أدب الرعب والعام

هروب

بقلم : نوار – سوريا

هروب
مضت مسرعة على أمل اللقاء به و لكن ..

الساعة الخامسة فجراً ..

بأصابعٍ مرتجفةٍ أغلقت حقيبتها ، رتَّبت سريرها ثمَّ اقتربت من الطاولة و تناولت ورقةً و قلماً و بدأت تكتب :

حاولت كثيراً أن أقنعكم ، بكيت و توسَّلت لكن لم تنصتوا لي ، أصررتم على موقفكم حتى دفعتوني دفعاً لاتِّخاذ قرارٍ كنت أتمنى ألَّا أضطر إليه ..

سامحوني .. وداعاً

حملت ليانا الورقة و وضعتها على الوسادة بشكلٍ ملفتٍ للنظر ، ثم أمسكت بهاتفها و وضعت فيه شريحة رقمها الجديد بعد أن نزعت تلك القديمة و ألقتها على الطاولة ، حملت حقيبتها و خرجت و أغلقت الباب خلفها ، بهدوءٍ و على رؤوس أصابعها أخذت تمشي إلى أن بلغت باب الخروج ، بكلِّ حذرٍ فتحته و خرجت دون أن تلتفت وراءها ..

الخامسة فجراً ..

نهض من فراشه و ما كاد يصل باب الغرفة ليذهب للحمام حتى اندفعت أمه إليه صارخةً :
– الحق والدك .. لا أعرف ما الذي دهاه ! يكاد يختنق

انطلق وائل مسرعاً نحو غرفة والديه و نظرة واحدة إلى أبيه كانت كافيةً ليتَّخذ القرار .. أسرع يحمله بمساعدة أمه ، وضعاه في السيَّارة و انطلقا به إلى أقرب مشفى ..

الخامسة و الربع ..

أخذت تمشي متلفتةً يميناً و يساراً و قد تيبَّست أصابع يدها التي تمسك بالحقيبة من شدة البرد ، منظرها كان ملفتاً ، فلم يكن يمشي في هذه الساعة المبكَّرة من الصباح و في هذا الجو الشديد البرودة سوى قلَّةٌ من المتسكِّعين و المشرَّدين الذين كانوا ينظرون إليها بريبةٍ و فضول .

أخذت تحثُّ الخطى لتصل للمكان الذي اتَّفقت مع وائل على اللقاء فيه و من ثمَّ يتوجَّهان سويةً إلى محطَّة القطار ليبدأا حياةً مشتركةً رغماً عن أنف الجميع ..

الخامسة و النصف ..

خرج الطَّبيب من غرفة العناية المركَّزة فاتَّجه نحوه وائل مسرعاً تتبعه أمه ..
– طمئنَّا أيها الطبيب أرجوك ، هل أبي بخير ؟
– لقد تعرَّض والدك لأزمةٍ قلبيِّةٍ مفاجأة كادت تودي بحياته لولا إسراعكم بجلبه إلى هنا ، هل كان يشكو سابقاً من أيِّ أوجاع ؟
أسرع وائل بالقول :
– لا أبداً
فأجابه الطبيب :
– ربَّما كان يتألَّم و لم يخبركم ، فقد اتَّضح لدينا أنَّ قلبه متعبٌ و يحتاج لعمليّةٍ فوريِّة
همست الأم :
– لطفك يارب
أكمل الطبيب :
– سننقله لغرفة العمليَّات حالاً ..

انهارت أمُّ وائلٍ بين ذراعَي ابنها الذي أسندها و اتَّجه بها إلى أقرب مقعدٍ و أجلسها عليه .

السادسة صباحاً ..

أخذت ليانا تتلفَّت حولها منتظرةً قدوم وائلٍ في أيَّة لحظةٍ ، كانت تدعو في سرِّها ألَّا يتأخَّر أكثر فقد بدأت تلفت أنظار المارَّة .. فتاةٌ مع حقيبة سفرٍ ماذا تفعل وحيدةً في مثل هذه السَّاعة ؟! فجأةً تذكَّرت أنه بإمكانها الاتصال عليه ، فأخرجت هاتفها و ضغطت على رقمه و أخذت تنتظر الرَّد لكن ما من مجيب !!

السابعة صباحاً ..

استيقظت والدة ليانا و خرجت إلى الصَّالة ، اتَّجهت نحو المدفأة و أشعلتها ، ثمَّ سارت باتِّجاه غرفة ابنتها حتى توقظها فقد حان وقت المدرسة .. فتحت الباب بهدوءٍ فلم تجد ليانا فيها ، استغربت من بنتها هذا النَّشاط فليس من عادتها الاستيقاظ باكراً و أيضاً ترتيب السَّرير لكنها أغلقت الباب معتقدةً أنَّ ابنتها في الحمام ..

ذهبت إلى المطبخ لتعدَّ طعام الإفطار لكنها أثناء ذلك فطنت أنَّ ابنتها لم تظهر بعد ، ذهبت إلى الحمام فلم تجدها هناك ، ساورها القلق فعادت إلى غرفتها دخلت إليها و وقفت في المنتصف و قد وضعت يداً على خصرها و الأخرى على ذقنها و بدأت تحدِّث نفسها .. أين يمكن أن تكون ليانا ؟؟ و فجأة لمحت تلك الورقةَ الموضوعةَ بعنايةٍ على السَّرير ، اقتربت منها و تناولتها و بدأت تقرأ .. لم تستوعب ما قرأته فأعادت القراءة مرةً ثانيةً و ثالثة لم تصدق الأمر لذلك أسرعت إلى خزانة ثيابها فتحتها فوجدت أنَّ أغلب ملابسها قد اختفت ، عندها فقط أدركت ما أقدمت عليه ابنتها ..

أخذت تدور في الغرفة عدَّة دقائق محدِّثةً نفسها بصوتٍ مسموعٍ .. لماذا يا ليانا ، لماذا يا ابنتي ؟ ماذا أقول الآن لوالدك ؟ ماذا أقول لأخويكِ ، أيُّ جرمٍ ارتكبته يا ربِّي حتَّى تعاقبني بابنتي ؟

عرفت الأم أنه لا مفرَّ من إخبار زوجها بهذه المصيبة لذا اتَّجهت إلى غرفتهما و الورقة مازالت بيدها ..

السابعة و الربع ..

بدأت تشعر بالقلق فهذه المرَّة الخامسة التي تتصل فيها ليانا على وائل و لا تلقى رداً ، فكَّرت ما الذي يمكن أن يجعله يتأخَّر عن موعدهما ، لكنها لم تفلح في إيجاد سببٍ يقنعها و يريحها ، بل كلَّما أمعنت في التَّفكير كلَّما زاد قلقها ..

السابعة و النصف ..

كان والد ليانا مستيقظاً في السرير و لاحظ شحوب وجه زوجته التي دخلت تقدِّم رجِلاً و تؤخِّر أخرى ، فبادرها بالقول :
– ما بكِ يا منيرة ؟ تبدين شاحبة !
فتحت منيرة فمها لتتكلَّم لكنَّ صوتها خانها و أبى الخروج ، فمدَّت يدها إليه بالورقة و لم تنطق بحرف ، و بعد أن قرأها سأل باستغراب :
– ما هذا ؟!
أجابت منيرة و هي ترتجف :
– ليانا .. ليانا هربت من المنزل
نهض زوجها قائلاً بصوتٍ مرتفعٍ و قد اتَّسعت عينيه و ارتسمت ملامح الذهول على وجهه :
– ماذا تقولين ؟!!
– ما سمعت .. ليانا تركت المنزل .. غافلتنا و هربت
قال والد ليانا و هو يتجه نحو الباب :
– يجب أن نلحق بها قبل أن تتسبب لنا بفضيحة

خرج مسرعاً و دخل إلى غرفة ابنيه و أيقظهما ..

نهض كل من سامر و جلال بفزعٍ من فراشيهما عندما سمعا بنبأ هروب أختهما من المنزل ..
قال جلال :
– فعلتها إذاً !!
أكمل سامر :
– لم أتوقَّع أنَّها ستنفِّذ كلامها ، ظننته مجرّد تهديد
رد جلال :
– الحقير وائل هوَ من أفسد عقلها
نطق والدهما بنفاد صبر :
– لا وقت للكلام الآن ، يجب أن نلحق بهما بأسرع وقت ، يجب أن نعيدها قبل فوات اللأوان
قالت الأم بصوت مرتعش :
– أخشى أنَّ الأوان قد فات .. يا إلهي
و أخذت تبكي لكن زوجها نهرها قائلاً :
– ليس هذا وقت البكاء .. هيَّا أسرعا بالبحث عنهما

أسرع جلال و سامر بارتداء ثيابهما و عندما همَّا بالخروج استوقفهما والدهما قائلاً :
– إن وجدتماها لا تمسَّاها بسوء ، فقط أعيداها ..
قال جلال بعصبيِّة :
– بل سأقتلها و أشرب من دمها
صرخ والده في وجهه قائلاً :
– جلال إيَّاك أن تفعل بها شيئاً .. اجلبها إلى هنا و أنا سأتصرَّف ، ثمَّ لا تجعلا الجيران يشعرون بكم ، نريد أن ننهي الموضوع من دون فضائح
كاد جلال أن يعترض لكنَّ سامر الذي كان يتَّصف بالصبر و الحكمة أشار له بالصمت و التفت إلى والده و قال :
– أعدك أننا إذا وجدناها لن نفعل بها شيئاً ..
قالت الأم بصوت خنقته الدموع :
– لماذا لا نتَّصل بها أولاً
أسرع جلال بالاتِّصال على ليانا لكنَّه بعد ثواني أغلق الهاتف بعنف و قال :
– اللعنة .. هاتفها مغلق
ثم خرجا تاركين وراءَهما أمَّاً منهارة تماماً و أباً يشعر بالخذلان و الوهن و يكاد يفقد وعيه ..

السابعة و أربعون دقيقة ..

– تأخَّر والدك في العملية .. أشعر بالقلق
– اطمئني يا أمي ، سيمرُّ كلُّ شيءٍ بسلام بإذن الله
قالها وائل و هو يحاول إخفاء قلقه عن أمِّه و أخذ يدعو في سرِّه أن تنجح العملية ..

الثامنة و عشر دقائق صباحاً ..

وصل جلال و سامر إلى منزل وائل و طرقا الباب ، انتظرا طويلاً قبل أن يفتح و يطلُّ عليهما عزيز “شقيق وائل” ذو الخامسة عشر و من خلفه أخيه الصغير ذو العاشرة ..
سأله جلال بعصبيِّة :
– أين وائل ؟
أجاب عزيز بصوتٍ مخنوق :
– لا أعلم !!
– كيف لا تعلم .. أجبني
– و لماذا تصرخ ؟ حقَّاً لا أعلم .. استيقظنا أنا و أخي و لم نجد أحداً في المنزل ! لا أمي و لا أبي و لا حتى وائل !! لا أعرف أين اختفوا !!
كاد جلال أن يفقد صوابه لكنَّ سامر هدَّأ من روعه و تكلَّم مع عزيز قائلاً :
– حسناً .. سنعود في وقتٍ لاحق
و جرَّ أخاه من يده و مضيا مبتعدين عن البيت ..

سأل جلال :
– ما العمل الآن ؟
أجاب سامر :
– لو كان وائل فقط هو المختفي لقلنا أنَّه هرب هو الآخر ، أمَّا أن يختفي معه أمه و أبيه فذلك شيء محيِّر !!
– أين نبحث ؟
– فلنعد إلى المنزل و نستشير والدنا
– و في هذه الأثناء تكون أختك قد هربت إلى الأبد
– تمهَّل .. هناك شيءٌ يدعو للحيرة في الموضوع ، لنعد إلى المنزل و نفكِّر برويَّة ..

الثامنة و النصف ..

خرج الطبيب من غرفة العمليَّات و بشَّر وائل و أمه بنجاح العمليَّة ، بعدها تم إخراج الوالد و وضعه في غرفة العناية المركَّزة و منع الدخول عليه إلى أن يستفيق و يطمئنَّ الطبيب على حالته ..

تنفَّس وائل الصعداء و قرَّر أن يتَّصل بأخويه حتى يخبرهما بما حصل و يطمئنهما .. مدَّ يده في جيبه لإخراج هاتفه فتذكر أنه نسيه في غرفته بجانب السرير لذا استأذن من أمه و نزل إلى قسم الاستقبال حتى يجري اتِّصالاً هاتفيَّاً ..

– مرحباً عزيز .. هذا أنا وائل
– أين أنتم ؟ لقد استيقظنا فلم نجدكم ، قلقنا كثيراً و لم نذهب إلى المدرسة
– لا بأس .. المهم نحن الآن في المشفى .. لا تقلقا ، أبي تعب قليلاً ، انتبها على نفسيكما .. قد نتأخَّر
– لحظة وائل لا تغلق ..
– ماذا ؟
– لقد جاء جلال و شقيقه و سألا عنك ، جلال كان غاضباً جدَّاً و صرخ في وجهي

و ما كاد وائل يسمع ما قاله عزيز حتَّى تذكَّر ليانا التي كان قد نسي أمرها تماماً ..
قال محدِّثاً أخيه :
– عزيز اسمعني جيداً ، هاتفي نسيته في غرفتي ، ضعه عندك ، و إذا اتَّصلت ليانا قم بالرد عليها و أخبرها بما حصل ، و قل لها أنِّي سأتَّصل بها حالما أستطيع

أغلق وائل الهاتف و مضى عائداً إلى حيث تجلس أمَّه و هو غارقٌ بتفكيرٍ عميق .. عميقٍ جداً

الثامنة و أربعون دقيقة ..

عاد جلال و سامر إلى المنزل و ما إن رآهما والدهما حتَّى بادرهما بالقول :
– لماذا عدتما بسرعة ؟! ماذا حصل معكما ؟
أجاب سامر :
– ذهبنا إلى منزل وائل فلم نجده لا هو و لا والديه .. فرأينا أن نعود حتى نتشاور معك في الخطوةِ القادمة
قال والده بضيق :
– و هل اتصلتما على ذلك السافل ؟
ضرب جلال جبهته بيده و قال :
– كيف نسيت ذلك ؟ يا لي من غبي
و أسرع بالاتِّصال عليه فرد عزيز :
– أهلاً جلال .. أنا عزيز
– أين وائل لماذا لم يرد على هاتفه ؟
– لقد نسيه في المنزل ، فقد قام بإسعاف والدي إلى المشفى بعد أن تعب ..
أغلق جلال الهاتف و التفت إلى والده و أمه و أخيه و قال في ذهول :
– وائل في المشفى عند والده .. إذاً أين هي ليانا ؟؟

التاسعة صباحاً ..

تعبت ليانا من الوقوف في نفس المكان و شعرت بالخجل من منظرها خصوصاً بعد أن كثر المارَّة في الطريق ، لذلك مضت إلى أقرب حديقةٍ و جلست على أحد مقاعدها و كانت كلَّ الوقت تغالب دموعها و تمنعها من الانهمار ..

و في محاولةٍ يائسةٍ منها اتَّصلت على وائل و دقَّ قلبها سريعاً عندما فُتِح الخط ، فأسرعت قائلةً باندفاع :
– وائل أين أنت ؟ لقد انتظرتك طويلاً ..
لكنها صُدِمَت عندما عرفت أنَّ من ردَّ عليها هو عزيز ، و صُدِمَت أكثر عندما علمت سبب تغيُّب وائل عن المجيء .. لم تعرف ماذا تفعل و إلى أين تذهب ، بالتَّأكيد لا تستطيع العودة إلى منزل أهلها فهم حتماً لاحظوا غيابها و عرفوا بفعلتها .. و دون أن تشعر بدأت دموعها بالانهمار بشكلٍ غزيز .. غزيزٍ جداً

التاسعة و النصف ..

كان وائل جالساً يفكِّر بالحماقة التي كاد يقدم عليها مع ليانا ، هي صبيَّةٌ في السابعة عشر لازالت طالبة في الثانويَّة ، و هو شابٌّ في الواحد و العشرين لم ينهي دراسته الجامعيَّة بعد .. أيُّ مستقبلٍ كان سينتظرهما لو أنَّهما نجحا في الهرب ؟! و كيف سيستطيع حمايتها و توفير معيشةً محترمةً لهما تغنيهما عن السؤال و الحاجة ؟ هو يحبُّها و لايزال ، لكنَّ الهروب ليس حلَّاً ، ليس حلَّاً أبداً بل هو عملٌ طائش ، و مرض أبيه جاء ليجعله يصحو قبل فوات الأوان ..

نظر إلى أمِّه التي كانت شاردةً عنه بالدُّعاء و الابتهال ، أخذ يفكر بها و بإخوته ، ماذا كان سيحلُّ بهما لو أنَّ والده تعرض لهذه الأزمة بعد هروبه ، إخوته مازالوا أطفالاً .. لمن كان سيتركهما ؟

قرر وائل أن يصلح ما أفسده و يحاول التفاهم مع أهل ليانا لكن بعد الاطمئنان على والده ..

تقدَّمت منه إحدى الممرضات قائلةً :
– والدك استفاق من العمليَّة و هو بحالة مستقرَّة ، تستطيعان رؤيته .

نهض بسرعةٍ لرؤية أبيه تتبعه أمه ، و بعد أن اطمأنَّ عليه تركه مع والدته و نزل ثانيةً إلى الاستقبال ، و هذه المرَّة ليتَّصل على والد ليانا …

التاسعة و خمس و ثلاثون دقيقة ..

كان النِّقاش محتدماً في منزل ليانا ، كلٌّ يلقي الَّلوم على الآخر ..
قال جلال موجِّهاً حديثه إلى والده :
– هذه نتيجةُ دلالك لها .. ماذا سنقول للناس عندما يعرفون بالأمر ؟
أجاب والده :
– بل هذه نتيجة صداقاتك .. وائل صديقك و أنت الذي لم تضع له حدَّاً منذ البداية ، بل كنت تجلبه دائماً إلى المنزل و عن طريقك تعرَّفت ليانا عليه و تعلَّقت به .

قالت الأم من بين دموعها :
– ابنتي .. أريد ابنتي
التفت إليها زوجها قائلاً :
– اصمتي .. لم تعرفي كيف تربِّينها جيِّداً
– ما حدث بسببك .. أنت من رفضت زواجها من وائل
– و هل أكون مخطئاً عندما أصرُّ على ابنتي أن تكمل تعليمها ، ثم ماذا لديه وائل ؟ إنَّه لم يؤسِّس نفسه بعد !
– لكنَّك لم ..
قاطعهما سامر و كان أكثرهما تماسكاً و قال :
– يا جماعة .. أوقفوا هذا الجدال العقيم ، المهم الآن ماذا نفعل و أين سنبحث عنها ؟

و قبل أن يجيب أيٌّ أحدٍ رنَّ الهاتف الأرضي و كان جلال أقرب الموجودين إليه لذا رفع السماعة و ما كاد يفعل حتى صرخ قائلاً :
– وائل ؟!! أيُّها الوغد الـ ..
لكنَّ سامر منعه من الاسترسال بشتائمه و سحب السمَّاعة ، قال محدثِّاً وائل :
– أهلاً .. ماذا تريد بعد ؟ أختي وشجَّعتها على الهرب و ..
– سامر اسمعني .. أنا آسف و أعرف أنني وقحٌ عندما أقول هذه الكلمة ، لكن بإمكاننا تدارك ما حصل
– ماذا تقصد ؟
– أقصد بأنِّي سأعيد إليكم ليانا .. لن أتحدَّث أكثر حتى نستغلَّ الوقت ، أنا قادم إليكم لنتفاهم

أغلق سامر السمَّاعة و تنفَّس الصعداء و نظر إلى العيون التي تراقبه بلهفةٍ فقال لهم بهدوء .. بإذن الله ستعود ليانا

التاسعة و خمسون دقيقة ..

تقدَّم رجلٌ مسنٌّ من ليانا و سألها :
– ما بكِ يا ابنتي ؟ هل تحتاجين لشيءٍ ما ؟
نظرت إليه ليانا بخوف و قالت :
– لا .. لا يا عم ، لا أريد شيئاً
و ضمَّت حقيبتها إليها بقلق ، فابتسم لها الرجل و قال مطمئناً :
– لا تقلقي يا ابنتي لا أريد بكِ سوءاً

و مضى مبتعداً عنها ..

العاشرة صباحاً ..

تقدَّم وائل و رفع يداً مرتجفةً ليطرق باب منزل ليانا ، كان قد مرَّ على منزله و اطمأنَّ على إخوته و جلب هاتفه معه ..

فتحت الأم الباب و أدخلته ، و ما إن خطا داخل المنزل حتَّى اندفع إليه جلال رغم تحذيرات سامر و أمسكه من ياقةِ معطفه و قال له بعصبيَّة :
– أين ليانا أيُّها الوغد الحقير ؟
تدخَّل سامر و أبعده و قال لوائل :
– تفضَّل و هيَّا قل ما عندك بسرعة فأعصابنا لم تعد تحتمل .. أين هي ليانا ؟
نظر وائل بخجلٍ إلى والد ليانا و قال :
– عمِّي أبا سامر .. أنا أعتذر منك بشدَّة على ما كنت أنوي فعله ، لقد اتَّفقنا أنا و ليانا على الهرب بعد أن يئسنا من موافقتك على زواجنا ، لكنِّي أقسم بالله أنني لم أكن سأقترب منها إلا بالحلال و كنت سأتزوجها و أسعى لتوفير حياةٍ كريمةٍ لها ..

أجاب والد ليانا و كان منهكاً من شدَّة التفكير و القلق الذي عاشه طيلة هذه الساعات :
– ليس هذا وقت الاعتذار .. أريد ابنتي أولاً
تدخَّل جلال قائلاً :
– أنت كاذب ، لولا مرض أبيك المفاجئ ما كنت الآن بيننا .. و تعتذر !
أراد وائل الرد لكن منيرة تدخَّلت و قالت :
– جلال بالله عليك اصمت و دع وائل يخبرنا كيف سيعيد ليانا .
قال وائل :
– أنا كنت قد اتَّفقت معها على اللقاء في مكانٍ معيَّنٍ و من ثم نتوجَّه معاً إلى محطَّة القطار ، هي حتماً مازالت تنتظرني في نفس المكان .. سأتَّصل عليها لنتأكَّد
قال والدها بنفاد صبر :
– هاتفها مغلق
– ليس مغلقاً ، بل وضعت فيه رقماً جديداً لا أحد يعرفه غيري
هنا لم يستطع جلال الاستمرار في الصمت و قال :
– يا حقير .. أرى أنَّكما جهَّزتما نفسيكما جيِّداً للهرب .
أكمل والده :
– عندما تعود سآخذ منها الهاتف و سأمنع عنها جميع وسائل التَّواصل .. فلم تعد أهلاً للثقة ، أعطني رقمها الجديد نحن من سنتكلَّم معها
تدخَّل سامر قائلاً :
– بل الأفضل أن يكلِّمها وائل حتى تطمئنَّ و لا تهرب ..

العاشرة و النصف ..

توجَّه وائل و برفقته سامر و جلال إلى الحديقة الموجودة فيها ليانا ، كان والدهما قد أوصاهما بعدم التعرُّض لها بسوءٍ و جلبها بكلِّ هدوءٍ إلى المنزل ..

دخلوا الحديقة و بدؤوا بالبحث عنها ، و من بعيدٍ لمحوها جالسةً على أحد المقاعد ، أسرعوا نحوها ..
تقدَّم منها وائل أولاً فنهضت إليه بلهفةٍ لكنها ما كادت ترى أخويها خلفه حتى ارتسم الرعب على وجهها ، و قبل أن تتحرَّك كان جلال قد تقدَّم منها و شدًّها من شعرها قائلاً :
– يا سافلة
لكنَّ سامر أبعده عنها و قال لها :
– هيَّا بنا
نظرت بتساؤل :
– إلى أين ؟
– إلى المنزل .. كفاكِ تشرُّداً في الحدائق
التفتت إلى وائل منتظرةً النجدة منه ، لكنَّه أخفض نظره بانكسارٍ و قال :
– سامحيني ليانا ، لقد خذلتك .. لكنَّ ظروفي أقوى مني ، و الحمد لله أننا لم نقدم على هذه الخطوة الحمقاء
قالت ليانا من بين دموعها :
– لقد خدعتني .. لقد كذبت علي ، قلت لي أنَّك قادم و إذا بك تسلِّمني لأهلي !! أنا أكرهك

سحبها سامر من يدها قائلاً :
– هيَّا .. والدتك تكاد تجن على غيابك
بينما حمل جلال حقيبتها و ساروا مبتعدين .. بقي وائل واقفاً مكانه ينظر إليهم و قد فاضت في نفسه المشاعر فصرخ قائلاً :
– ليانا .. و الله أحببتك ، و مازلت أحبُّك ، لكنني أردت لكِ الأفضل
التفتت ليانا إليه و وجهت له نظرةً لن ينساها أبداً ، نظرةً حملت معها كلُّ معاني الألم و الانكسار و كأنَّها تقول له .. خذلتني

ثمَّ شدَّت على يد شقيقها و أكملت طريقها دون أن تلتفت ثانيةً إلى الخلف .

** ** **

بعد بضعة أشهر ..

ـ أمِّي أرجوكِ لا أريد الزَّواج من غسَّان .. أنا راضيةٌ بحبسكم لي ، راضيةٌ بمقاطعتكم ، فقط لا تجبروني على الزَّواج .. لم أعد أريد الزواج نهائيَّاً ، أريد أن أكمل تعليمي

– تعليمك ؟! ماذا كان سيحلُّ بتعليمكِ لو أنكِ نجحت في الهرب مع وائل ؟

– كفى أرجوكِ .. كم مرَّةً يجب أن أعاقب على هذا الفعل

– اشكري الله أنَّ أباكِ لم يقتلكِ ، أنت محظوظة .. لقد أخطأتِ و هذه هي نتيجة خطؤك ، كنت تعيشين بنعيم ، لم ننقص عليكِ شيئاً و كنت تتمتعين بمساحةٍ واسعةٍ من الحريَّة ، كان لدى والدكِ و لدينا جميعاً ثقةٌ كبيرةٌ بكِ لكنَّك حطمتِ هذه الثقة .. حطَّمتها
صمتت قليلاً ثم أكملت :
– على كلِّ حال لم يعد للكلام فائدة ، عرسكِ تحدَّد الأسبوع القادم

– ليتكم قتلتموني .. إجباري على الزَّواج بهذه الطريقة أشدُّ من القتل ، لن أسامحكم .. لن أسامحكم أبداً

***

– أبي .. ألا تفكِّر مجدَّداً بالموضوع ؟ أعرف أن أختي قد أخطأت لكن لا أعتقد أنَّ الزَّواج هو الحل

– سامر .. يوماً ما ستصبح أباً و ستعرف إحساسي ، أنا فقدت الثِّقة نهائياً بها ، منذ أن أعدناها و أنا أفكِّر .. هل ستعيدها ثانيةً ، هل ستهرب ؟ هل ستمرِّغ اسمي في التراب ؟
أخذت هاتفها منها و منعتها عن الاتصال بالعالم ، و أصبحت أوصلها إلى مدرستها و أعيدها منها لكن هل هذا يكفي ؟؟
أنا تعبت .. تعبت و بت أحسُّها عبئاً عليَّ ، لذا عندما تقدَّم لخطبتها ابن صديقي صبري – و أنت تعرفه و تعرف أخلاقه ، كما أنَّه يعمل في مصنع والده و مستقبله جيِّد – وافقت على زواجها منه .. ذلك أفضل ، نحن بذلك نحميها من نفسها و من طيشها

صمت سامر و لم يعرف ماذا يقول ..

***

بعد أسبوع ..

تمَّ زواج ليانا و غسان في حفلٍ اختلطت فيه مشاعرٌ متناقضة .. كان ظاهره الفرح ، لكن لم يكن أيُّ أحدٍ من أهل ليانا يشعر بهذا الفرح ، والدها تنفَّس بارتياح كمن أُزيح عن كاهله همٌّ ثقيل ، والدتها لم تكن تريد أن تتزوج ابنتها بهذه الطريقة لذلك كانت تشعر بالأسى ، سامر تظاهر بالفرح مع أنَّه كان حزيناً أمَّا جلال فقد كان يشعر بقليلٍ من تأنيب الضمير ، فلولاه ما تعرَّفت أخته على وائل و لما كانت الآن تجلس إلى جانب شابٍّ لا تريده ، لكنَّه أيضاً فكَّر أنَّ هذا ما جلبته لنفسها ..

و من بعيدٍ و من غير أن يلاحظ أحد كان وائل واقفاً يراقب ليانا بحسرة و ندم ، مسح بيده دمعة كادت تسقط من عينه ثم أدار ظهره و مضى مبتعداً ..

و بذلك طويت صفحة هروب ليانا إلى الأبد .. أو هكذا ظن الجميع

تاريخ النشر : 2017-03-04

نوار

سوريا
guest
19 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى