أدب الرعب والعام

نجاح مريب

بقلم : شخص ما 222 – المغرب

نجاح مريب
لأنني لا أبحث عن الثروة، بل عن أشياء أخرى…

ما أجمل الليل، وما أروع سكونه، صحيح أنني لا أعرف الوقت بالضبط بسبب الساعة الحائطية التي لم أصلحها… لكن لا بأس بذلك، أجمل اللحظات تلك التي لا ننتبه لمرورها.. أقرأ كتابا تحت ضوء المصباح المتراقص، وأضع بجانبي كوب شاي منعنع لذيذ.. يريح الجسد ويصفي الذهن من عناء يوم شاق آخر… غريب ما قد يتخيله إنسان في مثل عمري من فرط الإجهاد، فأحيانا قد يرى ظلالا داكنة تتأرجح في الغرفة وتهمس بكلمات غريبة يمكن أن نلتقط منها من حين لآخر جملة مثل ” أنا ألاحقك أيها الفاني ” أو جملة” المجد للشياطين السبعة” وهو- بالمناسبة- ما يحدث الآن … فعلا إن الإجهاد يخلق الجنون، لكنني لا أمانع هذا النوع من الجنون ما لم يصاحبه انقطاع في الكهرباء، فأنا أخاف الظلام بشدة….لسبب ما أشعر بأنني قلت هذا سابقا، ربما هي ظاهرة” الديجا في” تلك التي قرأت عنها في إحدى المجلات العلمية.

على أي حال بما أنني أنهيت هذا الكتاب أخيرا لم لا أقص عليكم تجربة فريدة سبق وصادفتني خلال سنوات حياتي الستين ؟ فلنبدأ إذن لننسى ما نحن فيه من خوف.. لنتجاهل الظل الرمادي الذي يسارع الخطى نحو غرفة النوم،ولنسرع مادام ضوء المصباح الآمن قد بدأ يخفت…

أول يوم بالعمل، هو يوم صعب مزر خاصة لصحفي عديم الخبرة مثلي، وللأسف فمهنة الصحفي المبتدأ عندنا لا تختلف كثيرا عن مهنة السكرتير والتي تعني في الغالب إحضار الشاي و تنظيف الأرضيات و الأسوأ….. تلقي الإهانة والتهديد الدائم بالطرد.

هذه كانت وظيفتي خلال أيامي الأولى بالعمل ، وما كنت أكاد أفتح فمي للشكوى إلا ويقابلني المدير بشاربه الأقرب لشارب فريدريك نيتشه و معالم وجهه الدائمة الغضب،ولسانه الذي يقول جملة واحدة فقط : ” غيرك سيموت من أجل هذه الوظيفة” فأغلق فمي مباشرة بعد سماعها وأتابع مسح الأرضيات بصمت. لم يكن الأسبوع الثاني يختلف كثيرا عن سابقه… ولا الشهر التالي كان أفضل، كنت أراقب الصحفيين الحقيقيين يتحركون هنا وهناك ويوسخون بأحذيتهم- التي تتجاوز في قيمتها ثمن أثاث شقتي- الممرات التي نظفتها توا…و أتحين فرصتي لأصير ناجحا أنا الآخر …ناجحا مثل ..مثل..كريم، كريم الذي هو عكسي تماما، متأنق وسيم هادئ.. ذلك نوع من الأشخاص الذي تبسط لهم الحياة أفرشتها وتبتسم، بينما تبصق في وجه أمثالي…وربما تركلهم. يتقدم كل يوم نحو مكتبه الفخم الأنيق ويكتب مقالة أخرى بتفاصيل دقيقة متألقة..سألت عن مجاله فأخبروني بأنه الكاتب الخاص بقسم الجرائم .. . كنت أرغب في التحدث إليه بشدة، ومعرفة طريقة عمله و شخصيته….وهو ما حدث بالفعل، اقتربت من مكتبه ذات يوم بينما كان منهمكا –بهدوء- في كتابة مقال آخر، قرعت الباب بتوتر فقال بصوته الجوهري:

– “تفضل”

تقدمت نحوه، ثم تذكرت بأنني لا أعرف ما الذي جاء بي إلى هنا، استحيت أن أخبره بأنني قاطعته لأنني أردت سماعه يتحدث، لاحظ ارتباكي فقال:

– “لم لا تجلس”

– “شكرا لك … آسف لمقاطعتك “

– “لا بأس هي استراحة أتت في وقتها….إذن ما الذي يمكنني فعله لأجلك ؟”

– “في الواقع أود أن أعرف… عن .. .عن سر دقة مقالاتك”

قلتها دون تفكير، ونظرت إلى وجهه، كان مخيفا كاد يصيح في جنون، لكنه توقف يستجمع هدوءه ثم قال:

– “ما الذي تعنيه؟”

– “لا شيء، فقط أقول بأنها متقنة لدرجة مخيفة”

– “……….أعرف أنها كذلك أنا ابذل فيها الكثير من الجهد الجسدي والنفسي، أكثر ممن يدعون أنفسهم بصحفيي الجرائم………..

لا شيء لأخبرك به غير أن تهتم بشؤونك الخاصة.. وسيكون من الأفضل ألا أراك مجددا”

بعد جملته الأخيرة، سرت رعشة غريبة في جسدي وصاح بي ذلك الصوت الخفي الذي لم يخذلني قط: أهرب. وقفت دونما أن أشعر واعتذرت بسرعة ثم جريت نحو المخرج وفي ذهني ومضت ذكرى قصة باهتة أعادها الزمن في اللحظات المناسبة.

صباحا ورغم معرفتي بحتمية طردي فقد ذهبت إلى العمل، ربما لأنني كنت مستعدا للتوسل من أجل الوظيفة التي سيموت غيري من أجلها.. عندما وصلت ناداني كريم إلى مكتبه، وقال :

– ” لدي مهمة لك “

– “فعلا لن تجعل المدير يطردني ؟”

– “ولم قد أفعل؟ “

– “لأنني كنت فظا معك أمس و…”

– “انس الأمر ما حصل قد حصل. أنا أعرض عليك فرصة حقيقية لتكون ما درست لأجله “

– ” ظننت أنك طلبت مني عدم العودة لأنني أزعجك…”

– “لا عليك كان مزاجي سيئا بالأمس، الان ركز على ما أقوله في تمام الساعة العاشرة اليوم ، فلتأتي إلى مطعم (….) سأزودك بشيء مهم، لا يمكننا مناقشته هنا، أنت دقيق الملاحظة وسأستفيد منك….”

– “لكن..”

– “تذكر في العاشرة”

ثم رحل تاركا إياي أقف في بلاهة ألوم نفسي على ضعفي وعدم قدرتي على الرفض… حملت هاتفي وأجريت اتصالا….

.. ” ابذل فيها الكثير من الجهد الجسدي والنفسي”…” وسيكون من الأفضل ألا أراك مجددا”….” في تمام الساعة العاشرة اليوم”….” أنت دقيق الملاحظة وسأستفيد منك”…….أوغوست رودان….أوغوست رودان…

وفي المطعم الذي لا يليق بمستواي وجدته هناك ينظر إلى ساعته شبه مغتاظ من تأخري، ولما راني قفز من مكانه واقترب مني وقال:

– “أين كنت؟ إنها العاشرة والربع، لقد قلت في تمام العاشرة، أين احترام المواعيد؟”

– “آسف لقد حدث معي ظرف طارئ، لكنني أتيت لذا….”

قاطعني في اشمئزاز :

– “لا أطيق الناس الذين لا يحترمون الوقت”

التفت حولي فوجدت أن المكان خال، قلت فيما يشبه المزاح:

– “جميل جدا وكأن المكان لنا.”

– “تماما”

لاحظت حينها تلك القلادة الذهبية التي يرتديها والتي تنتهي بحرف k الانجليزي ….

– “لماذا لا يوجد أي نادل ؟”

– ” سبق وطلبت .. سيأتي الطلب قريبا”

– ” لا أحد هنا، لا بأس بكشف الحقيقة..”

نظر لي دونما أن يتحدث، فتابعت الكلام محاولا أن أبدو مؤثرا :

– “أوغوست رودان النحاة الفرنسي اتهم باستعمال موديلات حية، أي صب الاسمنت على البشر، طبعا كان ذلك مجرد ادعاء لكنني أرى أن عملك يشبهه كثيرا”

– “شكرا على درس التاريخ، لكنني كنت أعلمه مسبقا”

– “مقالاتك دقيقة، دقيقة جدا في وصف الجريمة، كأنك أنت من ارتكبها…، تبذل فيها الكثير من الجهد النفسي والجسدي… كاد قلبك يقف حينما لاحظت ذلك في سطور مقالتك، وربما خططت لقتلي.. .. “

– “يبدو لي أن خيالك واسع جدا يا صديقي، كم من الجهد بذلته من أجل الوصول إلى هذا الاستنتاج يا ترى؟”

– ” ما زاد يقيني هو دعوتك لي إلى هذا المكان الفارغ، في ساعة متأخرة من الليل…”

– “إنك شجاع جدا لتصارح شخصا تشك بكونه قاتلا، بهكذا معلومات عنه، لكن للأسف نصف كلامك خاطئ ونصفه الآخر ضرب من ضروب الخيال”

– “أنت لن تجعلني أشك بنفسي… أنا واثق من جرائمك، كلها تقع ضمن مناطق قريبة من مكان الجريدة”

– ” أنت تقصد بأنني أستخدم الناس بعد قتلهم لتحقيق الثروة “

– “هذا صحيح”

– “الآن اسمح لي بأن أخيب ظنك…. أنت مخطئ جدا”

– “لكن…”

– “أنت تتهم صحفيا ذا نفوذ بتهم خطيرة وبدون أية أدلة فعلية …فقط متبعا حدسك… يسهل علي ادخالك السجن، لكنني لن أفعل أتعرف لماذا ؟”

“…………..”

“لأنني لا أبحث عن الثروة، بل عن أشياء أخرى…أخطأت في بعض التفاصيل لكن إجمالا أنت صحفي جيد… مؤسف ألا مستقبل لديك، ليس بعد اليوم..”

باااااااااااام

صوت ارتطام قوي قادم من المطبخ أنهض ثم أتعثر وأعاود النهوض وأحمل المصباح ألجيبي ثم أتقدم نحوه، أمضي ثم أمضي…بخطى مترددة، أحاول مقاومة شعوري الطاغي بالخوف….أسارع الخطى… أضيء المصباح…..

وأكتشف سقوط الأواني الفخارية الجميلة التي اشتريتها منذ عشر سنوات. يا لها من خسارة….كانت أنيقة فعلا و باهظة الثمن…على أي حال ، سأنظف الفوضى لاحقا، أما الآن …فلنعد إلى الغرفة ولنكمل القصة ….غريب فعلا لا أذكر تشغيل الموسيقى في غرفة النوم…. كما لا أذكر بأنني استضفت أحدا بالشقة… ربما سيكون أجمل البقاء في المطبخ و إحكام إغلاق الباب…حيث الإضاءة والشاي، ودواء الصداع، و الضربات القوية التي تحاول خلع الباب…. كلها أشياء جميلة تضيف جوا دراميا إلى القصة، فقط أرجو بأن يتحمل الباب وقت إنهائها…

ضربة قوية على الرأس تتلوها ألام شديدة…..أفقت على أثر ما يشبه الشجار، ميزت صوت شخص غاضب مستعد للهجوم، وصوتا هادئا لشخص آخر أجزم بأنني سمعته قبلا…تتوالى الآلام الشنيعة على رأسي…ومع ذلك أحاول التركيز مع ما يحدث في هذه الغرفة المضاءة…

يقترب كريم مني و يجلس على أحد الكراسي المتناثرة فيما يبدو أنه غرفة مؤن…يقرر التحدث أخيرا فيقول :

– “أعلم بأنك تخاف الظلام….لذا تركت الأضواء منارة.”

– “……..شكرا لك..كيف عرفت؟.”

– “من الصحفي الذي ينعت العاشرة مساء بالوقت المتأخر؟……..والآن كم أود فعلا حمل هذا الكرسي وتهشيمه على رأسك لتدرك حجم الإيذاء الذي تسببت به لي….لكنني لن أفعل، فأنا أخشى أن لا تتعذب كما أشاء قبل أن تموت…”

– “لا أفهم….”

سكت وبات يرقبني في صمت بينما لاحت على ثغريه ابتسامة شيطانية لا يمكن أن أنساها ما حييت:

– “أأ-أنت ..”

نهض قبل أن أكمل جملتي وقال:

– “هكذا أنت… ستبقى دائما ذلك الخاسر الذي اعتدت أن تكونه”

ثم خرج وابتلعه ظلام الغرفة …..فالشارع، بينما تقدم شخص آخر.. تبدو معالم الإجرام على وجهه ، ثم أخرج سكينا ضخما وقال:

– ” البيه قال بأن علي أن أقطع جسدك قطعة قطعة … و غدا سيكتب صحفي لامع في الجريدة عن جريمة قتل أخرى مسجلة ضد مجهول…”

– “لست مضطرا ل…”

– “كلكم تقولون هذا، أنا لست مضطرا لكن جائزتي مجزية، إضافة إلى أنني أستمتع بالعمل..”

– “نسيت أن علي أن أكون قذرا، أنانيا وحقيرا لكي أعيش، فالصادق النزيه… لا يحصد إلا المعاناة ..”

– “لست في حاجة إلى أشعارك…هل من طلبات أخيرة..”

وما كاد ينطق جملته تلك حتى اندفع سيل من رجال الشرطة نحو المكان…نعم لقد اتصلت بأحد زملائي القدامى –من رجال الشرطة المهمين- لكي يرسل مخبرا يراقبني…أبدى الوحش مقاومة عنيفة، وبعد ما تأكد من خسارته صار يصيح:

– “لست أنا إنه كامل….. صدقوني إنه كاااامل”

بعدها قاده الرجال إلى المخفر…كنت الوحيد الذي يعرف بأنه كامل فعلا … السفاح الذي يقتل من أجل أن يكون ناجحا في مهنته التي لا يحتاجها….هو اليوم كريم، وأمس كامل، وغدا ربما كمال….. شخص غامض وفاسد … يحب كل ما من شأنه إلحاق الأذى….كل ما أعرفه عنه أنه سيأتي مرة أخرى إلى الشخص الذي يظن بأنه يعرف شيئا عن حقيقته، سيأتي باسم آخر وهيئة أخرى مختلفة بتفاصيل جد بسيطة…لا أتعرف عليها…لكنني تعلمت ألا أثق بمن يحتوي اسمهم على حرف الكاف … أترى هل علي الحذر من المسمى إبراهيم أيضا ؟

تاريخ النشر : 2015-05-02

شخص ما 222

المغرب
guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى