أدب الرعب والعام

مواليد

بقلم : مصطفى محمود – مصر
للتواصل : [email protected]

آخر ما لم أكن حتى أتوقعه هو أن أخاف من أطفالي
آخر ما لم أكن حتى أتوقعه هو أن أخاف من أطفالي

السادس عشر من أغسطس عام 2009 ..

أنظُر إلى هذا المكان قُبحَه ، ضيق مساحته ، إتساخ جدرانه وزواياه .. رائحة الأرض الكريهة والأركان ، أيحتمل مكان كهذا مولوداً جديداً ليُعاني ما يُعانيه والداه وأختاه من الفقر والجوع والظمأ ، أعتقد أن الأرحم هو وأده متى يولد .. ولكن أمّه لن توافق بالطبع .. وكيف نوئده وها نحن بإستقباله وقد أتينا بالمرأة التي ولّدت جميع نسوة هذا الحي لتُخرج الطفل من رحِم زوجتي .. التي عبس في وجهها العالم منذ زواجها بي ولم ترى معنىً من معانيَ العِزّة معي .. لا شيء إلا الفقر والحرمان والبُكاء بصمت ، كان يجب أن أولّداها أنا قسراً وعُنفاً كي يسقط المولود ميتاً .. يالغبائي ..

عندما خرج المولود للحياة كنت أنا واقفاً بالخارج أدعو ديّان يوم الدين بالرزق العاجل لأجل الطفل أو الطفلة .. كانت نظرة المرأة التي كانت تولّد زوجتي عجيبة ، وبدأت تُصبح أعجب وأعجب كأنها رأت شيئاً لم تكُن تره مُسبقاً .. فنظرة كتلك لي وكتلك لزوجتي فكلينا يقع في زاوية لا يرى منها المولود .. والخوف كل الخوف أن يكون قد سقط ميتاً .. لن أكذب كان هذا ليجعلني سعيداً في حقيقة الأمر .. ولكنني لم أنتظر رداً ودخلتُ لأرى سبب نظرتها تلك وما بال المولود .. حسناً ، هو لم يسقط ميتاً ..

هو أو هي لا أرى أهو ذكر أم هي أنثى .. لا يتّضح .. جسده بالغ التشوّه!
لا الوجه طبيعياً ولا الأذنين ولا الأصابع ولا الساقين ولا أعضاء الجنس! أهذا إبني! أهذا هو الرضيع ، أنا لا أصدّق ما أرى ولن أصدّق! .. كيف سأحبه وكيف سأقبّله على رأسه .. كيف سأتفاخر به يوماً ما .. كيف هذا هو إبني! وأقول إبني لأن الملامح خشنة لا تجعل معنى لأى أنوثة بتاتاً! ..

ضاق العالم بوسعه علينا عندما رأته زوجتي وبكت ولكنها إستطاعت فور رؤيته أن تلمسه وتقبّله وتحتضنه .. فرغم كل شئ إنه منها ولها ولا أقرب منهما إليهما .. ويوماً بعد يوم .. بالتأكيد قد إعتاد البيت عليه وتراسخت المعانى في أذهاننا والأختان الصغيرتان قد إعتادتا رؤيته مرميّاً على الأرض لا يُسأل فيه كما يُسأل فيهنّ لسببٍ ما .. وقد أخبرتني زوجتي بأنّ هذا إبني ويجب أن أتقبله .. ووعدتها بأن أتقبله مع الوقت .. ولكنني لن أسمّيه وتركت قضيّة الإسم لأمّه ..

**

الخامس من ديسمبر عام 2010 ..

في نفس الزاوية من الغُرفة .. نعم فمنزلنا كلّه غرفة واحدة .. تنام زوجتي على ظهرها وتفتح ساقيها لتقذف مولوداً آخر لتلك الحياة المتعفّنه .. تلك المرّة ألمها أصعب من السابقه وبين صرخة وأخرى تنتابني فكرتين لا أكثر ..
أنا أنام جائع وزوجتي أيضاً إعتادت على النوم جائعه .. كيف لنا بإطعام هذا المولود الجديد! .. والفكرة الثانيه هي أنّي أساساً أحاول عدم الإقتراب من زوجتي كي لا نضع أنفسنا في مثل هذا المأزق! كيف يحدث أن تحمل وتلِد هذا الآخر .. ألم يكُن كافياً للقدر بأن يعذبنا بأخيه السابق المشوّه! والآن تُعلن المرأة التي تولّد زوجتي عن خبرٍ ما ، الولادة ستكون أصعب مما توقعنا لأن حجم الجنين أضخم من المعتاد! .. فتركت الوقوف خارجاً ودخلت إلى جانب زوجتي .. وأحاول أن أخفف عنها ولا أقل لها غير أن تُطيل النظر في عيني .. وأخبرها أني أحبها واعطيها كفّ يدي .. لتعضه وتنفّس عن تألمها .. وبينما نحن في قوقعتنا أنا وهي .. وبعدما إنفصلنا عن كل شيء .. سمعنا صوت المولود يخرج ويبكي فنظرنا له بعينٍ واحدة .. .. وياليتنا ما نظرنا ..

إنه لا يُفارق أخيه السابق في ملامحه وشكله ولكن هذا أضخم وأكثر إسمراراً .. وها هي فاجعة أخرى تجتاح منزلنا .. ولكن عطف ورأفة زوجتي بمولودها تفوق الوصف .. وطفلتينا التان بلغتا الرابعة والخامسة لم يكُفّا عن البكاء ولا يرددون غير هذا ليس أخي .. هذا ليس أخي .. لديهم من الحق ما لا يُردّ .. فكيف يكون أخوهما أسمر وهنّ بيضاوتان .. شعرهن مسترسل وهو أجعد ، رأسه ضخم وعيناه مخيفتين ، له قدمين كأقدام الحيوانات ، وله ظهر ذا أتب ، وبُكاؤه مخيف ، ليس لدي ما أقول غير أن هذا وأخيه منذ أن أتا إلى بيتنا الصغير والشؤم والمصائب تحلّ على الجميع ، والبرد والكوابيس المُعتمة ليلاً وصباحاً .. الرزق قل عمّا كان عليه حتى أنني بدأت أفكر بالسرقه لأسدّ أفواه الجائعين .. ولكن! سؤال واحد يراودني ولم أكُ أنوي سؤاله ولكنني سألته لزوجتي .. لم أراهما يرضعان منها أبداً كما رأيت الفتاتين! وكلّما أسألها وقد كررت السؤال تغضب وتقول بصوت المرأة الصارم ..

– إنهما رضيعين .. ماذا تحسب أنهما سيأكلان أو يشربان غير حليب أمهما؟
– لماذا تغضبين ولماذا لا أرى هذا ، هل في رضاعتهما علّة تمنعني أن أرى؟
– لا يرضعان برضىً غير وأنت بالخارج ولا أعلم لماذا ولا تسألني ..
وتوقفت عن السؤال .. لماذا لا يرضى رضيعٌ وأخيه أن يرضعا من أمهما بينما أنا موجود ، أيكرهانني مثلاً؟ وماذا يعلم هاذان الـ .. طفلان عن الكراهية أصلاً؟
وتلك ليلة أخرى أعود فيها من عملي كحارس مرآب سيارات بالمدينه .. إلى المنزل لأتفقد حال الجميع قبل أن أنام لأجد الطفلتين مستيقظتان ترتقبان وصولي .. وقد حدثتاني عن أغرب شيء سمعته حتّى هذه الليلة .. تقولان أن إبراهيم الصغير “كما تولت أمه تسميته” يكون جالساً فيقع على رأسه الثقيل .. ولأنهما تخافانه لا تتدخلان فترياه يعود كما كان ، أي أنه يقوم برأسه من على الأرض ويعتدل في جلسته ويظل هكذا .. حتى يقع مرة أخرى من تلقاء نفسه .. ويرتفع مرة أخرى وتصفان المشهد “كأن ذراعاً ترفعه من على الأرض يا أبي!” ولكننا لا نرى شيئاً غير أنه يقوم ويعتدل بصورة عجيبة لا نعرف تفسيرها .. نحن خائفتين يا أبي وتبكيان ..

وماذا عن كرم؟ أخيه الأكبر ماذا يفعل؟ فتقولان أنهما ترانه يتكلم كما لو أنه يستطيع الكلام وينظر إلى أشياء كأنه يراها وننظر حيث ننظر ولا نرى شيء ..
فقبل النوم حدثت زوجتي عن الأمر فقالت أنهما طفلتين لا تعيان ما تقولان .. إسمع يا أبا كرم .. لا تجعل هيئة أولادك الرجال الدميمة سبب كراهيه .. أنت أب .. والأب لا يقول مثلما تقول أنت ..

**

الحادي والعشرون من يونيه عام 2011

القليل من الخبز الطري ، والقليل من العسل الأبيض ، والقليل من اللبن يمكنهم أن يصنعوا السعادة في بيتٍ فقير كبيتي ، رغم أن حذائي مقطوعٌ من عدّة جوانب ولكنني أمشي بسعادة لأنني أحمل الخير لأهل بيتي وزوجتي التي في منتصف فترة حملها والتي أظن أنها طبيعيّة تلك المرّه لأنها لم تكن تشكو من الألم والذهان والوهن كالمرتين السابقتين ولكنني مازلت أتسائل .. متى ضاجعتها ليحدث هذا الحمل .. لابد من أنني كنت سكراناً مع أني لا أشرب الخمر أو ربما شربته ولا أتذكر .. عدت للحارة التي أقطن فيها لأرى وجوهاً تحدق بي لسبب ما أنا لا أعرفه!

دخلت البيت ووضعت ما حملت يداي من رزق الله على الأرض ، وأنا أنظر لأرى هاجر ورغد ، وكرم وإبراهيم .. وزوجتي تقبض بذراعيها على نقمةٍ جديدة .. وقالت بإبتسامة أنها أسمته مازن! وكان هذا اليوم هو الفائز بلقب الأطول شجار بيننا .. ولم أكن أنوي التشاجر ولكن أتسائل كيف لمولود أن يأتي هكذا بعد ستة أشهر فقالت إنه رزق الله ، وخافت على المولود أن أراه ورأيته عنوةّ وكان حجمه أصغر من أي مولود رأيته .. وأقبح من أي شيء على ظهر الأرض ..
– أتسائل يا عائشة ، لا أذكر أني جامعتك أصلاً .. لا أقوم بالتلميح عن شيء ولكنني أتسائل .. هذا والذي قبله والذي قبله لا أجد سبباً منطقياً لوجودهم .. ما الذي يحدث؟

– بنبرة صوتك تلك انت تلمّح لشياء كفيلة بأن تجعلني أن أتركك الليله .. وسأخبرك بما أعرفه ، لا أعرف رجالاً ونادرة الخروج من تلك الغرفة الكئيبه .. هذا الذي تريد أنت أن تعرفه .. والطب قد تقدم وهو الذي سيفصل بيننا ..
آخر ما أردته هو الشك والإتهام بشيء كهذا ، أنا أحب زوجتي ولكنني أريد أن أفهم .. تمر الايام وتتوالى الليالي حتى ذهبنا إلى طبيب لديه الفيصل في هذا .. ولكن قبل أي شيء قد هربت زوجتي من العيادة وأجهشت بكاءً وألماً .. وبالطبع أعلم لماذا .. هي لا تخونني ولكن هي تتألم لأجل أن هذا أصبح يحدث بيننا ..

قديماً كنت أخاف من الظلام والبرد .. وبعده بدأت الخوف من أن تموت أمي وأظل وحيداً بعدما مات أبي .. وبعدها أصبحت أخاف من الموت وحيداً بعدما ماتت أمي ، وبدأت بالخوف من الناس من كثرة الفتن والسواد بالقلوب ..
آخر ما لم أكن حتى أتوقعه هو أن أخاف من أطفالي .. لأنني إكتشفت أنهم لا ينامون ، الثلاثة لا ينامون أبداً .. عيونهم دائماً يقظة ، يفهمون نظرتي ، يعلمون ما أفكر به ، وللمرة الأولى قد علمت لماذا تخفي زوجتي حقيقة رضاعتهم .. إنهم لا يرضعون أبداً .. لا يأكلون مما نأكل .. يتمتمون ليلاً بأفواه غليظة! غليظة! صوتهم أغلظ من صوتي .. يتأملون في السقف ويزحفون حتّى بقعة الحمّام الضيّق كأنهم ينتشون من القذاره ..

أنا أخاف الجلوس معهم والآن تضاعفت تلك الفكرة في دماغي .. إن كنت أعلم تمام العلم أنهم ليسوا أولادي ، ليسوا من صلبي أبداً .. ما المانع من قتلهم ..
كلما تكبر الفكرة في دماغي كأنهم يعلمون بأنها تكبر ويزدادون حذراً مني ويبتعدون عني حتى أن زوجتي بدأت تقلق عليهم مني ، أصبحت المسكينة تحبهم أكثر من الطفلتين وأصبح البيت فرقتان ، الأم والثلاثة المشوهين .. وأنا والطفلتين ..

ولأن زوجتي نادراً ما كانت تخرج ولأنها لا تخرج بالأطفال الجُدُد أبداً .. حينما خرجت للتسامر مع إحدى النساء في كوخها الصغير القريب منّا ومعها الطفلتين .. كنت أنا وحدي مع الثلاثة أطفال .. كرم الكبير نائم على ظهره ويداه على بطنه وساقاه مفتحوتان .. وإبراهيم الأوسط نائم على بطنه في الزاية وعيناه مثبّتة عليّ ثباتاً وحشيّاً .. ومازن الذي أخافه أكثر منهم .. مهلاً أين هو .. !! المنزل صغير بحيث لا يمكن أن يختبئ أحدهم .. هذا الأخير كثير المكوث قرب الحمام الصغير ولهذا فأنا تحركت ببطء ناحية الحمام ودخلته .. إنه ضيّق لو تعلمون .. وها أنا أنظر في فتحة التصريف لعله وقع فيها وفوجئت بباب الحمام يُغلق من الخارج ..

والحمام ليس فيه نور .. والباب لا أستطيع فتحه كأن ثوراً يقف وراءه .. وكل ما أراه خلفه هو خيال أحد الأطفال واقفاً !! كم يزن هذا الطفل لكي يمنعني من فتح الباب .. وبيدٍ صارمة قد فتحت الباب وأتيت بالواقف خلفه وكان إبراهيماً .. أخذته بلا خوف وحملته إلى الداخل وكان ثقيلاً بشدّة .. وألقيته في فُتحة التصريف .. وغمسته أكثر .. وأكثر حتّى ينقطع نفسه وأغلقت الباب بينما هذا يحدث خوفاً من زوجتي لو عادت فجأة وخوفاً من الأخران .. تمر الثواني الطويلة والمخيفة .. والطفل يزعَق ولكنني لا أكترث .. حتى هدأت أطرافه وكفّ عن الحركه .. وأخرجت رأسه من الفٌتحه التي تسمّونها غالباً بالحمام البلدي .. إنه مات .. لا بل يجب أن أكون صريحاً مع نفسي ، إني قتلته وأنا سعيد لأجل هذا .. وقمت بالحفر في الزاوية الغير مكتملة من البلاط بجانب الحمّام وحفرت بعمق وبقوّة وسرعة وإنهيار أعصاب .. حتى تمّ العمق الممتاز ووضعت الطفل في الحفرة وردمت عليه التراب .. وأتيت بتراب من الخارج كي أردم عليه كثيفاً من التراب ..

ثم باشرت بالخروج من المنزل كأنّ شيئاً لم يحدث وعدت بعدها بساعه لأسمع النحيب واللطم والبكاء وعائشةً تقول .. لقد ضاع إبراهيم!! وأنا مثلت الحزن والبكاء .. وكانت ليلة طويلة مريرة تعبت من تمثيل الحزن فيها وخرجت أنا وثلاثة رجال من الحارة لنتفقد أثر الطفل وأين يمكن له أن يذهب؟ .. ومرّت الأيام بلا جدوى وإستطعت تهدئة زوجتي مع الأيام وِإشتريت ثلاثة بلاطات لأردم ردماً تاماً فوق جثة الطفل .. ولكنني لم أتوقف عن تلك الفكرة بالطبع وباشرت بمحاولة قتل الآخران .. منتظراً اللحظة المناسبة لفعل هذا ..

زوجتي باتت تعلم أنني تسببت في ضياع الطفل بطريقة أو بأخرى ، هب الجنون في رأسها وتقول أنني قتلته وأشعر بأنها تقول هذا كأنها تعلم .. وأصفها دائماً بالمجنونة والمهمومة .. وكلما تقول أنت لم تحبهم قط وتريدهم أن يموتوا لا أستطيع الرد فتلك هي الحقيقه .. وأصبح الجميع بما فيهم الطفلتين مصاب بالإكتئاب .. أصبح هذا البيت أسود .. وليس مجازاً ولكن حقيقةً بدأت الأرض والجدران والأركان تقتتم ..

أنا فقير وأنا جاهل .. لا أعرف في أمور الدنيا أكثر من لقمة العيش وما أسمعه من أفواه المثقفين ، لكنني أعلم أن كل هذا لا ينتسب لي ، هؤلاء الأطفال ليسوا أطفالي ، ما يحدث لزوجتي ليلاً لم يكن نوبات قلق أثناء النوم ، بل هو إنتشاء ، إنتشاءُ مُظلم ولا أقصد به إحتلاماً ولكن الشيطان يضاجع زوجتي .. بكل صدق بِتّ أعلم بأن هؤلاء الأطفال هم أولاد الشيطان .. هو من وضع نطفته أو شيئاً منه بداخل رحم عائشه .. لا أعلم صدق هذا الحديث بالنسبة لأهل المنطق أو أهل الدين ولكن أنا مؤمن بما أقول .. لماذا يتمتمون ، لماذا لا ينامون ولماذا يعشقون القذاره ، لماذا تشوهاتهم أو خِلقتهم لا تتشابه مع تشوهات الأجنّة المعروفة! ، لماذا الحسد والحقد والشر والأذى أصبح من أسهل ما يُمكن ، لماذا يسيطرون على قلب زوجتي بينما لا أملك لهم أيّة عطف حتى لو إعتبرتهم ليسوا أولادي .. هذا الشيطان قد دخل بيتنا من إحدى ثغراته ، وقد إستغل ضعف نفس زوجتي وأشياء أخرى مما يحبوها بنساء البشر .. بِتُّ على يقين ..ط

بالبارحه لم أصدق ما رأيت مع أنني رأيت الكثير مما لا يمكن تصديقه .. تذكرت بضع آيات من سورة البقرة .. ولفظتها ببطء حتى يخرج الشر من بيتنا .. كلما أقرأ وأتلفظ أشعر بحراره ، يبكون ، يتذمرون ، ينظرون بخوف وكراهيه .. تتخبّط أطرافهم عن اليمين وعن الشمال .. حتى جئت أهمس في أذن كرم .. وقلت “قُل الله!” صرخ صرخةً عظيمه وجائت أمه وصرخت بوجهي ومنعتني عنه .. كأنني المارد وهو الوديع ..

**

السابع من أكتوبر عام 2012 ..

دائماً ما كنت أسأل نفسي سؤالاً عميقاً في ذاته ..
ما الذي يشعر به الملبوس أو المُستحوذ عليه من قِبَل الشيطان؟ ..
لو كان في وعيه وإرادته فلماذا لا يُقاوم؟ ولو كان بغير ذلك ففيمَ يُفكّر؟ وبم يشعر؟

هاجر .. ضياء وجهها كالشمس وصوتها كصوت أمها وهي صغيره .. تُشبهها ..
كانت أعقل ما يمكن أن يكون عليه الطفل فأصبحت عنيدةً ونظرتها مُفزعه تُقَشعر بدني وتُزلزل قلبي ، لم تَعُد تسمع الكلام وتُنصت له ، تتفوّه بالشتائم .. تتقارب من كرم ومازن الذان كانت تكرههما أو تخافهما .. تصرخ فجأةً وبعدها تبتسم! ..
ولا تنام إلا على بطنها ونوبات الصرع الفُجائيّة لا تُفارقها .. تكرهني وتقول لي أكرهك وأقول لماذا فتبتسم وتقول لأنك تكرهني! لا أكلمها وأغض سمعي عنها ..
لأن الشيطان الذي قذف البؤس فينا قذف نجاسته في عقلها .. وهذا لم يَعُد يُعجبني بتاتاً وأصبح غضبي على أشدّه فقُمت بربطها وإلقائها على الأرض وضربتها وبدلاً من أن تصرُخ فإنها تتلذّذ بالألم .. وفي لحظة من تلك نظرت بإمعان في وجهها فرأيته قد تبدّل لحظةً وعَوَت بما يُشبه صوت الكلب الذي يموت! ..

وعادت ملامحها مرّةً أخرى لصورة إبنتي .. وبكت ، بكت بكاءً هي تعرف أني لن أستطيع مقاومته ونزعت عنها الأربطة وإحتضنتها .. فنسيت أنا كل شيء في حضرة هذا العناق ..

**

التاسع من ديسمبر عام 2012 .

– لماذا لا تُصدقين بأنني لست الفاعل؟ ما الذي سيدفعني إلى حرق الستار!
– ومن الذي أحرقه غيرك؟ جميعهم أطفال لا يعرفون شيئاً عن الحريق ..
– ولماذا قد أقوم بحرق أي شيء .. متى أحرقت شيئاً في هذا البيت ..
ولو قمت بحرق أي شيء هل سأفعله بالقرب من الأطفال؟ أجُننتي؟!
– إذاً أخبرني ، كيف لطفل ككرم أن يُشعل ناراً في شيء ومن أين أحضر النار!
– حسناً ، لقد دخلت .. رأيت جميع الأطفال في الرُكن هذا وكرم يُمسك بالستار ويُشعله .. كان ينظر نظرة مخيفه لي ..
– بماذا أشعله؟
– لا أعرف لم ارى إلا النار ..
– ليس لدى كرم قدّاحه كالتي معك ، كرم لا يكره أحداً .. أنت تفعل ..
– هذا الطفل كان ينظر لي نظرة لم أرها من أعين الناس الأكثر شرّاً
– كل هذه مجرّد أكاذيب ، لم أعد أصدّق أي شيء تقوله
– لن تَصمُتي إلا بعد أن أقوم بحرقكم جميعاً .. كي تصدّقي ..
– أنت مريض .. أقسم لك أنك مريض!
– لو أنّ النساء ناقصات عقل فأنتِ بلا أية عقل ..
– على الأقل لا أكره أطفالي ولا أحاول حرق البيت بإضرام النار في الستار ..
– إصمُتي يا إمرأة .. فلتخرسي أرجوكِ
– لا تتهرّب .. لماذا أشعلت هذا الستار ولماذا تتّهم كرم ..؟
– إسألي هؤلاء الأطفال عمّا حدث ووفّري كل هذا الكلام ..
– جميعهم قالوا أنك أنت من أحرقت الستار ..
– إذاً جميعهم كاذبون ، جميعهم متآمرون ..
– الآن باتت عداوتك معهم كلهم .. ما الذي حدث لعقلك يا مجنون!
– ذات السمّ الذي بعقلك هو ذاته الذي أصبح في عقولهم .. الجميع مسموم ..
– .. أتعلم شيئاً .. هذا الطفل كرم الذي تكرهه لهو أعقل منك ..
– هذا ليس طفلاً يا خرقاء هــذا ليس طفلاً إنّه شيطـان! ..
– طفح الكيل لك ولجنونك يا أخرق العقل ..
– قد طفح يوم أتيتي بهولاء المسوخ يا خُردة النساء ..

**

الأول من مارس عام 2013 ..

منذ بضع شهور لم أعُد زوجاً ولا أباً .. وأصبحتُ في عداوة مع الجميع ، أقوم بواجباتي كأب وأحياناً كزوج ، لكن لم يعد من الحب شيء .. ليتني لم أتزوّج ..
الجميع ينامون على جانب وأنا على الجانب الآخر .. الستار الجديد أصبح بسببي أنا كي أكون مفترقاً عنهم ولا يرونني إلا قليل .. جميعهم ماتوا وهؤلاء محض أوهام ..

إمرأتي تتألّم ، قالت أنّها تشعُر بدوار والحمل الجديد يشتدّ عليها .. نعم فقد حملت مجدداً وأنا وهي نعلم بأنني لم أقربها منذ شهور .. ولا أحد يتكلم .. نفهم ونصمت ..
بدأ الألم يشتدّ عليها وتقول بأنّ ماء الرأس ينزل منها .. وأنا أشعر بأن تألّمها أقوى من أي مرّه .. فركضت خارج البيت مُسرعاً لأحضر المرأة التي تولّدها كلّ مرّه .. ولكن الناسالذين ردّوا عليّ قالوا لا ليست هُنا .. ووجدت بأنّه يجب عليّ أن أقوم أنا بتوليدها هذه المرّة مع الحرص على خنق الجنين أثناء إخراجه من الرحم ..
نسيتُ الفكرة .. وها أنا أعود أدراجي إلى البيت ..

ومُسرعاً عُدت إلى البيت وقذفت الباب أي فتحته بسرعه .. والصمتُ يسود ..
الصمتُ مازال يسود .. والأعصابُ مُشتدّه ، والعين بارقة .. والقلبُ زلزال ..
جميع من في البيت أشلاء .. زوجتي قد إنفجر أسفل صرّتها بقليل .. والأطفال مُقطّعون ومرميّون في كلّ مكان .. هاجر ورغد وكرم وإبراهيم وعائشه .. الجميع ..

أكمل ما يُقال عمّا حدث أن هذا الجنين الشيطان قد ظلّ يأكل من بطن أمه ولهذا كانت شديدة الصُراخ .. وفي النهاية حفر لنفسها طريقاً عاجلاً للخروج .. وقام بإفتراس الباقين واحداً تلو الآخر بإستسلام تام واضح منهم .. لكانوا هربوا لو كانوا يُقامون ..
ولكن السؤال المطروح من جميع الأذهان .. أين هذا الشيطان الصغير الآن
الباب يُغلق .. ومن خلفي حرّ .. شديد الحرّ ..

كان من المُفترض أن أموت من النظرة الأولى ولكنني بقيتُ لأقاوم ..
إنه هو ولكن بحجم مُضاعف .. قد أكل ما أكل من الصرعى وإزداد حجمه .. ويمكن القول أنه في حجم الكلب الكبير .. عاريٍ بأظافر عظيمة وفم عظيم .. وعيناه عينا شيطانٍ حقاً بلا أية جدال .. ها الأخير ليس مشوّه .. هو أكمل من الذين قبله ، مصمّم ليكون هكذا بهذا الشكل وهو أتم الخلق بالنسبة لإخوته .. إنها النطفة المثاليّه ..

قذف نفسه بإتجاهي وقضم قضمة عظيمة من جلد صدري ، مؤلمة حدّ الموت .. ولكنه وجد الكثير من الكراهية والضرب .. وتتسارع نبضاتي وضرباتي وأضرب في كل مكان ، مكار وسريع ومخيف .. وحرّ كالجمر .. قويّ وثقيل بشكل لا يوصف ..

ولكن لم يكُن إلا ثوانٍ وقذفته بإتجاه الحمّام بساقي ولم انتظر الرد منه عل هذا وأغلق الباب بإحكام .. لا أظنّ أنّ النار ستحرق أهل النّار ولكنّه سيحترق ويتألم ..
أحرقته بإحراقي للمنزل .. أشعلت كل ما يساعد على الإشتعال .. وبيتنا الصغير كان معظمه من الخشب ولهذا .. فالأمر كان سهلاً ..
خرجت وركضت مبتعداً .. ساعد إحتراق المنزل على إحتراق بيتين آخرين إلى جانبيه .. وليكن مهما يكن فلقد تخلصت منه .. بعدما تخلص مني بطريقته ..

**

الثالث من مارس عام 2013 ..

انتحرت ..
بإلقاء نفسي في بئر بوادي النطرون .. قريباً من مسقط رأسي ..

ملاحظة : القصة منشورة سابقا لنفس الكاتب في موقع آخر

تاريخ النشر : 2019-04-12

guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى