أدب الرعب والعام

وصية إنسي لجني

بقلم : عطعوط – اليمن

نشب قتال ضاري بينهما و أشتد الصراع و تطاير الشرر داخل الكهف حتى تحولا إلى شعلة
نشب قتال ضاري بينهما و أشتد الصراع و تطاير الشرر داخل الكهف حتى تحولا إلى شعلة

كان ياما كان في قديم الزمان ، رجل طاعن في السن في آخر أيام عمره ، يسكن في كهف في شعب من الشعاب كثير الأشجار والأعشاب ، يمر عبرة مجرى سيل عند هطول الأمطار ويبقى في قاع مجرى السيل ، سواقي مياه شحيحة تستمر حتى موسم المطر القادم ، ويمتلك عدد لا بأس به من الأغنام والماعز و يقتات على لحومها و يشرب من ألبانها ويلبس وينتعل جلودها ويفترش ويلتحف من صوفها ، ويستنير بهالها وشحومها ، حتى جلود صغارها صارت قرب مملؤة بحليبها و ألبانها.

كهف الغنم ممتدة جوار كهف أصحابها و يجمع الأحطاب من وديانها وشعابها ومن حجار  السيل يوقد نارها ويطعم الضيف اذا حل به ، جود النعم ، ويحمًله وقت الرحيل أمثالها ، سيرة حياته هكذا ليالها وأيامها ، حتى السباع بعهدهِ استأمنت لحياتها ، تأتي لتأخذ حظها من عظمها وجلودها ، ترعى مع الراع الغنم والليل تحرس بابها.

كانت زوجته قد توفاها الله وبقى إلى جانبه أبنه الوحيد وابنته الوحيدة في الكهف.
أعتلت صحته واعتراه المرض وأقعده الفراش ، و في المساء احس بانقضاء عمره ودنو أجله ، فدعاء أبنه و أجلسه إلى جواره ، وقال : يا بني انقضت الأعمار و دنت الآجال والعيش بعد اليوم محال ، أسمع مني وصيتي :
لا تقطع العادات ، و لا تجير مارق ، و لا تأوي سارق ، لا تنطفئ  نارك ، و لا تغلق باب دارك ، أعن الملهوف و أسدي المعروف ، لا تغمد سيفك قبل أن يغمد عدوك سيفه ، و لا تستل سيفك قبل أن يستل عدوك سيفه ، جد بما بجودك و زد ، خذ ما فاض و رد ، ليكن سيفك حاد قاطع للأوداج ، و رمحك مارق للأجساد والأبراج ، قُص قبل أن تُقص ، رِص قبل أن تُرص ، تعقب المُتعقب ، ترقب المُترقب ، لا تهلك الهالك ، و لا تُبدد مالك
لا تسكن مضيق ، ولا تقطع طريق ، لا تثق بجمًال و لا تجاور رمًال ، لا تشكر صانع ، ولا تُطعم شابع ، لا تجهل عالم ، ولا تفزع نائم .

وختام وصيتي أن تكون بار بأختك ، زائر غير بائر ، مِعين غير مُهين ، و إن أتى طالبها فمُد يده فلا تردده ، لا تسأل عن أباه و عن جده ، أين داره ، عن اسمه ، لا تلتفت إلى منظره أو شكله ، لا تطلبه درهم لها أو ديناً ، شرطي الوحيد أن لا يكون له زنار.
حينها تحشرج وقُطعة أنفاسه و رحلت روحه إلى بارئها و أغمض عينيه.
 
كان في سقف الكهف فوق رأسه عفريت من الجان يستمع الوصية ، قام الابن واخته بتجهيز جثة والدهم و دفنه على مقربة من الكهف الذي يسكنوا فيه.
بعد فترة وفي مساء احدى الليالي المظلمة و بينما هما نائمان فإذا بمناد ينادي على باب الكهف : يا معدور يا معدور : أنا صاحب الوصية ، اعطني زوجتي صفصاف .
اندهش من هذا الصوت وقال في نفسه : كيف يعرف إسمي و أسم أختي وما أدراه بالوصية ؟ فلم يكن يوجد أحد وقت الوصية.

تردد ولم يجيب عليه وصحيت أخته وطلبت من أخيها عدم إجابته.
فكرر النداء عدة مرات ، فاضطر معدور أن يجيب وقال : ها أنا قادم ، و أثنا قدومه باتجاه باب الكهف مصدر الصوت استحضر في ذهنه وصية والده بأن لا يسأل عن اسمه أو أبيه أو جده أو داره و لا يكترث لشكله أو لونه ، فقط يتأكد من عدم وجود زنار ، كان الجو مظلم وعندما اقترب منه لم يشاهد تفاصيل شكله و إنما شاهد شكله كالظل ، فمد يده إلى صابره وتحسس جوار أذنيه لغرض التأكد من عدم وجود زنار ، وبعد أن تحسس وجد أن رأسه بالكامل بدون شعر .

فقال : تفضل ، أدخل ، فدخل ، و بعد إشعال المسرجة بجهد جهيد أنذهل معدور و أخته من شكله المخيف ، كان أسود مفلطح العينين واسع المنخرين له نابان بارزان كأنياب النمر ،
وجمجمة مدحرجة بدون شعر ، بدون رقبة و كأن راسة مغروس بين كتفية ، جسده الأسود يكسوه الشعر الأبيض إلى خاصرته ، ومن تحت يرتدي جلد نمر ، حافي القدمين طويل الأظافر كمخالب النسور ، وفي جبهته بين الحاجبين منقار غراب.

هالهما ما رأوه ، فأعاد طلبه موجهاً كلامه إلى صفصاف ، قائلاً : هيا تحركي يا زوجتي ، ومد يده باتجاهها ، فحاول معدور منعه من الاقتراب منها ، فانتفخ و ثار و زأر ، وهدد بإحراق الكهف بما فيه إن لم تنفذ وصية والدهم فوراً.

أحتار معدور ، لكن وصية والده كانت هي الخيار الوحيد ، فأشار على أخته بضرورة تنفيذ وصية أبيه  أن مخالفة الوصية ستكون وبال عليهم فلا قبل لهم بمواجهة هذا المارد ، فطلبا منه البقاء إلى الصباح .
فصاح و لاح ، الأن ، الأن.
فاستسلم معدور وتقدم العفريت نحو صفصاف و أمسك بخاصرتها وحملها تحت أبطه وخرج من الكهف ، مباشرةً خرج معدور ليقتفي اثره ، وبلمح البصر اختفى العفريت وصفصاف

عاد معدور وبقى حزين فترة من الزمن وتذكر وصية والدة بأن يكن بار بأخته يزورها
، فاحتار فهو لا يعرف المكان الذي هي فيه ، واستمر الحال فترة من الزمن.

صفصاف حملها العفريت تحت أبطه وطار بها إلى ضاحة حيد و أدخلها فيه ، كان فتحة صغيرة بشكل مثلث ومن الداخل شكل بيت ، داخل الحيد سراديب مليئة بالعظام والجماجم و روث الدواب ، وضعها فيه وقال : هذا بيتنا.

وقدم لها عظام طرية بها أثار دم وجمجمة طفل وقال : كلي المخ و الدماغ.
فرفضت صفصاف وقالت : أكلنا غير هذا.
فذهب برهة و أحضر طعام بشر فأكلت .
واستمرت معه ، وكان يتحول إلى صقر ويخرج عند حلول الظلام ويعود قبل بزوغ الفجر حاملاً معه عظام وجماجم و روث وطعام لصفصاف.
بعد مدة عاد فوجد صفصاف تبكي ، فسألها عن السبب ؟.
فقالت : اشتقت لزيارة أخي ، فتعهد لها بأن يسمح لها بالزيارة.
ومع بزوغ الفجر أوصلها إلى باب الكهف وذهب ، كانت صفصاف قد لاحظت الحيد الذي تسكن فيه و ارتفاع الفتحة عن مستوى الأرض ، فتعرفت على المكان وهي على ظهر العفريت.

دخلت صفصاف الكهف و وجدت معدور نائم إلى جوار إمرأة و عرفت أن أخيها قد تزوج
، نادت : معدور ، ففزع وصاح : صفصاف
، ففرح بقدومها وسألها : أين بيتكم يا صفصاف ، أين زوجك ؟ .
فلم ترد عليه و ظلت صامتة.
فقالت : من تلك المرآة ؟ فقال هي زوجتي ، فأيقظها وعرّفها على أخته ، وعند غروب الشمس أخبرت صفصاف معدور بأن موعد زيارتها سينتهي بعد منتصف الليل و أن زوجها سيأتي لأخذها.
فاستغرب معدور و أصر عليها بأن تخبره عن بيت زوجها ولماذا يأتي بعد نصف الليل لأخذها ؟.
فحكت له القصة و أن زوجها عفريت من الجان يسكن حيد النسور ، و أنه وقت الوصية كان في سقف الكهف يستمع كلام والدهما.

فعزم معدور على تخليص أخته من ذلك العفريت وطلب من صفصاف مساعدته ، اعترضت صفصاف على الفكرة وقالت : أنك لا تقدر على العفريت.
أصر معدور على إنقاذ أخته حتى لو كلفه حياته ، حددت صفصاف لأخيها مكان الفتحة في الحيد و وقت خروج العفريت و دخوله ،  و طلبت من أخيها أن يعطيها حبل من أجل أن تمده اليه إلى أسفل الحيد ليصعد عليه إلى الفتحة ، فأعطاها الحبل ، و وضعته مع بعض الطعام مخفي وقالت لأخيها : قبل حلول الظلام كن موجود تحت الحيد و راقب الفتحة التي سيخرج منها العفريت و أبقى تحتها وسوف أرمي اليك الحبل.

بعد نصف الليل أتى العفريت و وقف باب الكهف ونادى صفصاف فخرجت اليه ، فحملها وطار بها إلى الحيد ومعها الطعام والحبل مخفي ، وفي مساء اليوم التالي ذهب معدور إلى تحت الحيد وبقي تحت الحيد حتى حل الظلام فسمع صوت فتحة الحيد فعرف مكان الفتحة وشاهد الصقر يخرج منها وطار ، فاصدر صافرة ، و قامت صفصاف برمي الحبل ، فتسلق معدور الحبل إلى أن دخل إلى عند صفصاف ، فأخفته في سرداب بين العظام ، وعندما عاد العفريت قبل الفجر دخل فصال وجال وانتفض وقال : أشم رائحة إنسي لن يمسي إلا تحت ضرسي وفتش ودار ، ودب الرعب  في نفس صفصاف على أخيها.

فقالت : اهفش يا سيد الجان إن هذه الرائحة رائحة الطعام الذي أتيت به من بيت أخي.
فصدق ما قالت ، فأكل جمجمة حمار وهي تقوم بترتيب العظام محاولة التلطف اليه وبادلته الحديث فقالت: يا سيد الجان إنكم معشر الجان لكم صفات فريدة ليست عندنا نحن البشر ، لكم القدرة على التلون والتشكل بشكل الطيور والقطط والثعابين والحيوانات والتحول إلى نار أو ماء أو دخان ، ولكن أنا مستغربة كيف كان نبي الله سليمان يحبسكم داخل القماقم الصغيرة والقوارير ويرميكم داخل البحر ؟ فكيف كان مثل هذا لقمقم الصغير الذي في يدي يتسع لعفاريت كبار مثلك ؟ هذا مستحيل .

انتفخ العفريت وقال : نحن نتحول إلى دخان وندخل داخل القمقم بسهولة.
قالت : أنا لا أصدق.
فقال : افتحي القمقم الذي في يدك وسأريك.
ففتحت بسرعة القمقم وحطته بيد والغطاء باليد الأخرى.
فتحول العفريت إلى دخان وغزل فنزل إلى داخل القمقم حتى اكتمل ،
فوضعت الغطاء على القمقم و أحكمت إغلاقه و وضعته في أرضية الكهف ، ثم أخرجت معدور من تحت العظام وباتا حتى الصباح ومدا الحبل ونزلا به من الضاحة تاركين العفريت داخل القمقم بالكهف.
عاد معدور وصفصاف إلى الكهف ولم يخبرا زوجة معدور بما حدث .
وظنا أنهما تخلصا من العفريت ، وبعد فترة من الزمن تبين لصفصاف أنها حامل من العفريت ، أخبرت أخاها معدور فاتفقا على التخلص من الحمل ، عملا كل الحيل لإسقاطه لكن دون جدوى ، فاتفقا على إخبار زوجة أخيها بأنها حامل من زوجها و أن زوجها ذهب للغربة.
صدقت زوجة معدور .
استمر الحمل يكبر ومر عام ولم تلد صفصاف و استمرت بمحاولات إسقاطه دون جدوى.
مضى العام الثاني ولم تلد ، وفي نهاية العام الثالث ولدت مولود عجيب ، كان ذكر جميل الخلقة مكتمل ، شعر الرأس بلون ابيض كالشيب ، و احدى رجليه رجل صقر بمخالب ، فكان يشب بسرعة فائقة وبعد شهران مشى و أكل الطعام ونطق بالكلام ، وكان له قوة خارقة ،

كان حين يجمع الأحطاب يقتلع الشجر العملاقة بيد واحدة ثم يرفعها ويأتي بها إلى أمام الكهف و كأنها شجرة قائمة تمشي في الهواء ، شب وكبر وكان كثير السؤال لأمه عن أبيه ؟

فكانت إجابتها له : إن أباك ذهب في الغربة ولم يعد ، طلبت منه أن يبني لها بيت من الصخور ، فلبا طلبها ، و في بضعة أيام كان قد بناء لها قصراً بأحجار عملاقة ، إلا أنه لم يصدق غربة أباه ، فأصر على أمه أن تصدقه القول من أباه وأين هو ؟.

وقبض على خاصرتها بقبضته و رفعها وقال: إن لم تخبريني سأعصرك .
فصاحت : فكني و سأخبرك ، أباك عفريت من الجان محبوس بالكهف بالحيد داخل قمقم.
وضعها على الأرض ثم اتجه للحيد و تسلقا و دخلا إلى الكهف ، فشاهدا القمقم مكانه والدخان داخله ، فتقدم و أخذ القمقم وفتحه ، فخرج العفريت وانتفض وصاح :
من أنت ، ولماذا دخلت بيتي ؟.
حاول الأبن أن بشرح له أنه أبنه لكن دون جدوى
فقد كان غضب العفريت أكبر.
وقال من : أين لي أبن و زوجتي هذه لم تلد ؟.
ونشب قتال ضاري بينهما و أشتد الصراع و تطاير الشرر داخل الكهف حتى تحولا إلى شعلة من لهب ، ثم انتهى الأمر بتحولهما إلى كوم رماد.

وانتهى أمر العفريت و أبنه وبقيت صفصاف حتى أتى معدور و أنزلها و ذهب بها إلى قصرها فعاشت بقية عمرها حتى توفاها الأجل دون أن يتجرأ أحد على الزواج منها بعد العفريت.
 
النهاية ……
 

تاريخ النشر : 2020-06-14

الفهد

اليمن . للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
20 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى