أدب الرعب والعام

هاتفي الغامض – الجزء الثاني

بقلم : انابيل – فلسطين

هاتفي الغامض - الجزء الثاني
شعرت بالارتباك للحظة ، هل نقلني الهاتف حقاً ؟ و إلى الماضي أيضاً ؟ لكن الساعة كانت تشير إلى أنني لازلت في الحاضر
لبثت مكاني برهة ريثما يحاول عقلي استيعاب ما حصل ، فالصدمة أوقفت حواسي عن الإدراك ، و كنت كمن أصيب بارتجاج دماغي ، ما إن تخلصت من حالة جمودي حتى سارعت إلى تحسس المكان من حولي لأتاكد بأني في حقيقة قاطعة لا في وهم ..

و في وسط ذلك الهدوء الثقيل ، و أثناء محاولتي لتفسير ما جرى ، افزعتني رنة خرجت من هاتفي ، نظرت إلى شاشته فإذا هي بملاحظة تقول : ( تم النقل بنجاح ، المكان البيت الزمان : الأربعاء بتاريخ **/*/**20 الساعة التاسعة و خمسون دقيقة مساءً ) .

شعرت بالارتباك للحظة ، هل نقلني الهاتف حقاً ؟ و إلى الماضي أيضاً ؟ لكن يبدو أننا في النهار لا في الليل ، فأشعة شمس الصباح تظهر بوضوح من خلف ستارة غرفتي ، تأكدت من التاريخ و الوقت ، و وفقاً لأقوال ساعة المطبخ الرقمية لا زلت في الحاضر .

أمسكت الهاتف و حدقت بذلك البرنامج ، أردت أن أقطع شكي باليقين ، فضغطت على أيقونة المدرسة فتكرر كل ما حصل سابقاً ثم وجدتني أمام بوابة المدرسة ، وهذه المرة أيضاً فشل الهاتف بنقلي إلى الماضي .

تنبهت إلى أمري و صدمت حينما عرفت أني متأخر عن حصتي بما يقارب ربع ساعة ، فصعدت إلى الفصل و بالتأكيد رحب بي الأستاذ بزفة مبهرجة ، ما شغل بالي بعدها هو ما حصل معي ، فأثناء كتابة الأستاذ المعادلات الرياضية على اللوح مصدراً صرير الطبشور المعتاد كنت أطرح على نفسي أسئلة محيرة ، تركت معظمها بدون إجابة ، فمثلاً ما هذا الهاتف العجيب ؟ من أين أتى ؟ لا بد أن شخصاً ما صنعه فهو لم يظهر من العدم .
لكن لماذا لم يعلن المخترع عن نفسه ؟ أمر كهذا سيحدث نقلة ثورية ، و يترك أياً كان بثروة هائلة و اسم يتصدر كل العناوين و المنجزات العلمية ، لكن عوضاً عن ذلك طرح الهاتف دون دعاية في متجر متواضع ، بل لا تتجاوز سمعته الحي الذي أقيم فيه ، و بيع بأبخس الأثمان ، أليس هذا أمراً يثير العجب ؟

دق الجرس معلنا نهاية الحصة ، و معلناً كذلك اتخاذي لقراري ، سوف أحتفظ بالهاتف و لن أخبر أحداً عنه ، و لا فائدة من إضاعة وقتي منقباً عن حقيقته ، فلن يغير هذا حقيقة حصولي عليه ، فبعد كل شيء من لم يحلم بامتلاك شيء عظيم كهذا ؟!

مرت الأيام و أنا أستخدم الهاتف في تنقلي ، و ذهابي من مكان إلى آخر ، و كنت قد التزمت الصمت حياله بالرغم من علامات التعجب و الاستغراب التي تظهر على وجوه من حولي حينما أختفي من مكاني و أظهر في غيره ، لكني لم أعلم أن قراري بالاحتفاظ به سيفرض علي مصيراً صعباً ..

بدأ الأمر حينما لفتني مظهر رجلين غريبين يراقبانني في كل مكان ، المدرسة ، البيت و حتى تمارين فريق كرة القدم ، ما أثار خيفتي من أن يكونا على علم بهاتفي و قدراته ـ تكرر ظهورهما على مدار أربعة أيام ، ثم اختفيا فجأة ، شعرت بالريبة من هذا الظهور و الاختفاء المفاجئ ، لكن لم يظهر أياً منهما مجدداً ، فعاد الاطمئنان إلي و اندثرت شكوكي .. بل سخرت من كوني بدأت أشتبه بكل من حولي و أقلق من افتضاح أمر هاتفي رغم أني حريص على إخفاءه ، فلم أتوقع أن بداية ” الأمر العظيم الذي سيقلب حياتي رأساً على عقب كما وصفته ستتمثل بهذه الفاجعة ” ..

كنت قد عدت مرهقاً من تمارين فريقي ، فحمدت الله كثيراً على عدم اضطراري للعودة سيراً على الأقدام ، ألقيت بجسدي المرهق على السرير و أنا آمل أن أنال بعض الراحة ، لكن هيهات ، فقد ظهرت تالا من حيث لا أدري و بدأت تلح عليَّ بأن أحضر لها بعض المشتريات :
– هيا أيها الكسول .. صرخت بعنف و أكملت
– أريد فقط بعض الطعام ليحضر لنا عمي شيئاً لنأكله ، لا يوجد شيء بالمعنى الحرفي في الثلاجة يصلح ليطبخ .

أبعدتها عني بنفور و قلت :
– الآن تقولين ذلك ؟ لن أذهب فأنا مرهق كما ترين ، إن كنت تريدين شيئاً فاذهبي لإحضاره بنفسك ، فكما أرى تمتلكين سيقاناً تتحرك بحرية ، و لا أظن أن الذهاب إلى المتجر المجاور سيشكل معضلة بالنسبة لك .
طبعاً لم تكن لتقبل الفكرة بسهولة ، فجلست تتذمر بالقرب من سريري ، لكني تجاهلتها بكل بساطة ، ولم أرد على تهديداتها الوقحة ، الأمر الذي جعلها تركل سريري قائلة :
– حسناً أيها الكسول عديم النفع ، سأذهب بمفردي و لست بحاجةٍ إليك ، فلتعد إلى نومك و أتمنى ألا تستيقظ أبداً .

و ابتعدت ساخظة ما جعلني أفرح ، كنت أستطيع سماعها و هي تدخل غرفتها و تتجه إلى السلالم ، فقد تعمدت جعل خطواتها واضحة ، لربما أغير من رأيي ، لكني تظاهرت بالصمم ، الأمر الذي جعلها تدرك أنه لا مفر ، فخرجت من المنزل و أخيراً .غفوت بعدها دون أدرك و ذهبت في نوم عميق .

في تمام الساعة الخامسة مساءً ، صعد عمي إلى غرفتي بخطى مترنحة و أيقظني بهدوء ، كان وجهه شاحباً بشدة ، لدرجة أني ميزت ذلك في وسط الظلام ، و بدا صوته متقطعاً فلم أفهم كلمة مما قال ، أو بالأحرى ما لفظه بصعوبة ، انتصبت في جلستي و طلبت منه إعادة ما قاله ، فصعقني بقوله :
– تالا .. حسناً لقد أصيبت بطلق ناري كما يبدو ، و هي الآن في المشفى ، للأسف يا بني لا يمكنني أن أقول لك أنها بخير أو ستغدو كذلك ، حالتها حرجة جداً .

لم أقل شيئاً و لم أعلق على كلامه ، فالصدمة قد عقدت لساني ، لذلك انتفضت بسرعة لأرتدي ملابسي وأنطلق إلى المشفى بدون تأخير ..

هناك ، جلست في الردهة أمام غرفة العمليات ، لم أستطع بالطبع رؤية شيء مما يحصل في الداخل ، لكن صوت الأطباء و قطرات دماء تالا التي أمامي أعطياني فكرة عما قد يكون عليه الوضع ، كانت الطلقة قد قطعت نحرها الصغير ، لذلك لم يستطع الأطباء إيقاف النزيف ، فكانت تخسر دمها بسرعة ..

فقدوا الأمل بنجاتها ، و كمبادرة رحيمة سمحوا لنا بالدخول لإلقاء نظرة عليها قبل أن تفارق الحياة ، ريثما يتمسكون ببصيص الحياة الضئيل لديها .

و على ذلك السرير رأيتها .. مغطاة باللون الأحمر القرمزي ، و تنتفض من حين لآخر ، كانت تتألم و تصدر صوتاً أشبه بالفحيح ، فحنجرتها المتمزقة لم تسمح لها بالأنين أو البكاء .

اقترب عمي منها و أخذ يكلمها برقة ، و إن أخفت كلماته عجزاً و انهياراً وشيكاً من منظرها الدامي ، أما أنا فاكتفيت بإمساك يدها و التمليس على شعرها فعلى عكس عمي إن فتحت فمي فقد أفضح أعصابي المشدودة و إيماني بأنها تحتضر .

وقفت هناك دقيقتين و إن بدتا دهراً لا ينتهي ، حتى سمعت ممرضة تصرخ : يا الهي ! دكتور ! فرد عليها بعصبية : ماذا.. ؟؟ لكنه لم يكمل فلقد انتبه إلى ما عنته ، أخذ نبضها يضعف و يضعف حتى أصبح شبه معدوم ، فحاول إنعاشها بكل الطرق لكن أي من ذلك لم يفلح ، و هكذا ماتت تالا أمام عيني ..

الكلمة الوحيدة التي ترددت في بالي طيلة أيام الجنازة (ذنبي ) ، فلم أتوقف عن تخيل كيف سيكون الوضع مختلفاً لو أني لم أتكاسل و استمعت إليها ، علمت لاحقاً أن رجلين غريبين و صلا إلى المتجر في ذلك اليوم و أطلقا بضع طلقات ليعلنا عن عملية سطو ، و إحدى هذه الطلقات أصابت تالا و أدت إلى وفاتها لاحقاً .

لكن .. رجلان غريبان ؟ هل يعقل أنهما نفس الاثنين اللذين راقباني قبلاً ؟ لكن هذا لا يبدو معقولاً ! فلماذا يراقبانني إن أرادا السطو على المتجر ؟ لكن هذا لا يغير شيئاً ، إن لم يكونا هما فسيبقى ذنبي ، و إن كانا هما فأيضاً ذنبي ، لأنني لو اعترضتهما سابقاً لما خسرت تالا ، شقيقتي !!

بقيت على هذه الحال فترة طويلة ، استيقظ صباحاً لأجد خيالها الحي يتراءى أمامي ، فأحدق فيها لاعناً نفسي ، لم أذهب إلى المدرسة أو أخرج من البيت أصلاً لأن نظرات التعاطف التي يظهرها الجميع لا تتوقف عن تذكيري بالذي حدث ، فأكتئب مجدداً .. تركني عمي لراحتي عندما رأى مني هذه الحال المضطربة ، و لم يكن يحدثني إلا لمناداتي للغداء أو العشاء .

بعد ثلاثة أسابيع من الحادثة ، و جدت نفسي وحيداً في المنزل ، جائعاً ، فنزلت إلى المطبخ لأتناول شيئاً يسد رمقي ، و بينما أنا هناك سمعت صوت قفل الباب يتحرك بهدوء ، و صوت شخصين يتجادلان معاً على شيء لم أستطع تبين ماهيته ، فتوقفت عن الحركة حتى لا أنبه أياً منهما على وجودي ، و صعدت السلالم متجهاً نحو غرفتي لأغلق على نفسي الباب ، سمعتهما يدخلان المنزل بهدوء و يفتشان الغرف واحدة تلو الأخرى ، حتى اقتربا من غرفتي ، فاستطعت سماعهما يتحدثان ..
فقد قال الأول : هل أنت متأكد أنه يعيش هنا ؟
فرد الثاني : نعم ، بعد أن اصبح يتيماً عاش هنا مع عمه و شقيقته ، هذا هو العنوان الصحيح أو على الأقل ما وجدته في السجلات .

أصبحت متأكداً أنهما يبحثان عني لكن أين أختبئ ، فتذكرت هاتفي فأحضرته فاذا هو فارغ من الطاقة الكافية لينقلني ، فعلقت كالفأر في المصيدة .

سمعت أقدامهما تتوجه نحو غرفتي ، و يد أحدهما تمسك الباب لفتحه ، فقفزت بسرعة كردة فعل تلقائية لأمنعهما من الدخول ، و لكني تأخرت ..
ها أنا ذا وجهاً لوجه مع المقتحمين ، أمسكني أقربهما مني و قال : رائد يجب أن تأتي معنا ، المستقبل كله يعتمد عليك منذ هذه اللحظة .

يتبع ..

تاريخ النشر : 2016-11-08

انابيل

فلسطين
guest
21 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى