أبداً من المخطئ ، حالة المنزل لم تكن أفضل على كل ،  كانت شقة بثلاث غرف اثنتان مغلقتان لأن السقف يسرب لذا فإنهم كانوا يتنقلون بين غرفة الجلوس و المطبخ و الحمام فقط ، النقيب عكسي أنا كان يكترث و سأل الوالدة التي استقبلتنا بينما كان ينظر للمكان بقرف " لماذا لم تبلغوا عن هذا ؟ " مسحت الدموع عن عينيها الضيقتين بردائها الأحمر الباهت و ردت بحزن " عادةً كان زوجي الراحل يحرك ضمائرهم قليلاً ، لكن الآن لا أحد ليقف معنا إلا الله ، كما أن أبني صهيب ليس شخصاً اجتماعياً و لا يحب الاختلاط " كيف ذلك تحديداً سيدة موسى ؟ " سألتها بهدوء ، قالت " إنه دائماً في الخارج أو داخل غرفته قبل أن أغلقها ، قبضته يتحدث مع نفسه بين الحين و الآخر و يمارس أموراً غريبة و مخلة بالحياء مع الوسادة و بعض الأغراض الأخرى " ، كنت قد قرأت بعض الكتب في الجامعة يا سيدة مونا عن علم النفس ، لذا فإنني كنت عليماً نوعاً ما بحالته لكن كان علي التأكد و عدم الافتراض مبكراً.

" هل كانت هذه الحالة قبل وفاة الوالد أم بعد وفاته ؟ " سألتها مجدداً ، قالت : أن الحالة كانت معه منذ سن مبكرة ، لذا فإن لا علاقة لها بصدمة فقدان والده.

طرق تقي على مكتبه ثم غمغم " فتى مسكين " و هو يومئ رفضاً برأسه قبل أن ينفجر

" أتعرفين هذه مشكلتنا ، نحن أكثر خوفاً من أن نواجه الحقيقة أو أكثر جهلاً من رؤيتها ، أنا أعني أن الفتى كان مريضاً بحق لكن بما أننا نبيع للجميع فكرة أن الطبيب النفسي فقط للمجانين ، لم يكن هناك شيء في ملفه الطبي ، كان ليوفر ذلك علينا الكثير من الوقت " انتفض من كرسيه ثم أخرج علبة سجائر بيضاء من الدرج الأول وصفعه مغلقاً إياه ثم قال " اعذريني لبضع لحظات سيدة مونا ".

********

بعدما نفث بعض الدخان من عقب سيجارته في الشرفة الجانبية الصغيرة ، عاود الجلوس خلف مكتبه و قد مر نوع من الهدوء بين عروقه ثم أكمل : أين كنت … هاه ! نعم ، تذكرت حديث النقيب حول الأرواح الشريرة و الجن ، فسألتها إن كان ابنها ذا إيمان قوي أو على الأقل محافظ على الشعائر الأساسية فالأطفال هذه الأيام يعتبرون الدين كأمر ثانوي .

تقي : " هل هو مواظب على الصلاة يا سيدة موسى ؟ ".

الأم : " نعم ، نعم إنه كذلك " ردت علي بلطف ، رفعت رأسي و نظرت بحدة للنقيب و قد انطبعت علامات التعجب على وجهه ثم رفع كتفيه.

تقي : " هل يمكننا رؤية غرفته ؟ ".

الأم : " بالطبع ".

كانت غرفته مغمورة بالماء و شبه فارغة ، طاولة خشبية ضخمة و خزانة حائط فارغة ، أنهيت المحادثة معها بعدما وجدت أن الغرفة لن تقدم لي حتى خيطاً رفيعاً.

" سنبقى على اتصال سيدة موسى ".

ثم غادرت مع النقيب ، بينما كنا في السيارة عائدين للمخفر أخبرني و لا أعرف لم ظن أن ذلك هو الوقت المثالي أننا لا نستطيع القيام بالكثير حتى ترسل الولاية المزيد من الرجال لتغطي مساحة أكبر ، لذا اتصلنا بالولاية لنتأكد و أخبرونا أنهم سيرسلون الرجال من إن يصادق مفوض الشرطة على إعادة التعيين ، حاولنا التحدث مع المفوض أو حتى تنظيم لقاء صغير معه لكنه كان رجلاً حذراً جداً ، أمضى بعض الوقت في الاستخبارات العسكرية في وقت كان الجميع ينفر من مهنة كتلك ، و منصب كذلك سيحفر أخلاقياته في ذهنك للأبد ، تقبلنا بمرارة فكرة أن الأمر كان سيستغرق حوالي أسبوع أو أكثر بقليل خاصةً أنهم يبحثون فقط عن جثة على حد قول الجاني ، لكن أنا ، تعرفين كان علي أن أبحث أكثر فلا يمكنك الأخذ بكلمة فتى مضطرب قال أن الأرواح هي من أخذت حثته ، ربما كان مصدوماً فقط ، طرقت على بعض الأبواب هنا و هناك و لكي لا أطيل عليك بتفاصيل ثانوية لم أجد الكثير ، الجميع في المدينة يعرفهم ، أطفال طيبون و ملتزمون ، على الجانب و بدون معرفة النقيب قررت أن أنبش قليلاً لعلي أعرف الدافع ، لم يكن ذلك مهماً كثيراً خاصةً و أنه اعترف ، لكنه نشاط أمضي به الوقت ، لذا بعد صلاة جمعة ذلك الأسبوع توجهت للإمام لأتحدث معه لعله يتذكر الفتى

" خطبة جميلة أيها الإمام " قلت تلك الكلمات و أنا أرفع رأسي لأعلى ما يمكن فقد كان رجلاً ضخماً ذو لحية طويلة و طيب جداً ، خدم في الجيش في التسعينيات ، كانوا يوظفون في ذلك الوقت حتى المنتسبين لأداء الخدمة الوطنية لذا فإنهم أخذوه مباشرة بعد إنهاء دراسته ، آآه لجعل قصة طويلة أقصر أريته الصورة.

" نعم لقد رأيته بضع مرات ، كان يتردد بين الصلوات أحياناً يصلي الظهر و أحيانا المغرب و مرات أخرى معاً ".

" و هل تذكره الإمام ؟ " سألته مونا و قد ضيقت عينيها.

فأجاب " إنها مدينة صغيرة سيدة مونا و الجامع يمتلأ عن آخره وقت صلاة الجمعة فقط أما باقي الأوقات فبضع صفوف فقط و يمكنك ملاحظة من تريدين " .

على كلاً  شاب كهذا و بناءً على خبرتي لا يرزح تحت ضغط الجن أو الأرواح أو مهما أردت تسميتها ، أنا أدعو نفسي مؤمناً ، حسناً بالرغم من التدخين أو الأقراص أمور تساعد على الاسترخاء فقط ، و أضمن لك أنه يمكنني المبيت في ألكاتراز أو أي مكان مسكون آخر يهابه الجميع و يقومون بافتراضات سخيفة عنه دون أدنى مشكلة.

حك تقي ذقنه محاولًا التذكر ثم رفع يده كمن اشتعل مصباح صغير فوق رأسه.

يوم الأحد بعد نهاية الأسبوع مرت عبر خاطري فكرة أنه ربما كانت مشكلة شباب غريبة ، أنا لم أفكر فيها من قبل قط فقد كانت الجريمة منظمة بشكل كبير و قد تذهب أبعد من مشكلة مراهقين ، مع ذلك فإن لدي قاعدة منقوشة في لوح مبادئي و التي هي " مهما كانت الجريمة منظمة ، فإن الدافع ورائها يكون فوضوياً " فالعقل هو ساحة معركة يا سيدتي الطيبة و إذا لف ذلك الجانب الأسود تفكير الفرد فإنه لا يختلف كثيراً عن إنسان الغاب ، لذا فكرت مع نفسي أن أذهب و أسأل بعض المسؤولين في ثانويته القديمة عن أي منافسة بينهم أو أي شجار حدث ، الأولاد أنت تعرفين حالهم و لأن القدر شاء للقضية أن تطول قليلاً قاطعني اتصال من النقيب يخبرني فيه أنهم وجدو ملابس الفتى المفقود خلال عملية تمشيط بسيطة قام بها مع بعض المحليين ، هاه ! إذا كان هناك شيء واحد أعترف به للنقيب هو أنه لا يستسلم ، كانت ملابسه مبعثرة في نهاية الوادي ، فوق تلك الصخور البيضاء ، آآه قميص أحمر بكم طويل ، سروال جينز و بضع ملابس داخلية إن لم تخنني الذاكرة ، لم يخفني شيء في تلك القضية أكثر من منظر الملابس مستلقية هناك في صمت تحت السماء الرمادية.

جذبت القضية انتباه الولاية بعد ذلك و أسرعوا في عملية تنصيب الضباط الجدد في مناصبهم ، بقي المسرح مغلقاً ليوم واحد ثم وصل الرجال من الولاية ، كانوا متعالين لدرجة كبيرة و غير متقبلين لفكرة العمل في بلدة صغيرة ، اتصل النقيب ببلديتنا لتوفير بضع حفارات لعله دفن الجثة في مكان قريب و  بدأوا بالحفر، لم أكن لأطلب منهم التوقف فهم يقومون بكل هذا فقط ليبينوا للإعلام أنهم يقومون بكل جهدهم ،  كان ذكياً ، ذلك الفتى كان حاداً و عرف أنهم سيضيعون بعض الوقت في عملية الحفر السخيفة هذه ، لم أستهن قط بالفتى لكنني أعطيته قدراً أكبر من الاهتمام الآن ، بينما كانوا مشغولين بالبحث عن اللاشيء قررت أن أتبع الخيط للثانوية ، و ما دفع ثقتي هو موافقة المسؤولين على توسيع التحقيق مما يعني أنه يمكننا مناقشة الأمور بحرية أكبر و إظهار الصور لمسرح الجريمة ، حتى إذا وصلت للصحافة فلا يهم ذلك كثيراً لأنها استرعت اهتمامهم أصلاً ، و في تلك اللحظة يا سيدة مونا كنت أسير بخطى ثابتة نحو الحل.

********

المدير بنفسه استقبلني السيد " يعقوب يافع " رجل منضبط جداً حتى في ملامح وجهه و عامل فذ ، كان أستاذاً في تلك الثانوية و لم يقدر الأوضاع التي آلت إليها لذا قرر أن يخرج كل ما في جعبته من عمل شاق و فاز بالمسابقة الخاصة بمدراء الثانويات ، آآه … رجل رائع للتحدث معه حول أي شيء و بالتحديد التلاميذ.

تقي : " شكراً لمقابلتي أيها المدير ".

المدير : " لا مشكلة أيها المحقق ، هذا أقل ما يمكنني فعله ".

" إذاً ما الذي يمكنك إخباري به عن الفتيان ؟ " سألت بثقة و تأكد أنه يعرف أي فتيان أتحدث عنهما فالكلام في بلدة صغيرة ينتقل أسرع من الريح

، شبك أصابعه أمامه و بدا مخيفاً بعض الشيء فمكتبه كان مظلماً قليلاً و ضخامة حجمه لم تزد الصورة لطفاً ، أخذ نفساً عميقاً ثم أجاب " تلميذان جيدان ، بقدر ما يمكنني التذكر لا يوجد أي استدعاءات أو مجالس تأديبية بحقهما فقط بضع توبيخات ، منضبطان و لهذا أحببتهما و ليسا بالمتحدثين كثيراً داخل القسم ".

أخبرني بالكثير بعد ذلك و جرفته للتحدث عن الأوضاع في المؤسسة قليلاً ، أنت تعرفين استدراجه للمسألة التي قدمت بشأنها و أخيراً سألت عن دفاتر الأقسام القديمة و كشوف النقاط و قد نجحت خطتي كالسحر، اختفى قليلاً في غرفة الأرشيف لحوالي عشر دقائق ثم عاد بالدفترين و الأوراق ، حتى تلك النقطة كنت أعرف نتيجة البكالوريا خاصتهما و أعرف أن فارس حاز على علامة أفضل من صهيب لكن كان علي التأكد فأحياناً نتيجة البكالوريا تكون مفاجئة و لا تقدم المستوى الحقيقي ، لكن كان الأمر كما توقعته فارس كان متفوقاً بامتياز في جميع صفوفه و صهيب بدرجة أقل ، ما جذب انتباهي مع ذلك هو ما رأيته حين تصفحت هيكل التجليس الخاص بالسنوات الثلاثة ، كان هناك نمط واضح ، ففارس دوماً يحجز مكانه خلف فتاة تدعى " ليندا " لا يمكنني تذكر اسمها الأخير، كانت تعمل في دار البلدية ، و قد رأيتها هناك بضع مرات لذا خطوتي التالية كانت زيارتها و ما إن رأتني حتى انقلب وجهها ، كان يمكنني أن أسأل بلطف و أن لا أستعمل الحدة لكنني آثرت فعل العكس و صدقيني كانت النتائج أفضل

تقي : " هل همس في أذنك قليلاً ، سخر من الفتيان الآخرين ؟ ".

ليندا : " نعم فعل ذلك حتى أنه أهان بعضاً منهم ".

تقي : " هل كانوا أشخاصاً تعرفينهم ؟ ".

ليندا : " لا ، قاطنوا مجمع العمارات القديم و بعض الفتيان الآخرين " تقي : " هل ضحكتي ؟ يمكنك إخباري لا بأس.. ".

ترددت قليلاً لكنها أجابت بنعم

تقي : " و لماذا ستضحكين على شيء كذلك ، إنه مقزز… و إذا استمريت بالركض وراء ما يلهيك عن الواقع لخمس ثوان ستجدين نفسك أقل أهمية من لعبة رخيصة ".

يمكنك دعوتي بالوغد أيها الصحافية لكنني صريح جداً و لا أسكت عن الخطأ مهما كان مرتكبه ، لقد كنت فتى يوماً ما و أعرف أصناف الناس ، بين المتنمر و الرجل الشهم و المنعزل وصولاً إلى الاجتماعي.

سألته مونا بسرعة " و ماذا كنت أنت ؟ ".

ضحك ضحكة خفيفة ثم رد " الغريب " .

على كلاً أكدت لي أنه سخر و تطاول على الكثير من الأولاد ، للأسف الأطفال يفعلون أموراً غبية في سبيل الإعجاب ، أعني أنا لست ضد العلاقات في وقت مبكر لكنني بالتأكيد لست معها ، إضاعة للمشاعر و الوقت و المال في رأيي الشخصي بالطبع.

" و كيف قابلت زوجتك ؟ " سألت الصحافية

رد تقي بابتسامة " أووه… كانت قريبة للكابتن غريب و التقينا في منزله ، كانت تقطن في الشمال لذا فإنها كانت تأتي أحياناً و أنا كنت أتفقد دوماً على زوجته ، كنت في 26 و هي كانت في 24. )

دعينا لا ننجرف كثيراً ، نعم… حتى تلك النقطة كنت أملك شكل الدافع فقط ، فقمت بزيارة والدة الضحية لعلها تفيدني ، كانت لديها غرفة جلوس جاهزة من تصميم أحد المهندسين الأوربيين ثمنها حوالي خمسة ملايين ، بفف يا له من إهدار للمال ! بعض الناس يميلون لإظهار كرمهم بطرق تجعلهم متعجرفين أكثر من كونهم طيبين.

لوح تقي بيده غير مبال ثم واصل : تحدثنا قليلاً عن ابنها.

تقي : " سيدة حسن أريد أن أعرف قليلاً عن فارس ، أي شيء قد يساعد عداوات أو شجارات… أي شيء ".

كانت غارقة حد النخاع في الحزن لكنها أجابت " لا ، لقد كان فتى مثالياً ، يحبه الجميع و يساعد مع أبيه في العمل ، لا أعرف لماذا أراد العمل في تلك المحطة اللعينة ؟ ".

تقي : " نعم سيدة حسن ، هل قال أي شيء قبل مغادرته ؟ " سألت بقلق.

أجابت " لقد غير رأيه فجأة و أراد الذهاب مباشرةً قبل امتحان البكالوريا ، قال أن الجامعة لن تفيده في شيء و أنها لن توفر له عملاً ، ذلك المكان مسكون بالشر أيها المحقق و قد أخذ أبني.

هاه ! هذا الفتى كان له جدول ، جدول بسيط لكنه فعال ، الضحية " فارس " كان حاد الذكاء ، كانت له علامات عالية في جميع المواد تقريباً و اختياره لهذه الوظيفة سيقرع بعض الأجراس و يثير بعض الشك ، لقد أقنعه صديقه على مدى عام كامل بفكرة أن الجامعة لن توفر له عملاً ، و اختار تلك المحطة خصيصاً للعمل فيها ، لم أستطع الاتصال بالنقيب على الفور فقد كان مشغولاً مع رجال الشرطة العلمية و الإجابة على أسئلة الصحافة ، لكن تمكنت من التواصل معه بعد يومين و أخبرته أن لدي الدافع ، لم تكن فقط السخرية منه هي ما دفعته للقيام بما قام به بل أيضاً السخرية بمن هم حوله ، لقد كان فتى حساس و أيضاً مضطرباً جداً ، استعملت ذلك ضده في الصندوق لنيل اعتراف كامل منه و قد….

حمحمت السيدة مونا ثم قالت " الجثة أولاً من فضلك ثم الاستجواب ؟ ".

أومأ تقي برأسه ثم قال " نعم… الجثة "

إيجاد الجثة لم يكن بالأمر الصعب أنا أعني لقد كانت طلقة واضحة منذ البداية ، و للأسف و بسبب الإدارة و التخوف و قصر النظر من جانبي تأخرنا قليلاً ، عاودت الاتصال بالإمام و التقيت به في الكشك الذي يعمل فيه في وقت فراغه لأريه صور المحطة لعله يكشف أمراً مثيراً للشك ، و دعيني أقول لك أن الحظ يلعب دوراً أحياناً ، ليست جرعة الحظ السائل من هاري بوتر لكن…

تقي : " هل يمكنك أن تلاحظ أي اختلاف أيها الإمام ، أي إضافة تكفي لإخفاء جثة ؟ ".

تفحص الصورة جيداً ثم رد

" لا شيء يُذكر ، كل شيء مطابق تماماً كأنهم لم يغيروا شيئاً ، حتى أن المكيفات بقيت نفسها "

تقي : " هل تعرف أي مكان آخر ، ربما… مخزن أو غرفة مؤون مخفية في مكان ما ؟ ".

الإمام : " لا ، لقد كانوا يجلبون الطعام لنا دورياً ".

تقي : بورك فيك على وقتك.

أح… كح تقي ثم واصل ، أدعيه حدساً يا سيدة مونا أو افتراضاً صحيحاً ! لكن شركة الكهرباء الضخمة الممولة من طرف الدولة  لا تستطيع توفير مكيف هواء حديث ! دفعني ذلك التخمين لزيارة أحد محطات الطاقة الأخرى و سأخبرك الآن أنت أو أي شخص آخر عن الافتراض الخاطئ الذي ترسمونه حول مهنة المحقق و هي أنها مليئة بالإثارة و إطلاق النار و المطاردات و كل تلك الأمور التي يصورها التلفاز ، لا ، قد تكون مملة و معقدة و ستلتقين فيها بالعديد من الأوغاد مثل الحارس الذي لم يسمح لي بالدخول مع أنني وضحت موقفي و عملي مع النقيب ، كان أحمقاً قصيراً يقطن في مجمع العمارات ، أمضى بعض الوقت في سجن الأحداث.

تقي : " معذرة… أنا المحقق الخاص زينا ، أعمل مع المفوض غريب و أود أن ألقي نظرة في الداخل بعد إذنك ".

وقف من كرسيه البلاستيكي الأسود الصغير و قال بطريقة فظة.

" لا زائرين يسمح لهم بالدخول " ثم وضع يده على المضرب كطريقة تخويف ، تعرفين ما يقولون عن مواليد أكتوبر أنهم هادئون ، و هم على حق ، التحدث معه بلطف كان خياراً متاحاً لكنه كان متنمراً يستمد رجولته من المضرب على خصره هاه !  أوما تقي برأسه بسخرية ، السافل المسكين كان يجهل أنني خدمت ثماني سنوات في الفرقة الخاصة للشرطة التابعة للعاصمة.

توقف تقي فجأة ثم مدد شفتيه بإبتسامة جعلته يبدو مثل شخصية الغرينش و قال : " تلك الملفات ما زالت مغلقة أليس كذلك ؟".

ضحكت السيدة مونا ثم قالت : " لقد حاولت معهم لكنهم رفضوا حتى الاستماع لي … كيف عرفت بالمناسبة ؟ ".

" مازالت لدي بضع اتصالات مع أصدقاء من الأيام الخوالي ، و لا أريد أن أتفاخر لكنني لاحظت أن جسمك مال للأمام لحظة نطقي لعبارة الفرقة الخاصة ، هاه ؟ و أنا ظننت أن سيدة جميلة مثلك ستتمكن من فتح بعض الصناديق " قال تقي ثم واصل حديثه .

حسناً كما كنت أقول لوح ذلك الأحمق بمضربه لكنني تفاديته بسهولة ، و لنقل أن أصدقاءه الذين وصل لهم صراخه أنقذوه من بعض الرضوض التي ستذكره بي كل مرة ينظر للمرآة.

" رياض " إبن العجوز اللطيف " ربيع " صاحب محل البقالة الكبير كان يعمل هناك و قد أدخلني لأتفقد المكان.

تقي : " منذ متى ثبتوا هذه المكيفات ؟ ".

رياض : " منذ حوالي عامين ".

لفت إنتباهي أنه لا يوجد أي ثقب خاص بالمكيف القديم فسألته مجدداً : " ماذا عن المكيفات القديمة ، أين كانت مثبتة ؟ ".

أراني مكاناً في الحائط و قد غُطي ذلك الثقب باحترافية و بطريقة مثيرة للإعجاب.

تقي : " هل كل المحطات الأخرى بهذا الشكل ؟ "

أومأ برأسه رافضاً بحزن ثم قال " الرئيس الجديد نصب في فترة الاقتطاع و التقشف لذا فإن المحطات التي فتحت بعد تلك الفترة كلها مرممة بدرجة أقل ، و أحزري ماذا يا سيدة مونا ؟ رفعت رأسها ثم قالت :

" المحطة التي عمل فيها فارس و صديقه كانت حديثة الأنشاء "

" تخمين جيد " قال تقي بود .

ولجت سيارتي و اتصلت بالنقيب مباشرة على هاتفه لأخبره أنني وجدت الجثة ، أخبرته أن يجلب الجميع معه ، فأنا لم أكن متيقناً من شيء أكثر من ذلك في حياتي و قد قدت تلك السيارة لأعلى الجبل حتى سخن محركها ، و توجهت مباشرة لذلك المكيف القديم ، صارعته قليلاً بيدي ثم ركلته بقدمي بقوة حتى كسرت عظماً فيها و سأقول الآن أن الألم الذي وخزني كان بالشيء الهين مقارنة بالرائحة ، المكيف كان محلي الصنع لذا فإن الحديد المصنوع منه كان صلباً و محكماً لدرجة كبيرة ، يمكن القول أنه كان أشبه بقفص صغير للجثة التي تحللت جزئياً و حُشرت هناك حتى برزت بعض العظام من الركبة كأنها مضرجة بالدماء و كما كُشف لاحقاً فإنه تعرض للطعن و أن سبب الوفاة هو نزيف داخلي حاد.

بعد دقائق قليلة كانت المدينة كلها هناك صحافيون ، مدونون سمي ما شئت لكن اللغز كان قد انكشف .

" و المكيف الآخر؟ " سألت السيدة مونا.

رد تقي :" أتتذكرين ضوء النيون الضخم ؟ "

أومأت مونا بالموافقة .

لقد أفسد المصباح القديم و وصلاته الكهربائية ثم طلب مصباحاً جديداً كبيراً كفاية ليغطي آثار الموزع ، و استعمل الثقب القديم الذي كان يمر عبره الأنبوب لتوصيل الأسلاك الضخمة التي يحتاجها ذلك المصباح للخارج ، لم يكلف نفسه عناء تغطية آثار الوحدة الخارجية فقد كان الحائط الخارجي يعاني أصلاً من تشوهات خلقية.

*******

رسمت الصحافية مونا ابتسامة إعجاب على شفتيها ثم قالت : " ذكي جداً أيها المحقق ، و ماذا عن الإستجواب ؟ ".

نعم ، العديد من الناس سألوني عن أسلوبي ، لكنني لم أملك شيئاً لأقوله حقاً مجرد معرفة دقيقة للشخصية ، و في حالتنا هذه بمعلوماتي أنا و مشاورتنا لطبيب نفسي بالطبع ، كان المتهم مصاباً بفصام ، تعرفين أو شيزوفرينيا و هذا ما يفسر محاكاة… أحم ! الجنس مع الوسادة فحالته قد وصلت لمرحلة أنه يتخيل ممارسة تلك الأمور مع جنية و غيرها من الأمور المعقدة ، و تعدت ذلك قليلاً بدون علاج مناسب لتخيلات و هلوسات جنون العظمة أي أنه ظن أنه زعيم عالم تحكمه الأرواح أو الكيانات المخفية و هذا ما يفسر تكراره لعبارة أن الأرواح هي من أمرته بقتله.

دخلت غرفة الاستجواب مع ضابط شرطة بالطبع و استعملت بضع تقنيات تقليدية أي مستجوب نصف جيد يعرفها ، ناولته كوب قهوة ساخن و قربت كرسيي لكرسيه لأجعله يشعر أنه مستجوب من طرف شخص لن يفرض عليه أي قيود ، لكن المفتاح هو إيهامه بأنه ضحية للمجتمع و أن اعترافه هذا يمكن أن يكفر عنه ، أسندت يدي على كتفه كصديق و شرعت في إقناعه

" إنه ليس خطأك يا بني ،  أنا أعرف ذلك ، إنهم يهمسون لك الآن صحيح ؟ يقنعونك بأن كل ما أقوله خطأ " تحركت لآخر الغرفة لأتصفحه ثم أريته صورته مع صديقه و بجانبها صورة للجثة لأجعله يشعر بالذنب " قال أشياء مريعة عن بعض الأشخاص الجيدين… إنهم يقطنون في نفس حيك و أنت عليم بحالتهم صحيح ؟ لم تشأ أن تطالهم تلك الكلمات السمجة فقررت أن تخرسه بمساعدة أصدقائك " كان يمكنني أن أشعر بأنه ينهار فقد كان يحرك يديه في محاولة واهنة للتملص من القيود

" ليس خطأك إطلاقاً يا صهيب ، إنه خطأه هو و الناس الذين لم يحملوا أعينهم العمياء للنظر إليكم… هم من دفعوه للتحدث هكذا و أنت كنت الحلقة الأضعف ، هاه ؟ ، يمكنك إخباري فلا وجود لذلك المجتمع القذر هنا و أنا معك كذلك ، أنا لا أحبهم… إنهم قساة و يعاملون المميز على أنه غريب "

حك تقي مؤخر رأسه بغرابة للحظات ثم عاد للحديث : بدأ بالبكاء كالطفل و قد شجعته على ذلك و حثيته أن يفرغ ما في صدره ، و بعد حوالي عشرين دقيقة من الأخذ و الرد الخفيفين اعترف ، نعم لقد اعترف ".

كانت مونا تدون بعض الملاحظات على دفتر كناش صغير ثم رفعت رأسها حتى ألتقت عينيها بعيني تقي السوداوين و سألته :

" ألم يكن بإمكانك القيام بهذا من البداية ؟ ".

" آآه.. لا ، أظن ذلك لم أعرف شيئاً عن الفتى و لا عن حالته ثم إن قضيتي الرئيسية كانت إيجاد الجثة ".

مونا : " هل أخذت قضايا أخرى بعد هذه أم أن هذه هي الأخيرة ؟ ".

تقي : " أخذت بضع قضايا هنا و هناك ، أمور صغيرة لم تسترعي انتباه الصحافة ، لكن ما دفعني لحافة التوقف هو قبضي على مدمن مفلس مالياً قتل زوجته بجرعة كوكايين زائدة ، قال أنه كان يجعلها تفكر بوضوح حين يناقشون مشاكلهم و بعد وفاة النقيب قررت التوجه للكتابة و الانتهاء من التحقيق تماماً ".

" لما الكتابة ؟ " سألت مونا.

فرد تقي " حسناً هذا المكتب كان من قبل مكتبة صغيرة عمل فيها والدي ، و بالرغم من صغر المساحة إلا أن هذا المكان كان أشبه بجسر نحو أي مكان للعالم ".

ضغطت الصحافية على الآلة المسجلة ثم قالت بلطف " شكراً جزيلاً لك على وقتك سيد زينا ، لقد كان شرفاً لي التحدث معك ".

إبتسم تقي ثم رد " لا مشكلة… عندما ينزل المقال أرسلي إلي نسخة لأضيفها لغرفة الجوائز " ثم رفع يده للجدار فوقه.

قالت مونا ممازحة : " سأرسل لك أول نسخة "

رافق تقي السيدة مونا إلى الباب ثم استقر على كرسيه الخشبي مجدداً خلف آلته الكاتبة و هو يبتسم بسعادة متذكراً الأيام الخوالي ثم استمر في نحت روايته الجديدة بشغف.

 

النهاية…

تاريخ النشر : 2019-10-25

تقي الدين

الجزائر
guest
37 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى