أدب الرعب والعام

مُليكَة

بقلم : عُلا النَصراب – مصر
للتواصل : https://www.facebook.com/ola.esaam.589

كان يشعر بعدم القبول تجاهها والنفور الشديد و ضيق الصدر بفعل السحر الأسود الوخيم
كان يشعر بعدم القبول تجاهها والنفور الشديد و ضيق الصدر بفعل السحر الأسود الوخيم

( يا طيور النورس حلقي ، حلقي نحو الأفق البعيد ، و أناشيد الزمان غردي ، غردي للوقت السعيد ، و يا شمس أرضنا أشرقي ، أشرقي و انبذي الظلام العتيد ، و يا نجوم السماء تلألئي ، تلألئي لكل يائس وحيد ).
 
لكل نفق مظلم نهاية ولكل عابر سبيل حكاية ، ومن الأحرف و أكاليل الأحاسيس تُنسج الرواية!.
 
“كان يومًا عاديًا كباقي الأيام ، كانت الطيور كعادتها بأحضان أعشاش القش فوق أغصان الأشجار المتراقصة مع نفحات النسيم العليل.

هناك حيث فقست بعض البيوض لتنبئ عن استمرار متسلسلة حياة متتابعة منذ الألاف بل ملايين السنين.

كانت ظرفاً لطيفاً لتلد فيه روفان مولودها الأول حيث تأتيها الحكيمة حاملة بين يديها قطعة صغيرة غضة ملفوفة بين الأقمشة البيضاء لم تعهد للدنيا من قبل لقاء.
 
– بُشرى روفان ، إنها فتاة ، ماذا ستسمينها ؟.
– مُليكة ، أسميتها مليكة !.
 
ملاك في عمر الزهور ، راقدة فوق سريرها المتأرجح يمنة و يسرى تتأمل تلك الأضواء المتألقة من الشموع ، و لا تتكلم ، لكنها تسمع و بوضوح تلك الضجة المرتبة و هاته الأصوات التي أنشدت بتناغم مع بعضها أجمل الأغاني ، هي لا تفهم كلامهم و لا غنائهم و لا حتى سعادتهم ، لا تفقه أن تلك الأضواء التي أرقتها و نغصت راحتها و أيقظتها من قيلولتها.

ما هي إلا أسلوب للاحتفاء و الترحيب بها في دنياهم التي لم يمض على وجودها بينهم فيها سوى سبعة أيام.

تتحرك ملقتاها الصغيرتان في أرجاء محيطها لتستقر عند أمها فتتشبث عيناها بها فلم تفارقنها ، تعرفها جيداً ، إنها أكثر مخلوق قد يحبها في هذا العالم .
لكن من أوحى لها بذلك ؟.

من أخبر الطفل الرضيع أن يتعلق بأمه من الوهلة الأولى لنشأته ؟.
ما أعجب هذا الحب المولود مع الإنسان ، و ما أعجب تلك الفطرة النقية !.
تلك الأمور تعلمنا أن العقول قد تجهل وتعرف ، و لكن القلوب وُلدت تعرف كل شيء !.
 
تقدمت روفان نحو مليكة و راحت تربت على رأسها بحنو حتى فقدت توازنها فجأة و شعرت بدوار أعياها و كأن الصور حولها تداخلت والأصوات باتت مبهمة لا تسمع منها سوى صدى تمتمات.
 
يد ما تمسك بها برفق وصوت أجش اعتادت سماعه ، صوت لطالما ملأ الدنيا عليها يسألها بقلق :

– روفان ، أأنت بخير ؟.
– سامي أنا…………………………………..
 
و تسقط روفان مغشياً عليها فتسكن الأصوات و تنطفئ الشموع. تحُمل على الأيدي و يُساق بها إلي الطبيب ، فيتفحصها فلا يجد فيها سوى بقايا سيدة تصارع المرض و يعاندها فتقاومه ، فيأكل فتات قوتها و منسأة أملها.

سيدة شارفت على الانهيار في قاع الموت الحتمي بعد أن تقطعت بها السبل و نال السرطان منها ما نال ، فقد أجهز على صحتها و مزق الحياة فيها و أتلفها.
يستدير الطبيب نحو سامي فيقول له بصوت بادٍ عليه الأسى :
باتت أيامها معدودة ، والسرطان في طوره الأخير.
لم يعد بيد أي طبيب في العالم أن ينقذها الآن ، عليكم بالدعاء فهي الآن بين يدي رحمته ، فإن عجزنا نحن فهو لا يعجز.
 
و ما إن أنهي الطبيب جملته و راح يلملم أدواته حتى أجهشت العيون بالبكاء و صار الأهل و الصحب والجيران حزانى على بيت طوقته السعادة نهاراً ليمسي كئيباً ، مظلماً ، مغلفاً بالهموم ليلاً.
 
و تمضي الأيام و تنقضي الساعات و روفان تضعف يوماً بعد يوم و دموع أحبتها ترقرقت منهمرة أسفاً عليها.
 
يا خريف العمر ! قالتها روفان و هي تتأمل وجهها المنهك ، وجهها الذي بدت عليه ملحمة الصراع مع المرض ، وجهاً رسم فوقه الموت قراره بأوضح تعابيره وجها خذلته الحياة.
 
كان الحزن يتغلغل بخلايا قلبها كما تغلغلت الخلايا السرطانية بجسدها ، ليس حزنها على ما ألم بها ولكن كان على مليكتها الصغيرة وعلى مصيرها المجهول.
 
في العزاء حيث يجلس المعزون في باحة البيت بيد كل واحدٍ منهم كوب قهوته القاني كردائه وصوت القرآن يصدح .
 
سامي يبكي في الزاوية ، يبكي كطفل فقد أمه فلا سلطان لهُ على ما ينهمر من أحداقهِ ، و ما يجيش في خلجات نفسه من كمدٍ وحسرة ، من قال أن الرجال لا يبكون ؟ فالوفاء ليس حكراً على النساء فقط ، خاصةً إذا كان الفقيد يستحق الوفاء.
 
مر شهر على وفاة روفان ، كان شهراً عصيباً على سامي ، فقد تولى فيه رعاية مليكة بنفسه تاركاً كل أعماله و مسؤولياته ، فجدتها طاعنة السن و لا يوجد من يرعاها ، و لذلك بدأ المقربون ينصحونه بالزواج ، كان يرفض بدايةً و لكن مع ضغط احتياجات مليكة خاصة أن أعماله المتراكمة لن تنتظره و قد يُفصل بسبب إجازاته الغير مُرخصة ، و مع صعوبة التوفيق بين العمل والرعاية كان الزواج أمراً حتمياً ،  إنها سنة الكون و نواميسه ، فالحياة تمضي و لا تتوقف عند فصل معين في رواية ، فكل نهاية هي نقطة بداية لحياة جديدة.
 
تزوج سامي بنابضة ، سيدة بيضاء بدينة و لا تبدو طيبة إطلاقًا ، كانت نابضة تتولي رعاية مليكة  -ليس تماماً – فلطالما كانت تهمل في نظافتها و تتركها بحفاضتها حتى تتقرح الصغيرة و تلتهب بشرتها ، فتتركها للبكاء بالساعات.
 
كان سامي يذهب إلى العمل من السادسة صباحاً حتى التاسعة ليلاً و يعود للبيت مُرهق فينام ، لذلك فقد كانت رقابته على ابنته محدودة.
 
و توالت الأيام و حملت نابضة بتوأم بنتين و كانت مليكة آن ذاك قد بلغت عامها الأول بالدنيا ، زاد إهمال نابضة لها بعد الحمل و غير ذلك كانت تكثر الشكوى من أعبائها و تتذمر للجيران منها رغم هدوء مُليكة الشديد إلا أنها لم تكن تتحملها.
 
و زاد الطين بلة بعد أن أنجبت نابضة بنتيها أضحت تشكي طول الوقت و تتأفف للجميع و تخبرهم أن تربية الثلاثة من أشد الأعباء عليها ، و لكنها سيدة فطنة لم تشكو يوماً لسامي ، كانت تحاول دوماً أن تظهر أمامه بمظهر الزوجة المثالية.
 
و كبرت مُليكة و كبرت معها أختاها نجد و نيل ، ثلاث وردات كورود الزيزفون صِرن ، بلغت مليكة عامها التاسع في حين بلغت التوأمتان عامهما السابع ، بدأت زوجة الأب تبالغ في قسوتها فقد تولت مليكة كل الأعمال المنزلية في حين كانت أختاها في حالة رفاهية بحجة أنها الأخت الكبرى ، عندما يحين وقت الطعام كانت مُليكة تتناول قطعة اللحم الأصغر بينهن ،

هذا إن لم تتظاهر نابضة بنسيانها كالعادة ، لا يحق لها أن تذهب للدروس الخصوصية مثل أخواتها لأن تكلفة الدروس عالية ! جميع ألعابها ملك لإخوتها فهي كبرت ولا يحق لها أن تحتفظ بشيء ، أما التلفاز فهي ممنوعة منه بطريقة غير مباشرة (جلي الصحون أهم) و لكنه طبعاً مُتاح لإخوتها.

 
حياة عتيدة ، في ظل انشغال الأب الذي يدور بدوره في رحي ساقية الحياة بهمومها.
لم تعرف مليكة شيئاً عن أمها سوى ما يحكيه لها سامي عنها بأيام العطلة و شكلها من ألبوم الصور الذي تحتفظ به جدتها .
 
في قريتها الريفية جبال وبساتين من أراضي زراعية خصبة غناء سمحت تلك الطبيعة لمليكة بنمو موهبتها الشعرية ، فتطورت عندها ملكة الشعر فأضحت شاعرة مفوهة يستمع لها كل سكان القرية فتشجي مسامعهم كما كانت تطرب آذانهم بالأغاني التي تؤلفها في أفراحهم.
 
كبرت مليكة و كبرت معها موهبتها حتى بلغت الثالثة و العشرين ، أضحت عشرينية سوداء العينين ، بيضاء البشرة ، متوسطة الطول ، معتدلة القوام ، جميلة الوجه ، أضحت عروس!
كانت تعمل معلمة في مدرسة القرية ، لديها من الطلاب ما يغنيها عن تلك الفضاضة التي تلاقيها من القدر.
 
في أحد أيام العطلة ، تحديداً في عصر يوم الواحد وعشرين من ديسمبر ، مليكة تجلس بالحقل تتحدث إلى الطبيعة كعادتها فتقول بكلمات مسموعة ” ليت البشر يشبهونك أيها البستان جميل و صامت “.
 
يأتيها صوت وقور من الخلف يقول :
مومياوات إذا تحدثنا لا يفقهون ، الصمت ليس خيارنا ، قهراً فرض علينا لا حيلة للصامت و لا حتى دعوة فقد أضحت اللامبالاة تجليات الساكتين !.
 
تنبهت مليكة فاستدارت إليه ، فمد يده ليصافحها و هو يقول : محمد منصور ، طبيب بيطري ، سكنت مؤخراً هنا في أحد ضواحي القرية .
 
عدّلت مليكة من حجابها و قالت بخجل :
أهلاً بك ، عذراً لا أسلم على الرجال ، ثم أسرعت مغادرة !.
فابتسم محمد بإعجاب .
 
في اليوم التالي في الغرفة المخصصة لاستقبال الضيوف ، هم الزوار بالمغادرة يسلم عليهم سامي و يوصلهم إلى الباب ثم يصعد مُسرعاً إلى مليكة و يقول بصوت مسرور :
مليكة .. عريس !.

فالتفتت مليكة و قد بدت عليها الدهشة ، فبادرها قائلاً : محمد منصور ، ساكن جديد هنا بالقرية ، سيأتي الجمعة القادمة للرؤية الشرعية .
 
فارتبكت مليكة ولملمت خصلات شعرها المنسدلة على وجهها وابتسمت ابتسامه حييه مع تسارع نبضات قلبها عند سماع الاسم.
 
فضحك سامي ثم قبّل رأسها وقال مداعباً : كبرتي يا مليكتي ، كبرتي و كبرت معكِ الدنيا ، أستعدي للجمعة ، ثم هم ليخرج فإذا به يجد نابضة خلف الباب ، فأحمر وجهه وقال : خسئت نابضة أو تتجسسين؟.
 
فارتبكت نابضة و قالت بخوف : طبعاً لا يا عزيزي ، فقط جئت لأسألك عن حال الضيوف.
فلم يقتنع و لكن تجاوز الأمر.

و في الجمعة التالية تمت الرؤية الشرعية و قراءة الفاتحة معاً ، كانت مليكة تتبادل النظرات الخجل مع محمد طوال الجلسة ، و هو بدوره يبتسم ، كانت سعيدة.
 
كانت نابضة تصطلي غيظاً في تلك اللحظة ، فقد كانت تتمنى أن تتزوج إحدى بناتها قبل مليكة ! في اليوم التالي عندما غربت الشمس ، تسللت نابضة متخفية و اتجهت للبيت القديم القابع أقصى القرية ، هذا البيت مشبوه فالكل يعلم أن ساكنته ساحرة يوفد إليها العقيمة لتنجب والعاشقة لتجلب و الحاقدة لتفرق بين أعداءها.
 
ألقت رزمة من النقود أمام تلك العجوز الخبيثة فابتلعت ريقها وهرولت إليها تحصيها ، فأردفت نابضة :أريدك أن تفرقي بين محمد ومليكة قبل حلول موعد الخطبة ، إذا جرت الأمور كما أتمنى سأوافيك بباقي المبلغ ، فهزت العجوز رأسها إيجاباً.
فابتسمت نابضة.
 
في اليوم التالي جاء محمد ليتفق مع مليكة وأبيها على ترتيبات الخطبة ، فتعجب من وجه مليكة ، كانت سوداء قاتمة السواد وجهها أقرب لوجه القرد ، ذُهل محمد ولكن أخفى ذهولة ، و أنصرف بعد أن اتفق مع أبوها على الخطبة التي ستتم بعد عشرة أيام ،

و تحديدًا بعد خمسة أيام بعد المكالمات الهاتفية بينه وبين مليكة والتي بدورها كانت تباعد بينهما ولا تقرب ، فقد صُدم بامرأة أخرى غير التي أُعجب بها ، كان يشعر بعدم القبول تجاهها والنفور الشديد و ضيق الصدر ناهيك عن الكوابيس السيئة التي لا تفارقه بخصوصها طوال تلك المدة ، و كان كل ذلك طبعاً بفعل السحر الأسود الوخيم.

 
قرر محمد الانفصال ، أتصل بسامي و أنهى الأمر! فكسر قلب مليكة وانهارت سعادتها في لحظة و سقطت من السماء الرحبة التي كانت تحلق فيها إلى أرض ضحلة موحلة من الكأبة ، أضحت تبكي طوال الليل أمام فستان الخطبة الذي أعدته.
 
مرت الأيام و تناست مليكة الأمر و تزوجت نجد بعد عام من الحادثة بواسطة خاطبة تواصلت معها نابضة ، يمر العمر و بلغت مليكة الخامسة والعشرين ، كان لديها زميل في المهنة بالمدرسة يُدعى يزن ، كانت تفهم بفطنتها الأنثوية الفطرية أنه معجب بها ،

و لكنه من النوع الجبان الذي يهاب الرفض كما تهاب الأطفال الأشباح ، و لكنها كانت سعيدة بهذا الحب العذري الساذج و التلميحات الرقيقة ، هي ليست من نوع النساء الذي يدخل في علاقات غير مقيدة بالضابط الشرعي ، فتناست هذا الحب الذي كان يضفي علي أيامها بهجة وسرور .

 
و في أحد الأيام و بينما هي تمر أمام رهط القوم من الرجال لتدلج إلى مجلس النساء لتحيي الفرح كعادتها لمحها فؤاد و أُعجب بجمالها و تقدم لخطبتها في الأسبوع التالي و تمت الخطبة بسرعة.
 
صُدم يزن عندما وجد مليكة توزع على زميلاتها حلوى بمناسبة الخطبة ، توجع في صمت ، صرخ بلا صوت و بكي بلا دمع ، أضحي مساء هذا اليوم يقظانًا حتى الصباح يحاول تفادى الألم فيعجز، يتألم كرجل ضل قافلته وأي قافلة ! أنها قافلة الأحلام والذكريات والمشاريع التي لم تكتمل بسبب تردده !.
 
كررت نابضة فعلتها وأضحت الخطبة صراع و مشاكل لا تنتهي بين مليكة و فؤاد حتى كرهته ، و في اليوم الذي قررت فيه مُليكة فسخ الخطبة بعد صلاة الاستخارة فاجئها فؤاد بالفسخ  ، وعادت مليكة إلى حياتها الهادئة التي بدت كاستراحة لها من كل تلك الصراعات التي خاضتها مع فؤاد والذي بدوره هاجر القرية بلا عودة ليتخلص من تلك البقعة التي تحمل عبق مليكة و ذكرياتها و التي لم تكن سعيدة بالمرة .
 
سُر يزن بخبر انفصال مليكة و قرر أن يكون شجاعاً تلك المرة ، و لكنه كان يتحين الفرصة المواتية و قال في سريرته : أن من الأفضل أن يتركها تستريح من علاقتها المنتهية ثم يتقدم لخطبتها .
 
كانت نابضة متوجهة للخاطبة لتسألها عن إن كان هنالك مستجد فيما يتعلق بالعريس الذي سيتقدم لنيل ؟ و لحكمة القدر زلت قدماها فسقطت من مرتفع ضحل على رأسها فشجت و تضرجت بدمائها حتى لفظت أنفاسها الأخيرة لتلقي ربها و تُحاسب على أحقادها.
 
و بعد شهر تقدم يزن لخطبة مليكة و التي فرحت بدورها أكثر من فرحها في أية مرة ، و بعد ستة أشهر عُقد القران و زالت اللعنة ، كانت ترقص في يوم زفافها كعصفور حر و القدر يباركها بدوره ، فها هو ذا يبتسم لها ابتسامة حقيقية منذ أعوام طويلة.
 
من الناحية الأخرى كانت تلك العجوز الساحرة التي توسطت الزحام تتمتم بصوت خفيض قائلة : أرقصي ، أرقصي فوق السحاب و تحت النجوم و بين سيقان البامبو ، فالفرح ضيف شحيح الزيارة لقلبك .

النهاية ……

تاريخ النشر : 2021-01-15

guest
20 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى