أدب الرعب والعام

موت وطن

بقلم : ابو الحسن ماجد – العراق

يودعها و يصعد الطائرة دون أن ينظر إلى الوراء

 

من الواقع.

مقتطفات من ديستوبيا شعب.

تنتهي المحاضرة ، يقوم الطلاب بتثاقل يمططون أجسادهم مثل دب الاسكا قد انتهى موسم سباته الطويل وحان الوقت للنهوض ، يجر أستاذ التأريخ المعاصر جورجو ماكمان حقيبته السواء المدبغة و يخرج مسرعاً .

لم يبقى في القاعة سوى كاترين وشاهين

، تقول كاترين و كأنها ملت الحديث

– هل لا زلت مصراً على رأيك ؟.

– لقد تحدثنا كثيراً حول هذا الموضوع يا كاترين.

– أنت تعرف مدى خطورة فعلك هذا ، فالسفر إلى مثل تلك الدول يعد شبه جريمة ، و قد تُراقب من الإنتربول فور خروج الولايات المتحدة.

– أعلم هذا و أكثر من ذلك ، هل تظنيني طفل غير مسؤول عن تفكيره وتصرفاته.

– و لكن ..

ينهض من مقعده بسرعة يضع حمالة حقيبته على كتفه.

– كاترين يكفي ما سمعته و سأسمعه كل يوم من والدي حول نفس الموضوع و لا زلت مصراً و سأذهب للعراق – لا يمكن أن نشعر بطعم السعادة المطلق إلا اذا ركبنا الأخطار – هل تتذكرين مقولتك هذه أم إنها لا تنطبق عليك ، أنت مستثناة منها ؟.

تقف كاترين بعصبيه تلتصق بجسد شاهين و بسبابتها تغز صدره.

– ولكن لماذا هذا البلد ، هل لان والدك لم ينصحك بالذهاب إليه ، هل هي مسألة عناد ؟ لطالما كنت عنيد.

– كاترين يكفي هذا.

يتركها و يبتعد بينما ظلت هي متخصرة غاضبة منه تزفر من فمها حرارة العصبية ، بعد 2003 م إبان الغزو الأميركي للعراق هاجر الكثير من العراقيين خارج القطر ، كان أحمد عزام الدبلوماسي المحنك أحدهم ، هاجر صوب الولايات المتحدة الأمريكية و استقر ببوسطن مع زوجته أمنة ذياب و أبنه الوحيد شاهين ، بينما تم تصفية أهله و ذويه بالكامل كونه من رجال الماضي.

كان شاهين يبلغ من العمر آنذاك عشرة أعوام  عندما هاجر والده ، هو لم يعي على أصوات دوي المدافع و رائحة الدخان والبارود و لا على صور القتل والدماء التي كانت تحدث في كل لحظة من حياة العراقيين  ، والأن وبعد أن بلغ الخامسة والعشرين لم ينسى لغته العربية و لم يميت انتمائه المطلق لوطنه فشعر وكأن بلده الأم يناديه وكأنه يستنجده و ما عليه إلا أن يستسلم و يتجه نحوه ، لقد كانت خطوه في قمة الخطورة كما وصفها والده في إحدى مشادته مع أبنه ، مع اقتراب نهاية مدة الدوام و بداية العطلة النصفية قرر شاهين الرحيل إلى العراق ليكتب عن أحوال شعبه وعن تأريخ المسروق والمحطم وعن وجعه وعن المعناة التي يعيشها أهله بمعزل متعمد عن العالم ، أراد أن يكتب كل شيء ليلقيه على مسامع الطلاب والأساتذة والدكاترة في حفلة تخرجهم في هذه السنة الاخيرة.

بداية العطلة النصفية :

اليوم الأحد هو أول أيام العطلة النصفية ، يوظب شاهين أمتعته داخل غرفته بمساعدة حبيبته كاترين والتي كانت مترددة ومعارضه فكرة رحيله مثل والده و والدته .

– سأبقى على اتصال دائم معك يا كاترين.

يحتضنها و يقبل رأسها ، يحمل حقائبه يتوجه نحو السلم ، ينزله بسرعه ، يتوقف عند أول الدرجات يشاهد والده وهو يقطع الطريق عنه أما أمه فهي تقف عند الباب وكأنها تريد أن تغلقه بأقفال حتى لا يفتحه و يودعها .

– أبي ، أعدك أني سأعود سالماً ، لا يمكنني أن ادخل الحروب أو أن أركب الأخطار فهناك الكثير من القادة في كل لحظة يولد قائد ، اطمأن ليسوا بحاجة المزيد ؛ كل ما أريد أن اكتب تقريراً مطولاً ، أود أن القيه في حفلة التخرج في كليتي هذه السنة ليعرف العالم معاناة بلدنا.

يرد الوالد بعصبية :

– لم يعد بلدنا.

– لا ، ليس مثلما تقول،  تأريخنا ، أثارنا ، أرثنا ، كل شيء فيه بنوه أجدادنا لنا ، لا يمكننا أن نراه يتهدم دون أن نتحرك أو على الأقل نتكلم و ذلك اضعف الإيمان .

يبتعد الأب عن طريق أبنه ثم يمضي نحو الباب الرئيسي حيث أمنة أمه وهي تحتضن نفسها وتبكي بحرقه وصوت منخفض يقترب منها ، يحتضنها ، تشمه و تجهش بالبكاء .

في المطار يقف عند كاترين هي الوحيدة من جاءت لتوديعه حتى مدرج المطار ، يصعد سلم الطائرة و يومئ نحو كاترين يودعها وهي كذلك تمسح لآلئ دموعها الصغيرة ، ينغلق باب الطائرة ، تسير ببطء ثم تتسارع وتيرة الحركة حتى أقلعت عن الأرض ، و شيئاً فشيئاً اختفت الطائرة وراء تلبد الغيوم وابتعدت حتى انعدمت مغروسة في كبد السماء التي مالت بوجها من الشروق صوب الغروب.

تحط الطائرة في إحدى المطارات ، البلد خاوي على عروشه ، يبدو الجو وكأنه لوحة سريالية سوداوية ، ينزل بإحدى المحافظات ، لا يهم أسمها ، لان المحافظات تشابهت حتى استحالت واحدة ، يتجه صوب فندق سومر الفاخر ، ينزل من سيارة الأجرة و يضع حقائبه على الأرض أمام البوابة الكهربائية الرئيسية للفندق ، يطالع يميناً ويساراً يتفحص واجهة جدران الفندق الزجاجية ، ينفتح الباب و يظهر رجل عجوز بعمر السبعين وهو يقبل نحو شاهين فاتحاً ذراعيه مرحباً :

– أهلاً أبن الغالي.

– أهلاً وسهلاً حجي امأن ، إن لم أك مخطئاً.

– نعم ، حجي أمان بشحمه ولحمه ، لقد أتصل بي والدك و أوصاني بك اشد التوصية ، أهلاً بك تفضل.

يدخل ذلك العجوز السبعيني وشاهين في مسلك الفندق الرئيسي ؛ ثوان عند باب المصعد ؛ ينفتح الباب يدلفوا في المصعد يضغط الحجي زر رقم 4 ، ينغلق الباب وبسرعة الضوء ينفتح – يتقدم خارج المصعد يجد شاهين نفسه في ممر أحمر طويل تكسو أرضيته سجاده حمراء صممت لكي تكون شبيهه بتلك سجادة المشاهير في هوليوود يسيرون ببطيء في الممر الذي كان يحوي على الكثير من الأبواب المصنوعة بعناية فائقة من خشب الصاج الأحمر المذهب ، كانت الغرف الرومانسية تقبع خلف تلك الأبواب ،  يصلون إلى الغرفة رقم 60

– هاك تفضل مفتاح الغرفة ، صحيح أن الفندق يبدو عصرياً وهو كذلك إلا أني افضل المفاتح في قفل وفتح الأبواب بدلاً من البطاقة أو الكارد كما تُسمى في أميركا.

– شكراً ، ذوقك جداً سليم .

– و الأن اتركك تستريح في غرفتك فأنت تبدو متعب قليلاً ولو أن الشركة الراعية للرحلات الجوية الخاصة بكم في القمه دائماً ، أتمنى لك ليلة سعيدة ومريحة.

– مهلاً ، هل شركات الرحلات تختلف هنا ؟.

– نعم ، بكل تأكيد ، حسب راكبيها يا أبن الغالي.

يمضي العجوز بخطوات إلى الأمام ثم يتوقف و يلتفت نحو شاهين.

– اذا احتجت أي خدمات ليليهة فنحن بالخدمة .

ثم تبعها بابتسامة شيطانيه كانت كفيلة بأخذ الحيطة والحذر من هذا الرجل العجوز.

يدخل الغرفة  ، تشتعل الأضواء ، كانت الغرفة تشبه إلى حد بعيد تلك الغرف التي كانت تظهر في أفلام الملوك والأمراء حيث السرير والأغطية البيضاء المخملية والنوافذ المزركشة والمذهبة ، تشعرك وكأنك سلطان عثماني أو أمير أوروبي من العصور الوسطى ، يلقى حقيبته بعيداً و يتجه نحو طاوله خشبيه مدوره تقبع وسط الفرقة ، يضع عليها حاسوبه اللوحي ، يتصل بكاثرين عبر برنامج سكايب.

– الو ، هاي كاثرين .

كاثرين من الجانب الأخر من الكره الأرضية و من خلف الشاشة.

– هاي شاهين ، متى وصلت ؟.

– وصلت لتوي ، انظري تلك حقيبتي لا تزال كما رتبتيها ، هل أمي بجنبك ؟.

– للأسف ، شاهين والدتك ليست هنا فقد رحلت مع والدك للتسوق والتنزه فلا تزال في محنتها عليك.

– كاثرين حاولي تهدئتها وإقناعها بأن كل شيء سيكون بخير ، البلد ليس كما صوروه لنا ، هناك أناس جميلين و ودودين.

– هل قابلت الكثير من الناس ؟.

– لا ، ليس الكثير ولكني استطعت أن أعرف طبيعة هذا البلد ، بيد أني لم أرتح لهذا العجوز المسمى حجي امأن ، لا أعلم لماذا يسمونه بهذا الاسم وهو لا شيء فيه و به وعليه يوحي بأي أمان ؟!.

– من هذا و ما هذا الاسم الغريب ؟.

– ربما سيكون هو أول نوع من الناس الساكنين بهذا البلد ، رجل يشبه الشيطان بعمر السبعين قصير القامه تفوح منه رائحة الخمر وأسنانه كأنها قطع ذهبيه من فرط وجود الدهون ونيكوتين السجائر ، كما أنه املس ذو تقاسيم وجه تشبه مصاصي الدماء.

– عليك أخذ الحذر منه شاهين ربما يوقعك بمشاكل.

– ما يزيد خوفي منه هو حواجبه الكثيفة حيث يستعملهن دائماً أثناء الكلام بارتفاع وانخفاض مما يعطي وجهه مع تلك الأسنان وذلك الأنف الكبير انطباع السخافة والبذائة.

تمر الأيام القليلة ولا يزال شاهين يتجول في الأزقة والشوارع يدون كل ما يقع عليه من شيء خارج عن المألوف مثل الباعة المتجولون ، الانفجارات ، العاهرات المومسات وأصحاب الخمور والحانات والبارات ، التقى بأناس بسطاء جداً كل همهم العيش بسلام فكان هناك الكثير من القصص خلف عيونهم التي نضمن في دقيق أهدابه ذرات الأتربة.

– هذا كل ما استطعت جمعه إلى الأن يا كاثرين ، لا شيء مختلف سوى ذلك العجوز حجي أمان أو كما سميته مؤخراً حجي هيوهنيفر.

تضحك كاثرين من خلف الشاشة و هي ممده فوق سريرها الناعم هناك ببوسطن.

– نعم يا كاثرين ، هذا الرجل العجوز لا تكاد تمر عليه دقيقة من دون فتاة أو أمرأة عارية ، في رأيي لقد فاق هيوهنيفر في رؤية و ملامسة النساء العاهرات ، ربما لو ينشئ مجلة خاصة به لتصوير أجسامهن المترهلة أنا أضمن له الرفاهية والثراء الفاحش.

– لا تجعله ينزلق نحوك يا شاهين فيبدأ يبعث على غرفتك تلك العاهرات ليلاً.

– لا ، لا تقلقي فلست بمزاج يسمح لي بالنوم مع هكذا رخيصات ، لا زلت أجمع القصص والمعلومات وليس السهر والعاهرات؟

الأحد التاسعة صباحاً …

يرن منبه الساعة السويسرية المربعة ذات الطراز القديم ، يقوم شاهين من سريره ، أصوات أبواق السيارات وكذلك إنذارات سيارة الإسعاف تجعل الوضع مضطرباً ، يتقدم نحو النافذة ، يرفع قليلاً من الستارة ليتمكن من روية الأسفل ، زحام سيارات متوقفة بجنب حديقة السندباد تتوسط المكان سيارة إسعاف ؛ تفتح أبوابها الخلفية ، يخرج منها رجلين يحملان سديه يدخلون الحديقة راكضين بسرعة ،  يبدو أنه حالة جديدة من الموت ، بعد ثوان يخرج الرجلين يجرون السدية وعليه جثة مسجاه تجمهرت عليها الناس و بدأوا يهزون برؤوسهم اسفين ويصفقون راحة أيديهم وكأنهم يندبون الميت ، يسدل شاهين ستارة النافذة ؛ يحك شعره الكث ؛ يزم شفتيه.

– يا الله هذه رابع جريمة ! رابع جثة تخرج من نفس الحديقة على مدار اعتقد الأسبوع المنصرم ، لا بد وأن هناك لعز ربما عليهم الاستعانة بالمحقق كونان أو تشارلوك هولمز لأن المشكلة يبدو أنها ستطول وتحصد أرواح أكثر ، أين قلمي يجب أن أدون – جرائم حديقة السندباد  – الضحية الرابعة ، الساعة التاسعة صباحاً – يوم الأحد .

كالعادة يخرج شاهين نحو ضجيج المدينة ، يقرر الذهاب إلى مناطقها الأكثر قسوة و فقر و عشوائية ، يتجول في سوق النواعم المكتظ ، لم يعتد على هكذا زحام ، أصوات الباعة تتعالى بأبخس الأثمان على أمل جلب المشترين ، أصحاب البسطات الصغيرة المنتشرين بالسوق بطرقيه غير قانونية كانوا على استعداد تام لحمل بضاعتاهم بأكياسها على ظهورهم والهرب فور وصول قوه أمنية لاعتقالهم لانهم كانوا يسببون زحام السوق ،

يخرج من المنطقة المكتظة نحو منطقه أكثر فسحة ومجالاً يتلمس جيوبه و يتأكد من وجود أمواله وهويته – يطمأن لم يسرق هذه المرة – تصيبه رائحه الحليب الحار والقهوة والمشروبات الساخنة ، يتلمس بأنفه درب الرائحة علها تؤدي به إلى مصدرها ، وها هو يعثر على تلك العربة الخشبية الصغيرة المليئة واجهتها بالمصابيح الملونة ، وهناك شاب صغير يبدو ناحلاً منهمك بإعداد وصب الحليب فوق الأكواب ، بعد التجول والتعب يصل إلى العربة ، يريح جسده قليلاً و يجلس على أحد المساطب المنتشرة بالقرب من العربة والتي كانت أشبه بمطعم صغير متنقل ، ما أن جلس شاهين على المسطبة المربعة الخشبية الصغير حتى بادره ذلك الشاب الصغير بصوته الناعم الحزين :

– ماذا تشرب رفيق ؟.

يفاجئ شاهين من ذلك الوجه ذو الملامح الجميلة والشعر الأسود ذا التسريحة العصرية.

– أريد حليباً ساخاً.

– حاضر رفيقي.

يلتفت شاهين نحو جهة السوق بعد أن مدد قدميه و بداء بعمل مساج لأفخاذه المتعبة ، يطالع الناس و هي منهمكة بعيشها ، ذرات الغبار قد لوثت الجو وجعلته وكأنه جواً ذهبياً تطفو فيه ذرات الذهب في الفراغ ، أصوات احتكاك نعال الناس بالأرض تخبرك عن مدى تعب الأقدام و ثقل النعال.

– تفضل رفيق.

– يلتفت شاهين و إذا به ذلك الشاب صاحب العربة.

– يأخذ شاهين الحليب و يشكره .

بداء يرتشف الحليب الساخن و ينظر نحو أمرأة ثلاثينية متسولة تجلس على مقربة من العربة ، تحمل بيدها طفل صغير لم يتجاوز الثلاث سنوات ، كانت ذو وجه جميل و مغري جداً ، سمراء حادة الملامح لم يستطع شاهين منع نفسه من النظر إليها والتحديق بها مطولاً وهي كذلك بادلته نفس النظرات حتى كاد أن يقع من يديه كأس الحليب ، كانت أشبه ببندول تنويم مغناطيسي.

– هيه رفيق أين سرحت ؟ ، سوف يسقط الكأس من يديك إنه غالي وعليك دفع ثمنه ، رفيق ، رفيق.

يفز شاهين على صوت ذلك الشاب وكأنه نهض من نومه لتوه.

– ها ماذا تقول ؟.

– أقول سيسقط الحليب عليك ويحرقك إن لم تنتبه إلى أين تنظر.

– ماذا تقصد ؟.

– لا أقصد شيء.

يرتشف رشفه بسيطة ، ينظر إلى الحليب و يبدي إعجابه بمذاقه.

– هذا الحليب رائع ولذيذ جداً.

– إنه حليب الدواب رفيق.

– أوه لذيذ سلمت يداك.

– شكراً.

– ما أسمك يا فتى ؟.

– أسمي أستبرق.

– استبرق ، ممم ماذا يعني ؟.

– لا أعرف.

– أتعرف أن اسمك ذُكر بالقرآن كثيراً.

– حقاً ! لا لست أدري ، أتعرف معناه أنت ؟.

– هو من ملابس الجنة النفيسة ، عموماً

منذ متى وأنت تعمل هنا ؟.

– منذ ثلاث سنوات تقريباً إن لم تخني ذاكرتي ، نعم منذ ثلاث سنوات على الأرجح.

– كم عمرك إذاً ؟.

عمري تسعة عشر سنة ، وأرجوك لا تسألني أكثر ، واحذر أن تنظر لأي فتاة هنا.

يأخذ قطعة قماش حريرية صغيرة و يبدأ بمسح سطح العربة من قطرات المشروبات المتجمدة.

– لماذا ، هل تقصد تلك المتسولة ، هل هي حبيبتك أو أنت على علاقه معها ؟.

– أكره النساء ، أنا حذرتك فقط.

– و أنا أمازحك فقط.

في هذه الأثناء يأتي شاب ويجلس على

أحد المساطب وهو في حالة قلق وتهيج وبصوت جمهوري يقول :

– استبرق اعطني سما مرا من عندك.

يستغرب شاهين من هذا الشاب فأسلوبه وشكله يوحيان على أنه أنسان مجنون.

يجلب استبرق القهوة لذلك الشاب وبعدها يتوجه نحو شاهين ويقول :

– هو كذا منذ زمان ، همه الوحيد السفر ، يريد السفر بعد أن تركته حبيبته.

فبينما لا يزال شاهين يتخاطف نظره على تلك المتسولة وهي كذلك يتجه نحو ذلك الشاب و يجلس بقربه.

– مرحباً صديقي.

ينفث دخان سجائر الميامي بعنف وتزداد اهتزاز قدمه اليسرى.

– أهلاً ، ماذا تريد ؟.

– لماذا أنت عصبي ، أريد أن أدردش معك و ربما افيدك .

– هه تفيدني ! بماذا تفيدني ؟.

– بما أستطيع.

ليالي تمضي …..

يجلس شاهين عند الطاولة الخشبية يدون ما اكتشفه خلال أسبوع كامل ، ينتهي من تدون الملاحظات ؛ يفتح حاسوبه و يكلم كاترين :

– أهلاً حبيبتي.

– أهلاً شاهين ، هل لا زلت تذهب عند استبرق ؟.

– نعم يا كاثرين ، لقد مر تقريباً أسبوع كامل وأنا أجلس عند ذلك الشاب الصغير ، كلما أردت التحدث معه عن حياته و ما هي الأسباب التي جعلته يعمل وهو بهذا العمر و بمنطقه كهذه لا يكلمني بل حتى ينصرف عني ولن يعود.

– ربما يستحي ، ربما ليس لديه عائله أو أنه يعيش في ملجأ أو أي شيء من هذا القبيل.

– لا أعرف يا كاترين ، و لكني اشك بأنه يخبأ سراً.

– و تلك المتسولة هل لا زالت تنظر إليك ؟.

– أتقصدين أم يقين ؟ ، لقد تطورت علاقتي معها.

– ماذا ! سأقتلك يا شاهين.

– لا ، لا ليس كما تعتقدين ، لقد أصبحت تكلمني و تريدني أن أذهب معها إلى بيتها ، و لكني بدل ذلك كنت أعطيها بعض النقود ، هكذا قال لي استبرق -أعطها النقود خيراً من أن تذهب معها إلى البيت .

تمضي الأيام و رحلت شاهين في العراق شارفت على الانتهاء ، كتب الكثير والكثير عن أوضاع الناس وأصناف و طبقات الأنس في العراق ، جل ما دونه كان عند عربة استبرق ، لقد أصبح شاهين يشعر أن الأنسان الوحيد الصحيح هو استبرق ، فهو أنسان مرح ومضحك وجميل جداً ، ولكن طبيعته الباردة وابتسامته الميتة تخفيان خلفهما روحا متفردة غريبة جداً.

– قل لي استبرق ألن تأتي اليوم صديقتك ؟.

– من تقصد المتسولة ؟.

– نعم.

– ليست صديقتي ، أكره النساء.

– يا رجل لا تكن رسمياً لا أحد يكره النساء.

– أنا اكرههن.

في هذه الأثناء تنطلق سيارات الشرطة السلفادور السوداء ومعها سيارتين هونداي وتتوقف وسط السوق لتمسك تلك المتسولة و تركبها السيارة و تمضي بها نحو المركز ، يركض شاهين ليسأل المتجمهرين و يحصل على الإجابة الصادمة.

الشرطة تعتقل أم يقين ، لقد كانت السبب في قتل الشباب في حديقة السندباد ، تقول التحريات إنها كانت تستدرج الشباب داخل الحديقة و تقوم بسلب ممتلكاتهم و قتلهم مع مجموعه من أفراد عصابة لا زالوا طلقاء ، يرجع شاهين مذهولاً مرتجف فقد كان الموت يتربص به ، لقد دعته أكثر من مرة في الأيام الماضية ، لن يأت معها لبيتها ليساعدها لقد كانت تريد قتله ، بدأ يقتنع بأن ممانعة والده له كانت صائبة وكان على حق ، يجلس شاهين عند العربة ، يقول استبرق :

– لا تتعجب رفيق ، لقد قلت لك أحذر .

– كيف ستعيش أنت يا استبرق بهذا العالم ؟.

– أنا وعيت على هذه الصورة النمطية و سأموت عليها كذلك.

في الغرفة بدأ شاهين مرعوباً قليلاً وهو يكلم كاثرين.

– ماذا تقول ! هي كانت السبب في جرائم حديقة السندباد ؟.

– تخيلي كاثرين لولا عناية الله لكنت أنا الضحية الخامسة ؛ لقد تذكرت رواية الخيميائي و كيف يرسل الله الإشارات ، نعم لقد ارسل لي استبرق ؛ هو من أشار علي بأن أعطيها النقود و لا اذهب معها البيت ، لقد انقذ حياتي ذلك الصبي.

– يا رباه !.

– كاثرين الناس في النهار مثل الصباح وجوههم وأعمالهم واضحه أما في الليل فيتحولون إلى وحوش يختلفون تماماً عما في نهارهم ؛ فهذه المرأة متسولة فقيرة يرثى لحالها صباحاً بينما في الليل تصبح مثل عنكبوت الأرملة السوداء ، كما لدي خبر مفزع أخر.

– و ما هو ؟.

– أتذكرين الشاب الذي كلمتك عليه منذ مدة ؟ ذلك الشاب القلق الذي يريد السفر بأي طريقة.

– لا ، لا أذكر.

– لقد أخبرتك عنه ؛ أردت أن أساعده و لكن تفاجأت بخبر انتحاره.

– يا إلهي !.

– كاثرين لم اعد قادر الوضع مخيف جداً ، لا أحد يستطيع العيش هنا إلا من يشبه حجي أمان ، محصن بفندقه الذي هوه عالمه بعاهراته وخمره وكل بذاءته.

 

– كيف انتحر ذلك الشاب لم تحدثني عنه ؟.

– لقد كان متخرج حديثاً عاشقاً لفتاة رفضوه أهلها لأنه لا يملك قوت يومه فلم يبقى عنده سوى فكرة واحده إما السفر أو الانتحار ، صدقاً أردت مساعدته.

يمسح شاهين دموعه و كذلك كاثرين يودعها بعضيهما.

عند عربة استبرق جلس شاهين يشاهد الناس وينظر إلى استبرق وهو يعد النسكافيه الحارة

، يقوم من مكانه ويقف بجانبه.

– قل لي استبرق ما هي قصتك ؟ أنت تخفي سراً أنا متأكد من ذلك.

– هل سمعت الخبر الجديد عن ذلك الشاب المنتحر ؟.

– نعم سمعت ، اجبني على سؤالي ما هي قصتك يا استبرق ؟.

– لقد كان مدمناً على مخدر الكرستال وليس كما قالوا بأنه انتحر بسبب حياته البائسة أو زواج حبيبته.

– أنت تعلم مدى براعة المراء بتأليف الإشاعات والكذب ، منذ انتحار ذلك الشاب وحتى هذه اللحظة لا تزال طريقة موته مادة دسمة لأفواه الناس الفارغة ؛ لا تهرب و اجبني ما سرك ؟.

يقذف استبرق بقطعة القماش الحريرية بقوه على سطح العربة و بنبرة حزينة و قاسية :

– لا اخفي عليك شيء ، و لماذا اخفي ، من تكون أنت ؟.

– من خلال أيامي القليلة هنا عرفت أن العراقيين بعد أن ينتهي حديثهم ويودعوا بعض ، يسأل أحدهم الأخر أن يأت معه البيت دلاله على الكرم والسخاء ، أنت لم تقل ولا مرة و لا حتى دليتني على بيتك أبداً.

– لماذا تجعل الأمر وكأنها حكاية غامضه أو قصة بوليسية والقاتل متنكر بزي البريء ؟.

في هذه الأثناء تثير جلبة جمع من الناس يحيطون بشيخ كبير ويقومون بضربه بالأحجار والأحذية وهو وسطهم يحاول أن يحمي نفسه ولكن لا فائدة فقد مات تحت أنظار الناس وبأيدي الناس.

صُدم شاهين لما رأه ؛ ركض نحو ذلك الشيخ إنه رجل دين على ما يبدو مُدمى و مُخضب بالدم ،

يمضي الناس تاركين شاهين واستبرق والجثة ؛ يسال شاهين أحد المارة من هذا ؟ يجيب :

إنه رجل شاذ تنكر بزي رجل دين لسنوات طوال ، خدعنا و لكن لا يخدع إلا نفسه ، الرحمة لروح جودت.

يتسأل شاهين في نفسه : جودت ؛ من هذا ؟.

لا يمكن وصف هذا بأقل من كلمة دستوبيا محضة ، يرجع شاهين نحو العربة ؛ عزم على أن يغادر ولكن استبرق ذلك الشاب الصغير لا يزال يعمل وكأنه لا يرى شيء أمامه ، يجلس شاهين على الطاولة وهو بحاله صمت ما بعد الصدمة ، يرفع رأسه قليلاً ينظر ؛ هنالك شخص يجلس أمامه على المسطبة يدخن الروثمان ، ينظر بكبرياء وشموخ إلى جثة الشيخ الممدة أطرافها أرضاً وكأنه يشفي غليله .

– هذا حكمت ، يقول استبرق.

يستدرك شاهين ويلتفت نحو استبرق.

– من حكمت هذا يبدو و كأنه أصم ؟.

– أسمه حكمت جودت ، أبوه مات ، لقد قتلوه.

– مات ..قتلوه من .. من هم الذين قتلوه ؟.

– هم أنفسهم من قتلوا ذلك الشيخ .

– ولماذا قتلوه ؟ اعني لماذا قتلوا جودت ؟.

– قتلوه لأجل ذلك الشيخ.

ينهض شاهين مفزوعاً.

– هل تحاول إرباكي وإخافتي ؟.

– لا ، لا أهدئ.

يجلس شاهين بإحباط و يضع راحته على جبهته.

– منذ ثلاث سنوات كان جودت صحفي يعمل بإحدى الصحف المحلية ، كتب تقريراً كاملاً عن ذلك الشيخ يتهمه فيه بممارسة الشذوذ مع الأطفال ، و بما أن ذلك الشيخ كان معروفاً على أنه إنسان متدين فقد تم اتهام جودت – باتهام رجال الدين بممارسة الفحشاء – و في ليله ظلماء هجم نفر من الناس على بيته قتلوه و زوجته إلا حكمت هذا ، أصبح مجنون بعد ضربه ضرباً مبرحاً ، والأن ها هم نفس الناس الذين قتلوا البريء تتجلى لهم الحقيقة ويقتلوا القاتل.

– استبرق لقد حاولت الهرب مني كثيراً ، لماذا أنت الوحيد في هذا البلد تبدو طبيعياً لا شيء يهمك و لا شيء يخيفك ، لماذا لا تأت معي هناك إلى أميركا كي تحقق كل شيء تصبو إليه ؟.

– لا استطيع ولن أغادر ، أنت لا تعرفني ولا تعرف طبعي ، أنا لست كما تراني.

ينزل الليل بهدوء على أضواء السماء الصافية مثلما أسدلت الستارة على نوافذ غرفة شاهين.

في الليلة الأخيرة …

يوظب شاهين أمتعته ، يتصل بكاثرين يخبرها بأن موعد رحلته سيكون غداً صباحاً ؛ ينام أملاً على أن يستيقظ بوعيه فقد رأى بأم عينه كيف أن البشر منتشرون بينما الإنسانية منعدمة ؛ بدأ خياله يرسم له صوراً يرى فيها نفسه وقد أحاطوه جمع من الناس الملثمين ماسكين بأيديهم الأسلحة النارية والبيضاء وحتى الحجر مستعدين للهجوم عليه وتقطيعه ، يسمع أحدهم يقول : اقتلوه فهو أبن أحد أشخاص الماضي ، يضل شاهين يتقلب في فراشه مرعوباً يحاول طرد الأفكار المميتة.

في الصباح يغادر شاهين الغرفة ، يودع حجي أمان ، يركب سيارة الأجرة ، يصل إلى المطار ، يجد هناك في انتظاره استبرق ذلك الشاب الغامض ، يتوجه نحوه ، يقف أمامه

– سأذهب يا استبرق .

– سأتذكرك دائماً شاهين.

– استبرق هذا البلد قد يجننك إن بقيت ، قد تموت أو قد …

– لا تكمل ، أردت أن أفشيك سراً ربما تكمل فيه مقالك و يصبح خاتمه تليق بما كنت تكتبه.

– قول استبرق ، تحدث عما في داخلك ؟.

– شاهين ، أسمي استبرق.

– اعرف هذا ، مهلاً هل هذا هو السر ؟.

– لا ، و لكن السر هو أني فتاة و لست فتى.

يُصعق شاهين ويصاب بالذهول.

– ماذا ، هل أنت فتاة !؟.

– نعم ، إن ظروف الحياة القاسية أجبرتني على هذا.

– صوتك و ملامح وجهك ، جسدك تدل على أنك أنثى ؛ ولكن من المستحيل القول بأنك تكونين أنثى وسط هذه الدستوبيا والعبثية.

– هل عرفت الأن لماذا أبدو باردة أو طبيعية كما تقول ، أنا ميتة من الداخل ، لا أعرف كيف أعيش هل بجسد من أنثى أم ذكر ؟ ، سأترك نفسي للأيام والقدر هو من يقرر.

بعد أن يُصعق شاهين بما سمع فلم يستطيع الرد أو التكلم بعد إن سمع كلام استبرق ، يبقى مشوشاً ،عندها يسترجع كل ذكرياته في هذا البلد مثل شريط الفلاش باك ، بينما تبقى استبرق واقفة ، هي ليست استثناء من مجتمع ؛ ليست ملاك وسط أرواح في وطن ميت.

يودعها و يصعد الطائرة دون أن ينظر إلى الوراء ، دون أن ينظر إلى بلده الأم ، عندها تتحرك عجلات الطائرة ببطيء وبعدها تتسارع وتيرة الحركة وتقلع الطائرة مبتعدة عن هذا الوطن.

هنالك الكثير لم يُذكر.

 

النهاية…..

تاريخ النشر : 2018-12-06

guest
28 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى