تجارب من واقع الحياة

موتي أفضل لنفسي !

بقلم : عباس محمد – الكويت

رحلت وعدت أنا لهمومي واحزاني ..

مرحبا جميعا ، ترددت كثيراً في إرسال قصتي ، لا اعلم السبب ، ربما خوفاً أو انتقاد قد يؤذيني .

في المرة السابقة لم يتسنى لي التعريف عن نفسي جيداً … ناهزت الطفولة بألم ، وناهزت المراهقة بتعب ، إلى أن وصلت لرقمي الحالي … تسعة عشر عاماً وستة شهور وسبعة عشر ساعة ! .. لكن عقلي في عمر السابعة والعشرين ؟.

الأم من جذور كويتية والأب من أصل لبناني ، انتقلت أمي إلى لبنان بعد أن تزوجت أبي ، كنّا عائلة سعيدة جدا ، أنا وخمسة إخوة ، لكن لاحظوا وركزوا على كلمة “كنّا” .

الوقت يرجع بي إلى الماضي قبل تسع سنوات من الآن ..

الزمان : عام ٢٠٠٦ شهر يوليو تاريخ ١٢ الساعة الرابعة عصرا حينما ضجت وسائل الإعلام عن الحرب الإسرائيلية على لبنان ، أبي ماذا يعني حرب ، (لا جواب) ، كنت طفل أحمل رقم عشر سنوات لا أعلم شيء ، كانت براءة الطفولة تطغى علي لكنني في ذالك الوقت علمت أن الحرب شيء سيئ لأنني كنت أرى العائلة في خوف وحزن ويسيطر البكاء أحيانا . مضى على بداية الحرب خمسة أيام حتى سمعت صوتاً رهيبا عالي الضجة يصدر من احد المباني ليس ببعيد كثيرا عن بيتي ورأيت الجميع يصرخ بكلمة (صاروخ) ، لم اعلم ما هو ، هل هذا سيء أم جيد ، فاليخبرني أحدهم . وعلت أصوات الصواريخ في جميع الاتجاهات وأصبح الجميع يصرخ ويبكي ، خفت لخوف الجميع ، وبكيت لبكاء الجميع .

كنّا واقفين عند الشرفة حين رأيتُ امرأة تركض من الناحية اليسرى للشارع وهي تصرخ وتبكي (أبي أبي أبي ) ، كان منظراً لن يمحى من ناظري ما حييت ، حتى وصلت إلى الناس ونطقت قائلة أبي في السيارة وصاروخ مر من فوقي وفجر السيارة ثم أغمي عليها ، ما الذي يحدث بحق الجحيم اخبروني ؟ ..

كانت الحرب قاسية ، دماء وصواريخ لم تنتهي ، مرور الوقت كان أصعب شيء .

التاريخ : السابع من أغسطس الساعة السادسة والنصف صباحاً كانا أبي وأمي عند احد من أقاربنا ، أنا وإخوتي كنّا نغط في نوم عميق إلى سمعت صوت دوي كبير كما لو أنها قنبلة ، فتحت عيناي لأرى المكان كله مغطى بالدخان الكثيف ، وصوت أختي الصغرى تبكي وتصرخ ، كانت تبلغ من العمر ثمانية سنوات وأنا أناديها : ” أين أنتي ؟” ،  فترد : “أريد أمي .. أين أمي ؟” .

وما هي إلا دقائق حتى رأيت امرأة تصرخ وتقول : “أين أنتم أولادي؟” . ركزت نظري حتى أجدها .. أمي .. نعم نعم لقد دخلت الدخان تبحث عنا ، عرضت حياتها للخطر لأجلنا وكانت تقول بصوت عالي : “يا الله إن أردت أن تأخذ أحدا خذني أنا معه ” .

لا يمكنك لومها ، أم علمت أن أولادها الستة في البيت وعرفت أن المنطقة تم قصفها ، يبقى عامل الأمومة لا ينتهي ، والنَّاس تصرخ وتقول اخرجي سوف تنهار العمارة وهي ترد : ” ما نفع أن أعيش دون أولادي ” . وأمسكتنا واحدا تلوى الآخر وأخرجتنا .

كنّا فقط خمسة وهي تقول هناك ولد لم يخرج أين هو ؟ ، اخبرها أبي انه تلقى إصابة ونقل أثرها إلى المشفى فاطمأنت ،وما أن خرجت حتى رأيت الدخان المتصاعد من العمارة ، كان مشهدا رهيبا ، وبعدها أخذونا إلى بيت خالي وجلسنا حتى نرتاح قليلا ، كنّا نشاهد الأخبار لنعلم ما هو المصير حتى أعلنوا عن أسماء الشهداء في المنطقة.

وهنا الكارثة حيث مر أسم أخي من بين الأسماء ، وأمي تقول : ” ليس ولدي بالطبع ، إنها تشابه أسماء .. صحيح ؟ ..  اخبروني! .. ليس ولدي .. قلتوا بأنه مصاب إصابة خفيفة ” .

ثم أتى أبي وأخبرها : ” تلقيت خبر من المستشفى وقالوا لي أنه قد فارق الحياة ” .

لا أستطيع وصف شعورها ، تخيل أم ضحت من حياتها ثلاثة وعشرون عاما لتربي ولد وفي النهاية تنتهي بكلمة لقد مات ،  نظرت إلى السماء والدمعة تسبق كلامها وأخذت العبرة مكانها في الحنجرة وقالت : ” لا اعتراض على حكم الله ” .

أنا لم اصدق الأمر ، كان أخي قريبا مني بشكل لا يوصف ، كان أكثر من أخ ، صديق لي بل وأكثر ، خرجت إلى الخارج وصرخت بأعلى صوتي بكلمة : ” يا الله ” . وكانت هذه آخر مرة صرخت فيها وبعدها شعرت كما لو أن جسمي تخدر بالكامل ولم أحس على نفسي إلا وأنا في المشفى وأمي تقول لقد فقدت الأول ولا أريد أن افقد الثاني .

من ثم توجهنا إلى الكويت وكانت أول بلد خطرت في بالنا لأن لدينا فيها أهل والأقرباء ، قد يكون أفضل من الوطن التي ارتوت بساتينه من الدماء .

كانت بداية حياة جديدة بالنسبة للبعض ، لكن في بادئ الأمر وجدت صعوبة في التأقلم مع المحيط الجديد ، وبعد أن ارتدت المدرسة كنت دائما هادئ لا أتكلم كثيرا مع الجميع خوفا أو ما شابه ذلك ، ثم تعرفت على صديق كان قريب مني جدا ، وأصبحت أتكلم (لا اخفي أني في تلك المرحلة كنت احتاج طبيب نفسي كنت شارد الذهن دائما صامت أخاف من كل شيء ) لكن صديقي هذا أخرجني من ما كنت عليه ، أصبحت اضحك وافرح ، ولكن الحال لم يدم ، فبعد صداقة أربع سنوات ونحن في الصف ذاته وصلني خبر وفاته ، نعم لقد مات ، كان يعاني من فقر الدم (الأنيميا) ومات جراء ذالك .

ما الذي يحدث ؟ .. عدت إلى نقطة البداية بل وأكثر ، ساءت حالتي كثيرا وعدت لا أتكلم سوى كلمات قليلة تخرج بتعب .

بعد سنة توفي أيضا شخصا كان قريباً مني جدا وهو عمي شقيق والدي ، كنت أحبه كثيرا ، مات عن عمر يناهز السادسة والأربعون عاما ، كان يعمل في أفريقيا ..

أنا مثير للشفقة حالتي مزرية يرثى لها ، كنت أريد البكاء لكن الدموع لا تنزل فقط خنقه ووجع في القلب وعيون حمراء ،  حنجرتي ستتقطع لو بكيت ، لكنت ارتحت ، لكن مجتمع متخلف يحرم البكاء على الرجال ، لماذا يحق للمرأة البكاء والرجال لا ؟ ،  أليس للرجال مشاعر وأحاسيس ؟ .. لكن أقول تقاليد مجتمع كسر ظهر الإناث وحرم البكاء على الذكور مجتمع ذو عقلية جامدة تحتاج لتجديد .

في عمر الثامنة عشر كنت على يقين أنني بحاجة لطبيب نفسي ، لكني خشيت الذهاب بحكم أن المجتمع يصنف كل من يذهب الى الطبيب النفسي بأنه مجنون! .

تعرفت في الثانوية على شابة جميلة كنت انظر إليها في بعض الأحيان نظرات إعجاب وهي أيضا تبادلني الأمر ، كنت أنا من النوع الخجول جدا وعدا عن ذلك لا أتكلم ، مر تقريبا أسبوعان ثم تفاجأت بِها تقف بوجهي وتقول : ( لو سمحت أعطني رقم هاتفك ) ، وأنا خجلت كثيرا ، لا ادري ماذا أفعل ؟ ..

قالت : ” هل أنت اخرس ؟ ” .

قلت: ” لا ” .

قالت : ” حسنا أعطني رقم هاتفك ” .

أعطيتها الرقم وأصبحنا نتحدث مع بَعضُنَا ، عادت ابتسامتي قليلا ، لم يعد يأتي ذلك الوجع في الليل ، وجع الْقَلْب ، انتقل الكلام من كيف حالك إلى أين أنت من ثم اشتقت لك .. لم اعرف معنى كلمة حب أو كنت أظنها فقط في الكتب التي أقرها .. الكتب القديمة ، وأصبح لا يمر يوم إلا وعلي أن اسأل عنها ، كيف حالها ، هل أصفه حب .. نعم فليكن ، فأنا تخلصت من المراهقة عموما كي أَقُول انه مجرد إعجاب ، إنني في سنة الثامنة عشر ، أي يعني شاب ناضج وعلي أن لا أقع في الخطأ ، وقلت لها أنتي هي زوجتي فلن أحب احد بقدركِ ، وهي فرحت وقررنا تأجيل الزواج لعمر الرابعة والعشرين تكون هي كونت نفسها وأنا كذالك ، لكن اتضح إنني استبقت الأحداث كثيرا ، فبعد ستة شهور ونحن صديقان حبيبان ، رايتها أنا عند باب الثانويّة وسلمت عليها وهي لم تتحدث ، نظرت إليها كانت الدموع تغطي عينيها .. لا لا ما الذي أبكاكِ ؟ ..

اخبريني قائلة : ” أنا آسفة جداً ” .

ولماذا تعتذرين ؟ .. ماذا فعلتي ؟ ..

قالت : ” أبواي يريدان أن أكمل الجامعة في الخارج وهما سيتبعاني للسكن هناك في كندا ، أي لا يمكنني العودة .. أنا آسفة سامحني الأمر ليس بيدي ” .

ابتسمت وقلت : ” لا عليكِ ..  يجب أن تطيعي والداكِ ، هما أولى وأدرى بمصلحتكِ ويعرفان الصواب أفضل منكِ ، لا تقلقي يا عزيزتي اذهبي وأكملي طريقك نحو النجاح ، أتمنى لكي الصحة الدائمة والعافية ” .

ولم أكن أكمل كلامي حتى حضنتني بشده ، رجف صوتي .. واحمرت عيناي .. وتسارعت دقات قلبي ..

كنت أريد أن اصرخ بصوت عالٍ جدا جدا جداً .. كما صرخت حين مات أخي .. وبعدها تخدر جسدي وأصبحت لا أرى أمامي ، رجفت قدماي ولم أعد أحس بشيء ، وبعدها عاد وعيي قليلاً لأرى نفسي في سيارة الإسعاف وهي تبكي ممسكة بيدي ، وبعدها عاد وعيي بالكامل في المشفى ، فتحت عيناي رأيتها بجانبي ، قلت لَها : ” لا تقلقي .. هل اخبرني والداي ؟ ” .

قالت : ” لا ” .

قلت : ” هذا أفضل .. لا أريدهما أن يقلقا علي ” .

كنت أستطيع أن أرى الخوف في عينيها ، ثم أتى الطبيب قال : ” لحد الآن لا نعرف ماذا بك .. لكن علينا إجراء فحوصات شاملة كي نطمئن أكثر .. حاليا هو ضغط ما تسبب في هذا ” .

خرجت من المشفى في اليوم ذاته ، وذهبت إلى البيت كأن شيئا لم يكن . مرت الأيام سريعة حتى موعد السفر ، كنت قد اتخذت قرارا لن أودعها ، إنه موقف صعب جدا ، لكن اتصلت وهي تبكي وقالت لا تريد أن تراني قبل السفر ؟ ..

غيرت رأيي ، ما كان يعمل هنا هي العاطفة وليس العقل ، قابلتها في مقهى داخل المطار ، تحدثنا لوهلة حتى أذيع رقم رحلتها ، كنت أريد للزمن أن يتوقف … توقّف أرجوك ، لكن مازال الوقت يمضي ، قبلتها في جبينها وقلت بصوت مرتجف : ” رافقتكي السلامة ” . حضنتني بشدة وبكت ورن الهاتف من والداها ، كانت الكلمات الأخيرة : “عباس سامحني أنا اعتذر ” .

لم أستطيع التكلم لكي أقول أني سامحتها ، هناك حالة اختناق في حنجرتي ، بقيت انظر لها بألم حتى توارت عن الأنظار ..  خرجت من المطار وأنا امشي لم اعرف إلى أين تقودني قدماي ، أريد المشي حتى اتعب ، مسافة كبيرة ، لا اعلم كم مشيت ، كنت شارد الذهن وأنا أقول في نفسي هل يُحِق لي قول (لماذا؟) هل يحق لي (موتي) ، لم أعد أريد شيء ، أصبح الموت أهون لي ، ما نفع الحياة وألم القلب لا ينتهي .. متعب .. مرهق .. مجهد .. منهك .. مللت من كل شيء ..

مرت سنة وخمسة أشهر على غيابها ، دخلت عامي التاسع عشر ، الابتسامة والضحكة غائبة منذ زمن. خارت طاقتي ، أنا الآن في وضع لا احسد عليه ، مثير للشفقة ، لم أعد اقترب من شي خوفاً من فقدانه ، هدوئي وسكوتي سيفقدانني عقلي ذات يوم .. لحد الآن مازالت على قيد الحياة لكنني لم أفكر بالانتحار أبدا ، فقط أتمنى أن يكون الأجل قريب ، ها هنا تخطيت هاجسي وكتبت قصتي مع إنني متعب قليلاً ، أتمنى أن لا أكون قد ضايقت أحدا في قصتي كوني صديق في الموقع من بعيد .. وذلك أفضل لي .. وأشكركم جميعا ..

تاريخ النشر : 2015-10-20

guest
104 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى