اساطير وخرافات

“هرقل” يتغلب على الموت

بقلم : Dhie Abdeoui – تونس
للتواصل : [email protected]

هرقل اشهر ابطال الاغريق يصارع ملك الموت
هرقل اشهر ابطال الاغريق يصارع ملك الموت

إن ملاحم أنصاف الآلهة و الأبطال من البشر، تكون من ضمن ما يزخر به الأدب اليوناني القديم و الذي يروي لنا عن مجابهتهم للصعاب التي إعترضتهم خلال ركضهم على سبيل المجد المدثر بأشواكها و قد كانوا مؤمنين بقدرهم الذي قد كتب عليهم مواجهته و هم يتخبطون في رحم أمهاتهم أشد الإيمان، فتعددت بذلك ألوان مصائرهم بين أسود يحدثنا عن نهايات مأساوية و أخضر يبشرنا بتيجان الأكاليل التي كانت تطهم رؤوسهم بالعز و الغلبة ..

و قد كان “هرقل” واحدا من هؤلاء الأبطال الذين وقف القدر بقلمه في صفهم ليكتب لهم النجاة من الموت و العودة إلى ديارهم مظفرين بالنصر، و هذه هي قصة إنقاذه لعائلة الملك التسالي “أدميتوس”.

blank
اشتهرت اساطير الاغريق بقصص الالهة وانصاف الالهة

كان “أدميتوس” واحدا من “الآرغونوتس” الذين كان دأبهم التنقيب عن الأماكن التي يتواجد فيها نوع من الصوف الذي ينتجه الذهب الكائن في غياهب أديم الأرض و كان متزوجا من إمرأة تعد من ضمن أيقونات الجمال الإغريقي الصارخ وهي “ألساستيا” و قد كانت حياتهما الزوجية بمثابة النور الذي يتخلل ببهاءه كل شيء، مزيج من الحب الخالص، الذرية الصالحة و السعادة المثالية التي لم يخل قصرهما الكائن في منطقة “تساليا” منها و لو ليوم واحد و قد كان التسالييون يجلَون ملكهم و عائلته و يكنون لهم الصادق من الإحترام و المودة، فيبدوا ذلك المزيج المتناسق للحياة الطيبة للقارئ بلا نهاية و لكن تجري الأقدار بما لا يشتهي القراء و أبطالنا أنفسهم، فقد سقط “أدميتوس” على الأرض ذات يوم بعد أن داهم جسده إرهاق مفاجئ، أتى بدون سابق إنذار، جال المسكين بصمت ببصره في أرجاء قصره فقد كان عاجزا على أن يطلق عقيرته بالصراخ أو عن طلب النجدة من الخدم و الحشم و الحراس و كان سبب عجزه هذا، رؤيته لظلال إله الموت “ثاناتوس” التي ملئت القصر هما و كدرا برقصها بين أروقته و غرفه، خارت قواه و دخل في غيبوبة نقل على إثرها إلى مخدعه من قبل حارس كان قد إنتبه إلى الجلبة التي أحدثها “أدميتوس” بعد سقوطه على البلاط.

أقبلت ظلمات إلهة الليل “نيكس” لتدثر سماء هذا الوجود و طلبت من إله الشمس “هيليوس” أن يتوارى عن الأنظار إلى أجل مسمى، فأذعن لها و أمر أحصنته بجره و عربته إلى ما يكون وراء الأفق لينتظر اليقظة التي ستنفخها إلهة النهار “هيميرا” في جسد الفجر الذي يكون تحت سطوة و سلطان النوم حتى يقبل من جديد و في هذه الأثناء إستيقظ “أدميتوس” في حال من شديد الخوف و عظيم الرهبة على وقع الهمس الذي أحدثته شفاه “أخوات القدر” في آذانه، إستيقظ ليجدهن قائمات أمامه بتفاصيل وجوههن القبيحة التي تذكر من وقع بصره عليهن بالقتامة المطلقة التي تكون متخللة أدق التفاصيل لغياهب العالم السفلي، تناولت إحداهن مقصا يمثل المنجل الذي يضرب عبير الحياة في مقتل و شعرة تمثل تلك الحياة التي تشارف على الإنتهاء و أنذرت “أدميتوس” بقرب المنية و نقطة الختام لتقع هذه الكلمات عليه كالصاعقة جاعلة منه في حالة من اليأس الذي قد أجبره على الركوع أمامهن في حال من الرجاء و التوسل بطول العمر و مجاورة عائلته التي لا تزال في أمس الحاجة إليه.

في هذه الأثناء كان إله النور “آبولون” يراقب بإهتمام كبير حال “أدميتوس”، مبديا الشفقة و العطف تجاهه، فقد رحب به هذا الأخير في مملكته عندما ثار آلهة “جبل أوليمبوس” على كبيرهم إله الرعد “زيوس” لينتزعوا الملك منه, فقد قام “أدميتوس” بتخبأت الرب “آبولون” خشية منه على سلامته من بطش كبير الآلهة، فلم يرى “آبولون” من الحكمة سوى تدخله في هذا الموقف العصيب كواسطة بين “أدميتوس” و “أخوات القدر” ليطلب منهن التراجع عن ما سيفعلنه بحياة الملك الشاب، فكان حكمهن يقتضي بإطالة حياته إذا ما تطوع أحد ما لتحل رقبته ضيفة على مقصلة الموت مكان رقبة الملك الشاب و حدث أن كانت زوجته “ألساستيا” تسترق السمع للحديث الذي تتبادله الآلهة فيما بينها لتعلن عن إستعدادها لإنقاذ حياة زوجها و التضحية بنفسها بإسم محبتها الشديدة له و كان ذلك مشروطا بقسم يقطعه الملك على نفسه، بالتعهد لحماية أبناءه من أنواع و ألوان الشرور و لو كلفه ذلك ملكه و حياته.

blank
قررت ان تضحي بنفسها في سبيل زوجها

إتخذ الملك الشاب من الأرض مجلسا و وضع رأسه بين ركبتيه و عظيم الحيرة يعصف به، هو صريع حراب الجيشين، عشقه لزوجته و محبته لأبناءه إلى أن إستقر بعد حيرته تلك على وضع أبناءه نصب عيون الإهتمام و الرعاية و التضحية بحبه في سبيلهم, فسقطت بذلك زوجته على الأرض فاقدة للوعي، فحملها العاشق المتيم بلوعة عظيمة و الدموع الحرى تغرق عينيه، وضعها مكانه و أسند رأسه إلى صدرها حتى دب في القصر ضجيج عظيم و صراخ يخترق عنان السماوات العلى، لقد أقبل إبن كبير الآلهة “زيوس”، “هرقل” بعد إنتصاره على الثعبان الأكبر “هيدرا اللارنيني” متخذا من “تساليا” قرارا لإراحة كواهل جسده من وطئ التعب الذي نتج عن صراعه المطول مع أنواع الوحوش و الهوام.

كان الإستغراب يعلو تقاسيم وجه هرقل و لا عجب، فالمظاهر الجنائزية كانت تعلوا بسوادها كل أركان القصر و لم تسلم منها حتى الجمادات و الأنعام، فتوجه “هرقل” نحو “أدميتوس” ليزيح عن خاطره ثقل آلاف الأسئلة التي كانت تعصف به، فلما أحاط علما بما قد مر على الملك الشاب من الويلات و النوائب، شعر بالمودة و هي تفيض ينبوعا من حجارة فؤاده تجاه الملك الشاب الذي لم يقصر تجاهه في القيام بواجب الضيافة التي تليق بحق من يحوز على مرتبة “نصف إله” رغم الأحزان التي يتجرع مرها بالغصب و الإكراه، ليقسم على إثرها بالتصدي لإله الموت “ثاناتوس” و تلقينه درسا تعتبر منه كل الكيانات الإلهية التي تميل إلى إحداث الخراب و الفوضى، فإستل هرواته الضخمة من مكانها و وقف كجبل شامخ أمام سرير الملك لكي ينتظر مقدم “ثاناتوس” لأجل الإبرار بالعهد الذي أخذه على نفسه.

و ما أن نثرت إلهة الليل “نيكس” ظلامها على الوجود، حتى تشققت الأرض عن مقدم إله الموت الذي لم ينتظر خروجه منها ليتناول بأنامله منجله، إبتغاء حصد الأرواح و هدم اللذات و تفريق الجماعات، فما أن أبصر “هرقل” منتصبا أمامه و الغضب يعلوا محياه، حتى تصبب العرق من قاطبة أركان جسده ليبلل موضع قدميه بسائل يشابه الحبر في قتامته، لكن تلك الرهبة الشديدة لم تمنعه عن توجيه سبابته نحو “هرقل” آمرا إياه بالتنحي جانبا لأجل أن يؤدي الوظيفة التي قد جبل عليها كيانه، إلا أن بطلنا لم يستجب له و دعاه إلى نزال يكون فيه الغالب صانعا لمصير الملكة التي توشك على الإحتضار و كانت تلك ملحمة فريدة من نوعها، أن تواجه الإرادة البشرية، الموت نفسه.

blank
لوحة تصور انتصار هرقل وانقاذه للملكة من براثن الموت

لم يطل النزال كثيرا حتى كانت رقبة “ثاناتوس” تحت أقدام “هرقل” الذي تتدفق دماءه، ألوهة منقطعة النظير و ينبض قلبه بإسم كبير الآلهة في كل معركة كانت قد قدرت له، فلم يرى “ثاناتوس” سوى الهرب حلا لتفادي تسلط ما كان يمارسه على رقاب البشر عليه، فولى هاربا و هو يجر أذيال الخيبة، فما أن فعل ذلك حتى دبت الحياة في أوصال “ألساستيا” ليأخذها زوجها إلى حضن مطول تأثر به جميع من في القصر و لم تسلم من سحره و دفئه صلابة هرقل نفسه، علت ثغره إبتسامة عريضة و صادقة و إنصرف عن القصر ليخوض في غمار عدد من الملاحم و المعارك الطاحنة التي كانت بصدد إنتظاره ليحل عليها ضيفا مظفرا و محاربا بطلا.

كلمات مفتاحية :

– Admetus – Greek Mythology

تاريخ النشر : 2021-09-04

Dhie Abdeoui

تونس
guest
4 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى